التحريم نصًا: الجزء الثاني…حفظ الأصل والفرع

تكوين 

وبالوالدين إحسانا

يتوخى نص التحريم أن يُرجع المتلقين إلى الاهتمام بالخلية الأولى لبناء المجتمع، إذا صلحت صلح المجتمع بأكمله، ألا وهي الأسرة وعمادها الوالدان. طبعا ليس المطلوب هنا أن نصلح الوالدين وتلك إشكالية أخرى، بل المطلوب التزام الإحسان بالوالدين، فما الحرام هنا؟

حرّم ربكم  الشرك، وقد عُبِّرَ عن هذا التحريم، بالقول: “عليكم أن لا تشركوا به شيئا“، وحرّم أيضا عقوق الوالدين وقد عبّر عنه بقوله جلّ وعلا: “عليكم…. بالوالدين إحسانا“. فنلاحظ أن المطلوب أولا هو إصلاح العقيدة، ومتى صلحت عقيدة الإنسان وبات في مكانة عالية أمام نفسه على الأقل، لربما تأخذه سعادة المعرفة إلى منزلةٍ يبعد فيها عن واقعه، فالذي يؤمن بالله الواحد يصبح مسؤولا عن الصلاح الاجتماعي وذاك لا يكون فقط بالإرشاد القولي إنما بالسلوك الحركي اليوميّ معطوفا على السلوك الذهني. إذ ليس مصادفةً أن تأتي العبارة عن التوحيد بصيغة النهي عن الشرك، بينما النهي عن العقوق بصيغة الأمر بنقيضه، أي بالإحسان، إذْ يعني ذلك أن التوحيد يقرّ في الذهن (إيمانًا) وينبغي على السلوك الذهنيّ أن يحصنه بالانتهاء عن الشرك لكونه قريبا جدًا، كلما تبرجت للمرء قوتُه. بينما الإحسان إلى الوالدين بوصفه سلوكا اجتماعيا يتوخى تحصين النواة الأولى والأهم في بناء المجتمع، ليس على نحو واحد أو على نمط واحد فالإحسان يكون بالتقدير والإجلال والاحترام، ويكون أيضا بالإكرام والعطاء المادي، ومن الممكن أن يكون في الإصغاء وعدم التذمّر وتلبية الحاجات وغيرها كثير وهي متنوّعة بتنوع الأسَر واختلافها، وبتنوّع المشارب الثقافية للأبناء واختلافها؛ وقد يعق الابن أو الابنة الوالدين أو أحدهما من دون قصد؛ لذا نُطِق بالشائع الذي هو الإحسان لتأكيده وأُضمر المحرّمُ وهو العقوق أو الإساءة تنزيها للعلاقة بين الأبناء والآباء من إشمامها رائحة الفساد.

وجاء تأكيد الإحسان بتعديته إلى الوالدين بواسطة الباء التي في أصل معانيها الإلصاق، والأصل أن يُعدّى الإحسانُ في لغة العرب بالحرف “إلى”، كأن نقول:” أَحسنَ إليه، واختيار “الباء” هنا لما تحيل عليه من إلصاق، فتفيد التأكيد المتناسب مع حرمية ترْكه، (عليكم إلصاق إحسانكم بالوالدين). وذاك أن إهمال البرّ بالوالدين دلالة على مباشرة الانهيار الاجتماعيّ وبالتالي الانهيار في كل مسعى حضاريّ، فهما مظهر الخلق الإلهي للإنسان.

لا تقتلوا أولادكم من إملاق

حتى تندرج فكرة النهي عن قتل الآباء أبناءَهم، ضمن قائمة المحرمات؛ ينبغي أن تكون هذه الفكرة لها موقعها في المجتمع، وهذا يجعلنا أمام ظاهرة تحتاج إلى تفكيك تمهيدا لقبول النهي عن الفعل.

القتل جريمة موصوفة، لا أحد يسوغها أو يمكنه تسويغها؛ بل هي أكثر من جريمة عندما تقع على الأولاد، والأكثر إجراما عندما نتخيل هذا الفعل واقعاً على أولادنا. أيّ وسواس فاجرٍ يخرج بالمرء عن إنسانيته ليتحول وحشا خارجا على غرائز الوحوش؟

يقدّمُ النصُّ “الإملاق” تعليل القتَلَة لجريمتهم، متوسلًا الحرف “من” الذي للتعليل؛ وذلك للدلالة على أن الإملاق سببٌ لقتل القتَلة أولادَهم. وفي الحقيقة لا يبدو هذا سببا تخفيفيا للجرم، فالجريمة تُنقص من إنسانيّةِ الإنسان، والوصية الأولى لاكتمال إنسانية الإنسان، كانت “ألا تشركوا به شيئا” والباء هنا تفيد المقابلة والعوض، ما ينمّ عن جهل فظيع، جهلٍ بمعنى الألوهة التي ينبغي أن تكون فوق كل شيء، وجهلٍ بإنسانيّةِ الإنسان التي تأخذ قيمتها من كون الإنسان عارفاً مكانته دون الله مباشرة وفوق أشياء الكون، وعندما يدرك الإنسان هذه المكانة؛ لا بدّ أن تسمو نفسه فوق الجريمة، ويراقب تصرّفاته بهدف تقويمها وترشيدها، ولا ينبغي لإنسان يعرف أنه خليفة الله على الأرض أن يجعل أهواءه وشهواته شريكا لله، فيهوي في ظلمات الجهل فلا يدرك مصادر الرزق ولا السبيل إليها، فيبتعد بنفسه والآخرين عن الطريق التي تؤدي إلى التحضروالتقدّم.

