تكوين
مع تسارع حركة التغيير التي تضرب العالم على أكثر من صعيد، كان لا بدّ أن نتوقف عند مقاربة وضع الإنسان المعاصر، وسط ما يتخبّط به من أزمات، وما يتعرّض له من تحدّيات، تكاد تقلب المعايير التي نشأ عليها، رأساً على عقب.
- هل نحن فعلاً أمام عالم جديد يفرض علينا لغة جديدة؟
- هل ما زلنا قادرين على مواجهة المشاكل التي تعترضنا انطلاقاً من معطيات سابقة اكتسبناها من خبرات مختلفة كلّ الاختلاف عمّا نواجهه اليوم؟
- ما الذي يمكن أن نتلمّسه في مسار بحثنا عن المعنى، معنى أن نكون بشراً في عالم يحاصرنا بأزماته كلّ يوم؟
يكفي أن نتابع بعض ما يصلنا من أخبار، أو أن نُنصت إلى بعض ما يتمّ تداوله على المنصات الرقمية، ومحطّات النقل المباشر، لكي ننتبه إلى أن الزمن أصبح يسيرُ بسرعةٍ أكبر من السابق. فما كان يستغرق، في الماضي القريب، لكي يتحقّق على أرض الواقع فترة لا تقلّ عن ربع قرن، مثلاً، يمكن أن يتحقّق في فترة أقلّ بكثير، قد تتطلّب أشهراً لا أكثر. هناك فائض في المعلومات التي تنهال علينا كلّ لحظة، لا تسمح لنا ساعات اليوم الواحد أن نتابع مختلف ما تحمله من مضامين، ولا أن نطّلع على ما تمّ إنجازه من تطوّرات.
هذا الانفتاح الذي ينشر المزيد من الأخبار والإنجازات، يضيف إلى يومياتنا مهمّة أخرى، ألا وهي، البحث عن مهارة جديدة تقضي بالتكيّف مع روتين جديد، ينهمّ بمواكبة ما يجري، أو على الأقل، اختيار بعض المجالات التي تهمّنا أكثر من غيرها، لمتابعتها والإحاطة بها، والعمل على هضمها بشكلٍ أو بآخر.
نلحظ أن ِحركةُ تقلّبِ الأحوال تتفاقم، ودائرةَ الالتباسِ تتّسع، وكأننا أصبحنا شبه غرباء، أو كالأطفال في الصفوف الابتدائية، علينا تعلّم كلّ شيء من جديد. اللغة والأساليب والأدوات المستحدثة، تنهال علينا بصورٍ جديدة، وتجلّيات غير مألوفة. وكأن الخبرة الحياتية التي تمّ تحصيلها سابقاً لم تعد ذات فائدةٍ كما قبل. وكأننا وسط بركانٍ من الإشكاليات المتفجّرة أمام شاشة الوعي، تتحدّاه لكي يخرج عن صمته، فتجبره على الاعتراف بجهله، أو بمحدوديته، أو على أقل تقدير، تضعه في حالٍ من الدهشة المقلقة أمام هول ما يجري.
أسئلة تهزّ كيان الإنسان من دون أن يجد لها مخرجاً يُفضي به نحو جوابٍ محتمل. يمكن أن نقول بأننا اليوم نشهد تجلّي نموذج الإنسان المصدوم. كل ما من حوله إما يخونه، أو يتخطّاه، أو يفاجئه، أو يثور عليه، أو يدفعه نحو المجهول، أو يشتّت انتباهه، أو يزحزح وتصوراته السابقة حول المعنى والوجود. فالتخبّط سيّد الموقف، وفقدان البوصلة يشتّت البحث عن مخرج. فالرؤية ضبابية، والتمييز بين المتناقضات ليس بالأمر السهل.
إقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي والتحيز الجندري
تحت عنوان “إنسانيّتنا تفضحنا” يكتب علي حرب:
“ولذا فالأزمة تتجاوز النزاعات الطائفية والصراعات الإيديولوجية والعنصريات الشعبوية. إنها أزمة الإنسان مع نفسه بالدرجة الأولى، أي مع إنسانيّته التي تفاجئه لتصنعه بعكس ما يفكر ويحسب، أو تفضحه ليصنعها بخلاف ما يهوى ويريد”.[1]
يشير في هذا السياق إلى أنه ليست هناك مقاربة أحادية للأزمات التي نعيشها. من الصعب أن يتمكّن فيلسوفٌ واحدٌ، أو منهجٌ محدّدٌ، أو تيارٌ فكريٌّ معيّن، من استنباط حلّ أو مجموعة حلول لورطة إنسان اليوم. يقول: “كلّ واحد يدخل على القضايا من مجال عمله وحقل اختصاصه. وأنا كعامل في ميدان فكريّ أو في حقلٍ معرفيّ، لا أعتبر مشكلتي مع هذه السلطة أو تلك الطائفة، وإنما هي مع أفكاري بالدرجة الأولى: عقليّتي، رؤيتي للأشياء، طريقتي في التفكير، القيم والقواعد التي أستخدمها في علاقتي مع نفسي ومع غيري أو مع الطبيعة وبقيّة الكائنات“.[2]
إن هذه الوقفة مع الذات باتت أكثر من ملحّة في اللحظة الراهنة، من أجل القيام بمراجعاتٍ لما تعلّمناه، واكتسبناه، واعتدنا على ممارسته. هذا ما بات يُجبرنا على التوقّف عن الجريان خلف الحركة المتسارعة لتتبّعها، من أجل تكريس الوقت الكافي لتفحّص أدواتنا المعرفية، وقدراتنا الاستيعابية، ولغتنا التداولية. هل عدّة الفهم الخاصة بنا ما زالت نافعة؟ هل ثوابتنا الفكرية ما زالت صامدة في وجه الأحداث الصادمة؟ هل الجهاز المفاهيمي الذي اعتدنا على استخدامه ما زال بإمكانه فك شيفرة التطورات المحيطة بنا؟
إن هذا الوعي لدى علي حرب دفعه إلى وضع عدّته الفكرية “على المشرحة، محاولاً إعادة النظر في مختلف العناوين المتعلّقة بمفردات الوجود، كالحقيقة والهويّة أو الحرية والسلطة أو العقل والهوى أو التقدّم والتنمية أو البيئة والأرض”.[3] يُفصح الكلام هنا عن رغبةٍ عارمةٍ في قلب الطاولة، والوقوف أمام مرآة النقد الفاضة، والاستعداد للقيام بعملية تفكيك قد تكون مؤلمة، ونتائجها صادمة. يتعلّق الأمر فعلاً بمغامرة غير مضمونة النتائج. إنها خطوةٌ شجاعة، يقوم بها مفكرٌ عصريّ، منخرطٌ بأزمات مجتمعه، كما بإشكاليّاته المعرفية.
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر: الجزء الأول الهُوية النقية والمُهددة
باتت إعادة النظر في ما سبق إنتاجه وتعلّمه وتبنّيه خطوةً تدفعنا إليها الحياة العصرية بقوة، وتُجبرنا على إعلان موعدها في القريب العاجل. لم نعد نتمتّع برفاهية الوقت من أجل تأخير لحظة الوقوف أمام مرآة النقد. نحن في أتونٍ مشتعلٍ بنيران التحدّيات. الهروب نحو الوراء لا ينفع، والقفز للخروج من دون استعدادٍ يأخذُ بالاعتبار مختلفَ المتغيّرات قد يؤدّي بنا إلى المزيد من الانحدار أو التعثّر أو الانهزام.
