أصالة “الاعتبار” في الثقافة العربية

تكوين

غالباً ما يستثني الباحثون في العقلانية وآليات اشتغالها أنماطاً من التفكير لا تنتسب إلى النماذج التي وضع أصولها وصاغ مقدماتها الفكر الغربي،قديمه وحديثه،غير أنها تعود إلى نوع من العقلانية،ضارب الجذور في التجارب المعرفية التي عرفها التراث العربي بعلومه المتعددة وثقافاته المختلفة.يتبدّى في مفاهيم كثيفة الإيقاع المنهجي والمعرفي،لعلّ من أبرزها مفهوم الاعتبار،حيث يتجلّى، في منازله المنصوبة في حقول النظر وآليات اشتغاله،ثراء الفكر العربي،وتنكشف في حراكه معابر،يسترشد بها هذا الفكر في سعيه إلى الحفر في طبقات الكلمات والأشياء،تنقيباً عن معانيها واستكناهاً لمقاصدها العميقة.

يبدو هذا الاستثناء تعبيراً مفرطاً عن أحادية عقلانية،منظوراً إليها باعتبارها خاتمة الوعي المعرفي،ومعيار الاستقامة الفكرية،تشي في”مركزيتها”الواثقة،بإرادة رافضة للآخر،كما هو،بما هو عليه في عقله،في ثقافته وفي ما أنتجه هذا العقل على امتداد تاريخه العربي والاسلامي،من معارف وما حققه من إنجازات في العلوم والآداب على اختلافها.

العقلانية في الفكر العربي

تهتم هذه المقالة،بالاعتبار  كمفهوم يمثّل وجهاً من وجوه العقلانية في الفكر العربي وتجلّ من تجلياتها،تحاول إبراز أصالته وخصوبة منزلته المعرفية في فنون النظر والتأليف والاجتهاد،وغيرها من مسالك العبور إلى اللامفكّر فيه أو المسكوت عنه من المعاني والدلالات.

١-من العبور بالحسّ والجسد إلى العبور بالفكر

يعود الاعتبار في أصله اللغوي،إلى معنى العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء،يقال:عبرتُ النهر،أعبُرُه عَبْراً وعبوراً إذا قطعْتُه من هذا العِبر إلى هذا العِبر،وعِبر النهر وعَبْره،شطُّه وجانبُه،والمِعبَر،ما عُبِرَ به النهر من فُلك أو قنطرة أو غيره،وعابِرُ السبيل أي مارُّ الطريق،وعَبَرَ القوم:إذا ماتوا كأنهم عبروا قنطرة الدنيا،والعابر:الذي ينظر في الكتاب فيعتبره أي يعتبر بعضَه ببعض حتى يقع فهمًه عليه،وعبَرت الرؤية إذا فسّرتها،أي عبرت من ظاهرها إلى باطنها،والعِبارة هي الكلام لأنه يعبر من لسان المتكلم إلى سمع السامع.ومن معنى العبور والمجاوزة العَبرة،الدمعة لأنها تعبر من الجفن،والعِبرة،الإعتبار والإتّعاظ بما مضى،والمعْتبِرُ هوالذي يعبرُ من حاله إلى حال غيره،فيعرِف ويتعرّف ويتّعظ مما مضى،وعليه،فالإعتبار هو حالة العبور من معرفة الشاهد إلى ما ليس بمشاهَد،وهو القياس أي ردّ الشيء إلى نظيره والعبور منه إلى أمثاله وأشباهه،والحكم على الشيء بما هو ثابت لنظيره(١).

تُبرز المشتقات من الجذر(ع ب ر)طبيعته المتحركة،وتكشف ثراء الحقل الدلالي لأصل الاعتبار،وتتماهى في اشتراكها بمعاني المجاوزة والانتقال من حال إلى حال،والعبور من عِبر إلى عبر ومن موضع إلى آخر،سواء كان هذا العبور حسّياً،(عبور النهر…)أو معنوياً و مجازياً، كالعِبرة والاعتبار بما مضى وكردّ الشيء إلى نظيره،فالوجه الأول،عبور بالحسّ والجسد،والوجه الثاني عبور بالفكر والنظر.