إقرأ أيضا: استحالةُ قتلِ الأب (الجزء الأول)

(نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِیَّاهُمۡۖ) كيف يحصل هذا الفعل؟ ولماذا لم يحصل قبل أن يلدوا؟ هل يحق لي أن أتساءل؟ لقد ورطت هذه الآيةُ الكريمةُ كلّ الفقراء بزيادة مواليدهم تأسيساً على فهمهم لها بأن (كل مولودٍ يولد ويولد رزقُه معه)! هل هذه المقولة تفسير للآية؟ أم أن للآية معنى آخر؟

طبعا المعنى يذهب من عقولنا إلى الجملة وليس العكس، لذلك لا يمكن أن يكون ما نقول نهائياً.

“الرزق” ما يدخل إلى الجوف من فتحة الفم، ومجازا يشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة، ولو أنها متوافرة ما قتل الوالدُ ولده، وهذا الاستئناف بـ” نحن نرزقكم وإياهم” جيء به لتعليل النهي، فهو يقرر حالا وليس وعدا، فالمضارع يدل على الاستمرار والمداومة ولا يدل على الوعد إلا بدليل، فالذي يصل إلى جوف المرء هو مما تنبت الأرض، أو من نتاج طير أو حيوان، والذي يستمر في الحياة إنما هو المرزوق منها، وهي كلها والأرض والسماء والهواء والضوء والظل وسواها من الموجودات، هي خلق الله، ما يعني أنكم مرزوقون، والرزق متاحٌ لكم ولأولادكم؛ فقتلكم لهم بحجة فقركم أمر مرذول ومرفوض ومحرّم. هكذا فهمتها، فلا يعني أنه إذا كان الرزق من عند الله ينبغي أن نعطّل العمل وقوانين العمل، ونؤنب من يصرّح بقدرته على زيادة إنتاجه لأنه لم يقل بأن الله رَزَقه. فالله خلقك في هذا الكون لتفهم نواميسه وتمضي في الحياة من حالٍ إلى حال ومن سبيل إلى سبيل، على هدى من أمرك.

إقرأ أيضا: منهجية التعامل مع القرآن فيما قبل النص

إذن، وقف الجريمة يقتضي تعلما وفهما واستفادة من خبرات الآخرين بالحرص على العلاقات الاجتماعية، بغية التطوير والتجويد بالإنتاج ووسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية. فالفهم السائد للرزق الإلهي لا يمنع الجريمة، وحرمان الولد من الحياة لا يبني مجتمعا ولا ينبغي له،  وحرمان الولد من التعلم والفهم هو نوع من القتل يتحمل مسؤوليته الوالدان، وبخاصّةٍ أنّ مخاطره على النفس والمجتمع لا تحدّ.

الوعظ مهم، غير أن العلم هو السبيل إلى المعرفة التي تصون الأسرة والمجتمع.

سيأتي من يقول بأن الدين متقدم على العلم، والحقيقة أن التدين بلا علم يجعل الناس سذّجا يصدّقون ما يقال لهم ويحمدون الله على ما هداهم وما هم بمهتدين.

نخلص في الختام إلى أن الإصلاح الاجتماعي بحسب الدعوة القرآنية، ينبغي أن يؤسَّسَ على إصلاحٍ عقدي، وذاك لأن السلوك الإنساني بإزاء الكون والمجتمع، إنما هو تبعٌ لما يقرٌ في الأذهان من قناعات أو ما يعتبرها الفردُ ثوابت عقديّة، فالأشياء هي هي، غير أن الفرد ابن الجماعة يصنّف هذه الأشياء بين الحليف والمعادي؛ لا بما هي عليه، بل بما تبدو عليه، وما تقدّمه من منافع للبشر فردا وجماعة تبعًا للظن.

العقيدة الفاسدة تفسد الرؤية اللازمة للتصنيف السليم، وتفسد العلاقة بين العناصر المكوّنة للمجتمع، وسيؤدي ذلك حتما إلى فقدان الطريق إلى القوة الاجتماعية، وربما أكثر من ذلك قد يفضي بنا إلى طريق معاكس تماما نمضي فيه إلى هاوية سحيقة، أبرزُ معالمها الفشل الحضاري.

ويكون الإصلاح العقديّ بالإصلاح المعرفيّ، إذْ لا يمكن للمعتقدات أن تتزحزحَ إلا تحت تأثير يقين جديد، يقينٍ ينسخُ ما قبله ويجدد الفهم ولا يتبوأ المقعد الأمامي إلا لكونه مقدّما غير نهائي. ما يصح تسميته باليقين الممكن إلى حينه، ولا يتجرّأ الجهل المتراكم أن يبخسه، ولا يمكن ادّعاء مدّعٍ  أنّ الجهل والسذاجة إيمان يعجز العلم عن بيان صدقيّة موضوعه!

وإذْ نقول بأن المعتقدات لا تتزحزح إلا تحت تأثير العلم واليقين الجديد؛ فإنّ الصواب أيضاً أن ازدراء تلك المعتقدات الفاسدة والتنمّر على معتنقيها، أو قمعهم بالقوّة الفاجرة، يزيدها صلابةً ويجعل التخلّص من تأثيرها السلبيّ على السيرورة الحضارية أمرا صعباً إن لم نقل مستحيلا.

الأمر والنهي لا يحتملان الازدراء ولا القهر والإذلال.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete