أسئلة حول الفكر العربي المعاصر: الجزء الثالث… سؤال المنهج

تكوين

تقديم:

يتفق جل الباحثين في الفكر العربي المعاصر على أن الإشكالية الرئيسة التي يشتغل عليها هذا الفكر بمختلف أطيافه هي الإشكالية التي يعبر عنها بصيغ مختلفة كالتراث والحداثة أو الأصالة والمعاصرة أو الأنا والآخر أو غير ذلك من الثنائيات المتضادة، فالموضوع مشترك بين كل المفكرين العرب المعاصرين وهو لا يخرج عن ماضي وحاضر المسلمين ومستقبلهم، ليبقى الاختلاف الكبير على مستوى المنهج، أي في آليات القراءة وكيفيات التعامل مع النصوص والتعاطي مع الوقائع، لذلك فإن القضية التي يفترض أن تعطى الأهمية الأكبر في سلم الأولويات هي قضية المنهج، لأنه أساس الرؤية والفلسفة العامة التي يفهم بها الماضر ويسير بها الحاضر ويستشرف بها المستقبل.

فتكون الإشكالية المطروحة في هذا المستوى: كيف نعالج هذا الموضوع المشترك؟ كيف يمكننا الخروج من هذه الثنائيات؟ بعبارة أخرى كيف يمكن أن نحافظ على خصوصياتنا الثقافية دون أن نفقد علاقتنا بواقعنا ومعطياته، لاسيما التطور التقني الكبير الذي وصل إليه غيرنا؟ وهو السؤال مرتبط بصورة كبيرة بالسؤال المهم الذي طرحه شكيب أرسلان (1969-1946) لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟

1/ في الدعوة لتطبيق المناهج الغربية:

         وإذا كان طرح هذين السؤالين ليس بجديد على اعتبار أنهما طرحا بصورة أو بأخرى منذ بدايات القرن التاسع عشر، ورافقا مسيرة الفكر العربي الحديث بمختلف تياراته، فإن الجديد الذي طرأ مقاربتهما منذ منتصف القرن العشرين وبالخصوص بعد هزيمة 1967، هو محاولة المواءمة من قبل الكثير من المفكرين العرب بين طرفي الثنائيات (تراث/حداثة، أصالة/معاصرة..) مع التركيز على المنهج أكثر من الموضوع؛ يقول حسن حنفي في هذا السياق: ” بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 ظهرت المشاريع العربية المعاصرة على أيدي الجيل الرابع من الفلاسفة العرب الذي تتلمذ على أيدي الجيل الثالث وحولوا التيارات الفكرية إلى مشاريع فلسفية معطين الأولوية للمنهج أو المذهب على الموضوع جمعا للوافد والموروث، المنهج أو المذهب من الوافد والموضوع من الموروث..”[1].

النظرة الى الآخر

ولعل السبب الكامن وراء هذا التوجه هو التغير العميق الذي أصاب النظرة إلى “الآخر”، فانتقال العديد من هؤلاء (وهم أصحاب المشاريع الذين تحدث عنهم حسن حنفي) للدراسة في أوروبا كان له دور كبير في تكريس صورة جديدة عن الغرب، ورفع ما سماه عبد الإله بلقزيز “بعقدة الأجنبي”[2]، فالغرب بالنسبة للفكر العربي –كما يقول الجابري- يحمل مظهرين متناقضين: “مظهر يمثل العدوان والغزو الاستعماري والاحتكار والهيمنة..الخ، ومظهر يمثل الحداثة والتقدم بكل قيمهما العصرية المادية والمعنوية كالتقنية والعلم والديمقراطية والحرية..الخ، ومن هنا كان الغرب، ولا يزال، بالنسبة للعرب: العدو الذي يجب الاحتراز منه والوقوف ضد مطامعه وسيطرته من جهة، والنموذج الذي يغري باقتدائه والسير في ركابه من جهة أخرى”[3].

يمكن أن نعتبر انتقال الكثير من الباحثين العرب إلى أوروبا مع منتصف القرن العشرين بمثابة اكتشاف ثان لأوروبا، بعد الاكتشاف الأول الذي حدث زمن الطهطاوي، وإذا كان الاكتشاف الأول قد ترك نوعا من الشعور بالانبهار بالغرب في حياته وأسلوب معيشته بالدرجة الأولى، فإن الاكتشاف الثاني قد ولد رغبة في الاستفادة من هذه الصورة “الجميلة” للغرب فكرا وسلوكا في موطنه، وهو ما عمل عليه أصحاب المشاريع بصور عدة، وإن اختلفوا في الجزئيات إلا أنهم اتفقوا  بصورة عامة على ضرورة تطبيق المناهج الغربية على الموضوع التراثي، فتحصيل الرقي الذي نصبو إليه، والتقدم والرفاهية التي تتوق إليها المجتمعات العربية يمر عبر الأخذ بأسباب التمدن الأوروبي، “أي الأخذ بقيم العقل والعلم وقواعد الحكم العصرية”[4]. وهكذا سعى المفكر العربي –الذي درس في الجامعات الغربية غالبا- لاقتناص أحدث المناهج الغربية ومحاولة تطبيقها في إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، فبدأت ترجمة النصوص الكبرى لهذه المناهج/المذاهب، والتعريف بأعلامها، كما اخترق خطاب التنظير للمنهج كتابات المفكرين العرب؛ ذلك أن كل مفكر يحاول شرح وتبسيط وتبرير لجوئه لهذا المنهج مدافعا عن أهميته في بلوغ الدقة والعملية المطلوبة، يقول الجابري : ” يتم الحديث عن المنهج غالبا بشيء من “استعراض العضلات” فيصبح الحديث عن المنهج المتبع أو الذي ينوي الكاتب اتباعه حديثا من أجل المنهج، حديث إطراء و”تقريظ”، وكأن الكاتب يريد ان يستمد العون أو القوة ..من انتمائه لهذا المنهج أو ذاك”[5]،كما انبثقت المصطلحات والمفاهيم الفلسفية المتعلقة بهذه المناهج وانتشر توظيفها في المنتوج الفلسفي العربي المعاصر، فمفاهيم الجدل الماركسي والإبستيمولوجيا واللسانيات والتحليل النفسي.. وغير ذلك ما هو على شاكلته، أصبحت متداولة على أوسع نطاق في الفكر العربي المعاصر، وهكذا ظهرت التطورية العربية والماركسية العربية، والوضعية المنطقية العربية والظواهرية العربية، والتأويلية العربية والتفكيكية العربية…الخ.

2/عوائق تطبيق المناهج الغربية:

قوبل هذا التوجه بالعديد من الانتقادات لعل أهمها فرض منهج غريب على الموضوع، ذلك أن المتعارف عليه في البحث العلمي أن طبيعة الموضوع هي التي تحدد المنهج أو المناهج المناسبة لدراسته، وحينما نقول المنهج في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالأمر يبدو أكثر تعقيدا بل مختلف تماما إذا ما قورن بالبحث في العلوم التحليلية أو الطبيعية، ذلك أن المنهج في علوم الإنسان والمجتمع ليس مجرد أدوات صماء محايدة لا تأثير لها على الموضوع، وليس مجرد عملية إجرائية تقنية تساعد الباحث على إيجاد الحلول المناسبة لموضوعه، “إنما هو ممارسة خطابية واستراتيجية تعمل على إخفاء قصديتها كلما تهددتها موازين القوى وتعارض المصالح، فالخطاب هو دائما خطاب سلطة ما وبناء على مصلحة ما بما في ذلك خطاب المنهج”[6]، بمعنى أن المناهج غير بريئة وغير مستقلة عن إرادات السلطة والهيمنة، وحينما نتحدث عن المنهج فإننا نتحدث عن مفاهيم بالدرجة الأولى، وهذه الأخيرة ليست بدورها مستقلة تمام الاستقلال عن السياق الذي ولدت فيه والصراعات المرافقة لميلادها، ولكل مفهوم شبكة من الدلالات المحيطة به والتي تؤثر في عملية الفهم والتوظيف والتأويل لهذا المفهوم.