٢-الإعتبار بين التضييق والتوسّع

من جهة الاصطلاح يتجلى الاعتبار في تعريفات تتحرك  بين الإطلاق والتقييد،أو بين التوسّع والتضييق،إن تعريف الاعتبار بما هو ردّ الشيء إلى نظيره،فيه معنى الإطلاق لأنه ينطبق على كل حالة يُردّ فيها الشيء إلى نظيره،إما لإثبات حكمه له كما في القياس وإما ليشتركا في تأييد أحدهما للآخر بصفة من الصفات أو في معنى من المعاني(صفة الإسكار )أو في حكم شرعي(التحريم)،أو في تفسير آية من القرآن بآيات أخرى(حمله وفصاله ثلاثون شهراً…”الأحقاف١٥)…(فصاله في عامين…”لقمان١٤”)،أو أحاديث متصلة…وعليه،فإن الإعتبار أعمّ من القياس،والقياس جزء منه.لكن،في ذهاب البعض إلى إيراد هذا التعريف،مضيفاً إليه…”بأن يُحكَم عليه بحكمه”،ما أدّى إلى تقييد الاعتبار وجعله مقتصراً على القياس،بل هو القياس نفسُه،وهو نوع من التضييق لمفهوم الاعتبار.

يدخلُ الاتّعاظ في الاعتبار كما في القياس لاشتراكهما في معنى العبور والمجاوزة،فالقياس مجاوزة من الأصل إلى الفرع والاتّعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه،والمأمور به في الآية”فاعتبروا يا أولي الأبصار”،مطلق الاعتبار…والقياس الشرعي أحد جزئياته(٢)،لكن عمومية التعريف وإطلاقَه(ردّ الشيء إلى نظيره)قد لا تعني في الحقيقة اشتماله جميع صِيَغ الاعتبار،لأن تحقّق العبور والمجاوزة قد يحصل في ردّ الشيء إلى غير نظيره،مثل العبور من الناسخ إلى المنسوخ،أو من المنطوق به إلى نقيضه(المسكوت عنه)،وعليه فالاعتبار بصورته العامة قائم ومتحقّق لأن العبور حاصل من حال إلى حال،وهو المشترك الذي يجعل الاعتبار أعم من القياس المقيّد بالنظير”ردّ الشيء إلى نظيره”.

إقرأ أيضاً: في الثقافة ودور المثقّف وقفة بين النظرية والتطبيق

لكن نظر ابن رشد يوقف الاعتبار عند حدود المقايسة أو القياس،يقول:”الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه،وهذا هو القياس أو بالقياس”وذلك تأصيلاً على قوله تعالى:”فاعتبروا يا أولي الأبصار”حيث يقول:”وهذا نصّ على وجوب استعمال القياس العقلي والشرعي معاً…لأنه إذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى وجوب القياس الفقهي،فكم بالحري والأولى أن يستنبط من ذلك العارف بالله وجوب معرفة القياس العقلي”(٣).

يوجب الاعتبار عند ابن رشد استعمال القياس العقلي والقياس الشرعي معاً،لأنه هو القياس بعينه،هو العبور من شيء إلى آخر،من أصل إلى فرع،بتوسّط العلة وهو القياس الفقهي،ومن مقدّمات إلى نتائج بتوسّط الحدّ الأوسط وهو القياس العقلي،ثم يضيف:”فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها…”

يذهب الغزالي المذهب نفسه في الاعتبار فيقول:”معنى الإعتبار،العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى” وهو القياس،لكنه يستدرك في نصّ آخر،فيذكر:”إنْ عَبَرَ من المنظور فيه إلى غيره بالتنبّه إلى معنى يناسب المنظور فيه يسمى اعتباراً(٤)،ومعلوم أن في قوله:العبور من المنظور فيه إلى غيره”بدل العبور من الشيء إلى نظيره”،إطلاق للاعتبار من قيد النظير،وإن كان قد أوجب صلة ما بين المنظور فيه وغيره(المعتبر به)،الذي يصحّ أن يكون نظيراً أو نقيضاً…أو معارضاً.كما أنه يفرق بين الاعتبار والإلهام،فيقول:الذي يحصل، لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل،يسمى إلهاماً،والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً…”،دون أن يُغفل اشتمال الاعتبار على معنى العِبرة،كأن”يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون له فيها عِبرة”.

ويَرِد الاعتبار في “مشكاة الأنوار” بمعنى ال”عبور…من الظاهر إلى السرّ”(٥)،من عالم الملك إلى عالم الملكوت،ويرِد في الإحياء…”فلا يُنظر في شيء من عالم الملك إلا ويُعبر به إلى عالم الملكوت…”،وهذه منزلة من منازل الاعتبار بالباطن،القائم على حال العابر ومجاهدته في سبيل تطهير قلبه وإخلائه من الغضب والشر.والاعتبار بهذا المعنى العرفاني نجده في ما ذهب إليه ابن عربي عندما اعتبر أن المعنى الظاهر والمعنى الباطن،كلاهما من عند الله:الظاهر”تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه”بلسان قومهم،والباطن تنزيل الفهم من الله على قلوب بعض المؤمنين”قلوب العارفين”،يقول:لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ماهو عليه في الظاهر،قدماً بقدم،لأن الظاهر منه صورته الحسية، والروح الالهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الإعتبار في الباطن”،وقوله:”فاعتبروا يا أولي الأبصار(الحشر٢)يعني”جوّزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تغطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم،فتدركونها ببصائركم”.

يظهر مع ابن عربي الاعتبار منهجاً يتوسل به العرفانيون في تجاربهم،حتى،يبدو في آلية اشتغاله،كأنه القياس نفسه الذي يفكّر بواسطته الفقهاء والمتكلمون،وإذ أرجع الطوسي الاثنين،الاعتبار والقياس،إلى الاستنباط،غير أنه أشار  إلى الإختلاف في النظر إلى ما ينتجه كلّ منهما والحكم عليه،إستنباط الفقهاء والمتكلمين،قد يترتّب عنه الخطأ والصواب،لأنه يتعلّق بالأحكام الشرعية،أما الاستنباط العرفاني فلا يخضع لهذا النوع من التقييم،والتنوّع في مستنبطات العارفين،لا يجوز وصفه بالخلاف،بل يعود إلى مواجدهم وأحوالهم،التي تختلف وتتنوّع تبعاً لتدرّج مراتب قربهم من الله(٦).

إقرأ أيضاً: دور الدين في الثقافة الصينية والثقافة العربية

لقد استُثمِر مفهوم الإعتبار في أكثر من ميدان من ميادين الفكر العربي،حتى كان له دوره في المجال العلمي،جاء في كلّيات “أبو البقاء”(٧):الاعتبار تفحّص الأشياء ودلالاتها لاستقراء الكامن من المنظور،ويقول:إن الاعتبار له معنى الامتحان،ولعلّ هذا المعنى هو الذي استقر في منهج ابن الهيثم(٨)،يقول مصطفى نظيف:تجب الاشارة إلى أن ابن الهيثم استعمل تفسيراً خاصاً عبّر فيه عن معنى التجربة بحسب المصطلح الحديث،لقد أشار إليها بكلمة”الاعتبار،وسمّى الشخص الذي يُجري التجربة المعتبِر”،وقال عن الشيء المطابق للحقيقة والصادر عن التجربة،الإثبات بالاعتبار،لكي يميّزه عن الإثبات بالقياس،وبرز الاعتبار في مهمتين أساسيتين في البحث العلمي عند ابن الهيثم،الأولى هي استقراء القواعد والقوانين العامة،والثانية،هي التحقّق من صحة النتائج التي انتهى إليها(٩).

