تمكين
أثناء فترة الوحي، حدث بالفعل أن تغيرت أحكام تكليفية سبق ورودها في الآيات، وعندما تم جمع القرآن في كتاب واحد بقيت الأحكام المتغايرة في متن النص جنباً إلى جنب. لكن في حين بدا هذا التغير خلال فترة الوحي، حركة طبيعية في مسار الواقع، مفهومة تماماً لدى المخاطبين بحكم معايشة الوقائع التي كانت الآيات تعالجها بترتيب وقوعها، بدا في كثير من الأحيان غير مفهوم على صفحة النص المجمع، الذي لم يتضمن الإشارة إلى هذه الوقائع، ولم يتم تجميعه على مستوى السور الآيات وفق الترتيب الزمنى للنزول .
نتيجة لذلك، ظهرت الأحكام المتغايرة على صفحة النص في شكل ” تناقضات ” تتنافى من وجهة النظر الفقهية مع التنزيه الواجب للقرآن كنص إلهى، وتهدد سلامة المقولات التي يقوم عليها التنظير “الرسمي” لعملية الجمع، كمقولة الوجود القديم للكتاب كنص مجمل، و مقولة التوقيف الإلهي لهيئة النص كما تم ترتيبه في المصحف العثماني. وفي هذا السياق كان النسخ مطلوباً فقهياً لرفع التناقض، وجرى النظر إليه كآلية تقنية لقراءة النص ، وليس كمظهر لحركية الواقع التي كان يترجمها النص .
من الواضح هنا أن المعنى الإشكالي للنسخ لا وجود له إلا في ذهن الفقه، الذى اصطنع مفهوماً خاصاً للنص يتجاهل علاقته بالواقع . في عبارة أخرى: يظهر المشكل في الكتاب المجمع بما هو موضوع للفقه ، ولا يظهر في الآيات المنجمة مقروءة في السياق العملي لحركة الجماعة الأولى؛ فما بدا في الكتاب تناقضات فقهية تستوجب الحل، لم يكن أكثر من تموجات داخلية في مسار اجتماعي متحرك بطبيعته، وكان الهدف منها معالجة الحاجات التشريعية الآنية لهذه الجماعة ، وليس تقديم شريعة نهائية مؤيدة إلى العالم.
ما معنى الأنثروبولوجيا الدينية؟
يكشف النسح بصورة مباشرة عن الطبيعة التاريخية للنص التشريعي، من حيث يؤكد واقعة التغير في الأحكام، وحقيقة الارتباط بين هذا التغير وتحولات الواقع الاجتماعي في مدى زمني قصير نسبياً ، لكن المسألة لم تفهم في العقل الفقهي على هذا النحو، فمع الإقرار بواقعة التغير في الأحكام، لم يقر الفقه بأنها ناتجة عن تحولات الواقع التي تتعلق بالبشر ، بل هي راجعة إلى محض الإرادة المطلقة لله ، ولم يقر بأي فاعلية للإنسان في العملية الاجتماعية حتى لو كان ذلك من داخل نواميس الإرادة الإلهية. يشرح الفقيه المالكي ابن العربي : ” ولهذا قلنا إن القدرية والمعتزلة كفار، فإنهم يقولون إن العباد شركاء الله يخلقون كما يخلق ، إلا أنه يملك خلقهم بخلق القدرة فيهم. فهم شركاؤه بما ملكهم وجعل إليهم “. (ابن العربي ، الناسخ والمنسوخ ، ص 109 ).
يتحدث الفقه عن ثلاثة أنواع من النسخ في القرآن : أحدها:
ما نسخ رسمه وحكمه، وقد كان جماعة من الصحابة يحفظون سوراً و آيات فشذت عنهم فأخبرهم النبي أنها رفعت. الثاني: ما نسخ رسمه وبقى حكمة كآية “الرجم” الثالث : ما نسخ حكمه وبقى رسمه ( انظر ابن الجوزي ، المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ، تحقيق الضامن ، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1998، ص 13).