لو أن الزمن يسمح لنا بصرف المزيد من الوقت في التلهّي بأمور الحياة اليومية، بحجة أن مقتضيات العيش أهمّ من التفكير والتنظير والمراجعة النقدية، لكان الأمر أسهل بكثير. لكن الزمن يحمل مطرقة قاسية، وقعُها ثقيلٌ ووتيرتُها متعِبة. لم نعد نملك ترف الوقت، وكأن هناك من ينادينا بكل قوّة من أجل تقديم أقصى ما لدينا من طاقةٍ على النقد والمراجعة والنظر الثاقب، لعلّنا نتمكن من القبض على مكمن الخلل، ولعلّنا نُمسك بنهجٍ جديدٍ من التفكير، يُسهم في تغيير تعاطينا مع واقعنا. هل نحن فعلاً مستعدّون للقيام بذلك؟ هل ما زالت لدينا الرغبة في العمل على إيجاد مخرجٍ لما نتخبّط فيه؟ هل نحن لدينا ما يكفي من وقودٍ لمتابعة المسير؟
ملفتٌ ما يورده علي حرب في سياق مقاربته للأزمات من حوله. نجده يشمل نفسَه في النقد ويدعو إلى إعادة النظر في أكثر من نقطةٍ معلناً: “لنحسن القراءة والتشخيص. نحن قدّسنا الأفكار والكتب، وعبدنا الحداثة والتقدّم، وألّهنا العقول والأشخاص، فضلاً عن المقامات والأحجار.
باختصار: لقد مارسنا، لاهوتيين وحداثيين، إنسانيّتنا بمفردات النرجسية والمركزية أو التفوّق والتعالي أو الغطرسة والاستكبار.
ولذا لا غرابة في أن نحصد ما نحصده اليوم، من التراجع والانحدار أو البربرية والعدمية”.[4]
واضح في ما تقدّم أن الأمر يتعلّق بضرورة القيام بمراجعة جذرية للماضي المعرفي الخاص بكلّ منا. الكلام على النرجسية لا يعني طرفاً من دون سواه، ولا تيّاراً معرفياً من دون آخر. ممارسة النرجسية عن طريق تأكيد القبض على الحقيقة من زاوية واحدة، وتجسيدها في خطاب واحدٍ أحد، قد أدّت بنا إلى ما وصلنا إليه. ادعاء المعرفة، والتشبّث بمعانٍ محدّدة، وحصرُ الفهم بجماعة من دون سواها، أو بمفكّرٍ واحدٍ من دون آخر، أسهم إلى حدّ بعيد في تكثيف الحالة الضبابية التي نحن فيها.
في الوقت الذي ازدادت فيه أنماط التيارات الفكرية، والمناهج المعرفية، والنظريات الفلسفية، شحّت الرؤية، وتفاقمت حال التخبّط مع المجهول، وتراجعت نسبة الفهم، فهم الواقع بأبعاده وأزماته وإشكالياته. فالنظرة الأحادية خادعة، تظهّر صورة مشوّهة عن الحقيقة ذات الأبعاد المتعدّدة، والنوافذ المفتوحة على الأبعد والأرحب. التوجّه نحو إقناع الآخرين بقوّة المنطق بأن الحقيقة تنحصر في مشروعٍ محدّد، ورؤيةٍ معيّنة، ومقاربةٍ منتظمة في إطارٍ واضح، أمرٌ قد برهن بقوة عن قصوره الفاضح في استيعاب ما يحصل، والإحاطة بمختلف جوانب واقعنا المعقّد. بتنا اليوم في حاجة ماسّة إلى المزيد من الانفتاح المعرفي وزحزحة الحدود ليس فقط بين الأبنية المعرفية المتصارعة، إنما بين أي أنا وأي آخر، تجمعني به الإنسانية، والهمّ الوجودي، والقلق على المصير.