استطاع مصطلح الاعتبار ،مع اتساع حقله الدلالي، وسمته المنهجية،أن يجسّد نمطاً من العقلانية الطالعة من عمق التجارب التي عرفها الفكر العربي،وأنتج في ظلّها،علومه وآدابه،أفهوم حيّ،أخرج فريد جبر،من رحمه،التعبيرية،أصلاً لمنهجية توسّل بها في سعيه إلى تحقيق فلسفي لبناني(١٠).

٣-الإعتبار وآليات النظر

في ضوء هذا الحقل الدلالي الواسع لمفهوم الاعتبار،ولبنيته المعرفية المستوية على مبدأ العبور والمجاوزة،ثمة سؤال يطرح نفسه:إلى أيّ حدّ يصحّ الكلام عن أثر له في آليات النظر المنتجة للمعرفة؟بل،ما هو موقع الاعتبار في كلّ من النظر والاجتهاد والتأويل؟

إن الناظرَ في كيفية اشتغال هذه الآليات المعرفية،يستطيع أن يتلمّس فيها أثراً للاعتبار،ودوراً تتحقّق معه مآلاتها وتتعيّن مقاصدها،وإذا كانت حقيقة النظر هي الفكر في المنظور فيه لمعرفة حكمه،بحسب الخوارزمي(١١)،أو هو الفكر الذي يُطلب به العلم أو الظن بحسب الغزالي(١٢)،فيكون النظر بهذا المعنى أعمّ من الاعتبار،لأن المعتبِر ينظر في حال المنظور فيه أولاً،دون أن يتحقّق الاعتبار،في حين يقوم الاعتبار على العبور من المنظور فيه إلى غيره من النظائر واللوازم والنقائص،وعليه فإن شرط الاعتبار النظر،والعكس غير صحيح لأن الناظر قد يقف عند حدود النظر في المنظور فيه،غير متشوّف إلى العبور إلى غيره.

يختلف وضع الاعتبار في الاجتهاد عنه في النظر،فالاجتهاد هو استفراغ الوسع طلباً للحكم،مما يرتّب على المجتهد دراية وتبحراً في القرآن وأحكامه الموزعة بين المحكم والمتشابه والمجمل والمفصّل،والمطلق والمقيّد والناسخ والمنسوخ وغيرها من الاعتبارات المتصلة بالسنة والإجماع والقياس والمقاصد،والمشروطة بالمعرفة الوافية والعميقة بأصول اللغة ونُظُمها الدلالية،ولا يكون المجتهد مجتهداً،ولا يكون فعله اجتهاداً إذا اكتفى بالوقوف عند الدليل الظاهر ولم يستثمر هذه الأدوات المعرفية في العبور منه إلى الدليل الباطن والخفي،فالاجتهاد متوقف على الاعتبار لأن المعتبر يعبر من الظاهر إلى الباطن،من المعنى إلى معنى المعنى،وهو ما تنطوي عليه حقيقة الاجتهاد.كذلك فإن الاعتبار هو الطريق إلى التأويل،لأن التأويل بماهو صرف اللفظ من المعنى الظاهر إلى معنى يحتمله،لا يصحّ إلا بدليل أو قرينة،واستحضار الدليل أو القرينة هو عين الاعتبار،وعلى سبيل المثال،فإن الوقوف عند ظاهر الحديث”لا يؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه”،يحول دون الفهم الصحيح لمراد المتكلم،لأنه ينفي الايمان كليةً عن كل من لم يبلغ هذه المرتبة،مما يوجب تأويله وصرفه عن المعنى الظاهر،لأن الايمان المنفي بحسب العلماء،هو كمال الايمان لا أصل الايمان،معتبرين بنصوص أخرى ترجح تأويلهم،وهي النصوص التي أثبتت الايمان لأهل المعصية بإيرادها أن من مات على لا إله إلا الله دخل الجنة.

٤-أشكال التفكير الاعتباري

تقودنا هذه العقلانية الاعتبارية إلى التفكير في الأشكال أو الصِيَغ التي يظهر من خلالها الاعتبار  كنظام معرفي،فإذا هي ثلاثة:النظير،النقيض واللازم.

أ-الاعتبار بالنظير

يدور الاعتبار بالنظير حول العبور من المنظور فيه إلى غيره من النظائر أو العناصر المماثلة له،ظهر هذا النوع من الاعتبار عند علماء الاسلام،عندما اجتهدوا في ضمّ الأشياء،بعضِها إلى بعض،وذلك عملاً بالقاعدة المنطقية التي تقول أن الشيء إذا ضُمَّ إلى نظيره،أنتج من الفوائد ما يعجز عن إنتاجه منفرداً.يترجّح هذا الرأي عند تاج الدين السبكي،حيث يقول:”وقد لاينتهي الشيء في نفسه حجّةً بمفرده،وينتهض مقوِّياً ومرجِحاً لاسيما عند انضمام غيره إليه”(١٣)،ويرِد عند الزركشي”فإن إلحاق النظير بالنظير من دأب العقلاء”(١٤)،ويذكر طه عبد الرحمن،في السياق نفسه”كلّ علاقة تدعو إلى مقابلها،إنْ مثلاً أو ضدّاً…،فإن كان المقابل مثلاً(نظيراً)،تزاوجت معه،ومسلّم أن كلّ تزاوج يُثمر ما ليس في المتزاوجَيْن على حال الانفراد…(١٥).

لقد انبنى هذا النوع من الاعتبار على قاعدة عقلية ومنطقية،وجدت فنّ”الأشباه والنظائر” من أحسن فنون الفقه،لأن الفقه هو معرفة النظائر على حدّ قول السيوطي(١٦)،المنقول عن كتاب عمر ابن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري”إعرف الأشباه والأمثال”،وإن في جمع الأشباه والنظائر اختصاراً للمعرفة،بل فيه ما يؤدي إلى معرفة جديدة،ومن أنواع الاستدلال المبني على اعتبار النظائر،الاستقراء(١٧)،إذ في الاستقراء،يَعْبر الفكر من المسألة إلى نظيرها،ويتحرّك متفحصاً جزئيات تشترك في معنى من المعاني،وكلّما تكثّر عدد النظائر المعتبرَة،كانت نتيجة الإستقراء آمَنَ وأقوى،وكلّما قلَّ العدد قلّتْ،وعليه،فإن منسوب الصدقية في النتيجة يتحرّك بين تمام الاستقراء ونقصانه.هذا،ويمكن بالاضافة  إلى الاستقراء،الاشارة إلى أن القياس هو شكل من أشكال الاستدلال القائم على الاعتبار بالنظير لأنه يقوم على إلحاق النظير بنظيره،شرط وجود حدّ مشترك بينهما،أي إلحاق الفرع بالأصل،شرط تعدّي علة الأصل إلى الفرع.يرِد عندأبي زهرة في هذا السياق أن “الاستدلال العقلي في كل ما تنتجه براهين المنطق،قائم على الربط بين الأمور،بالمماثلة الثابتة فيها…نظير الحقّ حق،ونظير الباطل باطل،فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه تشبيه الأمور والتمثيل عليها”(١٨).