واضح أن معيار التقسيم هو الحضور في النص النهائي ( نص المصحف العثماني) من حيث الرسم ( التلاوة )، أو الحكم ، أو كلاهما معاً. ويكان الفقه يقصر استخدام مصطلح النسخ على النوع الثالث “ما نسخ حكمه وبقى رسمه” لكن التقسيم يكشف لنا أن آلية النسخ لا توظف فقط في رفع التناقض الداخلي بين الآيات الواردة في المصحف، بل أيضا في تبرير خلو المصحف من ” آيات” سبق تلاوتها كنصوص قرآنية، وتتضمن أحكاماً تشريعية، بعضها تم فرضه بوصفه حكماً قرآنيًا كحكم رجم الزاني، وبعضها لم يتم فرضه ( بهذه الصفة ) كحكم تحريم الزواج بعشر ثم خمس رضعات معلومات ) ، لقد تم استخدام النسخ في مواجهة المشاكل “القرائية والأصولية” الناجمة عن عملية الجمع النهائي للقرآن، والتي تظهر في النوعين الأوليين ” ما نسخ رسمه وحكمه” ، و ” وما نسخ رسمه وبقى حكمه”:
رسم الآيات أو محوها واقعة مادية يلزم نقلها عن طريق الحس لا بالرأي، وهو بحسب الأصول المتفق عليها اختصاص إلهي توقيفي. الأمر الذي يقتضي ثبوت الهيئة النهائية للنص لخطة إغلاق الوحي، ونقل ذلك “بالتواتر”. لكن هذه الهيئة تأخر وجودها باتفاق، وتوقيفية الجمع والترتيب ليست محل اتفاق ، ولذلك فالقول بـ “نسخ الرسم والحكم “، وبـ ” نسخ الرسم مع بقاء الحكم” يحتاج أولاً إلى ثبوت الرسم ، وهو ما لا يتحقق لعدم ثبوت التواتر، وهو في الواقع يقدم تبريراً دفاعياً عن عملية الجمع ، ويرشح لتداخل غير مضمون في الأحكام، حيث سيصبح المصحف المجمع حاكما بأثر رجعي على بنية النص المفترضة في زمن الوحي . المشكل هنا لم يعد يتعلق بتاريخية النص من جهة موضوعة (الأحكام التي تتغير) فحسب ، بل قبل ذلك من جهة بنيته ( الرسم الذي بدوره يجرى عليه التغير ).
ما هي فروع علم الأنثروبولوجيا؟
كيف يتجلى البعد التاريخي للنص القرآني (والتشريعي خصوصًا) في صور النسخ الثلاث؟
أولاً: نسخ الرسم والحكم معاً
ينقل ابن العربي عن أبي موسى الأشعري قوله: ” إن سورة نحواً من التوبة نزلت ثم رفعت ” ( انظر الناسخ والمنسوخ، ص85)، وينقل ابن الجوزي عن أبي بن كعب قوله عن سورة الأحزاب: ” والذي أحلف به لقد نزلت على محمد (ص) وإنها لتعادل سورة البقرة أو تزيد ” ( نواسخ القرآن ، ص 34، وانظر بقية رواياته المسندة إلى أبي موسى الأشعري وابن مسعود عند ابن أبي داود). وبوجه عام تضم كتب الحديث السنية روايات مسندة تشير إلى أن نصوصاً متعددة قرئت في عهد النبي باعتبارها قرآنا لكنها لا تظهر في المصحف العثماني.
بحسب البعض لا يدخل هذا في باب النسخ بل النسيان، و هو ما تشير إليه آية البقرة ” ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها” ويعتبره البعض نسخاً يتم عن طريق النسيان الذي يحدث بمشيئة الله ، يشرح الرازي : “نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسبهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته. وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في قوله ” إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى” ولا يعرف اليوم منها شيء. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمن النبي حتى إذا توفى لا يكون متلواً في القرآن، أو يموت وهو متلو موجود في الرسم ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم ” ( انظر الزركشي، البرهان 354).
ولكن بعض الروايات تشير إلى أن الرفع كان يتم أحياناً بتصريح مباشر من الرسول وليس من خلال النسيان؛ مثل رواية ابن مسعود : “أنزلت على رسول الله آية فكتبتها في مصحفي فأصبحت ليلة فإذا الورقة بيضاء، فأخبرت رسول الله فقال أما علمت أن تلك رفعت البارحة” ( الحديث عند أبي داود. انظر ابن الجوزي السابق). وبعض الروايات يدل على أن النسخ تم بدون نسيان ولا تصريح من النبي مثل رواية عائشة التي أخرجها البخاري ومسلم : ” كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن”.
إقرأ أيضاً: أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية – 2
مؤدى الرواية أن آية قرآنية نزلت بحكم تشريعي يشترط ثبوت عشر رضعات معلومات حتى يحرم الزواج بالرضاع ، ثم نزلت بعد ذلك آية أخرى نسخت الأولى نسخًا جزئياً باشتراط خمس رضعات فقط ، ولم تنسخ هذه الآية الأخيرة لأن النبي توفى وهى مما يقرأ من القرآن. وما تقول به الرواية لا يوافق رسم المصحف الذي خلا من الآتيين تلاوة وحكماً. فإذا كان هذا النص صحيحًا فلماذا خلا المصحف من هاتين الآيتين ؟
تثير هذه الروايات إشكالية توثيق مركبة تحيط بالنص القرآني في لحظتي النزول والجمع ، وهي منطقة شديدة الحساسية بالنسبة إلى العقل السلفي : فالنسخ هنا واقعة “قرآنية” لأنه يتعلق بالتلاوة، ولذلك يلزم ثبوته بالتواتر، ولحل هذا المشكل لجأ التأصيل السلفي إلى التفرقة بين ثبوت التلاوة وثبوت النسخ : الأول يشترط فيه التواتر والثاني يكفى فيه خبر الآحاد ، لكن هذا الحل لا معنى له، حيث يمكن تمريره جدلاً في حالة النسخ الشائعة فقهيا ( نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ) لأن هذا النسخ يتم بتلاوة جديدة ثابتة، أي أن النصين المتناسخين ثابتان ، فيكون موضوع الثبوت هو نسخ أحدهما لحكم الآخر . أما الحديث عن نسخ التلاوة فيتعلق بوجود متن النص ذاته، أي بكون موضوع الثبوت هو انتماؤه للقرآن.
بعض الدوائر الكلامية ستقف على حجم المشكل الذي يثيره القول بنسخ التلاوة، من جهة التناقض مع شرط التواتر “المفترض” ومن ثم مع التصور الذي كرسته الثقافة للقرآن كنص مفارق مطلق في ذاته. وبالإضافة إلى (المعتزلة التيار الأقل نقلية) ، عبر بعض الأشاعرة عن رفضه للقول بنسخ التلاوة ، وأنكر جميع الروايات الواردة بذلك، ففي كتابه ” الانتصار للقرآن” يصرح أبو بكر الباقلاني (ت 402 هـ ) بأن ” كل ما يروونه في هذا الباب كذب موضوع ، و مردود مدفوع ، لا يسوغ لعاقل تصديق شيء منه والسكون إليه” و لم يستثن الباقلاني من ذلك حديث عائشة ، لكنه عقب عليه بقوله ” ولعل قولها “ثم نسخن” من قولها : أي ربما كان اجتهاداً بالرأي من قبلها ، وهو احتراز احتياطي بسبب وجود الحديث في “الصحيحين”. (أنظر ، الانتصار باب ” ما روى من الآي المنسوخة وأوجه القول فيها” وانظر باب ” ما ذكر عن أبي بن كعب”).
النقطة التي ينطلق منها الباقلاني هنا هي هيئة النص النهائي (العثماني) باعتبارها متن النص الأول. وهو يعترف بأن النبي لم يقم بنفسه بعملية جمع القرآن وترتيبه من حيث السور على الأقل، لكنه يقرر مع ذلك أنها تمت بتوقيف إلهي. فهذه العملية التي قامت بها “الأمة” من بعده، جاءت مطابقة لما كان النبي سيفعله لو فعل. وللدفاع عن هذا الطرح في مواجهة الروايات الناقلة لتلاوات خارج المصحف، طعن على هذه الروايات بالوضع والتزوير. وهو نوع من التضعيف العقلي بالمتن لا يحبه تيار الحديث المفتون بفكرة السند.
بحسب المقاييس الإسنادية التي وضعها تيار الحديث كانت هذه الروايات صحيحة، ويمتنع القول بردها، ومن هنا جاءت ضرورة القول بالنسخ. أما الباقلاني وقد كان – كمتكلم أشعري – يرجع إلى مقاييس عقلية ” أوسع نسبيا من فكرة السند، فحاكم الأحاديث إلى التصور النهائي المجرد الذي كان قد تكون عن القرآن، وأدرك الخطر الذي تمثله على هذا التصور. لكنه لم يستطع أن يقدم حلاً شافيا للمشكل التوثيقي الأصولي الذي خلفته عملية الجمع، لأنه كان يقدم طرحه الدفاعي في كتاب الانتصار من داخل الرؤية النصية ذاتها وهي محل النزاع.
الموقف النقلي لم يتمكن أصلاً من التقاط المشكل بسب خلفيته وأدواته التي تقوم كلياً على الرواية، لكنه أسهم إجمالاً -من دون وعي بالطبع – في توفير مساحة إخبارية واسعة يمكن من خلالها قراءة السياق الاجتماعي العام للنص في لحظات التنزيل، والجمع، والفقه : فالرواية تنقل إلى جانب المضامين الدينية قطعاً تفصيلية من الواقع الاجتماعي في مرحلة التأسيس ( وهي تنقلها فحة بحالتها الطبيعية). وفى مراحل التنظير اللاحقة، ستصبح بعض هذه القطع غير متوافقة مع الرؤية الكلية التي انتجتها الثقافة، وهنا سيتم تكييفها لصالح الرؤية الكلية، إما بعمليات تبرير تجميلية، أو من خلال الحذف الصريح.
حضور الروايات المناقضة للرؤية الكلية يشير إلى حالة البراءة أو السذاجة الشفوية التي عادة ما تصاحب التجربة الدينية في المرحلة المبكرة السابقة على التنظير، حيث يؤدى النهم التدويني إلى التقاط الأخبار بشكل تجميعي وبدون فرز انتقائي. في هذا السياق لا تكون الروايات واعية بما ستؤول إليه من وجهة النظر الثقافية اللاحقة، عملياً وبوجه عام، لا تستطيع أى لحظة تاريخية نقد ذاتها نقداً عقلياً .
ثانيًا : نسخ الرسم مع بقاء الحكم
آية الرجم
أخرج البخاري ومسلم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قوله، بعث الله محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها. ورجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال على الناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف” . ويرد الخبر بصيغة أخرى من طريق سعيد بن المسيب عن عمر: ” .. وآية الرجم لا تضلوا عنها، فإن رسول الله رجم ورجمنا، وأنها قد أنزلت وقرأناها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي. ( انظر فتح الباري 11/191، 192. وصحیح مسلم 15/158، ومسند أحمد 19/81، 82 ، وانظر ابن الجوزي ، الناسخ والمنسوخ ، ص 36 35 ). وهذه الرواية مدعمة برواية أخرى ينقلها ابن الجوزي عن أبي بن كعب يسمى فيها السورة التي نزلت ضمنها الآية وهي سورة الأحزاب.
تشير هذه الروايات صراحة إلى أن آية نزلت وقرأها الصحابة نم نسخت تلاوتها فيما نسخ من التلاوات، لكن حكمها ظل باقيًا بوصفه فريضة قرآنية. ويتساءل الزركشي في “البرهان”: “ما الحكمة من رفع التلاوة مع بقاء الحكم. وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل يحكمها وثواب تلاوتها؟ ” ، ثم يجيب نقلاً عن ابن الجوزي : “إنما كان ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحى » ( البرهان ، ص 352، 353).
وبغض النظر عن التكلف وسذاجة التعليل ، يبدو جواب ابن الجوزي كسؤال الزركشي بعيداً عن صلب المسألة ، أعنى عن التاريخ البنيوي للنص القرآني وعلاقته بالعملية التشريعية : فإذا كنا – كما يفترض – بصدد “تشريع ” عمومي مجرد و مؤبد زمنياً ، وكان التشريع يصدر حصرياً عن مرجعية واحدة ، فلماذا تنسخ التلاوة طالما ظل الحكم باقياً ؟ ولماذا يبقى الحكم إذا كانت التلاوة قد نسخت؟ وإلى جانب هذا السؤال المزدوج، سيتعين على الفقه السلفي مواجهة الأسئلة الأولية المتعلقة بالثبوت : كيف ومتى ثبتت التلاوة ؟ وكيف ومتى ثبت نسخها ؟ ثم كيف ومتى تم تثبيت الحكم بفعل تشريعي جديد؟ هل تم ذلك مباشرة عند النسخ؟ أم تم لاحقا من قبل الفقه ؟ أم أن الحكم كان ثابتاً من قبل التلاوة أصلاً، أي بمصدر خارجي عن النص القرآني؟
في النوع الأول من النسخ (التلاوة والحكم معاً) كان النص يتلاشى كلياً من دون أن ينتج أثراً تشريعياً، ولذلك انصب الإشكال فيه على شرط التواتر، باعتبار أن نسخ التلاوة، هو مثل تنزيلها، عملية قرآنية تطال جسم النص. أما في نسخ التلاوة من دون الحكم فيظل إشكال التلاوة قائماً بالإضافة إلى إشكال الحكم ، فنحن حيال تلاوة وجدت وأنتجت أثرًا تشريعياً ثم تلاشت من الوجود تاركة الحكم. فهناك إذن علاقة بينها وبين النص المنسوخ. النص المنسوخ هو مصدر الحكم المثبت : كيف يستمر حكم ولد من رحم نص مرفوع ، أو بتعبير المعتزلة : كيف ينسخ الأصل ويبقى الفرع ؟ هذه الأسئلة لا تجد جوابات مقنعة داخل المنظومة الفقهية السلفية التي بنت رؤيتها النصية على التاريخ الرسمي لعملية جمع القرآن ، والتي اضطرت إلى القول بالنسخ تلافياً للاعتراف بالنسيان ، أو تلافياً للقول بتبعية النص للحاجة الاجتماعية أو للقول بوظيفته الآنية المحلية ، أو للقول بسلطته الجزئية ضمن سياق تشريعي أوسع الأصل فيه للعرف الجاهلي :
على سبيل المثال، يتصدى ابن العربي لهذه الأسئلة على النحو التالي: يجوز نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومنعته المعتزلة وقالوا كيف ينسخ الأصل ويبقى الفرع ؟ قلنا: الحكم وإن ثبت بالتلاوة، إن استقر ساوى كل حكم ثبت بغير نص” ( الناسخ والمنسوخ، ص 8). يصرح ابن العربي بأن التلاوة هي مصدر إنشاء الحكم، أما بقاؤه بعد نسخها فيرجع إلى استقراره الذي جرى بحكم الواقع، أي إلى قوة سريان العمل به كعرف. لكن السؤال يظل مطروحاً عن إلزامية الحكم قبل استقرار العرف، فهو موضع التناقض ومحل النزاع. ففي داخل المجال الفقهي ظل النص المنسوخ محتفظا بسماته القرآنية بدليل استخدامه في نسخ أحكام قرآنية أخرى، ووظفه ابن العربي نفسه مع كثير من الفقهاء في نسخ حكم الزنا المنزل في سورة النساء ( الإمساك في البيوت أو الإيذاء ) ليصير الرجم بالنسبة إلى المحصن. ( انظر أحكام القرآن ، ص 383 ).
في كتابه ” الناسخ والمنسوخ” وهو مرجع مبكر نسبيًا يصرح النحاس (ت 338 هـ ) بأن الخبر الوارد بآية الرجم المنسوخة وإن كان صحيح الإسناد ” إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ، ولكنه سنة ثابته”( ص 13) . إلا أن ابن العربي يعود فيؤكد أن هذا الخبر متواتر إذ “الجلد قرآن نسخ قرآنًا ، والرجم خبر متواتر نسخ قرآنا”. (أحكام القرآن، السابق )
ما هو التكييف السلفي لرواية الرجم : هل هي سنة ثابتة لم تبلغ التواتر كما يرى بعضهم مع النحاس ؟ أم هي سنة منقولة بالتواتر ؟ وإذا لم تكن متواترة فكيف تسنى لها أصلاً نسخ القرآن؟ وهنا يظهر المشكل الأصولي الفقهي: هل يجوز نسخ القرآن بالسنة ؟
ما هي الأنثروبولوجيا الإسلامية؟
عملياً، اعتبرت آية الرجم غير متواترة عند تبرير عدم ضمها إلى القرآن، واعتبرت متواترة عند استخدامها في تأكيد حكم الرجم الذي خلا منه القرآن. بوجه عام اعتمد الفقه في ترتيب أحكام الزنا على عدد من الروايات أهمها رواية أحمد عن عبادة بن الصامت المرفوعة إلى النبي ” البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم “. وبحسب الفقه نسخت هذه الرواية الحكم الوارد في سورة النساء والذي يعاقب على زنا المرأة بالإمساك في البيوت، وعلى زنا الرجل بالإيذاء (الاتيان 15 ، 16 ) فصارت العقوبة هي الرجم بالنسبة إلى الثيب. أما البكر فصارت عقوبته الجلد بموجب آية سورة النور التي نسخت بدورها آية النساء فيما يتعلق بالبكر.
مع تبلور أصول الفقه التي اعتمدت القرآن كنص مغلق يمثل المصدر الأول للتشريع ، والسنة كنص مغلق أيضا يمثل المصدر الثاني ثار السؤال عن حكم الرجم في القرآن ، خصوصاً وأنه يعالج مسألة الزنا بحكم منصوص يجعل العقوبة الجلد ، فكيف يهتم بالأخف ويترك الإشارة إلى الأشد ؟ هنا ظهرت الحاجة الفقهية للقول بنسخ الآيات بالأحاديث ، فكما يصرح ابن العربي ” الكل من عند الله ينسخ بعضه بعضًا” وظل هذا التوجه يتزايد مع تطور النشاط الفقهي، حتى داخل الفقه الشافعي الذى كان يتشدد في نفيه استناداً إلى تأصيلات الشافعي المبكرة. يقول الجويني – وهو من متكلمي الشافعية البارزين – في القرن الرابع – إن ” نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة . دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمراً ، وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ، ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغاً بأن حكماً ما قد رفع عنكم”.
(انظر الجويني ، البرهان في أصول الفقه ، ج2 ، ص 1307 . وانظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن ، ص 349، 350 حيث يحاول – كشافعي متأخر – تأويل كلام الشافعي في الرسالة بحيث يؤدى إلى تجويز نسخ القرآن بالسنة ).
ستحظى مسألة الرجم بتناول أوسع عند مناقشة أحكام العقوبات في التشريع القرآني، وعلاقتها بالسياق التشريعي الجاهلي بمكوناته العربية واليهودية.
ثالثًا: نسخ الحكم مع بقاء الرسم
أية السيف
تعرف الآية الخامسة من سورة التوبة في أدبيات الفقه السلفي بآية السيف ” فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم”. وتقدم لنا هذه الآية نموذجاً مثالياً لأداء الفقه السلفي في موضوع النسخ، وكيف تحول بين يديه إلى آلية تقنية توظف في توجيه النص القرآني إلى نتائج مناقضة لجوهر الدين ومعناه الأخلاقي، وتقدم في الوقت نفسه فرصة مناسبة للنقاش حول – المضمون الزمني التاريخي للتشريع القرآني، وغرضه الاجتماعي المحلي.
يصرح ابن الجوزي في نواسخ القرآن بأن هذه الآية ناسخة لمائه وأربع وعشرين آية من القرآن ( ص 173) ، وهي بحسب ابن العربي تقتضى “نسخ كل عفو وصفح واعراض وترك حيث ورد في القرآن” ( الناسخ والمنسوخ، ص190). وهذه عبارة مكافئة للقول بإلغاء السلام إجمالاً من القرآن ، والدخول في حالة حرب مؤبدة مع العالم .
أما ابن خزيمة فيقدم تقريراً مفصلاً ، فالآية « نسخت ضمن ما نسخت قول الله تعالى ” وقولوا للناس حسنا” ( البقرة 83 ) وقوله ” ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” ( البقرة 190)، وقوله “لا إكراه في الدين” ( البقرة (256) ، وقوله “وما على الرسول إلا البلاغ ” ( المائدة 99) ، وقوله ” ولا تسبوا الذين يدعون من الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ” ( الأنعام 108 )، و قوله ” وأعرض عن الجاهلين » ( الأعراف (199) ، وقوله “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ” (يونس 99 ) ، وقوله “فاصفح الصفح الجميل” ( الحجر 85) ، وقوله ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” ( المؤمنون 96) ، وقوله “ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور” ( الشورى 43) وقوله تعالى “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين ) ( الممتحنة ص8 )، وقوله ” لست عليهم بمسيطر) ( الغاشية 22) وقوله ” لكم دينكم ولى دين” ( انظر ابن خزيمة الناسخ والمنسوخ ).
عندما نقرأ الآية في سياقها النصي وفي ضوء الظروف الواقعية المزامنة لنزولها، سنفهم أنها كانت تعالج وضعية الجماعة المسلمة عند السنة التاسعة للهجرة بوصفها “جماعة سياسية “. كانت هذه الجماعة في حالة حرب، تتداخل فيها اتفاقيات هدنة، بعضها محدد الأجل، وبعضها غير محدد مع القبائل العربية المناوئة. وبحكم موازين القوى التي تغيرت كان الحسم العسكري قد صار في متناول الجماعة، الأمر الذي استدعى التعامل مع هذه الاتفاقيات بإمهال أطرافها مدة معينة ( لا تزيد عن أربعة أشهر). وهو ما يمكن قراءته كوسيلة ضغط سياسية، أدت بالفعل إلى توقف القبائل في معظمها عن القتال وانضمامها إلى المشروع السياسي القائم الذي يشبه الدولة. والواضح أن الآية كانت تعالج موقفًا ظرفياً محلياً خاصاً ، فمفرداته تشير إلى مدد محددة ( أربعة أشهر تبدأ حسب الروايات من الإبلاغ يوم الحج الأكبر، أو خمسين يومًا تنتهى بالمحرم آخر الأشهر الحرم ) ، وإلى قبائل معينة ( مثل خزاعة وبني مدلج ، الذين وفوا باتفاقهم واستثنتهم الآيات من الأجل المحدد) ، وإلى أماكن خاصة ( عند المسجد الحرام، وعرفة ) ، ولم تكن تصدر حكما تشريعياً عاماً ،أو تصرح باتجاه قصد المشرع إلى إلغاء آيات العفو والصفح والسلام التي تنزلت في سياقات ظرفية مغايرة ، والتي تنتمى بحكم موضوعها إلى المعنى الأخلاقي المطلق في الدين، وهو ما دعى البعض إلى استبعاد الآية من باب الناسخ والمنسوخ.
لكن ابن العربي – ممثلاً للفقه المالكي والتوجه السلفي العام – سيسارع إلى دحض هذا التأويل السلمى : ” وقد قال بعض من تكلم في هذا المعنى بأن حق هذا ألا يدخل في الناسخ والمنسوخ ،لأنه لم ينسخ قرآنا متلواً وإنها نسخ أمراً رآه النبي. وهذا ساقط فإن القرآن ينسخ السنة ، وما رآه النبي هو السنة ، فإنه لا يعتقد ولا يعهد ولا يأمر ولا ينهي ولا يفتى ولا يقضي إلا بوحي من الله سبحانه” ( الناسخ والمنسوخ ، ص 191 ،192) .
المشكل هنا ليس في جواز نسخ السنة بالقرآن، المشكل يأتي من تعدية حكم الآية – وهو خاص وظرفي – إلى آيات الكتاب لتنسخ ما ورد فيها من أحكام السلام. الرؤية الفقهية هنا تسقط إطلاقيه الدين على جميع محتويات النص القرآني بما في ذلك آيات المعالجة السياسية رغم طبيعتها الآنية المحلية الخاصة.
فقه سورة التوبة
كانت حالة الحرب التي عالجتها آيات سورة التوبة إفرازاً مباشراً الاجتماعيات القرن السابع في محيط قبلي، ناتجاً عن اندفاع الدولة لا عن دوافع الدين. أينما وقعت الحرب بين البشر فهي تقع بسبب الاجتماع السياسي، وليس بسبب الدين بما هو في ذاته فكرة أخلاقية مطلقة. لكن الفقه سيحول اجتماعيات الغزو القبلية في المحيط العربي إلى قيم دينية مؤبدة بسبب رؤيته النصية الموروثة من تاريخ التدين الكتابي، وسينتهي في ذلك إلى نتائج مخالفة للجوهر الأخلاقي للدين : كرس الفقه مفهوماً محدداً لمصطلح “الكفر” وهو عدم الدخول في الإسلام بمعناه “السياسي” التاريخي الخاص ، لا بما هو الدين كفكرة أخلاقية مطلقة ، ثم ربطه بحل الدم، وجعل من ذلك القاعدة الأساسية التي تحكم علاقة المسلمين بالعالم . وفي تعليقه على آيات سورة التوبة يشرح ابن العربي عبارة ” إلا الذين عاهدتم من المشركين ” (آية 4) بقولة ” الذي عندي أن هذا عام في كل أحد ممن له عهد ، دون من لا عهد له ” فمن كان له عهد أجل أربعة أشهر ويحل دمه ، ومن لم يكن له عهد فهو على أصل الإحلال لدمه بالكفر الموجود به”.
ثم يشرح عبارة ” فاقتلوا المشركين ( آية 5) بقوله : “هذا اللفظ وإن كان مختصاً بكل كافر بالله عابد للوثن في العرف، ولكنه عام في الحقيقة لكل من كفر بالله. أما أنه بحكم قوة للفظ يرجع تناوله إلى مشركي العرب الذين كان العهد لهم وفي جنسهم. ويبقى الكلام فيمن كفر من أهل الكتاب غيرهم فيقتلون بوجود علة القتل وهي الإشراك فيهم”. يقصد بذلك أن لفظ المشركين، في الآية، وإن كان بحسب السياق يشير إلى مشركي العرب الذين كان العهد لهم ، إلا أنه عام في إيجاب القتل ، يدخل فيه جميع الكفار ، وليس فقط من أشرك مع الله وثنًا ، ويدخل فيه أيضا أهل الكتاب الذين تناولتهم آية خاصة من السورة ذاتها (انظر، أحكام القرآن ، ج 1 ص 364 – 371 ).
يبدو وكأن “القتل ” حكم ديني عام مطلوب لذاته. فرغم إقراره بخصوصية الحالة التي تعالجها الآية، يتعدى حكمها بحل الدم مشركي العرب إلى أي أحد لم يدخل في الإسلام، في كل زمان ومكان ، لكن أخطر ما يصرح به ابن العربي في هذا السياق هو تعليقه على عبارة ” واقعدوا لهم كل مرصد ” بقوله : ” قال علماؤنا ( يقصد المالكية ) : في هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ” ( انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن، حيث يتبنى موقف ابن العربي بنصه).
هذا الاستدلال الغريب ينم عن نزوع نفسي غير سوي. فهو يبدو وكأنه يستنطق النصوص كي تنتج مزيدًا من العنف والقسوة. و هذا ينتقل بسهولة ليلصق بالإسلام، الذي صار يبدو بفعل الفقه ديانة خشنة ، وفجة في تاريخيتها. علينا القول بأن الربط بين الإسلام وحد السيف ليس مجرد تهمة استشراقية مغرضة، بل مشكل له جذوره في النظام الأصولي الموروث من تاريخه السياسي الفقهي . ولا سبيل إلى حلة إلا بمواجهة “المعضلة النصية”، والتفريق بحسم بين معنى الدين المطلق والاجتماع السياسي الذي اختلط به في مرحلة التأسيس وجرى تسجيله في النص . ثمة مشكل حقيقي يتعلق بالنصوص ، التي تحتوى بالفعل على وقائع عنف صريح .
اقرأ أيضاً: أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية
ورغم القول بأن هذه الوقائع هي حالات سياسية تعبر عن منطق “الدولة” لا عن جوهر الدين ، وأن التفريق ضروري داخل النص بين ما هو بطبيعته سياسي ( اجتماعي نسبي ) وما هو بطبيعته ديني (إلهى مطلق ) ، يلزم الإقرار بصعوبة الوصول إلى هذا التفريق بالنسبة إلى العقل الإسلامي العام بحكم ثقافته الفقهية الموروثة .
لاحقاً ، سيظهر معنى آية السيف في شكل حديث نبوي ” “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله” (مخرج عند البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن) . مضمون الحديث يقابل بالضبط نص الآية لكن صياغته تبدو فقهية من جهة الجمع وترتيب النتيجة، مما يشي بشبهة الصنعة أو القلب الفقهي، حيث يتحول الموقف الفقهي إلى نص مرفوع، وهو نوع من التصحيف “الموضوعي” متكرر في التراث الديني الكتابي عموماً. لكن فيما كان نص الآية يشير صراحة إلى تعلقها “بالمشركين” في سياق زماني مكاني مخصوص، جاء الحديث عاماً باستخدام مفردة “الناس”. وسيوظف في تفسير معنى الآية وتعدية حكمها إلى كل زمان ومكان.