كلّنا في مركب الوجود تتقاذفنا أمواج القلق والبحث عن شاطئ الأمان. كلّنا نسعى، وفق قناعاتنا، وما توفّر لدينا من معارف، من أجل أن نتلمّس طريقاً يُفضي بنا إلى ميناء المعنى الضائع. هذه الرياح العاصفة من كلّ صوب، تجعلنا نسائل مرجعياتنا المعرفية إلى أين أوصلتنا؟ أين رمت بنا وتركتنا في غفلةٍ منا نواجه نمطاً متسارعاً من التغيير؟ وفق أي معيارٍ تسمّرنا هنا وليس هناك؟ تبنّينا هذا النمط وليس ذاك؟ كيف كان لنا أن نطمئن على ما تمّ تقديمه لنا من غير أن نسعى إلى تقييم جدواه مع كل اختبار نعيشه؟
كم هو سهلٌ أن نلقي اللوم على الآخرين، ونبرّئ أنفسنا من خياراتنا المعرفية!
كم هو مؤلمٌ تمجيد الجهل وتعظيم شأنه بحجة أن هذا ما تعلّمناه، وهذا ما اعتقدنا به أنه الأجدى والأكثر صواباً!
كم أن الحقيقة ظُلمت وشُوّهت وتمّ تسخيرها في خدمة مآرب لا تمتّ إليها بصلة!
إنسانيتنا على المحك، وهي تنتظر منا اجتراح حلّ ما للحفاظ عليها، وإعادة إشعال الرغبة في استعادة بريق كنا نتوق إليه.
وجودنا على المحك، وهو ينتظر منا ابتكار آفاقٍ جديدة تؤمّن له حريّة الانوجاد المتعدّد والمتميّز.
استمراريتنا تصرخ في وجهنا وتدعونا إلى وضع حدٍّ لكلّ هذا الاغتراب القاتل.
البيئة المحيطة بنا تئنّ تحت وطأة التشويه والهلاك والتهديد بالانقراض، وهي تنتظر منا وضعَها في أولوية الانهمامات والمشاريع الفكرية والمبادرات الإنقاذية.
القيود كثيرة وهي تنتظر من يتجرّأ على خوض معركة البدء بحلحلتها ليتحرّر ولو من قدرٍ يسيرٍ منها.
“إنها مشكلة الإنسان مع نفسه، ككائنٍ عدوانيّ شرس أو شهوانيّ شبق، ما يجعله يتعامل مع الأنداد والنظراء، مع الشبيه والقريب، أو مع المختلف والضد، بمنطق الصدام والإقصاء والإلغاء، أو بلغة التشبيح والسطو والاغتصاب”.[5] هذا ما يشدّد عليه علي حرب، في سياق تفكّره في أسباب ما نعيشه من أزمات وجودية تكاد تقضي علينا، نحن الذين نعيش هنا في مشرق مضطرب ما زال يتخبّط في واقعٍ مخيفٍ ومرعب.
مراجعةُ الأفكار والتأكدُ من صوابيّتها، ومن مدى انعكاسها في الواقع، خطوةٌ باتت مفروضة على كلّ من يرغب في فهم ما قد سبّب، له ولغيره، كل هذا التخبّط والقلق والخوف.
مواجهةُ مجريات الأمور من منظور مغاير باتت معركة واجبة على من يرغب في توسيع الأفق وشقّ مسارات مختلفة.
مقاومةُ التقوقعِ والتعصّبِ والتزمّتِ والانغلاق بأشكاله الفكرية والمعنوية والجغرافية باتت هي الخطوة الأولى في اتجاه المشروع المحرّك الذي يبغي التغيير نحو الأفضل.
الفلسفةُ اليوم باتت مهمّتها أكثر صعوبة. طريقها محفوفٌ بالخيبات، لكنها سوف تعمل، لا مفر لها من ذلك، على تلمّس الطريق من جديد…
المراجع:
[1] – علي حرب، نحو إدارة جديدة للعالم، مآزق المنظومات اليقينية والنماذج التحرّرية، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط1، 2025، ص 75.
[2] – علي حرب، نحو إدارة جديدة للعالم، م.س. ص 76.
[3] – علي حرب، نحو إدارة جديدة للعالم، م.س. ص 76.
[4] – علي حرب، نحو إدارة جديدة للعالم، م.س. ص 76.
[5] – علي حرب، نحو إدارة جديدة للعالم، م.س. ص 96.