ب-الإعتبار بالنقيض

إذا كان الاعتبار بالنظير،هو العبور من المنظور فيه إلى نظيره،فإن الإعتبار بالمعارض والنقيض هو العبور من المنظور فيه إلى مايناقضه،لأن في ضمّ القضية إلى نقيضها،ما يمكّن العقل من الفهم الأجود لها،ويشير الفارابي إلى هذا المعنى فيقول:”وأما استعمال مقابل الشيء،فإنه نافع في الفهم،من قِبَل أن الشيء إذا رُتِّب مع مقا بله فُهِمَ(بشكل)أسرع وأجود،…فلذلك،قد يمكن أن يؤخذ مقابلُ الأمر علامة للأمر فيصيرَ معينا على فهم الشيء وحفظه”،ويذكر الغزالي المعنى نفسه:”إعلم أن فهمَ النقيض في القضية تمسّ إليه الحاجة في النظر…وربما يوضع في مقدّمات القياس شيءٌ،فلا يُعرَف وجه دلالته ما لم يُرَدّ إلى نقيضه،فإذا لم يكن النقيض معلوماً،لم تحصل هذه الفوائد”،ويضيف في مقدمة المستصفى أن”النقيض محتاج إليه،إذ رُبّ مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه،فيستلزم من إبطاله صحة نقيضه…والاعتبار بالنقيض يرِد عند الغزالي تحت عنوان التعاند في مقدّمتي الشرطي  المنفصل كما يسمّيه المناطقة أو السبر والتقسيم بحسب المتكلمين،فالقائل أن العالم إما قديم وإما حادث،يصل إلى نتيجة منطقية مفادها أن إثبات الحدوث ينفي نقيضه ،وهو القديم،وإثبات القِدَم ينفي نقيضه وهو الحدوث،وهو ما أشار إليه الغزالي عندما قال:كلّ قسمين متناقضين متقابلين،ينتج إثبات أحدهما نفيَ الآخر…

ج-الإعتبار بالملازم

بالإضافة إلى النظائر والنقائض،يمتد حقل الاعتبار إلى الملازم،والاعتبار باللازم هو العبور من الأصل المنظور فيه إلى ما يتعلّق به على جهة الملازمة،فالتلازم غالباً ما لا يفارق الذات(ذات المنظور فيه)البتة،لكن فهم حقيقته غير موقوف عليه(ظلّ الشجرة…)(١٩)،كذلك،يظهر الاعتبار بالملازم في أسباب النزول،فإنها ملازمة للنصّ زمن نزوله،ومصدر الخبر في الحديث(رجال الإسناد)ملازمٌ للحديث،وعليه فالاعتبار باللازم من جملة العمليات العقلية التي يستطيع العقل معها إدراك الروابط بين المعلومات وعللها،والمسبّبات وأسبابها،والأشياء وآثارها ونتائجها(٢٠).

تقدّم هذه النماذج من منازل الاعتبار،وجهاً جليّاً لعقلانية،استمدّت عناصرها من التراث العربي والاسلامي،فتبلورت خصائصها في علوم اللغة وأصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة وفي سائر العلوم التي نمت وتطوّرت على هامش النصوص العقدية،عقلانية مختلفة،لها ما يميّزها عن العقلانيات التي تنتمي إلى تجارب حضارية،لكل منها،ما يبرز سماته المعرفية،ويعيّن أنماط التفكير التي تحكم نظره إلى الانسان والعالم،عقلانية اعتبارية،تنحو منحى العقلنة التي يحسنُ البحثُ عنها،ليس لدى عقل جوهري،بل في اللغة واستعمالاتها وأدواتها التعبيرية،بحيث يكون الانهمام ليس باكتساب المعارف وحسب،بل بالكيفية التي تمارس وتطبّق بها الذوات الفردية معرفة ما،فالعقلنة باتت تمتلك قيمة إجرائية،تكمن في قابلية العبارات والجمل للنقد،ما يعني،أن يكون كل كلام موصوف بالعقلانية،مجسِّداً لمعرفة قابلة للتقييم الموضوعي،ومستوفياً شروط التواصل والتفاعل بين الأفراد(٢١)،بل شروط العبور إلى سمع المتلقي وفهمه وإدراكه المغازي التي تنطوي عليها.

يبقى أن أقول ختاماً، أن الاعتبار،في ضوء ماتقدّم،في منظومه ومفهومه ومعقوله،يحمل من معاني الوصل والتلاقي والاعتراف،ما يجعل منه امتحاناً حيّاً لعقلانية أصيلة منفتحة،لم تقوَ على طمسها وتشويهها العوائق الأيديولوجية بمسمّياتها المختلفة ومقاصدها المريبة،عقلانية تتوازن في اعتلانها العبارة والإشارة،وتتجلّى الإفادة منها،منهجاً يسهم في تصويب التفكير وتقويم السلوك ويعين في التصدّي لشؤون الحياة،فنتدبّرها بأخذ العِبَر من تجارب التاريخ والاتّعاظ من محاسن الأفعال وقبائحها،في القول والعمل،امتثالاً واجتناباً،استجلاباً لحياة يسود فيها النظرُ المجدي والأداء المستقيم.

 

قائمة المصادر والمراجع:

١-راجع:

-إبن منظور،لسان العرب،د.ت،مادة،ع ب ر

-الأصفهاني،الراغب،المفردات في غريب القرآن،تحقيق،صفوان عدنان الداودي،دار القلم،ط١،١٤١٢هـ.

-الزبيدي،مرتضى،تاج العروس،الكويت، مطبعة الكويت١٩٧٣

-الجوهري،إسماعيل بن حماد،الصحاح،القاهرة،دار الكتاب العربي،١٩٨٦

٢-الطوفي،نجم الدين،شرح مختصر الروضة،بيروت مؤسسة الرسالة ١٩٩٠

٣-الجابري،محمد عابد،إبن رشد،سيرة وفكر،مركز دراسات الوحدة العربية بيروت،٢٠٢٠

٤-الغزالي،أبو حامد،أساس القياس،حقّقه وقدّم له،فهد ابن محمد السرحان،مكتبة العبيدان،الرياض١٩٩٣

٥-الغزالي،أبوحامد،مشكاة الأنوار،حققه وقدّم له أبو العلا عفيفي،الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة٢٠٠٧.

٦-الجابري،محمد عابد،بنية العقل العربي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت١٩٨٦

٧-أبو البقاء الكفوي،كتاب الكلّيات،تحقيق عدنان درويش-محمد المصري،مؤسسة الرسالة،بيروت،ط٢_١٤١٩هـ

٨-مصطفى نظيف،الحسن إبن الهيثم،بحوثه وكشوفه البصرية،تقديم رشدي راشد،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت٢٠٠٨

٩-خصائص المنهج التجريبي عند ابن الهيثمKalima.net

١٠-راجع:فريد جبر،التعبيرية والتكاملية،مجلة الفكر العربي،عدد ٤٢.

١١- الخوارزمي،أبو بكر،مفيد العلوم ومبيد الهموم،المكتبة العصرية،لبنان،٢٠٠٦

١٢-الغزالي،أبو حامد،أساس القياس…م.س.

١٣-تاج الدين السبكي،طبقات الشافعية الكبرى،تحقيق محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو، القاهرة،مطبعة عيسى البابي الحلبي،١٩٩٤

١٤-الزركشي،بدر الدين،البرهان في علوم القرآن،تحقيق محمد أبو الفضا،بيروت،ط٣-١٩٨٠

١٥-طه عبد الرحمن،اللسان والميزان،أو التكوثر العقلي،الدار البيضاء/بيروت،المركز الثقافي العربي،ط٢-١٩٩٧.

١٦-السيوطي،الأشباه والنظائر،دار الكتب العلمية،بيروت١٩٩٧.

١٧-الميداني،عبد الرحمن حسن حبنكه،ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة،ط٣،دار القلم، دمشق٢٠٢١

١٨-أبو زهرة، محمد،أصول الفقه،القاهرة،دار الفكر العربي ١٩٧٣.

١٩-الفارابي أبو نصر،الألفاظ المستعملة في المنطق،تحقيق محمد مهدي،بيروت دار المشرق ٢٠١٩

٢٠-الغزالي أبو حامد،المستصفى من علم الأصول،بيروت،دار الكتب العلمية٢٠٠٠

٢٠+عكيوي عبد الكريم،نظرية المعرفة في العلوم الاسلامية،الناشر:ڤيرجينيا،الولايات المتحدة،المعهد العالي للفكر الاسلامي٢٠٠٨

٢١-العقل والعقلانية،(نصوص مختارة)،إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد،دار توبقال،الدار البيضاء،ط٢٠٠٧

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete