-1-
بوجه عام، لم يستحدث القرآن نظاماً تشريعياً مفارقاً، بل كان يشتغل على واقع العرف القائم وينطلق منه، إما بالنص عليه إقراراً أو تعديلاً، أو بالإحالة إليه من خلال السكوت. وفي أحكام الزواج كما في سائر التشريعات – ما من حكم قرآني إلا وله أصل في ممارسات العرب قبل الإسلام، وهي ممارسات قبلية محلية مشربة بمؤثرات بابلية وتوراتية وسريانية مجاورة. مع تعدد الروايات عن صور مختلفة من العلاقات كالشغار، والبدل، والاستبضاع والرهط، عرفت قريش النظام الاعتيادي الشائع للزواج في الجزيرة العربية وهو النظام الذي اعتمده. القرآن (انظر الألوسي، بلوغ الدرب، ج 2، ص 3، 4، 5: والطبري، تفسير سورة النساء 22، 23، وابن حبيب، المحبر، ص 308).
عرف الجاهليون سلطة الولي في عقد الزواج، واعتبروا المهر ركنا ضرورياً فيه يفرق بين الزواج والمسافحة، ومارس العرب تعدد الزوجات. وفى المحرمات من النساء تابع القرآن أعراف الجاهلية بما في ذلك الزواج بامرأة الأب والجمع بين الأختين حيث كانت أكثر القبائل تستهجن هذين الفعلين، وفي الشعر الجاهلي هجاء منقول عن أوس ابن بن حجر التميمي يعير فيه بني قيس بن ثعلبة بالزواج بامرأة الأب. وكانت العرب تسمية زواج المقت – وهى ذات التسمية التي استخدمها القرآن – وتقول للولد الذي يأتي منه مقتي ومقيت ( انظر الطبري، التفسير، النساء 3، وانظر الزبيدي، تاج العروس ج1، ص 585، 2 9 ص 264).
الحكم الوحيد الذي استحدثه القرآن في باب المحرمات من النساء هو الحكم الوارد في الآية 221 من سورة البقرة بتحريم نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ويلحق به الحكم الوارد في الآية الخامسة من سورة المائدة بإباحة الزواج من امرأة كتابية. لقد صار “اختلاف الدين” عاملاً معتبراً في محرمات الزواج وهي لازمة تشريعية متكررة في تاريخ التدين الكتابي، ولا تظهر في الاجتماع الجاهلي الذي لم يطغ عليه الطابع الديني، ولم يعرف فكرة الديانة التشريعية. في الاجتماع الجاهلي ظلت موانع الزواج ذات طابع اجتماعي خالص يقوم على التراتبية القبلية والمكانة، وهي الموانع التي ستنتقل إلى الاجتماع الإسلامي وسيجرى تقنينها من خلال الفقه كأحكام شرعية في باب “الكفاءة” بوصفها شرطًا من شروط الزواج.
وفي مسألة الجماع اعتبر القرآن حيض المرأة أذى، وأمر باعتزال النساء في المحيض ( البقرة 222 )، وهو سلوك جاهلي معروف، وينقل الطبري في التفسير عن قتادة ” كان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك فحرم فرجها ما دامت حائضاً وأحل ما سوى ذلك “.
وفي التفريق، اعتمد القرآن نظام “الطلاق” الشائع في قريش وكثير من القبائل عند ظهور الإسلام؛ وهو النظام الذي يجعل عصمة الزواج في يد الرجل، ويحصر عدد مرات الطلاق في ثلاث، يصبح بعدها بائنا بينونة كبرى. حيث لا تجوز مراجعة الزوجة إلا بعد زواجها من رجل آخر ثم طلاقها منه (انظر الأغاني، ج 8، وبلوغ الإرب ج 2، ص 49).
وعرف الجاهليون التفريق “بالخلع “، وهو تطليق يتم بناء على طلب الزوجة مقابل مال تدفعه إلى الزوج ( انظر تاج العروس – ج5، ص 321، والسرخسي، المبسوط ج6، ص 176). وقد أقر الرسول هذا العرف وقضى به، وبني عليه الفقه أحكامه في باب الخلع.
لكن القرآن أدخل تعديلاً جزئياً في أحكام الطلاق حيث صار يمنع زواج المطلقة قبل ثلاثة قروء (البقرة 228 )، وكانت تتزوج في الجاهلية بمجرد طلاقها دون عدة لاستبراء الرحم (انظر ابن حبيب، المحبر ص 328).
وفي عدة الوفاة، سيقر القرآن أيضا عرف الجاهلية العربية الذي يجعل المرأة تحد على زوجها المتوفى لمدة سنة، وذلك في الآية 240 من سورة البقرة، وهي آية ستثير الجدل الفقهي في مقابل الآية 234 من السورة ذاتها التي تجعل عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام) ذهب بعض الفقه إلى القول بالنسخ رغم عدم القطع بأسبقية نزول إحدى الآيتين على الأخرى. بينما تنبه بعض الفقه إلى أن لكل آية منهما سياقها الخاص الذي كانت تعالجه وقت نزولها، فالآية 240 التي أقرت عدة السنة الجاهلية كانت مقررة لصالح المرأة بحيث لا يجوز إخراجها من بيت زوجها خلال هذه الفترة إلا باختيارها مع النفقة عليها، أما الآية 234 فتمنع المرأة من الزواج قبل أربعة اشهر وعشرة أيام.
-2-
القوامة والتأديب: دونية المرأة
أقر القرآن بالسيادة المطلقة للرجل على زوجته وأسرته، ومنحه الحق في تأديبها عند النشوز بعقوبات متدرجة تصل إلى الضرب. وهي أحكام تعكس ثقافة الهيمنة الذكورية السائدة في الجاهلية العربية والمحيط السامي المجاور بوجه عام، وقد جرى التعبير عنها بوضوح في النصوص العبرية، وفى تشريعات ما بين النهرين التي أعطت الزوج الحق في بيع زوجته، ففي قانون حمورابي: “لو استحق سند الدفع فاضطر المدين أن يبيع زوجته وابنته وابنه، أو يعرضهم للبيع عبيداً، عليهم أن يعملوا في بيت من اشتراهم أو استعبدهم ثلاث سنوات ثم يعتقهم في السنة الرابعة ( انظر : Willim Mc Neill
وآخرين، شريعة حمورابي، أصل التشريع في الشرق القديم، دار علاء الدين النصوص الكاملة، مادة 117، ص 48).
وفي قوانين أشور الوسطى وهي لاحقة على مجموعة حمورابي تنص المادة 59 على أنه إضافة إلى العقوبات الواردة في الألواح “يحق للزوج أن يجلد زوجته، أو أن يقتلع شعرها، أو أن يشرم أذنها أو يقطعها ” دون أن يترتب على ذلك أي أثر قانوني. (السابق، ص 65).
مقارنة بهذه النصوص، تبدو الآية 34 من سورة النساء أقل قسوة في عقوبات النساء، خصوصا في ظل الشروح الفقهية اللاحقة المبنية على أحاديث نبوية تنهى عن ضرب الوجه وعن الضرب المبرح (انظر مثلاً حديث جابر في صحيح مسلم عن النبي في حجة الوداع). لكن الآية تظل صريحة في تقرير ” دونية المرأة عن الرجل “، وتثبيتها كحكم شرعي مقرر من الله.
كتابياً، عكست التشريعات اليهودية هذه الوضعية الدونية وفي المسيحية سيجرى تأصيلها لاهوتياً بفعل الخطيئة الأولى لحواء. “فإن آدم هو الذي جبل أولاً وبعده حواء، ولم يغو آدم، بل المرأة هي التي أغويت فوقعت في المعصية ” (رسائل بويس ، طيماوث الأولى”. وكما يشرح تورتليان، كانت خطيئة حواء هي الفعل الذي “أدى بابن الله إلى مقارفة الموت تكفيراً عن خطيئة البشر” فالسيادة إذن للرجل الذي لم يجرأ الشيطان على التعرض له، والذي تمثل الرب على صورته عندما نزل من السماوات”.
في الإسلام، يبقى التأصيل اللاهوتي لدونية المرأة حاضراً، لكنه لا ينطلق من فكرة الخطيئة المسيحية، بل من فكرة “النقص” الأصلية في طبيعة الخلق. الأنوثة نقص في حد ذاتها، أي بطبيعة التكوين الجسدي والنفسي، وهذا هو معنى التفضيل، وسبب القوامة المنصوص عليها في الآية 34 من سورة النساء؛ يشرح ابن كثير: “الرجال قوامون على النساء أي الرجل قيم على المرأة وهو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت. “وبما فضل الله بعضهم على بعض ” أي لأن الرجال أفضل من النساء، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله (ص) لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، رواه البخاري، ( ابن كثير، التفسير )، وعند ابن العربي، ” إني جعلت القوامة على المرأة للرجل لتفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء؛ : الأول : كمال العقل والتمييز.. وهذا الذي يبين النبي ( ص ) في الحديث الصحيح : “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن “.
-3-
لا يكاد الوعي الحداثي يفهم الربط بين الوضعية الدونية للمرأة وفكرة التكفير عن الخطيئة الأولى كما يطرحها التأصيل المسيحي التقليدي، وهو لا يقبل فكرة النقص الطبيعي كما يطرقها الفقه الإسلامي، ويطرح في مقابل ذلك مبررات “أخلاقية” و “عقلية” و ” نفعية اجتماعية” لتصعيد وضعية المرأة. لكن المسألة تظل – في جميع الأحوال – مسألة ثقافة، تعكس مخرجات التطور العالم وطريقة التفكير في العالم.
واقعياً، كان التشريع الديني، كأي تشريع، يعبر عن الثقافة السائدة في لحظته الاجتماعية، وهي الثقافة اللاهوتية التي ظلت تهمين على الوعي العام طوال المراحل السابقة على الحداثة. ولذلك لم يواجه الفكر الديني الكتابي مشكل تبرير نظري لأحكام الشريعة بامتداد العصور الوسطى.
بدأ ظهور المشكل في السياق المسيحي الغربي مع تصاعد ايقاع التطور العام بعد القرن السادس عشر، وتحوله إلى انقلاب جذري شامل عبر القرون الثلاثة التالية، وظل المشكل قائماً إلى أن تحولت نتائج التطور إلى ثقافة سائدة، فرضت على الكنيسة الانسحاب كلياً من المجال العام.
في السياق الإسلامي، أخذ المشكل يفرض نفسه تدريجياً تحت ضغط الإشعاع الحداثي المتفاقم. إيقاع التطور الاجتماعي البطيء نسبياً لم يسفر عن ضغوط كافية لإحداث تغير بنيوي داخل الوعي العام الذي ظل خاضعاً لمكوناته التراثية. لكن الإشعاع الحداثي يظل قادراً على استحضار المشكل الى سطح الوعي، وتحريك الدوافع لحله بغرض التوافق مع الحداثة.
الفكر الإسلامي – الذي لا يزال يصر على حل المشكل من خلال آليات الفقه التقليدية وخصوصاً التأويل – لم يستطع تقديم دفاع مقبول عن الإسلام في قضية المرأة. فرغم استدعائه أحياناً للنصوص الكلية التي تعبر عن المطلق الأخلاقي يتعين عليه الدخول في مواجهة شائكة ليس فقط مع منظومة الفقه الواسعة، بل أيضا مع مادة ” النصوص التشريعية” المفصلة التي كانت تنقل اجتماعاً زمنياً واقليمياً بعينه. وبدلاً من ترتيب النتيجة المنطقية لهذه الحقيقة، أي الاعتراف بالنطاق الزمني المحدد للنص التشريعي، تعمل آلية التأويل على قهر النص لإنتاج دلالات مناقضة لمنطوقه، عملية التأويل في حد ذاتها تكشف عن غرضها الاجتماعي، من حيث هي تظهر حاجة الاجتماع الجديد لمعاني جديدة.
-4-
المرأة بحسب الفقه
في عصر التدوين سيقوم الفقه ببناء نظرية شاملة في الزواج بالتأسيس على نصوص القرآن، وروايات الآحاد المنسوبة إلى الرسول. ويفعل التعددية المذهبية، والتنوع الاجتماعي الناجم عن الفتوح، ستسفر النظرية عن تباينات فرعية عديدة تكشف عن تبعية التشريع الدائمة لحركة الاجتماع.
لكن النظرية ظلت بوجه عام تحمل السمات الأساسية المنقولة عن الاجتماع العربي الجاهلي ذات الأصول السامية، وفي مقدمتها نظام الهيئة الذكورية. وبطابعها التفصيلي العملي واعتمادها الموسع على الرواية، ستبدو النظرية الفقهية أكثر تعبيراً عن هذا النظام قياساً بالنص القرآني المجمل، ويمكن قراءة ذلك بوضوح في الأحكام التي وزعها الفقه تحت أبواب الولاية، والقوامة، والتأديب، والعصمة والحجاب، وبشكل أوضح من خلال “التعريف” الذي يقدمه الفقه لعقد الزواج:
في كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد بن على التهانوي (ت 1158 هـ )، وهو مرجع متأخر ينتمى إلى الفقه الحنفي( الأقل نقلية والأقل إهمالاً لحقوق المرأة )، نقرأ التعريف الآتي : ” عقد وضع لملك المتعة”. غرض العقد التملك، وموضوعه المتعة، المالك هو الرجل، أما المرأة فهي “محل” العقد وليست طرفاً فيه، لأن طرفي العقد، بحسب الجمهور، هما: الزوج وولى المرأة الذكر، تماماً كما يكون الشيء المبيع محلًا لتوافق الطرفين في عقد البيع.
يكشف التعريف الفقهي عن ثقافته الاجتماعية، وكما في التشريعات البابلية المجاورة التي اعتبرت المرأة المتزوجة ملكاً لزوجها، والفتاة العذراء ملكاً لأبيها ” تربط النصوص العربية بين المرأة والتملك من قبل الرجل، وتظهر هذه الثقافة في الروايات المنقولة عن النبي؛ ففي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي: ” فخطبها رجل فقال رسول الله (ص) هل معك من القرآن شيء ؟ قال نعم، قال اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن : وفي رواية أخرى : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن” ويضيف الراوي : جاء في بعض طرقه : ” ملكتكها، و مكناكها، وأملكناكها، وأنكحناكها، وزوجناكها، وأباحناكها، رواه البخاري، انظر فتح الباري، ج9).
ويتكرر هذا المفهوم في كتب الفقه على اختلاف المذاهب، ففي الفقه المالكي نقرأ في كتاب الإشراف على نكت مسائل الخلاف”: “مسألة ينعقد النكاح بلفظ الهبة، والبيع، وكل لفظ تمليك يقتضي التأبيد دون التأقيت… ودليلنا قول الرسول (ص) قد ملكتكها بما معك من القرآن”. ولأنه لفظ تمليك لا يقتضي توقياً، فأشبه لفظ النكاح والتزويج. ولأنه عقد معاوضة فجاز أن يعقد بأكثر من لفظين كالبيع “(عبد الوهاب بن على بن نصر البغدادي، (ت 422 هـ ) الإشراف، دار الإمام مالك، أبوظبي ،ط2011، ج2، ص 422). وفي كتابه ” أحكام القرآن” ينكر ابن العربي على الشافعي قوله: “إن النكاح لا ينعقد. إلا بلفظ الإنكاح والتزويج”، بقوله وقال علماؤنا ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد” (أحكام القرآن، القسم الثالث القصص ج2).
وعند الحنابلة يشرح ابن قدامة في “المغنى”: قال الثوري والحسن بن صالح، وأبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وأبو عبيد و داود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك، وفي لفظ الإجارة عن أبي حنيفة روايتان، وقال مالك ينعقد بذلك.” (المغني، كتاب النكاح، ج7 مسألة 5291).
في هذا السياق يعتبر بعض الفقه أن “الزوجة”، تدخل في مفهوم “ما ملكت اليمين”، ففي معرض التعليق على الآية 24 من سورة النساء “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم” يشرح القرطبي : ” قالوا معناه نكاح أو شراء، هذا قول أبي العالية وعبيدة السليماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين” ( الجامع لأحكام القرآن، م3،ج5، ص90).
-5-
المتعة
تتكرر في الفقه الإشارة إلى الزواج بأنه عقده “معاوضة” وتتكرر المقايسة بينه وبين عقد البيع. الربط صريح بين مصطلح الملك ومصطلح المتعة. استخدم القرآن لفظة “الأجر” في معنى المهر، فهو العوض المقابل للمتعة. ومؤدى ذلك أن جهة الرجل هي وحدها الجهة المعتبرة في التعريف، حيث المتعة هنا هو متعة الرجل، فكأنما المرأة لا تستمتع، أو لا يصح لها أن تستمتع، أو لا يجوز التصريح بأنها تستمتع.
المرأة هنا هي موضوع المتعة التي تتقاضى عنها الأجر، وهو التزام مفروض على الرجل، في ثلاث من أربع مرات تكلم فيها القرآن عن المهر ورد لفظ الأجر، وفى الآية 24 من سورة النساء يربط القرآن صراحة بينه وبين غرض المتعة “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة”.
وبحسب المفسرين ” الاستمتاع التلذذ والأجور المهور” يشرح القرطبي: “وسمى المهر أجراً لأنه أجر الاستمتاع. وهذا نص على أن المهر يسمى أجراً، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجراً” ( الجامع لأحكام القرآن، م3، ج5، ص 94)
ويتوافق الفقه الشيعي مع الفقه السني حول هذا المفهوم :
المهر أجر مقابل للذة. لكنه يذهب بالآية إلى منطقة الخلاف الشهيرة بين المذهبين ليوظفها في إثبات مشروعية زواج المتعة.
يشرح الطبرسي : ” المراد به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معين إلى أجل معلوم، عن ابن عباس والسدى وابن سعيد وجماعة من التابعين، وهو مذهب أصحابنا الإمامية، وهو الواضح لأن لفظ الاستمتاع والتمتع وإن كان في الأصل واقعاً على الانتفاع والالتذاذ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصاً بهذا العقد المعين لا سيما إذا أضيف إلى النساء ” (انظر الطبرسي، مجمع البيان، ج 3، ص 46).
من حيث المبدأ، لم يتناقش الفقه حول أخلاقية مفهوم الاستمتاع بالمرأة مقابل أجر بوصفه مفهوماً يبخس بقيمة الزواج. ولم يختلف الفقهاء حول أن الاستمتاع المقصود هنا يتعلق بجسد المرأة، لكنهم اختلفوا حول موضع الاستمتاع المنصوص عليه؛ يقول القرطبي: ” وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة، أو منفعة البضع أو الكل. ثلاثة أقوال والظاهر المجموع فإن العقد يقتضي ذلك: (الجامع لأحكام القرآن، السابق).
واضح أن الاختلاف يدور على “محل” الاستمتاع من جسد المرأة : هل هو جسدها عموماً ؟ أم البضع أي موضع الوطء تحديداً ؟ وهو اختلاف لا يفهم المسألة خارج نطاق المتعة الجنسية: فالنص لا يقابل البدن بالروح مثلاً أو بالمساكنة أو المودة، بل يقابل البدن بموضع الوطء، مما يحصر المعنى في ملذات الجنس الجسدية، ويغيب أغراض التواصل الإنساني الواسعة التي ينطوي عليها الزواج كنظام عريق في الاجتماع البشرى.
كيف يمكن التوفيق بين هذا المفهوم الفقي الضيق (المدعم بنصوص تشريعية تفصيلية) والمفهوم القرآن الواسع (المدعم بنصوص أن أخلاقية كلية) مثل ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة”؟ التشريع يعكس الواقع الاجتماعي المباشر في زمان ومكان معينين. بينما الأخلاق تستهدف السلوك الأسمى، ولذلك فهي، وليس التشريع ما يمثل الجوهر الثابت “المفترض” للدين. فالتشريع الديني قد يتدخل بتعديلات تفصيلية على النظام الاجتماعي السائد، ولكنه لا يستطيع إلغاء هذا النظام إلغاء كاملاً، آليات عمل النظام الاجتماعي (الفردية والجماعية) تعمل في مجالها الخاص المحكوم بغرائر الاجتماع الطبيعي، غير الخاضع بالضرورة لقانون الأخلاق. وهذا ما أعنيه بالقول إن التشريع فعل من أفعال الاجتماع السياسي الذي يقبل التغير بتطور الثقافة، وليس من جوهر الدين المطلق.
-6-
كمنهج عام، كان القرآن في معالجته لمسائل الزواج والأسرة يعبر بشكل مباشر عن مشاغل البيئة المحلية ويستجيب لحاجاتها الآنية. ولذلك فالتشريع القرآني هنا – كأي نظام قانوني – يظل مفصلاً على “مقاسات” الثقافة الاجتماعية التي كان يصدر عنها، والتي لم تعد حاضرة وتم تجاوزها بطبيعة التطور. وهذا واضح مثلاً في معالجته التفصيلية لعادتين من عادات الجاهلية العربية ؟ الإيلاء، والظهار: في الإيلاء (وهو قسم الزوج ألا يضاجع زوجته هجراً لها) وضع حدًا أقصى لمدة الهجر هو أربعة أشهر، فإما أن يطلقها، أو يرجع عن قسمه بكفارة اليمين، كي لا تظل الزوجة معلقة : ” للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا فإن الله غفور رحیم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم” ( البقرة 226 ، 227 ). وفي الفقه يأخذ الإيلاء حكم “المباح” حيث يجوز استخدامه من قبل الزوج عند الحاجة إلى تأديب زوجته. أما الظهار ( وهو أيضا قسم من الزوج بهجر زوجته) فيأخذ حكم “الحرام” لأنه قسم مصبوب في صيغة لفظية بعينها هي تشبيه الرجل لامرأته بأنها عليه “كظهر أمه” وهي صيغة كانت تعنى في الجاهلية تحريم الرجل على نفسه مضاجعة زوجته أي طلاقها حكماً. ففتح القرآن الباب أمام الزوج للخروج من هذا المشكل إذا أراد من خلال التكفير عن القسم بتحرير رقبة، أو صيام شهرين متابعين، أو إطعام ستين مسكينًا، قبل العودة إلى مقاربة زوجته : ” الذين يظاهرون منكم من نسائهم، ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكراً من القول وزورا، إن الله لعفو غفور، والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماساً، فمن لم يستطيع فإطعام ستين مسكيناً ) ( المجادلة 2 – 4 – ).
-7-
بالنظر إلى سياقها الزمني المحلى، يمكن قراءة هذه المعالجة لأحكام الإيلاء والظهار كتطوير تشريعي يصب في صالح المرأة عمومًا، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة أيضا إلى “تعديلات” جزئية متعددة ذات منزع أخلاقي جرى ادخالها على النظام العرفي الجاهلي، مثل: النهي عن وراثة النساء كرهاً عند وفاة أزواجهن (النساء 19 – 22)، والنهي عن عضل النساء بإمساكهن تعليقاً لمنعهن من الزواج (البقرة 231، والنساء 19). والنهي عن الجمع بين الأختين (النساء (23)، واشتراط أن يتم الطلاق في عدة المرأة، أي وهى في حالة طهر لم يعقبه وطء حسب تفسير النبي للآية (الطلاق 1)، والإقرار بحق الزوجة في السكنى والنفقة متى كان طلاقها رجعياً، أو كانت ذات حمل (الطلاق (١- 6)، وفرض مدة العدة لاستبراء الرحم ( البقرة 234).
لكن هذه الأحكام تظل داخلة في باب التعديلات الفرعية التي تحاور نظاماً محلياً بعينه هو نظام الزواج العرفي السائد في المحيط العربي عند منتصف القرن السابع، وتظل المعالجة القرآنية في مجملها ترجمة للثقافة الجاهلية بطابعها الذكوري الذي يعطي السيادة الكاملة للرجل على المرأة، بما في ذلك الحق في تأديبها ومعاقبتها بالهجر والضرب، ويقصر عليه بحسب الأصل صلاحية إنهاء العقد من طرف واحد، أو استئنافه بعد الطلاق بالمراجعة.
-8-
تحول الثقافة: مشكل الفقه
تكشف اللحظة الثقافية الراهنة في العالم الإسلامي عن مشكل تناقض بين النظام الفقهي النصي الموروث، والنظام الاجتماعي الآخذ في التطور. لا يبدو النظام التراثي قادراً تماماً على ترجمة الحاجات والمشاغل النفسية والعقلية الجديدة.
في التشخيص العام، يعاني المجتمع الإسلامي من حالة ازدواجية ثقافية مربكة، حيث تتجاور مكوناته التراثية القديمة مع مفردات مكتسبة من الإشعاع الحداثي المتواصل: لم تفلح المكونات التراثية في صد الإشعاع الحداثي، فيما يبدو هذا الإشعاع عاجزاً – حتى الآن – عن إزاحة المكونات التراثية.
بوجه عام، لا يزال المكون التراثي قادراً على توليد الحساسيات التقليدية التي كرسها الفقه بطابعه الذكوري، والتي تكاد تختزل المرأة إلى مسألة ” عرض ” خاص بالرجل. لكن المكون الحداثي يظل كافيًا لتوليد درجة من التوتر الاجتماعي وإثارته الوعي بالمشكل.
لا أحاكم النظام الذكوري هنا من منظور قيمي مطلق (أخلاقي أو عقلي)، بل من زاوية “مقبوليته” في ثقافة اللحظة الاجتماعية الراهنة، التي لم تعد هي ذاتها ثقافة التراث التقليدي أحادية التكوين. بوجه عام، وحتى في ظل الثقافات الاجتماعية الأكثر حداثة، لا تزال المفاهيم الذكورية ذات العمق التاريخي، تفرض حضوراً نسبياً في علاقات الزواج، وتنعكس على الوضعية الاقتصادية والمجتمعية والقانونية للمرأة، لكن، حتى في المحيط الإسلامي وبالمقياس النسي ذاته، لم تعد لهذه المفاهيم سلطتها الطاغية ونفوذها الإلزامي القديم.
تاريخياً، كان الفقه قد اندمج بسلاسة مع العرف داخل المحيط الإسلامي منذ عصر التدوين، وهي ظاهرة مفهومة بما أن الفقه ينشأ انعكاساً للثقافة التي لم تشهد تغيراً جذرياً طوال المراحل السابقة على الحداثة. لكن العرف يفرز دائماً نمطه الخاص في ممارسة التدين، ويستطيع غالباً احتواء الفقه وضبطه على موجات التطور الاجتماعي.
في السياق المصري – على سبيل المثال – ومع التحولات النسبية التي جلبتها الحداثة المبكرة منذ مطلع القرن التاسع عشر، أظهر التدين الشعبي مرونته الطبيعية، وتجاوب ضمنياً مع حركة التحديث العام التي بدأت من نقطة الدولة، وتمددت تدريجاً على مستوى المجتمع. ونجحت في خلق حالة “مدنية” واسعة أكثر انفتاحاً على الثقافة العالمية. وقد أسفرت هذه الحالة عن تطورات ملموسة في وضعية المرأة التي خلعت الحجاب وصارت تخرج إلى العمل.
الموجات الأصولية اللاحقة، التي بدأت عملياً بظهور جماعة الإخوان في أوائل القرن الماضي، لم تفلح في إيقاف حركة التحديث، لكنها نجحت في تبطيئ إيقاعها. مع الأصولية تحول التراث الفقهي إلى ” أيديولوجيا سياسية اجتماعية ” منظمة، وواعية بذاتها كنقيض للحداثة، وهو ما أسهم في تصعيد الارتباك الثقافي الناجم عن الازدواجية.
تنطلق الأصولية مبدئياً من موقف سلفي مضاد لفكرة التجديد، يزايد على نمط التدين الشعبي “المتساهل”، ويستدعى من المدونة التراثية خياراتها الفقهية الأكثر رجعية وتشدداً. خصوصا فيما يتعلق بالمرأة التي تحظى بموقع مركزي داخل الخطاب الأصولي، وتبدو – أحياناً – وكأنها محور من المحاور الأصلية للدين. وهي مسلكية تحتاج إلى نقاش تفسيري موسع من زوايا علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي الديني والمعرفي.