وإذا استحضرنا خصوصية الفلسفة الغربية المعاصرة نجد أنها تخلت عن بناء الأنساق كما كان الأمر عليه في الفلسفة الحديثة، وأصبح الاهتمام منصبا على ابتكار مناهج جديدة، أكثر دقة وعلمية في قراءة الوقائع، وأصبح متعذر في كثير من الأحيان التمييز بين المذهب والمنهج (الظواهرية، البنيوية، التأويلية، التفكيكية، الحفريات..الخ)، وإذا عدنا إلى نص حسن حنفي أعلاه، نجده قد استعمل عبارة “المنهج أو المذهب”، وهو بذلك يشير إلى التداخل الكبير بين المذهب والمنهج في الفلسفة الغربية المعاصرة. وهذا ما يطرح سؤال مشروعية توظيف هذه المناهج/المذاهب على موضوعات وسياقات غير تلك التي تم إنتاجها وتوظيفها فيها، ولكل سياق خصوصياته التي قد لا تتلاءم مع هذه المفاهيم والمناهج، ومن ثم تطرح مسألة فعالية هذا التوظيف ومدى إمكانية الوصول من خلاله إلى نتائج دقيقة، يقول هشام شرابي مميزا بين استعارة أو استيراد الماديات واستيراد الأفكار والمناهج: “أثبتت التجربة العامة في مجال الاستعارة الثقافية، أن شيئين من الممكن أن ينقلا في شكل كامل: البضائع، والوسيلة الفنية لصنعها، وما ليس ممكنا نقله (إذ يجب امتصاصه وتنميته على مستوى أرقى من مستوى الاستعارة) هو العناصر المكونة للروح العلمية: الأسلوب العقلاني، الملاحظة التحليلية، الإجراءات المضبوطة، النقد، الخيال الواقعي، وتصحيح الذات”[7].

الفكر العربيّ الجديد، والتحديث بوصفه إشكالَ العالَميَّة

يزداد الوضع تعقيدا حينما يترافق تطبيق منهج معين مع نزعة دوغمائية وثوقية تجعل صاحبه يعتقد بأنه الطريق الوحيد الموصل للحقيقة المطلقة، فالكثير من الباحثين حولوا المنهج أو المناهج إلى تكتلات شبيهة بالأحزاب، ومن ثم تحول البحث إلى نوع من النضال هدفه الغلبة دون الحقيقة، يظهر ذلك حتى في المصطلحات التي يتم توظيفها أثناء الحديث عن المنهج، على شاكلة: “معركة المناهج”، أو “معركة المفاهيم”، “الترسانة المفاهيمية أو المنهجية”، “التسلح بأحدث المناهج”…الخ، مصطلحات توحي أننا إزاء حرب واقتتال يبحث فيه كل طرف عن “دحر” خصمه والقضاء عليه، لا في بحث علمي هادف لإنتاج معرفة يستفيد منها الجميع.

3/ تجاوز العوائق:

         من المؤكد أن هناك مشكلات كثيرة ترتبط بقضية المنهج في الفكر العربي المعاصر، وهي ليست خافية على المفكر العربي، فهو واع بتلك العوائق ومتعلقاتها، غير أن ذلك لم تثنه على تبني هذه المناهج وتوظيفها في بحوثه، انطلاقا من قيمتها المعرفية التي أثبتها تطبيقها في السياق الغربي، فالمفكر العربي مقتنع أن طريق التقدم والحداثة يمر عبر تشكيل صورة جديدة عن التراث والحاضر وهو ما يفترض تطبيق منتجات الحداثة الفكرية، ونتيجة الوعي بهذه العوائق والمشكلات فقد اجتهد الكثير من المفكرين العرب المعاصرين لتجاوز تلك العوائق، وصدرت العديد من الأعمال التي توحي بذلك، أعمال تتحدث عن “الاستقلال الفلسفي”، و”الحق في الاختلاف الفكري أو الفلسفي”، واستئناف القول الفلسفي العربي” بالعودة إلى “الغزالي”، أو “ابن رشد” أو “ابن تيمية” أو “ابن خلدون”..الخ، كما تبنى بعضهم “التعددية المنهجية” أو التفاعل “الصحي” بين المناهج كاستراتيجية منفتحة لتجنب الدوغمائية التي يفرضها اتباع منهج واحد، و”الحذر الابستيمولوجي”، مثلما سعى بعضهم إلى “تأصيل” بعض المناهج حتى يتحقق الانسجام بين الموضوع والمنهج، بالإضافة إلى ما سماه الجابري بـــــ”تبيئة المفاهيم” و”تحيينها وجعلها من خلال تحليل الواقع مطابقة، أي معبرة عن هذا الواقع”[8]، وعموما يمكن القول أن تطبيق المناهج الغربية وتوظيف المفاهيم المرتبطة بها لم يكن تطبيقا آليا أو حذافيريا، لنقرأ هذا النص الذي يتحدث فيه الجابري عن تعامله مع المفاهيم المنهجية الغربية: “سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو “قراءات” مختلفة، متباينة، مفاهيم يمكن الرجوع ببعضها إلى كانت أو فرويد أو باشلار أو ألتوسير أو فوكو بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها(..)إننا لا نتقيد في توظيفنا لتلك المفاهيم بنفس الحدود والقيود التي تؤطرها في إطارها المرجعي الأصلي، ونمارس هذه الحرية بكل مسؤولية”[9]. ويمكننا العثور على نصوص بنفس المعنى لدى جل المفكرين العرب المعاصرين، بما يدل على أن هناك نوع من البراغماتية في التعامل مع المنتوج الفلسفي الغربي.

بمثابة خاتمة:  

من الصعب الوصول إلى نتائج مرضية أو حاسمة في الإجابة عن سؤال المنهج في الفكر العربي المعاصر، بالنظر لتعدد المناهج والمفكرين، فالأمر يقتضي دراستها حالة بحالة، والتوقف عند كل مفكر لمناقشة منهجه ومفاهيمه ومعرفة مدى فعالية هذا المنهج أو ذاك، ومع ذلك يمكن القول أن من إيجابيات التفاعل بين الموضوع الموروث والمنهج الوافد، بث الحيوية في الفكر العربي من خلال طرح إشكاليات جديدة ومقاربات لم يألفها القارئ العربي، مما يجعل وعيه ينفتح على تجارب الآخرين ويستفيد مما وصلوا إليه، إضافة إلى إثراء المعجم الفلسفي العربي بمفاهيم كثيرة تتيح التعبير فلسفيا عن مختلف القضايا المطروحة بكل سلاسة ويسر.

 

قائمة المراجع: 

 حسن حنفي (وآخ): الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2006، ص 20.[1]

 عبد الإله بلقزيز: إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر، بيروت: دار المنتخب العربي، ط1، 1992، ص20.[2]

 محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1989، ص27.[3]

 المرجع نفسه، ص 26.[4]

 محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط6، 1994، ص13.[5]

 بلعاليه دومه ميلود: الفلسفة وأزمة خطاب المنهج، ضمن أعمال مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية حول “المنهج الفلسفي، 2017. [6]

 هشام شرابي: المثقفون العرب والغرب، بيروت: دار النهار للنشر، ط4، 1991، ص 132.[7]

 محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، ص 09.[8]

 المرجع نفسه، ص 14.[9]

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete