اختلفت الأساليب التي اعتمدها المفكرون العرب المعاصرون وتنوعت سُبُلها، وإن كانت ترمي في غالبيتها إلى إحداث استفاقةٍ فكريةٍ تفتح أفقًا واسعًا نحو العقل العربي التنويري، من هذا المنطلق رسم أنطون سعادة خطًا إصلاحيًا خاصًا به، فوضع عددًا من الكتابات العقيدية ومارس سياسةً أرادها ملتزمة بشئون الحياة وهادفة إلى بناء “الكيان السوري القومي”، بعد التحرِر من عقد التبعية والتخلف الحضاري والتفكك، التي أحدثتها ظروف التاريخ. فاعتمد فلسفةً إنسانيةً واجتماعيةً وسياسيةً جديدةً في مستويين النظرية والممارسة السياسية، وجسد معتقداته في إطار حركةٍ حزبيةٍ ناشطةٍ واتصف بالجدية والروح الثورية النقدية في طرحه مسائل الدين والطائفية وفصل الدين عن الدولة وسائر إشكاليات الاجتماع والسياسة.
وقبل الخوض في تحليل هذه المسائل سنتوقفُ لنعرضَ نُبذة موجزة عن حياته، كما سنلقي الضوء بطريقة مركزة وإن ببعض الايجاز على الاتجاهات الأساسية في تفكيره الفلسفي المتعلق خصوصًا بنظرية التطور ومفهومه عن الأمة، لأن آراءه في الدين والطائفية والبناء السياسي إنما هي مؤسسة على مذهبٍ فلسفي خاص يُفسر ظواهر الحياة الفردية والمجتمعية للإنسان.
من هو أنطون سعادة؟ (1904-1949)
هو مفكر من بلدة الشوير في جبل لبنان، نشأ في البرازيل حيث تشرب ذلك النوع من الوطنية السورية الذي كان شائعًا في أوساط “الطبقة اللبنانية المثقفة، في أواخر القرن التاسع عشر.”1 ذهب إلى سوريا وهناك خط مجموعةً من المقالات في بعض الصحف الدمشقية ثم درس في بيروت معتليًا منابرها الثقافية. عام 1932 أسس سعادة “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وسعى في “توحيد لبنان وسوريا وفلسطين والأردن” (إضافةً إلى قبرص والعراق في ما بعد)، في دولةٍ سوريةٍ واحدة.”2 ويمكن التمييز بين أربع مراحل مر فيها سعادة في أثناء حياته: “مرحلة النشأة والتجارب الأولى (1904-1932)، مرحلة صياغة العقيدة وتأسيس الحزب (1938-1947)، مرحلة الاغتراب القسري في أميركا الجنوبية (1938-1947)، وأخيرًا مرحلة الثورة القومية الاجتماعية الأولى التي أدت إلى الحكم بإعدامه (1947- 1949)”3 فقد أصدرت السلطات اللبنانية هذا الحكم إثر محاولته القيام بثورةٍ ضد نظام الحكم اللبناني، وطبقت هذا الحكم في الثامن من تموز العام 1949.
أولًا: نظرية التطور ومفهوم الأمة
تخيل الكاتب اللبناني جورج عبد المسيح (1943-1999) الفلسفة فتاةً في مقتبل العمر، كسا الشيب شعرها، وكانت تقول له: “أنا الفلسفة في سوريا. لست عاقرًا، لست عاقرًا، وقد أنجبت أنطون سعادة.”4 وكثيرون كما عبد المسيح رأوا في سعادة فيلسوفًا امتلك ثروةً فكريةً ساعدته في بناء نظامه القومي الإنساني الخاص، وفي تحديد رؤيته بخصوص عديد من المفاهيم التي كونت أساسًا لتفكيره الفلسفي.
- التطور إنسانيًا واجتماعيًا
طرح سعادة نظرية التطور بأسلوبٍ علمي، وبحث في عمليتي النشوء والارتقاء إنسانيًا واجتماعيًا، وتوصل إلى تحديد مفهوم “الأمة” وتحليله وتعليله، وقد تضمن كتاب “نشوء الأمم”* هذه التحليلات جميعها.
ففي المستوى الإنساني، أكد سعادة في بداءة بحثه بخصوص نشوء الإنسان ما ذهبت إليه المدرسة العلمية من “أن الإنسان ليس إلا كائنًا واحدًا من الكائنات الحية، وأنه خاضع للنظام الجاري عليها كلها، فحيث الحياة في كل مظاهرها غير ممكنة، لا يستطيع الإنسان أن يعيش. وكما كان الإنسان مظهرًا من مظاهر الحياة العامة، فلا يمكن البحث في كيفية نشوئه على حِدَةٍ، لذلك لا بد من جعل السؤال “من أين جاء الإنسان؟” ضمن نطاقٍ أوسع هو: “من أين جاءت الحياة؟”5 فعهد نشوئه يعود إلى عهد نشوء الحياة نفسها وهو جزء من الحياة نشأ ثم تطور فبلغ شكله الحالي، واستنتج نشأة الإنسان بالتطور من أشكال حياةٍ سابقة له، متأثرًا بنظرية عالِم الطبيعة البريطاني داروين Charles Darwin (1809-1882)، وقد نظر في المسألة دون الغوص فيها، لأن سؤاله الجوهري لم يتطلب ذلك، ولأن ما كان يهمه هو أن الإنسان وجد، فما علينا تاليًا إلا أن نبحث في عوامل تطوره إلى جانب دراسة الأسباب والمقومات، بهدف تحريض الإيجابي منها والحيلولة دون فعل السلبي، فالمسألة لديه كانت بحثًا وفرزًا وتحريضًا.
أما فيما يخص الارتقاء فلم يركز سعادة في كيفية حدوثه أكان “بتجمع تغيراتٍ بطيئة تحت تأثير البيئة… استعدادًا إلى الدخول في بيئةٍ جديدةٍ”6 أو كان “بسبق التطور لموافقة البيئة وبحدوثه دفعةً واحدة…”7 فما كان يشغله هو العوامل المؤثرة وليس أسلوب التطور، وقد رأى أن البيئة الطبيعية كانت وراء هذا الارتقاء الإنساني بيولوجيًا وفيزيولوجيًا، وأن هذا الارتقاء لم يكن وفق رغبة الإنسان، بل كان تبعًا لمقتضيات تطورات الطبيعة، فالظروف الطبيعية هي انعكاس لمسيرة التطور الإنساني، وكلما كان الإنسان يمضي في تلاحمه معها، كان تحقيق ارتقائه وتقدمه، لكن ما انفرد به سعادة في هذا المجال كان اعتقاده في أن السلالات حالة فيزيائية واقعة وهي “سلسلة تطورات حدثت في ظروفٍ وبيئاتٍ تطوريةٍ”8 ، أما البيئة فتتعدى ذلك إلى التأثير في أشكال الهيئة غير السلالية تأثيرًا قويًا. ولخص كل ما تقدم بقوله إن التطور الإنساني لناحيتي النشوء والارتقاء كان وفقًا لمقتضيات تطورات الطبيعة والبيئة، أي هو تطور محتم بالاختيار الطبيعي وليس مفضلًا بالاختيار العقلي.
في المستوى الاجتماعي أكد سعادة في إطار النشوء أن “الاجتماع الإنساني قديم قدم الإنسانية… بل أقدم منها، وأنه صفة موروثة فيها…”9 وتذهب عبثًا كل الجهود المبذولة في البحث عن الإنسان بوصفه فردًا خارج إطار المجتمع حتى في أدنى درجاته، واتخذ مما تقدم قاعدةً ارتكز عليها ليقول إن المجتمع حالة ومكان طبيعيان وضروريان لحياة الإنسان وارتقائها، واصفًا الاجتماع البشري بالأمر الواقع الملازم للبشرية والمتمتع بخصائص ملازمة لخصائص الإنسان، وتنبه إلى ظاهرتَين في الاجتماع الإنساني، لا نجدهما في سواههما: “استعداد الفرد لبروز شخصيته، واكتساب الجماعة شخصيتها التي تكونها من مؤهلاتها الخاصة وخصائص بيئتها.”10 وهي هذه الشخصية التي أدت إلى ارتقاء البشر وتطور اجتماعهم. إلا أن ما لفته في هذا الموضوع كان اقتصار الخاصية الاجتماعية على ذلك، وعدم تمكنها من جعل البشرية وحدةً اجتماعيةً متكاملةً، فلماذا لم ترتقِ هذه الخاصية إلى رتبة الشمولية؟ لماذا الواقع الاجتماعي تاريخيًا هو واقع مجتمعاتٍ متباينة؟ ما هو السبب المباشر لنشوء الجماعات، ومن ثم المجتمعات؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، انطلق سعادة من بديهيةٍ تقول إنه لو كانت الأرض “سهلًا منبسطًا، في درجةٍ واحدةٍ من الحرارة والرطوبة، خاليًا من الحدود الجغرافية، من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهي أن يؤدي انتشار النوع البشري فيها إلى انتشار جماعةٍ واحدةٍ كبيرة…”11 ، لكن الأرض ليست كذلك، بل هي واقع بيئات تنتفي الحياة في بعضها وتقل نسبتها أو تتعدد وتتنوع في البعض الآخر، كما أن إمكانات الحياة تختلف ضمن المجموعة الواحدة، وفي الوقت الذي يسعى الإنسان فيه في تكييف الأرض لتتوافق مع حاجاته الحيوية، فإنه يجد نفسه مضطرًا إلى تكييف حاجاته وفق خصائص الأرض التي يقطنها.
وفي إطار الارتقاء شدد سعادة على العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادية التي تحث الإنسان على العمل. “فمن الصيد نشأت تربية المواشي التي هي أولى درجات الحصول على الغذاء اللحمي مداورةً، ومن جني الثمار والنباتات نشأت الزراعة الأولى التي كانت أول تطور نحو الاستحصال على الغذاء النباتي مداورةً.”12 وكانت التجارة الطور الأول للثورة السورية الثقافية. هكذا سارت قوافل السوريين إلى مصر والأناضول واليونان برًا، “وجرت مراكبهم على سطح البحر لتكتشف في غربه وشماله أقوامًا لا تزال في طور الوحشية أو البربرية، وتنشئ معها علاقاتٍ تجاريةٍ سلميةٍ، ينتجُ عنها ربح مادي للمكتشِفين، وربح ثقافي للمكتشَفين.”13 لذلك، فقد عدَّ التجارة أحد العوامل الأكثر فاعليةً في تلاقح الثقافات على أنواعها، والعمل المقياس الذي نقيس به أي مرتبةٍ ثقافيةٍ.
- مفهوم الأمة
في رأي سعادة أن الأمة واقع اجتماعي بحت وهي نتيجة تاريخية نمت وولجت نطاق التطور بفعل ظروفٍ وشروطٍ موضوعيةٍ أبرزها المشاركة في الحياة، وهي “وحدة حياة” مجدولة في ثلاث ركائز: أسباب الاجتماع وتاليًا نشوء المجتمعات والنتائج الاجتماعية والنتائج التاريخية. هي إذًا متحد اجتماعي (communauté sociale) تتكون لدى أعضائه قناعة داخلية بأن لديهم مصالح كافية لتفاعل أعمالهم وإراداتهم في حياةٍ عامةٍ مشتركةٍ في مستوى ثقافي معين وضمن حدودٍ جغرافيةٍ معينةٍ كذلك، وكل تطورٍ ثقافي داخل الأمة يُولد تقاليد جديدة، قد تكون مشتركة بين عددٍ من الأمم مثل الدين واللغة والتاريخ، الأمة إذًا هي “أتم متحد”، حيث تحيا جماعةٌ من البشر حياةً موحدة المصير والمصالح والعوامل النفسية والمادية “في قطرٍ معين يُكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات.”14
إلى ذلك، طرح سعادة السؤال الآتي بقناعةٍ تامة: ما هي الأسباب التي دعت اللبنانيين إلى طلب “الاستقلال عن سوريا؟ أليس اللبنانيون والسوريون شعبًا واحدًا؟”15 وكان يعدُّ نفسه “سوريًا” منتميًا إلى “الأمة السورية” وهي مدلول يشتمل على مجتمعٍ موحدٍ في الحياة امتزجت أصوله فاضحت شيئًا واحدًا، وهو مجتمع قائم في بيئةٍ عُرفت تاريخيًا باسم سوريا، “وسماها العرب “الهلال الخصيب”، لفظًا جغرافيًا طبيعيًا محضًا لا علاقة له بالتاريخ، ولا بالأمة وشخصيتها.”16 وتُعد مناطق سوريا الطبيعية في رأيه وحدةً جغرافية واقتصادية إستراتيجية.
أراد سعادة إذًا أمةً سوريةً تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب، شاملةً شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة ومن البحر السوري في الغرب شاملةً جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق، ويُعبر عنها بلفظٍ عام هو “الهلال السوري الخصيب”، ونجمته جزيرة “قبرص”. وهو لم ينكر كون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، لكن ذلك لا ينافي وفق اعتقاده كونها أمةً تامةً لديها حق السيادة المطلقة على نفسها، وتمتلك قضيةً قوميةً خاصة ومستقلة كل الاستقلال عن أية قضيةٍ أخرى.
ثانيًا: الدين في فكر سعادة
- المدرحية
“إن العالم قد شهد في هذه البلاد، أديانًا تهبط إلى الأرض من السماء، أما اليوم فيرى دينًا جديدًا من الأرض، رافعًا النفوس بزوبعةٍ حمراء إلى السماء.”17
بين الأرض والسماء فواصل عدة في الفلسفة العقيدية سعى سعادة في إزالتها، فلجأ إلى الجمع بين المادة والروح من طريق فلسفة “المدرحية” التي أطلقها في سياق تفسيره عملية التطور الإنساني، وهو لم يشأ تحليل ذلك التطور بالمبدأ الروحي فقط أو بالمبدأ المادي المعزول عن الروح، لأن ركيزة الارتقاء الإنساني هي كما عدَّها مادية وروحية في آن، ومن ثم فالعالم ليس كما يتصوره أو يصوره البعض عالم صراع بين القوتَين الروحية والمادية.
- الله
“إن الذين يستسلمون للواقع، كما كتب الله… لهم مصيرهم. ولكن الذين يعملون بالمواهب التي أعطاهم الله، غير مستسلمين إلى أمرٍ مفعول، لا رأي ولا إرادة لهم فيه، هؤلاء لهم مصير هو مصير أن يكتب الله لهم ما استحقت مواهبهم.”18
من منطلق هذا الرأي القوي والقويم، لم يستسلم سعادة إلى الواقع ولم يهمل المواهب التي وضعها الله في شخصه، بل إنه آثر تفعيل إرادته وصقلها بهدف مواجهة العالم وكشف خلفياته، بروحية الباحث العلمي وبعقلانية المفكر الموضوعي. وفي مسألة الله رفض المناظرات العقيمة وكان يستخف بالاتهامات الموجهة إليه في شأن إيمانه أو عدمه، فقضايا الأمة في المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كان لها الأولوية عنده على القضايا اللاهوتية والدينية في تَفَكره الفلسفي، وكان صارمًا في هذا المجال وهنا يمكن أن نذكر ما قاله ردًا على أحد أفراد حزبه والذي أُقيلَ: “أما الذي يبغي الحقيقة في المباحثة معي في هذه القضايا، فله سبيل غير هذا السبيل الي سلكه فخري معلوف، وعليه أن يطمئن إلى رغبتي وارتياحي وينال موافقتي، ويتقيد بالوقت الذي أعينه.”19 وانتقد من يصدق المعجزات البعيدة حكمًا عن المنطق العلمي السليم، ومن يؤمن بأن شفاء “المجانين” يكون بطرد الأرواح الشريرة من نفوسهم. أراد سعادة من هؤلاء أن يستفيقوا وأن يواكبوا التقدم العلمي، فلا يكون شفاء بعرض المريض النفسي على ناسكٍ متعبد أو على قداسة البابا، “بل بوضعه تحت عناية طبيبٍ، عالِم بالأمراض النفسية وأسبابها، قادر على معرفة ما هو قابل الشفاء منها وما هو غير قابل الشفاء، سواء أكان هذا الطبيب مؤمنًا بإله إسرائيل أو بغيره أو غير مؤمن، أو على الأقل بصرف النظر عن اعتقاد الطبيب الخاص في قضايا الغيب، وفي قيمة “الكتاب المقدس” أو “الكتب المقدسة”، من ناحية العلم ومن ناحية الدين.”20
إلى ذلك، لا يفرق الله بين الطوائف والمذاهب، هو يقبل خير كل مسيحي وكل محمدي ويرفض شر الاثنَين معًا، لأنه يهتم بالأساس وليس بالشكل، إلا أن الإنسان ذاته هو من “لا يقبل كل خير ولا يرفض كل شر.”21 فخير السوري قد يكون مناقضًا لخير الهندي أو العربي وخير الهندي قد لا يكون خير الإفريقي أو الأميركي أو الألماني، ولكن قد يكون خير السوري خيرَ الإفريقي والألماني والانكليزي وسواهم، “وقد يكون خير العربي خير السلجوقي والأفغاني والمغولي وغيرهم.”22 لكن الله لا يتوانى عن قبول كل خير مهما كان شكله: فالتقاليد الدينية المسيحية مختلفة عن تقاليد المحمديين، وكلتا الديانتَين خير عند الله ، فالله “يقبل خير المسلم المسيحي في صلاته وبِره من غير وضوء، ومن غير حسبان لمس النساء تنجسًا، وفي الاكتفاء بزوجةٍ واحدة… والله يقبل خير المسلم المحمدي في صلاته وبِره ووضوئه وتجنبه التنجس بلمس النساء قبل الصلاة، وبغسل الوجه واليدين إلى المرفقَين… وبالتزوج مثنى وثلاث ورباع…”23
نستنتج إذًا أن الله كان حاضرًا في فكر سعادة، بدليل أنه شغل حيزًا مهمًا في فلسفته، لكن الإيمان الذي جعل منه أحد مرتكزات الفكر الثوري كان إيمانًا قائمًا على العقلانية، فأراد بذلك توجيه الإنسان نحو الطريق السوي، من طريق توعيته بشأن قدراته الإنسانية وإرادته الحرة، فيدرك أن في إمكانه تسيير حياته وتقرير نظامه ووضع قوانينه دون الارتباط الكلي بالشرع الديني.
- حرية المعتقد
“إن مشكلة العقائد في لبنان هي مشكلة الحرية، ومشكلة الحرية لا تُحل إلا بالحرية.”24 فكل امرئ حر في اعتقاده، لذا ينبغي لنا فصل القضايا اللاهوتية عن سائر أمور الحياة، لأن تلك القضايا هي من شئون الوجدان الفردي الخاص، والتي يجب ألا نسمح بأن تثير مشكلاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ. وقد أكد سعادة أن حزبه كان رائدًا في مجال الحرية واحترام المعتقدات المختلفة، كما كان متساهلًا تجاه أي اعتقادٍ أو مذهب فلسفي يرفض بث الشقاق وإثارة النعرات المؤدية إلى القضاء على معنى الأمة. فلكل فردٍ حرية مقاربة مسألة الماورائيات كما يريد من الله إلى السماء والجحيم إلى الخلود والفناء.. بشرط أن يكون قوميًا اجتماعيًا مخلصًا لأمته. وأشار إلى ملاحظةٍ أراد من المسيحيين والمحمديين أخذها في عين الاعتبار، فمن المستحسن “أن يعد المسيحيون المدنيون أو العَلمانيون، إذا لم يشأ الاكليروس، محمدًا رسولًا إلهيًا ودينه دينًا صحيحًا، ليشعر المحمديون بأن المسيحيين لا يكفرونهم في دينهم، ولا يحطون من قدر نيتهم، كما أنه يحسن أن يعد المحمديون دين اليسوعيين صحيحًا، وأن يتركوا التأويلات التي تكفرهم.”25
وباحترامه العلني للإيمان الفردي وبتقديره للإنسان عقلًا وإرادةً فاعلة، يرى سعادة أن حزبه حقق نهضة أمةٍ غير عادية أمة لا ترضى القبر مكانًا لها تحت الشمس.
- ماهية الدين
تفكر سعادة في مفهوم “الدين”، فوجده عقيدةً وفلسفةً وشعورًا، بداءةً وبعد ارتقائه الدين هو “عقيدة معرفة مصدر الإنسان ومعاده ومصير الفرد الأخير.”26 والملاحظ أن هذه العبارة تحمل صفتَين للدين: الأولى هي انعدام المنحى التطوري، إذ يستمر الدين في حالٍ واحدة في أساسه وبعد الارتقاء. والأخرى، هي أن الدين بوصفه عقيدةً هو وسيلة معرفة عدد من الأمور المتعلقة بالغيبيات، أهمها: المصدر والمعاد. ولأن الدين عاجز عن التطور فهو عقيدة نظرية ليس إلا، لذا هو لا يكون نظرةً إلى الكون والحياة بالمعنى الروحي والاجتماعي والاقتصادي، “ولكنه يؤثر أو يساعد في إبراز هذه النظرة التي يكون منشأها الحقيقي في الاستعداد النفسي للبيئة الاجتماعية-الطبيعية، التي يحدد أو يوسع لها استعدادها فهم كيفية مصدر الحياة ومعادها.”27 تلعب البيئة إذًا دورًا مركزيًا في تكوين النظرة الإنسانية إلى الحياة عمومًا وإلى المجتمع خصوصًا، أما الدين فليس إلا طريقًا لإبراز نظرة المجتمع إلى الحياة.
من هذا المنطلق رأى سعادة في الدين نوعًا من أنواع الفلسفة التي تعمل لـ “تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية.”28 ومع أن الديانات الكبرى تُجمع على فكرة الله وتؤمن بقضايا الثواب والعقاب وخلود النفس، فهي تختلف في جزئياتٍ تتعلق بالأخلاق نسبةً إلى البيئة التي يحيا فيها الأفراد، فتأتي الشيَعُ والمذاهب لتُجري تعديلاتٍ في الدين ليلائم حاجات المجتمعات ومصالحها، وعلى هؤلاء الأفراد أن يتجنبوا أي جدلٍ ديني عقيم قد يُدخلهم في اختلافاتٍ دينية، وأن يقيِّموا الإنسان بإنسانيته وليس بانتمائه الديني، “ولو كنتُ أقصد كما قال الدعوة إلى غير الحق أو لما فيه نفعي الحاضر، لكان مجموع الجالية كله صديقًا لي… فأكون مع المسيحي مسيحيًا ومع المحمدي محمديًا ومع الدرزي درزيًا ومع الكافر كافرًا ومع المؤمن مؤمنًا. وكنتُ أقول لكم إنكم كلكم عل حق.”29
والدين كذلك شعور إيماني خاص لا سبيل إلى فرضه بالقوة، لا باستخدام الفتوحات المحمدية ولا الصليبية، من هنا كانت حملته مثلًا على كل من روما والقسطنطينية وقد كانتا تتصرفان بمقدرات الشعوب، وتصرفان شؤونهما حسبما تريدان بصرف النظر عن النفسيات والعقليات المختلفة لهذه الشعوب، وقال إن الشعوب الغربية أفلتت من قبضة روما لتختار السبيل إلى ما فيه صلاحها، وكذلك فعلت الشعوب الشرقية في علاقتها مع القسطنطينية.
إلى ذلك فقد أدان سعادة كل تدينٍ أعمى لأنه يوقف مجرى العقل الإنساني ويحوله إلى عبدٍ لمعتقداتٍ خالية من أي منطق، وقال في هذه الفئة من المتدينين، “لو قال لهم نص ديني إن الشمس يمكن أن تقف أربعًا وعشرين ساعة، حتى يمر يشوع بن نون، يقولون هذا صحيح، ولا يسلمون بأن الأرض تدور إلا بعد مقاومة وعناد، وبعضهم لا يسلمون أبدًا لأن ذلك يوافق النص الديني أن الشمس تدور ولو أُعطوا ألف برهانٍ ساطعٍ على أن الأرض تدور وليس الشمس.”30 فعقل الإنسان لم يوجد عبثًا، بل وجد لندرك ونتبصر في قيَم الحياة ومبادئها، وقد استشهد بعبارةٍ لوالده الدكتور خليل سعادة جاء فيها، “الحياة ليست وسيلةً لتشريف الدين، بل الدين وسيلة لتشريف الحياة”31 .
وفي السياق ذاته لم يوفر سعادة أي كاتبٍ أو مفكر حاول في رأيه استغلال الدين، ومن هؤلاء ذكر “الشاعر القروي” اللبناني رشيد سليم الخوري (1887-1984) الذي يُحكى عنه فخره بالمسيح وبمحمد معًا، إلا أن تمجيده للنبي محمدًا في أشعاره طوال حياته دفع بعضهم ومنهم سعادة، إلى القول إن الخوري أسلم ولكن عن جهلٍ بحقيقة الإسلام ونصوصه المنزلة، فكان في نظره رجلًا تظاهر بالإسلام نفاقًا في الدين، لكي يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، واتهم المحمديين الذين شايعوه في أقواله وأيدوه بأنهم زنادقة تستروا بأثواب مؤمنين وادعوا الغيرة على الدين.
- تطويع الدين لمصلحة الأمة والقومية والمجتمع
إن تأسيس الأمة على الدين لا نتيجة له سوى “تحويل الأمة المتعددة الأديان إلى أممٍ متعددة.”32 فالدين يتنافى مع القومية وتكوين الأمة لأنه ذو طابعٍ إنساني عالمي، وتبعًا لأصول التعاليم الدينية يُعدُّ المسيحي أخًا للمسيحي والمحمدي أخًا للمحمدي، إذ يُشكل كل دينٍ جماعةً واحدة، إلا أن سعادة ما لبث أن أشار إلى إمكان تطويع الدين لمصلحة المجتمع، وهذا ما حدث بالفعل عندما تطورت السور القرآنية المدنية لتتوافق مع حاجة الجماعة فأضحت جهادًا وتشريعًا، فيما كانت السور المكية روحًا متجردةً وفكرًا متساميًا إلى الله، وهكذا تحولت التعاليم اللوثرية الإصلاحية إلى وسيلةٍ لتحرير ألمانيا من سيطرة روما، كما أكد لجوء بعض الأمم إلى تبني العقائد الدينية بهدف المحافظة على استقلالها الروحي، فبقيت إسكتلنده كاثوليكية كي تحافظ على شخصيتها القومية ولا تذوب في إنكلترا، والأمر ذاته حدث في أيرلنده. كذلك “لجأ الفرس إلى الشيعة ليُحدثوا انقسامًا، يتخلصون فيه من سيطرة سوريا الأموية، وليستعيدوا استقلالهم ونفوذهم الروحيين والماديين… وتمسكت سوريا بالسنة كي لا تخضع للفرس.”33
وترافق هذا التطويع للدين لمصلحة الأمة والقومية والمجتمع، مع بروز نزعةٍ لدى بعض المجتمعات إلى دمج شئونها الخصوصية بمعتقداتها ومذاهبها، وأعطى سعادة مثلًا على ذلك المجتمع الروسي الذي أدخل في الديانة الأرثوذكسية كثيرًا من خصوصياته الاجتماعية، في مستوى الترانيم الكنسية ومظاهر الأعياد والعلاقات المجتمعية… فغدت تقاليدٌ دينيةً قوميةً، إذًا يمكن للدين أن يكون أحد عناصر القومية بشرط ألا يتضارب مع وحدة الأمة وروحها القومية.
- نقد الجنسية الدينية والدفاع عن الجنسية القومية
أعلن سعادة بوضوح رفضه الكلي للدولة التيوقراطية القائمة على مذهبٍ ديني معين، والتي تُخرج من عضويتها المنتمين إلى دينٍ آخر. وفي رأيه أن هذا النوع من الدول سيطر في بلادنا، كما في أنحاء عديدة من العالم، وكان من نتائجه الأكثر سلبيةً فقدان “حرية العمل والسيادة والاتجاه الصحيح القائم بالإرادة الذاتية”34 إضافةً إلى اندلاع النزاعات بين التيارات الدينية المتباينة مثل النزاع الذي قام في ألمانيا بين البروتستانت والكاثوليك، وإن لم تكن دوافعه دينيةً فقط، كما اتهم التيوقراطيين اللبنانيين بالعمل لتجميع القوى الطائفية بخصوص مفهوم الدولة الدينية بكل مساوئها، وكأنهم كانوا يفكرون بمحدودية الطفرة الوقتية، أكثر من اهتمامهم بطبائع المجتمعات الإنسانية، غير آبهين لدراسة ظروف نشأة الدولة التيوقراطية المحمدية وأسباب تلاشيها، ولا بنشأة الدولة التيوقراطية المسيحية ووقائع زوالها.
ووجه سعادة انتقاده إلى بعض الكتاب النهضويين، لا سيما إلى المفكر الإسلامي والناشط السياسي جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، وإلى المفكر الإسلامي وعالِم الدين المصري محمد عبده (1849-1905)، الداعيَين إلى إقامة الدولة التيوقراطية والمعتقدَين “أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها”35. فقد غررا في رأيه بجماعاتٍ محمدية في الهند وإيران وأفغانستان كما في مصر وسوريا، لكنهما لم ينجحا إلا في ترك أثرٍ سيئ في نفوس من تعلق بمبادئهما، في حين ضحى الأتراكُ بجنسيتهم الدينية في سبيل جنسيتهم الاجتماعية، بعد ثورة القائد التركي مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) الذي ألغى الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة، وعُرف كل من الأفغاني وعبده بمناداتهما بالاعتصام بحبال الرابطة الدينية، لكن الواقع أثبت أن المحمدية لم تتمكن من جمع التركي والعربي أو الفارسي والهندي أو المصري والمغربي، ذلك أن “الروابط الجغرافية والسلالية والاجتماعية والاقتصادية كانت أقوى من الرابطة الدينية، في جميع الأديان على السواء. وحين كانت الخلافة العثمانية قائمة، لم يكن للرابطة الدينية من غرض غير تسخير الشعوب الإسلامية الأخرى لخدمة مصلحة تركيا فقط.”36 إلى ذلك فإن دعوتهما إلى الانتماء إلى “الجنسية الدينية” كونت في نظر سعادة تأويلًا خاطئًا لآيات القرآن وكأنهما كانا يؤمنان ببعض الكتاب ويكفران بالآخر، وأضاف أن الكلام المتعلق بغايات المذهبَين المسيحي والمحمدي، الوارد في مجلة “العروة الوثقى”**، هو كلام مبني على روح الحزبية الدينية أكثر بالفعل مما هو مبني على تدبر الإنجيل والقرآن.
تبعًا لذلك وصف سعادة كلًا من الأفغاني وعبده “بالرجعيَين” لأنهما، في دعوتهما إلى تأسيس الدولة على الدين، لم يكترثا للأحداث التاريخية العظمى التي كانت “دروسًا خطيرة تنقض الشيء الكثير من الاعتقادات القديمة فيما هو غرض الدين وغرض الدولة وطبيعة كل منهما، وظلا يعتقدان أن ذهاب دولة الدين لم يكن إلا لأسبابٍ عارضة أو نسبية، أو لضعف الأديان غير الإسلامية. فَعَلَّلا تقهقر الدولة الدينية المحمدية بضعف الإيمان أو نسيان الوعد أو بتقصير المحمديين عن الأخذ بإنماء العلوم…”37 وهذا تفكير واهٍ لعجزه عن إدراك العوامل المؤثرة في التطور الإنساني والدولة، في رأي سعادة لا تقوم على الهوس الديني بشئون الماورائيات، بل على قواعد سياسية واجتماعية واقتصادية محددة يكون أساسها الانتماء إلى جنسيةٍ قوميةٍ.
من هذا المنطلق، عدَّ الرابطة القومية الوحيدة التي تكفل حرية الأمة وحقوقها ومُثُلها العليا، داخل مجتمعٍ تكونه شخصية فيزيائية ونفسية واحدة، وهكذا يكون العالم العربي متعدد البيئات والسلالات والمجتمعات، عالمًا يضم قومياتٍ عدة لا تكون أمةً، بل مجموعة أمم. ولا شك في أن سعادة كان واعيًا بصعوبة التخلي عن الجنسية الدينية في سبيل الجنسية القومية الاجتماعية في مجتمعٍ تتجذر فيه التعاليم الدينية، فكان المفكر المسيحي والمحمدي يواجهان تُهمة الكفر والزندقة إذا ما جاهرا بفكرةٍ تنطبق على أسس التطور الاجتماعي، فأتت مبادئ السوريين القوميين الاجتماعيين ردًا مباشرًا على الأصولية الدينية بكل وجوهها، ودعوةً إلى الأمة السورية التي تروم جمع أبنائها وفق إرادةٍ واحدة ومصلحةٍ واحدة وعقيدةٍ واحدة، تحت عنوان الحريات وتأمين الحقوق المدنية والسياسية للجميع، بعيدًا عن “أن يكون بعض الأمة عبدًا لبعض، أو عالةً على بعض، أو تحت رحمة أو تساهل بعض”38. على ألا يُفهم من ذلك أن المبادئ الشعبية القومية تتنافى مع الدين، كلا ولكن القضية هي قضية أمرَين لكل منهما مزاياه وخصائصه التي لا يجوز إدغامها بمزايا وخصائص الآخر، وإلا كانت النتائج حتمًا سيئة على حياة الشعوب، ومع الجنسية القومية تسهل عملية اللقاء الفكري بين أبناء الطوائف المختلفة، توصلًا إلى الاتفاق بشأن قيام نظام الدولة واعتماد أسلوب التعامل على أساس قوانين هذا النظام.
- في مواجهة التعصب الديني
في رأي سعادة أن الدول الأجنبية الطامعة في سوريا اعتمدت سياسة تحريض المحمدي على المسيحي، لتقدم الحماية لهذا الأخير وتخضعه لإملاءاتها… والعاقبة كانت دومًا سيئة على الملتَين، وكانت فرنسا تستغل الموارنة الذين يعدون أنفسهم من بقايا الصليبيين، ويرون في فرنسا “ظل الله على الأرض”39 . وكان من نتائج إنشاء المدارس الفرنسية والخضوع لسياسة “الاحتلال الفرنسي” ظهور طائفة من الشبان الذين تنكروا لسوريتهم وتوجهوا توجهًا استعماريا. وعزا سعادة سهولة التلاعب بالعواطف الدينية وتسخيرها للغايات الأجنبية إلى تأخر اليقظة القومية في ذوات الشعوب الشرقية، فالوعي القومي لم يشمل في رأيه الجماعات الدينية، الأمر الذي زاد من حدة التعصب وسهل استغلاله، وكانت النتيجة للأسف انقسام السوريين في الوطن والمهجر، “فتعددت قومياتهم، وتباينت غاياتهم، وزاغ كتابهم وأدباؤهم. فإذا هم يصيرون شاميين ولبنانيين ودروزًا وعلويين وفلسطينيين وأردنيين…”40
والحقيقة أن كل متعصبٍ دينيًا هو جاهل، وهذا التعصب هو داءٌ عضال أحدث شللًا في الأمة السورية، مانعًا إياها من بلوغ مصاف الأمم الحية، ومن حل المعضلة التي سماها “معضلة لبنان وسوريا وفلسطين وجبل حوران”. وهنا انتقد مرة أخرى فخري معلوف متهمًا إياه بالخلط بين الفلسفة الدينية وخصوصيات أحد المذاهب المسيحية، وبالخروج كليًا عن مبادئ القومية الاجتماعية، وعده خائنًا لعقيدة الحزب لأنه اعتقد “في صحة المذهب الكاثوليكي وحده، وفي صحة التفسير المسيحي لمصطلح الله وأقانيمه دون غيره، الذي معناه العودة إلى نزاع المذاهب الدينية وتمزيق الأمة السورية وكل متحد قومي متمدن في العالم، أي أحزاب دينية متنافرة، متطاحنة…”41 كما انتقد كذلك الجالية السورية في الأرجنتين، وقد غدت جماعاتٌ وطوائفُ متنابذةً، معظم مؤسساتها دينية في الباطن أو في الظاهر، وعارض مشروع تأسيس مدرسة محمدية ومستشفى محمدي وبإنشاء حي خاص بالمحمديين في الأرجنتين، بوصف هذه الأفكار رجعيةً تحمل خلف مظاهرها الدينية أغراضًا سياسية خفية وترمي إلى العزل الذاتي، فعمن يريد المحمديون أن ينعزلوا؟ عن جميع المسيحيين السوريين والأرجنتينيين وعن الدروز أم عن الدروز والمسيحيين السوريين فقط؟ وكيف سيصبح حال هؤلاء إذا ما قاطعهم المسيحيون والدروز من سوريين وأرجنتينيين…؟!
أما الحل الأسلم للابتعاد عن الفتن الدينية وعن مخاطر التلاعب المقصود بالأحقاد القديمة، فيتمثل في السعي في اكتشاف العصبية القومية والعمل بمبادئها، فهي العصبية الوحيدة التي يجب أن تستمر ولا تنطفئ، لأنها تجعل السوريون جميعهم عصبةً واحدة، ولم تكن العصبية القومية عند “الإفرنج” كما سماهم بدعةً للتغرير بالأمم العربية، بل كانت شعورًا صادقًا بوحدة أمةٍ من أممهم، وبكل ما تتكون منه من شخصيةٍ وحقوقٍ وحاجاتٍ ومصالح، وهي التي أنقذت أممهم من الانقسامات الدينية الداخلية لمواجهة المخاطر، من هنا كانت دعوة سعادة الشعب السوري إلى تقرير مصيره: فإما أن يختار السقوط الذي تسببه النعرات الدينية، وإما النصر الذي تكفله الإرادة السورية القومية… علمًا أن طريق القومية المنعقد على تنوير العقول لا يؤدي مطلقًا إلى انحلال الشعور الديني، وإنما إلى التَفَلُّتِ من التعصب الديني لقيام التعصب القومي مقامه، وهكذا يُتجنبُ النظام التصادمي الذي أسست له “النهضة الرجعية”، وتحل مصلحة الأمة كلها محل المصلحة الخاصة للفرد، وينتفي النظام الرأسمالي النفعي، ولا يتحقق هذا المراد إلا “باعتناق مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الموحدة، لا بمحاربة هذه المبادئ المقدسة، كما يفعل الجهال الخالون من المسؤولية”42.
ثالثًا: الثورة على الطائفية
كان من البديهي أن يسعى سعادة بوصفه مفكرًا نهضويً تنويريً في وضع الطائفية على طاولة النقد اللاذع، توصلًا إلى تجريدها من أسلحتها، ولا سيما النفسية والمعنوية منها، ومن ثم في إقناع أفراد “المجتمع السوري” بخطورة استمرارها.
- نقد الطائفية
رفض سعادة كل تمييزٍ بين فئات الشعب على أساس الانتماء المذهبي، متهمًا بعض أفرادٍ أو جماعاتٍ من هذا الشعب بالتعلق والتذلل لشخصياتٍ طائفية، وهذا ما كان يتنافى مع المبدأ الاصلاحي الثالث في حزبه القائل بضرورة إزالة مختلف الحواجز والعوائق التي تباعد بين الأفراد، فالإيمان لا يمكن أن يفرض على الأرثوذكسي عدَّ الكاثوليكي هرطوقيًا، كما لا يمكن أن يفرض على السني عدَّ العلوي أو الشيعي من الكفرة، ولا يجوز للتقاليد الطائفية المتنافرة المستمدة من أنظمة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية أن تُضعف وحدة الشعب، كما هو الأمر في الواقع، وانطلاقًا من اعتبار أن الوحدة الروحية المتينة يستحيل حصولها من طريق روحياتٍ دينيةٍ متباينة، فقد رأى سعادة في الروحية الواحدة والنظرة الواحدة إلى الحياة والكون والفن العاملَين الأساسيَين على تحقيق هذه الوحدة، إضافةً إلى وحدة المقاييس والمصالح والإرادات لدى الشعب الواحد وضمن الأمة الواحدة، وتساءل، “ما معنى الأخوة القومية حين أقول لك أنت أخي وأحرمك بالفعل من حقوق الأخوة معي؟ وكيف يمكن أن يكون الشعب واحدًا، مع أن فئة كذا لا يمكن أن تختلط مع فئة كذا وكذا؟”43 هذه التوجهات خلقت للأسف في رأيه حواجز اجتماعية وحقوقية متجذرة بعمقٍ في ذوات أبناء الطوائف، حتى الانتخابات القائمة على أسلوب التمثيل الطوائفي الفاسد قضت كليًا على المصالح العامة الأساسية للشعب وأعاقت تقدمه. في ظل هذه الأجواء النافرة طائفيًا، كان الشعب اللبناني يقع مرةً تلو مرة فريسة الاضطرابات والنزاعات التي غالبًا ما كانت تستغلها الدول الاستعمارية الكبرى، وكانت النتيجة أن الشاميين دعوا إلى قضيةٍ سوريةٍ “بيزنطية”، والتزم “مسيحيو لبنان بقضيةٍ “لبنانية”، وعلويو النصيرية بقضيةٍ “علوية”، ودروز جبل حوران بقضيةٍ “درزية”.”44
وفي السياق ذاته لنقده الروح الطائفية، كانت ثورة سعادة واضحةً ولا تحتمل أي التباس في وجه الأحزاب الطائفية المنغلقة داخل ذواتها والمتسلحة بالعنف، وكانت كلها تناحر النهضة القومية ومُثُلها، معتمدةً عناصر إقطاعية وإكليريكية رجعية، بعيدًا عن البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية الاصلاحية، لذا فقد دعا إلى حلها ليس فقط في لبنان، بل في جميع “الدول السورية”، وهذا كان منطلقًا لإبراز خطر الطائفية على الدين، أليست المسيحية والمحمدية، كما قال، “رسالتَين إلهيتَين أتتا العالم بأمرٍ من الله وإذنه؟ ألم تكن العزة الإلهية ذاتها مستندًا لهما ولرسولَيهما؟ وماذا فوق العزة الإلهية ذاتها من صدقٍ وقدوة؟”45 تمخضت تساؤلات سعادة هذه عن قناعته بوجوب تجريد الرسالَتَين الإلهيتَين من الطقوس الطائفية الخادعة، فقد أكد أن المظاهر الحزبية الطائفية ليست قائمةً على أسبابٍ دينية، بل على مطامع شخصية للحكم والتحكم، وأعطى لإثبات رأيه مثل الاحتجاج الذي قدمه “المجلس القومي الإسلامي” للحكومة اللبنانية… فما كان من السياسي اللبناني خير الدين الأحدب (1894-1941) إلا أن أوعز إلى مؤيديه من المحمديين “بإنشاء فئة أخرى محمدية لمناوأة فئة المجلس المذكور، فأُنشئت الفئة التي عُرفت باسم “المجلس الإسلامي الأعلى”.”46 أما في الأوساط المسيحية، فانحازت فئة المعارضة لرئيس الجمهورية اللبنانية إميل إده (1883-1949)، إلى الاتفاق مع أعضاء المجلس القومي الإسلامي، والذين منهم أمثال رئيس الوزراء رياض الصلح (1894-1951) في مواقف عدة، كونَ هذا المثل دليلًا على النفاق من الجهتَين في حق الدين والوطنية على السواء.
ولم تسلم كذلك الصحافة الطائفية من نقد سعادة، فعلى الصحافة أن تكون وسيلة يعتمدها الإنسان المثقف بهدف نشر أفكاره وتدعيم مواقفه في كافة الأصعدة الأدبية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية… وترتبط صدقية العمل الصحافي بنبل رسالته، إلى جانب التزام الأمانة في نقل الأخبار والبحث فيها. لكن للأسف غالبًا ما يقوم على صحافتنا، كما قال سعادة، “أشخاص عديمو أو قليلو العلم، في نفوسهم مرض، وعلى عقولهم غشاوة.”47 وقد عبر عن غضبه هذا بسبب هجوم الصحافة إثر مهرجانٍ للسوريين القوميين في الأول من آذار العام 1938 احتفاء بعيد مولده، ولم يكن من حد لتهجمه الذي طال الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي (1889-1957)، فاعتبر جريدته “السمير” (التي أصدرها العام 1929 ونشر فيها معظم أدباء المهجر) طائفية النزعة ووسيلة لاستنداء الاشتراكات، وانتقده في شخصه قائلًا إنه لا يملك من مؤهلات الصحافة “غير معرفة قواعد الإعراب إلى حد ما، ومعرفة النظم الذي هو أفضل الوسائل للتزلف إلى الأغنياء.”48 في الوقت الذي كان يُعَدُّ فيه أبو ماضي ولا يزال إلى اليوم من أعظم الشعراء اللبنانيين الاستثنائيين في صورهم وفلسفتهم. وإلى جانب “السمير” انتقد صحف “مرآة الغرب” و “النسر” و “البيان” و “السائح” التي حاولت التستر بالعروبة للتمويه على مآربها الطائفية كما رأى.
- القومية السورية في مواجهة القوميات الطائفية
كثرت المنافع القائمة على حساب مصلحة الشعب السوري وتقدمه، وتجسدت في كلتا القوميتَين العربية واللبنانية اللتَين نعت سعادة كلا منهما “بالخرافية”، فأثارت الأولى النعرة الدينية الإسلامية حاملةً قضيةً عربيةً مصطنعة، وعملت الثانية لإيقاظ النعرة الدينية المسيحية متبجحةً بقضيةٍ لبنانيةٍ أيضًا مصطنعة.
- القومية العربية “الزائفة”
ليست فكرة الوحدة العربية حقيقةً بل هي هوس ديني… وقد عارضها سعادة واصفًا ذهنية الفئة العروبية “بالنيو رجعية” التي خلقت أوهامًا في الأمة السورية أقصتها عن حقيقتها فبذلت جهدها، بفضل التفكير العربي وبعض القادة العرب في “جمع المتفرق وتفريق المجتمِع، وتوحيد ما لا يقبل الوحدة، وتجزئة ما هو واحد.”48 فالقومية العربية اعتقدت مخطئةً بالتقارب بين أمم العالم العربي من طريق الدين واللغة والموقع الجغرافي، ولم تأخذ في الحسبان التباين في أجناس الشعوب العربية والتباعد في أنساق مجتمعاتها والاختلاف في أمزجتها وتركيباتها السلالية، وهي لم تُصب في جمعها الوطن بالقرآن وباللسان العربي، ذلك الجمع المتكون أصلًا من التقاليد الدينية والانهيارات القومية، ومن السهل جدًا على علماء السياسة والاجتماع كشف هذه الحيَل والأكاذيب، وكانت تُضلل الناس بمحاولة إقناعهم بأن الوحدة العربية تجمعهم دينًا ولسانًا، وبأن عليهم ألا يصغوا لمن ليس من ملتهم وألا يتبعوا إلا أولياءهم، وهي استغلت الدين لجمع كلمة المسلمين وتوحيد السوريين والمصريين والأتراك والفرس والهنود والأفغان والمغاربة… وما إن فشلت في مخططها حتى قررت المناداة بجامعةٍ محمدية أقل اتساعًا فقط لاستحالة الأكثر، لذلك اهتزت صدقية الدعوة العروبية وتناقضت مفاهيمها، وراح القوميون العرب يُطلقون لفظ “العروبة” تارةً على الشعوب الناطقة بالعربية، وطورًا يحصرونه “في منطقةٍ وهميةٍ أصغر، فيقولون بتكوين دولةٍ واحدة من سورية ومصر والعربة، أي بإخراج القيروان وطرابلس المغرب وتونس والجزائر ومراكش. ثم يصغرون هذه المنطقة عند الاضطرار، فيجعلونها مقتصرةً على سورية والعربة.”49 وللتدليل على الفشل قامت في مصر عروبةٌ اقتصاديةٌ حاولت إدخال سوريا وغيرها من الأقطار تحت سلطة الرأسمال المصري بواسطة الشركات والمصارف المصرية، كما قامت عروبةٌ سياسيةٌ سعت في إيجاد خلافة محمدية في مصر تحاول ضم ما أمكن إليها من الأقطار المجاورة، لكل هذه الأسباب القومية العربية “زائفة”، وقد سهل زيفها كما يرى سعادة على استغلال الدول الاستعمارية الكبرى للعرب وضمان استمرار الاستعمار الأجنبي.
- القومية اللبنانية “المضللة”
“رجعيون مسيحيون”، “متلبننون تلبننًا فرنسيًا”، “محرضون على الانعزال روحيًا وثقافيًا وعلى تشويه العقل السوري والمنطق والادراك”… بهذه النعوت القاسية والمجحفة، هاجم سعادة القومية اللبنانية الرامية، كما رأى إلى فصل الفئة المسيحية اللبنانية خصوصًا وما أمكن عن الفئات غير المسيحية.
وقد انبثقت فكرة الانعزال اللبناني التام من شعورٍ بالخوف من الاجحاف الذي قد يطال الأقليات عند نيل الاستقلال، وهذا ما جعل مسيحيي لبنان يتعلقون بفكرة الدولة اللبنانية المنفصلة عن الكيان السوري، فراحوا يبشرون بعقيدتهم لجميع الطوائف اللبنانية، محاولين إقناع المسلمين والدروز بإيجابيات الأمة اللبنانية وبسلبيات الأمة السورية، وكان رجل الدين المسيحي المشجع الأول على تلك الأفكار للإبقاء على زعامة المؤسسات الدينية المسيحية وزيادة نفوذها، وذلك من طريق استحضار فكرة الأصول الفينيقية وتكثيف إرشادات اللاهوت المسيحي لترسيخ مفهوم الكِيان اللبناني في أذهان المسيحيين، وتفتحت القومية اللبنانية على شعاراتٍ محض طائفية معادية للعقيدة السورية القومية: “الحزب القومي الاجتماعي غول. القومية السورية غول، سورية الطبيعية غول، الوحدة القومية غول. لا تنسوا المذابح الدينية! أنظروا التعصب الديني، لا يمكننا أن نعيش مع “المتوحشين” خارج لبنان.”50 وعدَّ سعادة أن الواقع الطائفي للقومية اللبنانية هو الذي منع إنجاحها، تمامًا كما حدث للقومية العربية.
ج. القومية السورية “الصحيحة”
واقع اجتماعي ذو حكمٍ واحد، حرية رأي وتعبير واجتماع، رأي عام يمثلُ قوةً سياسيةً واجتماعية بعيدًا عن اللوثة الطائفية، نظرة ثاقبة تروم جمع مصالح الجميع في الأمة الواحدة… ذلك كان جوهر القومية السورية التي أرادها سعادة أن تلج النفوس والعقول، أما في الشكل فكان “السلام القومي” مرافقًا كل رسالةٍ يخطها السوريون القوميون وكل عبارةٍ يتلفظون بها. وفي غالبية الرسائل التي كان سعادة يبعث بها إلى رفاقه في الحزب، كان يكتب: “اقبلوا سلامي القومي”، سلامي القومي لكم جميعًا”، “سلامي القومي لك ولأهل بيتك وللرفقاء”…
وكان سعادة على يقين بأن البلاد السورية تجمعها وحدة قومية فعلية تطال الحياة الاجتماعية والمصالح النفسية والاقتصادية، ولا يمكن لأي حدودٍ سياسيةٍ تجزئتها، فالاتصال الاجتماعي وثيق بين مسيحيي لبنان ومسيحيي سائر البلاد السورية، وكذلك بين دروز لبنان ودروز جبل حوران وحلب، وبين محمديي لبنان ومحمديي سائر سوريا، وهناك بطريركية واحدة للأرثوذكس، وواحدة للموارنة في كل سوريا وإن “لسورية الطبيعية كرسيٌ واحدٌ لجميع الطوائف المسيحية، هي الكرسي الأنطاكي. وإن للشيعة مجتهدٌ أكبر ومرجعٌ واحدٌ في جميع سورية الطبيعية هو المجتهد الأكبر في النجف، وجميع المسيحيين مشتركون اشتراكًا كليًا، في جميع روابط الحياة الاجتماعية والروحية، في البلاد السورية كلها. واشتراك المحمديين والدروز في روابط الحياة الاجتماعية والروحية السورية لا يقل عن اشتراك المسيحيين فيها.”51
أما في مسألة علاقة سورية بالعروبة، فسورية هي طبعًا إحدى أمم العالم العربي، لكنها أمة مستقلة تنطق باللغة العربية لأنها لغة فكرٍ وأدبٍ وثقافة، لكن الجوهر سوري والعقيدة سورية، وكما قال سعادة للمؤمنين بقوميته: “أيها السوريون، انصروا قوميتكم وتعصبوا لها، فهي مبدؤكم ومعادكم في الدنيا، وبها تنتصرون وتنالون المجد.”52
رابعًا: فصل الدين عن الدولة
- منع رجال الدين من التدخل في الشئون الزمنية
“لنترك رجال الدين يتناظرون ما شاءوا المناظرة في أي من الأديان أصحها، بشرط ألا يتعدوا حدود المناظرة إلى تهييج الغوغاء والسذج وغرس الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد باسم الدين.”53
بهذا التعبير الحاد أعلن سعادة بطريقة حاسمة وجوب الفصل الحتمي بين شئون الدين ورجالاته واهتمامات الدولة ورجالاتها، كما جاء في المبدأ الثاني من المادة الثالثة من دستور حزبه، فقد حاول رجال الدين معالجة مسائل الاجتماع والسياسة والاقتصاد، لكنهم فشلوا في مهامهم، وأتت محاولاتهم شبيهةً بمحاولات معالجة الأمراض النفسية والجسدية التي كانوا يدعون النجاح فيها في الأزمنة الغابرة، أما اليوم ومع تقدم العلوم في جميع الميادين، يستحيل حلول رجل دين محل عالِم الاجتماع أو الاقتصاد أو الخبير السياسي، لأن الأمر سوف يؤدي إلى إفساد عمل أصحاب الاختصاص، ورجل الدين ليس رجل الأمة كما أن القضاء الذي ما زال دينيًا يؤدي إلى خلق عقلياتٍ لجماعاتٍ تتباين رؤيتها للحق والشرع وسير الحياة الإنسانية، وليس من حق الشيخ أو المفتي أو البطريرك أن يتسللوا إلى أماكن سياسية مثل الانتخابات مثلًا بدلًا من انهماكهم في الشئون الدينية الروحية، وإذا نحن منعناهم من ذلك ساعدناهم في رأيه على رفع منزلة الدين وكسب احترامه.
وسط هذه الأجواء الرفضية توجه سعادة مباشرةً بانتقاده إلى عددٍ من رجال الدين والجمعيات “الطائفية”. وبدأ تقييمه دور البطريرك أنطون عريضة (1863-1955)، الذي قد يكون تقيًا وورعًا ومحبًا للخير العام ونزيهًا… “قد يكون كل ذلك ولكنه ليس خبيرًا بالاجتماع أو بالاقتصاد أو بالسياسة وإعطاء الآراء الصائبة فيها.”54 وهو لا يمتلك الإدراك الواعي والعقلاني للمواقف السياسية التي تتضاعف سلبياتها مع تزايد التدخل الديني في خصوصيات الواقع السياسي، ورأى أن محاولته إقرار مسائل “سورية” باسم الجماعة المارونية محاولةً فاشلة لأنها اعتمدت على الآراء الدينية في شأنٍ لا يمت إلى الدين بصلة، ولمس تناقضًا واضحًا في تصريحاته العريضة وخطبه، فهو بعدما أعلن تنصله من المعركة الانتخابية في مجلس النواب، تاركًا الأمر للشعب والحكومة، عاد فأعلن تأييده التدخل الديني في الشئون الزمنية، متحججًا بواجب الرئيس الروحي على معاونة الشعب، إضافةً إلى توعيته على إدراك العلاقة بين الروح والجسد، فرد سعادة بوصفه أن واجب الرئيس الروحي ألا يتعدى دائرة الروح ويدخل في دائرة الجسد، “لأنه متى خرج إنسان الروحيات من دائرة الروحيات إلى دائرة الزمنيات، أصبح المقياس الذي يُقاس به: مبلغ معرفته وخبرته العلوم والأحوال الزمنية، لا مبلغ حفظه “الإيمان والشرائع الالهية””55 وهذا التشبث غير المبرر لرؤساء الدين بالسلطة الزمنية، كون خطرًا حقيقيًا على حسن سير الأمور الزمنية، بعدما تعددت السلطات الروحية وقام النزاع بينها.
وزادت ثورة سعادة في وجه (عريضة) عندما اتهم حزبه والحزب الشيوعي بالتعامل مع الأجانب والوقوع تحت سيطرتهم وبالعمل ضد الاستقلال، وهذا اتهام غير منطقي ولا هو منعقد على معرفةٍ صحيحة للأحزاب اللاطائفية، بل هو يتصف بالانحياز ما لا يليق بمقامه.
وفي السياق ذاته انتقد سعادة المطران اغناطيوس مبارك (1876-1952)، على إثر الخطاب الذي ألقاه في حفل تأبين الشاعر اللبناني أمين تقي الدين (1884-1937)، واصفًا الخطاب بخلوه من أية قيمةٍ سياسية وأنه قوبل في أوساط الشباب القومي بنفور واشمئزاز… وذهب إلى حد اتهامه باليهودية، ملمحًا إلى أنه لم يكن يتورع عن تسمية نفسه “مطرانًا لليهود.”56 وردًا على دعوة مبارك إلى العودة بلبنان إلى نظامه القديم تحقيقًا للسعادة، قال سعادة إن تلك الدعوة باطلة وتتلون بشعاراتٍ تنظيريةٍ ليس إلا، فيما المطلوب هو إيجاد حلولٍ لنجاح الدورة الاقتصادية القومية.
إلى ذلك، نالت جمعية “الجزويت” *** حصتها من الاتهامات، فكانت في نظر سعادة أجنبيةً ودخيلةً بكل أفكارها وأعمالها على الشعب السوري وعلى حياته، وبشَّرت معتمدةً على سلاح التعصب والطائفية في وجه غير الكاثوليكيين والأديان غير المسيحية، وباسم الدين تدخلت في قضايا الشعب وعملت لنشر تعاليمها وبث روحيتها وعقليتها بواسطة مؤسساتها التعليمية، فكان تأثيرها كبيرًا في نشأة الأحزاب المسيحية الطائفية.
وفي اختصار وصف سعادة الإكليروس الماروني بالرجعية، متهمًا إياه بمساعدة المطامع الأجنبية، لا سيما من طريق تأكيد أهمية الدولة الدينية المسيحية، وألمح إلى أن اكتساب المقام البطريركي نفوذًا دنيويًا سياسيًا كان ذا شأنٍ خطير في إقرار المسائل القومية في الاتجاه الذي أراده سعادة طبعًا.
- الإسلام في رسالتَيه: المسيحية والمحمدية
“ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين… فقد جمعنا الإسلام: منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة.”57
المسيحية والمحمدية رسالة واحدة هما مذهبان في دينٍ واحد، على رغم الواقع الخلافي المتمثل في اعتقاد معظم المسيحيين في صفة المسيح، وفي عدم اقتناع المسيحيين بأن محمد نبي حقيقي. وهذا ما تسبب بالتعنت والمنافسة بين أهل الملتَين وإلى الغلو في الدين.
- المسيح ومحمد: التقارب والتباعد بينهما
المسيحُ في رأي سعادة لم يكن يهوديًا، بل كان سوريًا يخاطب الجماهير باللغة السريانية. ولإثبات ذلك، لجأ إلى قول المسيح في الفريسيين: “كيف يقولون إن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئًا لقدمَيك. فإذا كان داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه؟”58 كان المسيح مجاهدًا، يرمي إلى القضاء على مثالب المجتمع، وإلى توعية الناس على القيم والمُثُل الفردية والعائلية، وشدد على أهمية الروح واصفًا الكنوز المادية بالبطلان، واستوحى سعادة منه عِبَرًا وأمثالًا واستشهد مراتٍ عدة بآياتٍ إنجيلية، وعندما أرادت لجنة التمثال عام 1922 اقتلاع بعض الآثار الشرقية ومنها قبر المسيح لنقله من القدس إلى البرازيل وفق قول سعادة قال، “وكما ابتهل المسيح في أثناء صلبه إلى الله، طالبًا منه أن يغفر لأعدائه لأنهم لا يدركون ما يفعلون، كذلك نبتهل نحن إليه أن يغفر لأعضاء لجنة التمثال صلبه مرةً أخرى ودفنه مرةً أخرى، لأنهم أيضًا لا يدرون ما يفعلون!”59
وأما محمد فكان نبيًا عربيًا سوري الأصل ولم يكن فيلسوفًا، وتكمن ميزة المحمدية في القرآن المتضمن الوحي وليس في الأحاديث الأقرب إلى الأقوال الحِكَمية التي تفيد المحمدي في فهم بعض أحوال الدين والدنيا، ووصف الرسالة المحمدية بالروحانية، وإن كان بعض ظاهرها أحيانًا ماديًا نتيجة أحوال البيئة، وأشار إلى نوعين من الآيات تضمنتهما الرسالة القرآنية: الآيات المكية ذوات الاتجاه الروحاني، والآيات المدنية ذوات الاتجاه المدني. انحصر النوع الأول في عقلية البيئة التي عاش فيها المحمديون، وهي بيئة محدودة الأفكار والعلوم والمعارف والاختبارات، أما النوع الآخر، فاشتمل على أوليات المجتمع ووجوب البدء بإنشاء نظامٍ اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل الأعراف السائدة في القبائل.
فبخصوص ماذا التقت المسيحية بالمحمدية؟ المسيح ومحمد اضطُهدا، وكانت الموعظة المترافقة مع الإرشاد نقطةً مشتركة بين الديانتَين: تعاليم مناقبية للمسيح، وحديث للنبي يخرج من خصوصيات البيئة إلى عالم الإنسانية الأوسع. كما أن جوهر نفس النبي وجوهر نفس المسيح واحدٌ لأنهما من أرومةٍ واحدة، واعترف النبي بالمسيحية وقال إنه ليس على المسيحيين أن يغيروا طقوسهم وتعاليم ديانتهم، لكن القرآن أنكر كون المسيح هو الله أو ابنه كما تقول المسيحية واعترف فقط بألوهية كلامه، على هذا الأساس لم يقم الخلاف الديني بين الإسلام المسيحي والإسلام المحمدي إلا في خصوص صفتي المسيح ومحمد، فالمسيحيون يعتقدون أن يسوع هو المُخلص وأنه كلمة الله وأنه الله الذي تجسد في الإنسان، والمحمديون يعتقدون أن محمدًا هو رسول الله الذي به الخلاص، والمُقدم على جميع الرسل ومن ضمنهم المسيح، ومن هنا قولهم إنه “خاتم النبيين”. ويُسجل اختلاف آخر وفق سعادة بين الاثنين في مسألة الزنى، ففي حين دافع المسيح عن الزانية ورفض رميها بالحجارة، فقد جاء في القرآن: “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.”60
هذا التقارب في أحيان والتباعد في أخرى بين المسيح ومحمد تتخللهما تأويلات جزئية وسطحية للديانتَين معًا، ناتجة عن جهل العامة وما توارثته من عصور الانحطاط.
- الدين والدولة في المسيحية والمحمدية
بداءة في المسيحية ارتقى السوريون فتخطوا مرتبة البربرية التي عاشها العرب ردحًا طويلًا من الزمن وفي ظل هذا التطور، نشأت المسيحية في سوريا وكانت سوريةً في أصولها والتفرعات، وفشلت في دعوتها إلى الخلط بين الدين والسياسة، ولم يكن التعليم المسيحي يرمي إلى إنشاء دولةٍ تجمع المسيحيين وتعمل لمحاربة الدول الأخرى، كما لم يكن هدفه جمع أشتات الشعوب المسيحية لتنظيمها في دولة، بل ركز اهتمامه في إيجاد القواعد المناقبية لتثبيت المجتمع وتقوية فاعليته الروحية اتجاه النزاعات السياسية والحروب، وما كان يهم الإسلام المسيحي هو الاهتمام بمعتقدات الأفراد ومناقبهم، لكن التاريخ يؤكد سيطرة الدين على ذهنية المسيحيين، من طريق تعاظم سلطة البابوات المستمدة من مبدأ إرادة المسيحي في الخضوع “لخليفة المسيح”. صحيح أن الكنيسة حاولت التوفيق بين السلطتَين الروحية والزمنية، إلا أنها لم تفلح في ذلك وعمَّ الشقاق نظامها، وكثرت الحركات الإصلاحية المسيحية، وفي لبنان خاب أمل الدولة الدينية المسيحية، ورفض المسيحيون فيه إقامة دولة دينية محمدية تحولهم إلى “أهل ذمة”، وإذا شاءت المسيحية الاستمرارية كما يرى سعادة، وأن تحقق ذاتها كونها ديانةً ذات أصولٍ ومبادئ روحانية، فما عليها إلا أن تفصل بين الروحانيات والزمنيات، لتتمكن من المحافظة على جوهر الدين وقدسيته.
أما في المحمدية فالدين غاية والدولة واسطة للدين، فرسالة النبي محمد كانت في رأي سعادة دينيةً لا سياسية أو اجتماعية أو فلسفية، أما الدولة فكانت تبعًا لذلك الشيء الثانوي القابل للزوال عندما تنتفي الحاجة إليه شأن كل واسطةٍ أدت الغرض من وجودها، والنص القرآني ذو وجهَين: واحد في الدين، وآخر في الدولة، لذا ينبغي أن تُدرس النصوص القرآنية من وجهتي الدين والدولة، فيُفهم الإسلام المحمدي على حقيقته، ومن ثم يُمنع جمود المحمدية وتحجرها، هذا هو التفكير السليم لفهم الرسالة المحمدية التي لا تحمل خطتَين متباينتَين، بل وحدة كامنة بين نوعي النص الإسلامي المحمدي، وتُفهم هذه الوحدة بالأسلوب التحليلي الاستقرائي الذي يدرس المسببات والنتائج والحوادث الجارية.
وعدَّ سعادة أن الأحداث التي واجهتها المحمدية منذ نشأتها حتَّمت قيام نظام دولة يجمع كلمة المؤمنين، وتطور هذا النظام وقويت شوكة الدولة، فبدأ الدين يتحرر تدريجيًا من الاضطهاد، وبدأت الدولة تُفاخر بدينها وبنظرتها إلى الحياة… “والحقيقة أن فاعلية الدولة كانت أقوى من فاعلية الدين نفسه، بل صارت آيات الدولة عند العرب في مقام الدين، ولم يقدروا أن يفهموه إلا بها.”61 وعملت الدولة الدينية المحمدية لمنع عبادة الأصنام لإقامة دين الله، والسير وفق وصاياه فغدا الدينُ أساسَ النظام السياسي، كما تأثر قيام الدولة بعامل البيئة، فنشأ ارتباط وثيق بين الدين والدولة في الإسلام المحمدي، لكن هذه الازدواجية في الرسالة المحمدية لم تُعالج بدراسةٍ وافيةٍ قادرةٍ على جمع الوجهتَين في إطارٍ وحدةٍ فكريةٍ روحيةٍ، الأمر الذي سَهل لأصحاب الأغراض السياسية استغلال الدين لمصالحهم الخاصة، ونعت سعادة هذه الفئة من الناس “بالأراخنة” الدبلوماسيين الذين شوهوا رسالة النبي، ومن ثم فالعرب المحمديون لم يعرفوا العلم، بل كانوا يعيشون من أعمال الغزو والسلب وينظمون الشعر، فجاء محمد يحثهم على طلب العلم، وأراد إقامة دولةٍ تُخضعهم للشرع وتضبط تصرفاتهم.
لكن التمازج الوثيق بين الدين والدولة سبب تأخر المحمدية قياسًا إلى الحضارة الغربية، فما كان نهوض الأمم المسيحية إلا بتخليها عن مبدأي “الجنسية الدينية” و “الدولة الدينية”، لتسير وفقًا لمبدأي “الجنسية الاجتماعية” و “الدولة القومية”، في حين لم ينعتق الإسلام المحمدي قط من ذهنيته المتحجرة المتمسكة بالدولة القائمة على الدين، لأن وجود الدولة واضح في نصوص القرآن، بخلاف ما هو عليه الأمر في الانجيل، إذًا الدين والدولة مترابطان… نعم، بيد أن الخطر الأكبر يتمثلُ في التعصب الديني الذي ينبغي معالجته بحكمة.
ج. فصل الدين عن الدولة
في حوارٍ مع وكالة الصحافة الفرنسية، سُئل سعادة في أي شكلٍ يتصور الأمة السورية المقبلة من الوجهة التأسيسية… فكانت إجابته: “جمهورية برلمانية ديمقراطية، مع ميلٍ إلى اليسار، وعَلمانية قبل كل شيء.”62
كان سعادة عَلمانيًا غير أنه لم يعتمد كلمة “عَلمانية” إلا في إجابته عن السؤال الآنف الذكر، كما في حديثه عن أهمية التعليم العَلماني، وفيما عدا ذلك فإنه كان يكتفي بعبارة “فصل الدين عن الدولة” (الواردة في المبدأ الأول، في المادة الثالثة من دستور الحزب) واضعًا نُصب عينيه تحقيق هذا الهدف، ولا شك في أن العقبة الأولى التي واجهته كانت في تشبث المؤسسات الدينية في أن تكون السيادة لها في الدولة التي تمزج الدين بالسياسة، فيكون حكمها في الواقع بالنيابة عن الله لا عن الشعب، وكل مؤسسةٍ دينيةٍ كانت تعتقد أنها تحمل رسالةً إلى الإنسان، فتنظر في احتياجاته الروحية والمادية، معتمدةً على الدين بوصفه وسيلةً لتنظيم الحياة المجتمعية وتوجيهها، وبالعودة إلى التاريخ رأى سعادة أن الدين بعدما كان في بداءاته ممتزجًا بالسحر والأوهام والخرافات، نشأت الأديان الإلهية واشتملت على شرائع خاصة بتوجيه الناس سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فقويت عندئذٍ شوكة السلطة الروحية، بيد أن الإنسان كان في تطورٍ مستمر فكان بديهيًا أن يصطدم تطوره مع هذه السلطة القابعة في الجمود، من هنا كان النزاع التاريخي بين الشعوب المسيحية وسلطة البابا، وبين الشعوب المحمدية وسلطة الخليفة، وكذلك بين الشعب والملك الذي كان يَدعي النيابة عن الله في تصريف أمور من يحكمهم.
وإذا ما تمسك السوريون المسيحيون بالجامعة الدينية، فهذا سيجعل منهم “مجموعًا ذا مصلحةٍ متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن، ويُعرض مصالحهم إلى الذوبان في مصالح الأقوام التي تربطهم بها رابطة الدين (مثل الفرنسيين والطليان وغيرهم)”63 وكذلك الحال عند السوريين المحمديين، لذا لا يمكن تأسيس دولة قومية بالمعنى الصحيح إلا بعيدًا عن الدين، فالمسيحية والمحمدية نجحتا في تكوين جامعتَين دينيتَين، وفشلتا في محاولاتهما إقامة جامعَتَين مدنيتَين، وذلك بسبب تضارب المصالح وتناقض الحقوق، الأمر الذي أفشل وحدة الارادة القومية، من هنا كان هدف سعادة من طريق كتاباته ومحاضراته بناء الوعي القومي على أسسٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ، تنفصل فيه الدولة عن المؤسسات الحزبية الطائفية، وتنعقد على انتماء سوري قومي غير خاضعٍ إلا لمبدأ التطور ولمقتضيات حاجات الأمة. وكان من البديهي أن يرفض رفضًا قاطعًا التوزيع الطوائفي في وظائف الدولة وفي الرئاسات الثلاث بعيدًا عن كفاءات الأفراد، لأنه توزيع يُسهل تحقيق المصالح النفعية الخاصة على حساب المنفعة العامة، وكذلك الأمر بخصوص الروحية الطائفية المسيطرة على أجواء المدارس والجامعات، والتي تؤدي إلى تغذية الفردية في نفوس الطلاب، إضافةً إلى أن التربية الدينية كانت الأكثر أذيةً كما رأى، لذا فقد أكد وجوب تغيير هذا الواقع باعتماد توجيهٍ تنويري قومي صحيح يكون هدفه إقامة نظام علمي منتج وفاعل، مشيرًا إلى أن التعصب الديني المسيحي لم يخف إلا بعد إنشاء مدارس عَلمانية، وإلى أن التعصب الديني المحمدي لا يزال للأسف ظاهرة بين محمديي سوريا، بسبب تأخر نشوء المدارس العَلمانية لديهم. على الثقافة إذًا أن تكون واحدة لجميع الطلاب، وألا تَخضع قدر المستطاع للتأثيرات البيئية أو المِلِّيَةِ أو العائلية.
ولا يتحقق كل هذا الانعتاق إلا في “الحزب السوري القومي الاجتماعي” ففيه بَطُلَ “أن نكون محمديين، مسيحيين، أو دروزًا، وصرنا سوريين قوميين اجتماعيين فقط، في كل ما يعني الاجتماع والسياسة.”64 وهذا ما وضع حدًا للعوائق التي تقف دون تحقيق العلمانية داخل الحزب وفي مضمون عقيدته، الأمر الذي جعل “فصل الدين عن الدولة” مسألةً فكريةً، بنى سعادة على أساسها معظم مبادئ حزبه، بعدما أيقن فاعليتها المُثلى لتحقيق الانتماء القومي كما ينبغي أن يكون.
د. مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي
“نحن لسنا حزبًا سياسيًا يخدم مصالح فئة معينة، بل حزب يعبر عن مصلحة الأمة، عن المصالح القومية كلها، ويسير لتحقيق المصالح القومية كلها…”65
بهذه العبارة، عَرف سعادة “بالحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي أسسه في لبنان سرًا عام 1932، ولم تكتشف السلطات المنتدبة وجوده إلا عام 1935. كان هو “زعيم” الحزب نظمه بطريقةٍ صارمة، وجعل تسلسله الإداري دقيقًا، كما ضَمنه عددًا من المبادئ: “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.”66، “القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.”67 ، “القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.”68 ،”الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخٍ طويل، يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.”69 ،”الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية…” 70، “الأمة السورية مجتمع واحد.”71 ،”تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها السياسي الثقافي القومي.”72 ، وكان المبدأ الأخير: “مصلحة سورية فوق كل مصلحة.”73
إضافةً إلى ذلك كان للحزب رموزًا أربعة تربط ربطًا وثيقًا بين السوريين القوميين الاجتماعيين وهي: “الحرية والواجب والنظام والقوة.”74 وعلى كل فردٍ منتمٍ إلى الحزب أن يكون غير طائفيٍ وغير إقطاعيٍ، ساعيًا في تأمين العدالة الاجتماعية والحريات المدنية.
نادى سعادة بسورية الكبرى، رافضًا الاعتراف بلبنان بوصفها دولةً مستقلةً، وواجه القومية اللبنانية والانتداب الفرنسي، وكذلك ميثاق عام 1943 الذي أراد وفق سعادة بناء دولةٍ لبنانية معزولة عن محيطها الطبيعي، كما رفض الوحدة العربية الشاملة، فجابهه المسيحيون المتمسكون بفكرة الوجود اللبناني المستقل، والمسلمون المؤمنون بالقومية العربية، كذلك رأى بعضهم في تركيبته وأسلوب عمله تشابهًا بينه وبين النازية والفاشستية.
ويمكن القول إن قضية الأمة السورية ما زالت موجودةً بالقوة، ولم تخرج إلى حيز الفعل كما ادعى سعادة، لأن الانقلاب الذي حاول القيام به باء بالفشل، ولم يستطع من خلفه في الحزب تحقيق ما هو أكثر في السياسة، وعلى رغم ذلك فالمناصرون كانوا منذ أيام سعادة وحتى اليوم، يعتقدون أن لا حزب يضاهي حزبهم من ناحية التنظيم ومخاطبة العقل والمنطق.
خامسًا: نظرة تقييمية في فكر سعادة
وُسمت العقيدة السورية القومية الاجتماعية بطابعٍ فلسفي وسياسي واجتماعي هدفه الأول “الأمة السورية”، وسبيله إلى ذلك الطرح العَلماني القائم على نظرةٍ خاصة إلى الدين، يرافقها نبذ للطائفية ولجميع محاولات الجمع بين الدين والدولة، وسيكون تقييمنا فكر سعادة مرتكزًا على هذه الموضوعات التي عرضنا لها في أبواب الدراسة.
- سعادة بين الايمان والالحاد
طرح سعادة فلسفته “المدرحية”، فتناول الله في تحليلاته مدافعًا عن حرية المعتقد، لكن لم ترضِ تلك الطروحات والتحليلات، وإن حاول إقرانها بحججٍ دفاعيةٍ علمية، فئةً كبيرة من المفكرين الذين عارضوه، إما لتمسكهم بالعصبية الدينية المتصلبة، وإما لعدم انفتاحهم على المنحى الموضوعي المتطور، وإما لقناعاتهم المتناقضة مع قناعات سعادة في الفكر الديني والاجتماعي والسياسي.
في ظل هذه الأجواء، وُجهت إلى سعادة اتهامات عدة، كان أبرزها تهمة الالحاد، في الواقع واستنادًا إلى علم النفس الملحدون نوعان: حقيقيون ووهميون، “يرفض الملحد الحقيقي حقيقة الله لأنه لا يقر بأي خيرٍ مطلق وكامل يخضع له الوجود الإنساني. لذا، فهو يهدم مبدأ الحياة الأخلاقية. أما الملحد الوهمي، الذي يتظاهر بالإلحاد وهو ليس ملحدًا، فيرفض “كاريكاتور” الله الذي يوحيه له اسم “الله”، ذلك أنه ينتمي، في عمق تفكيره وإرادته، إلى الإله الحقيقي الذي في إمكانه تسميته، فيقر بالخير المطلق والكامل الذي يخضع له الوجود الإنساني دون أن يسميه. إذًا، في استطاعة هذا الملحد الوهمي أن يتمتع بحياةٍ أخلاقيةٍ حقيقية.”75 في الحقيقة وبغض النظر عن ثنائية الحقيقة والوهم في الإلحاد كما عن ارتباط الإلحاد بحياة الفرد الأخلاقية، والجدلية الفلسفية التي تطرح هذه المسألة دومًا، سنحاول غربلة تَفَكُر سعادة المرتكز على العقلانية توصلًا إلى محاولة تحديد توجهه الإيماني.
عدَّ بعض المفكرين من ذوي الاتجاه الفكري المخالف لتوجهات سعادة أن “الحزب السوري القومي الاجتماعي” يمثلُ نوع العَلمانية المائلة إلى الالحاد، أو أقله العاملة لاستثارة الفتور الديني لدى الأفراد، كما أنهم رأوا أن المسلمين في الحزب أخذوا يشعرون مع مرور الزمن بخطر العَلمانية على معتقداتهم. شعر سعادة بحساسية المسألة، وحاول أن يحول دون ابتعاد المسلمين عن حزبه، فأكد “الوحدة الروحية” العميقة بين السوريين، واستنبط “نظريةً تفيد أن جميع السوريين ينتمون إلى دينٍ واحد هو الإسلام.”76 إذا سلمنا بهذا التحليل يكون سعادة اتخذ الدين في شكلٍ متعمد وحذق وسيلةً من أجل بلوغ أغراضه السياسية، ولو تعمقنا قليلًا في تحليلاته المتعلقة بالأديان لوجدنا نوعًا من الشك يسيطر على مجرى تفكيره، فقد قدم في قصةٍ تحت عنوان: “عيد سيدة صيدنايا” وصفًا لصورة السيدة العذراء فقد بدا ظاهر الكلام عاديًا، ولكنه أخفى شكًا ونوعًا من السخرية المستترة، فكتب: أخذ إبراهيم (بطل قصته) يطوف بالمكان (أي الدير) “ويدقق النظر في الأُطر المعلقة، حتى بلغ صورةً كبيرةً قائمةً في وسط الغرفة، مضاءةً أمامها شمعتان أكبر قليلًا من بقية الشموع، فلم يشك في أن الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أن يخرجنها من ذلك المكان المظلم، ويعرضن قداستها للنور وخطر الضياع.”77
من جهةٍ أخرى بدا التأثر الواضح لسعادة بداروين في نظرية التطور التي حلل جوهرها وفسره نشوءًا وارتقاءً، فقد راقب داروين “تحولات الأجناس الحيوانية، وتأكد أن في استطاعة تلك الأجناس أن تتطور في تحولاتها.”78 مضيفًا أن أصل الإنسان يمكن أن يكون قردًا، ومهما يكن من أمر النظريات المتعلقة بنشوء الإنسان في رأي سعادة، “وهل حدث ذلك ابتداءً من حالةٍ قرديةٍ كانت درجة من درجات ارتقائه، أم أن القرديةَ حالةٌ منحطةٌ تفرعت من حالة التطور إلى البشرية، فمما لا شك فيه أن الإنسان يقع من الوجهة الاحصائية، في جدول الحيوانات المتجمهرة أو المتجمعة، أو هي الأنواع الحيوانية التي يعيش أفرادها جماعات (مثل النحل والنمل والوعول والغزلان والذئاب والغنم وغيرها).”79 وإذا سلمنا جدلًا بالأصل الحيواني للإنسان بدا لنا إنسانًا ملحدًا، لأن الله لدى المؤمنين خلق الإنسان على صورته ومثاله، فمن اتهم سعادة بالإلحاد إذًا استند خصوصًا إلى كتابه “نشوء الأمم” لما تضمنه من تعابير علمية مخالفة لآيات الكتب المقدسة ولا سيما التوراة، بخصوص وجود الإنسان ونشوء النوع البشري.
غير أن سعادة على رغم استخدامه الدين وسيلةً أحيانًا وشكه في بعض أحواله، وعلى رغم نظرية التطور وما تحمله من احتمالاتٍ إلحادية… فهو لم ينكر في أي من كتاباته عالم الغيب أو ما وراء المادة، فقد كان مفكرًا عقلانيًا أدرك عجز العقل الإنساني عن فهم الأمور الغيبية، ودعا الإنسان بطريقة غير مباشرة إلى استخدام قوة العقل ضمن مجالي حياته المعرفية والعملية. وقد يكون سعادة مسلمًا بالحقائق العلمية ومحتفظًا في الوقت ذاته برأيٍ خاص ونظريةٍ خاصة في شأن تعليل مصدر الوجود ومصيره، وهذا ما عبر عنه في إحدى رسائله إلى الصحفي والسياسي والدبلوماسي اللبناني غسان تويني (1926-2012). ألم يُذكر في التوراة أن يشوع بن نون أوقف الشمس ومنعها من المغيب؟ هل في إمكان العقل الواعي أن يصدق ذلك الحدث؟!
إذًا هناك أحداث وأمور في حاجةٍ إلى تحليلٍ علمي صحيح، هذا ما حاول سعادة فعله، بيد أنه هُوجم ليس من المؤمنين بالمذهب الروحاني، بل من بعض الماديين، فكما نعته فخري معلوف الكاثوليكي بالكافر، كذلك تعرض له الكاتب والأديب اللبناني الشيوعي الدكتور جورج حنا (1891-1959)، فهاجمه في كتابه: “ضجة في صف الفلسفة”، وعدهُ مرةً ميتافيزيقيًا ومرةً نصف ميتافيزيقي وقال إنه عمد إلى خلق فلسفةٍ جديدة لا يموت فيها الذئب ولا يفنى الغنم، واصفًا محاولته هذه “كَمَن يمزج الزيت بالماء، وهما مادتان غير قابلَتَين للدمج.”80
لكن الاختلاف بين سعادة من جهة وأصحاب التوجه الروحاني والمادي من جهةٍ أخرى، سببه أنه كان ينطلق في نظرياته من قضية “المجتمع”، في حين كان الآخرون يعتمدون الفردَ أساسًا، ليست المسألة إذًا مسألة كفرٍ وإلحادٍ، ومن غير المنطقي أن يكون ملحدًا مَن خلط مبدأي المادة والروح (المدرحية) في إطارٍ واحد، توصلًا إلى مساعدة الإنسان على فهم ذاته ومجتمعه. أما الذين اتهموه بالإلحاد مستندين إلى مفهومه العَلماني، فقد أخطأوا لأن العَلمانية لا تعني الإلحاد، فضلًا عن أن التيار العَلماني لا يتعارض مع الأديان إذا فُهم على حقيقته، بل هو يميز بين الدين والسياسة ومؤسساتهما.
لم يكن سعادة ملحدًا حقيقيًا ولا وهميًا، بل كان مفكرًا علميًا عَلمانيًا. ****
- النظر في رؤيته إلى الدين
إن البيئة الاجتماعية الطبيعية وإن كانت كما قال سعادة المنشأ الحقيقي الأول لنظرة الإنسان إلى الحياة والكون، فهي تقع في رأينا تحت تأثيرٍ مباشرٍ أو غير مباشر للجذور الدينية المكونة بعض أسس تلك البيئة، ولا يمكن تاليًا الفصل في سهولةٍ بين الدين والبيئة كما فعل ومن جهةٍ أخرى، لا تُعدُّ الاختلافات الدينية جدلًا عقيمًا كما أن التأويلات المتعلقة بها ليست محصورةً في رجال الدين، بل في أبناء المجتمع الواجب عليهم فهم نفسية مجتمعهم والعمل لإسعاده كما رأى، ولكن ليس بترك الاختلافات الدينية لله، بل بالعمل لإزالة الخلافات الناجمة عنها بقدرة الإرادة الإنسانية. ونأخذ على سعادة أيضًا مساواته بين “المراجع الدينية” و “السلطة الاقطاعية” و “نظام العشيرة”. فالدين جوهر سامٍ ومن الخطأ وضعه في كفةٍ واحدة مع ما يحمله كل من نظامي الاقطاع والعشيرة من مساوئ، لكننا من جهةٍ ثانية نؤيده في بعض أقواله، لا سيما ما يهدف منها إلى توعية الشعوب، فاعتراضه على استغلال الدين أمرٌ ضروري بعد طغيان المصالح الخاصة على كل ما هو جوهري، وكذلك رفضه فرضُ الدين بالقوة هو رفضٌ واقعي، خصوصًا بعد ما شهدهُ التاريخان الغربي والشرقي من حروبٍ كان هدفها الأساسي إخضاع الناس لسلطة الدين، دون مراعاة معتقداتهم وتوجهاتهم في كثيرٍ من الأحيان. ونسلم كذلك معه بمعارضة التدين الأعمى الذي يتجسد أول أخطاره في إبطال قدرة العقل الإنساني على الانسياب الطبيعي مع عالم التطور والاكتشافات.
أما فيما يتعلق بموضوع تطويع الدين لمصلحة الأمة والقومية والمجتمع، فنلاحظ بعض التعارض في كلامه، فبعدما أكد “لا قومية” الدين ومنافاته القومية الصحيحة، عاد فأعطى أمثلةً حية في شأن تطويع الدين لمصلحة القومية في بعض المجتمعات، ثم تحدث عن التقاليد الدينية القومية في المجتمع الروسي وعن تبني العقائد التي تكون في غالبيتها دينيةً، من أجل الحفاظ على الشخصية القومية لشعبٍ من الشعوب… وكيف يكون الدين “لا قوميًا”، كما ذكر في الجزء السادس من مجموعة مؤلفاته، بعدما كان في خدمة “الشعوب وإنقاذ مطالبها العليا من التلف وإنعاش معنوياتها”81 كما ورد في الجزء الأول؟ كيف يكون الدين “لا قوميًا” وهو الذي “أعاد الأمل والايمان إلى الشعب اليهودي وأخرجه من عبودية مصر إلى الحرية؟”82 كيف يكون “لا قوميًا” وهو الذي جعل الشعب السوري وفق قوله “يتمسك بمبادئ السلام مع الحرية ويقوم بخدماتٍ كبيرةٍ للاإنسانية؟”83 هل يُعقل أن يكون “لا قوميًا” ذلك الدين الذي استفز الشعب العربي لنفض “غبار الخمول وإنشاء ذلك المجد الباذخ على الكيفية المدونة في التاريخ؟”84 وإذا كان الدين في أصله غير قومي، فمعنى ذلك أنه تطوع لاحقًا لمصلحة القومية، أي أنه خضع لتطورٍ مهم وجذري، فهل استحال الدين تطوريًا بعدما كونَ عقبةً في وجه التقدم، كم رأينا في تحديده له؟ ثم كيف اعترف بعد ذلك بتطويع الدين لمصلحة القومية بهذه السهولة، بعد فصله الجلي بين “أهل الدين” من جهة، و “أهل الحياة والاجتماع” من جهةٍ أخرى؟ نستنتج أخيرًا بعد تساؤلاتنا الموجهة إلى سعادة أن الدين إذا ما أُدرك في عمقه وعولجت مسائله في جديةٍ وتفهم، فإنه يساعد في إنجاح المنحى القومي في بعض أحوال الأمم والمجتمعات.
وفي مسألة أخطار الدولة التيوقراطية والجنسية الدينية وإيجابيات الجنسية القومية، تنكشف أمامنا نقاط تساؤلية عدة، قال سعادة إن مبادئ (الأفغاني وعبده) لم تنجح في الواقع، لأن “الروابط الجغرافية والسلالية والاجتماعية والاقتصادية” هي التي جمعت بين البشر، ولم يتمكن الدين من تحقيق هذه الروابط، لكنه أغفل في هذا المجال نقطةً مهمةً جدًا، وهي تجذر الدين في نفوس الشعوب وبخاصة الشعوب الشرقية، فحتى إن لم يجتمع التركي والعربي، فإنه يبقى بينهما رابط مشترك قوي هو الدين، وتظهر قوة هذا الرابط إذا ما تعرض للتركي مثلًا شخصٌ مسيحيٌ… عندئذٍ تستفيقُ النزعة الإسلامية لدى العرب، فينظرون إلى التركي نظرة محمدي إلى محمدي (على رغم النظام العَلماني القائم في تركيا)، وهذا يدل على أن كتابات (الأفغاني وعبده) وأفكارهما لقيَت آذانًا كثيرة مصغية في المجتمعات المحمدية، ولم تذهب صيحاتهما أدراج الرياح كما زعم سعادة، وسواء كنا مع دعوات المفكرَين أو ضدها، يجب علينا الاعتراف بالتأثير المهم الذي أحدثاه في مجرى الحياة السياسية والدينية لشعوب المنطقة.
من جهةٍ أخرى، لو تعمقنا في موضوع تشديد سعادة في ما خص قضية الجنسية القومية، لوجدنا أنه كان على صواب نظريًا، أي بدرجةٍ جزئيةٍ فقط، (ونقول “نظريًا” لأننا مع إقرار العَلمانية، ومع الاعتراف في الوقت ذاته وللأسف بصعوبة تحقيقها)، فالتحرر من الشعور الديني الكامن بقوة داخل نفوس الشرقيين أمرًا صعبًا للغاية، فالقومي المحمدي (وإن كنا مع سعادة نتحدث عن قوميةٍ سورية)، وإن حاول تغليب قوميته على محمديته، فإنه يستمر محمديًا تابعًا لأصول مذهبه وعاملًا بمقتضاه، وكذلك الأمر عند القومي المسيحي. في هذا المجال، أكد المفكر والباحث اللبناني/الإنكليزي ألبرت حوراني (1915-1993)، الذي كان متخصصًا في تاريخ العرب والشرق الأوسط، على صلابة الجذور الدينية الإسلامية عند العرب، انطلاقًا من كون النبي عربيًا ومن أن دعوته الأولى كانت موجهة إلى العرب ومن أن اللغة العربية “بقيت لغة العبادة والفقه والشرع.”85
لكن في المقابل كان سعادة محقًا في اعتقاده أن الدولة ذات النظام التيوقراطي تحرم مواطنيها من “حرية العمل”، لأن العمل يتقيد بأصول الدين فيها، ما يؤدي إلى عجزٍ لديهم عن الخلق والتطور والانفتاح على أي أفُقٍ تنويري، كذلك هي تحرمهم من شعورهم “بسيادتهم” كونهم بشرًا ومن “إرادتهم الذاتية”، إذ تُغَلِّبُ في نفوسهم الميول الدينية على المقتضيات الإنسانية.
وفيما خص التعصب الديني الذي رفضه سعادة، كما ينبغي أن يرفضه كل متعقل في السياسة والفكر، فكان مصيبًا في تنبيهه من الأزمات والويلات التي قد يجرها هذا التعصب، وكان حازمًا في رده على قرار المحمديين بخصوص إنشاء حي محمدي في المغترب، وواعيًا لما سوف يُفضي إليه هذا القرار من انقسامات وشرذمات. إلا أن هجومه العنيف على المدارس الأجنبية يدل على أنه لم يوازن بين سلبيات هذه المدارس وإيجابياتها، فقال إنها جعلت الشبان السوريين يتنكرون لسوريتهم، وأهمل ما حملته الإرساليات الأجنبية من انفتاحٍ حضاري وتقدم علمي وثقافي لطلاب الشرق عمومًا ولبنان خصوصًا. صحيح أن بعض الغرب حاول التلاعب بالشعور الديني الشرقي، غير أنه لا يمكن تعميم الاتهامات القائلة بالخضوع للسياسة الاستعمارية للبلاد.
وسنتطرق أخيرًا في معرض تقييمنا لموضوع الدين في فكر سعادة، إلى الحملات التي قامت بينه وبين “الشاعر القروي”، بادئين بالتأكيد على أن الفارق كان واضحًا بين الأول المؤمن “حتى الموت” بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية، والآخر المنتمي إلى خط العروبة. وقد قال رشيد سليم الخوري في هذا المجال: “زارني الزعيم ذات يوم، وأمضى عندي 17 ساعة متواصلة، يشرح لي في أثنائها مبادئ الحزب، فخرج من عندي غاضبًا، وبدأ حملته علي تحت تأثير “جنون الخلود”. وأنني واجهت كثير من الحملات ضدي لأنني دائمًا كنتُ أنشد الحرية وأقوم ضد الاستعمار، فيما بلادي كانت تحت نير الاستعمار.”86 فالخوري كان عربيًا مفاخرًا باللغة العربية الأصيلة، وكانت العروبة في نظره روح الأمة العربية وملتقى ما تعدد فيها من أقاليم ولهجات، وكانت تحمل المعاني التي تعمر بها القلوب، فلم تكن تناقض الاشتراكية أو تسترسل في المادية، بل كانت وحدةً في ذاتها، ودعوة للحفاظ على هذه الوحدة. لكنه حاول تلطيف نزعته العروبية بادعائه الدفاع عن سوريته ضمن العروبة، فكتب: “إنني لأفاخر بسوريتي وأعتز، ولي في حب سورية وإعظامها ومناقشة أعدائها موقف خطابية وميادين كتابية وأجواء شعرية، لا يستطيع أحد إنكارها… فإذا أنا ناديتُ بالعروبة، فلا يعني ذلك أني نسيتُ سورية، بل هو دليلٌ على أني أحبها حبًا مقرونًا بالحكمة، بعيدًا عن الخوف، لأن العروبة مبدأ يجمع حول سورية قلوب العرب أجمعين.”87 لكننا نعتقد أن كلامه المتمظهر بنفحةٍ أدبيةٍ، كان نوعًا من التبرير المنمق لعدم انضمامه إلى صفوف حزب سعادة. إلى ذلك كان لاتهام سعادة الخوري بتفضيل المحمدية على المسيحية مبرراته، لا سيما أنه قال: “أيها المسلمون! يولد النبي على ألسنتكم كل عام، ويموت في قلوبكم كل يوم، ولو ولد في أرواحكم لولدتم معه، ولكان كل منكم محمدًا صغيرًا، ولكان الخلق منذ ألف سنة مسلمين.”88 إلا أن الخوري تحامل على الإنجيل في المقابل واصفًا إياه بالكتاب الروحاني الذي يُعنى بالآخرة فحسب، ويدعو إلى الزهد وقهر الجسد والدروشة، ويحبس العقل “في قفصٍ من غرابة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون، ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح. فلا مجد عنده إلا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بها هو…”89
بعد هذا المديح المتزلف للمحمدية والسخرية القاسية من المسيحية، وجد سعادة نفسه عادلًا في اتهامه الخوري بإثارة التعصب الديني، وباستغلال الدين في أشعاره خدمةً مباشرة لمصلحته الخاصة ولتبييض صورته أمام العامة. ولعل أبرز دليلٍ على ذلك جاء في رده على الكاتب وديع ديب بعد صدور كتابه “الشعر العربي في المهجر الأميركي” فقد تعجب الخوري كيف خطر على بال ديب أنه اقتبس أفكاره من الفيلسوف الألماني نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900) أو سواه من الغربيين، “وعندنا المعلم الذي صاح في وجوه فريسيي زمانه: “يا أولاد الأفاعي”، وأخوه الذي هتف بعده بستة قرونٍ: قل الحق وإن كان مرًا. إننا عن هذين المعلمَين الأكبَرَين أخذنا…”90
- الطائفية
عارض سعادة النظام الطائفي داعيًا إلى إزالة أي حاجزٍ تتعثر بسببه أي طائفة في علاقاتها مع سائر الطوائف. لكن هذه الدعوة تستمر نظريةً طالما أنها تتصادم دومًا مع واقعٍ طائفي محض، وطالما أن الحواجز بين الطوائف ليست ذات وجهٍ ديني، بل هي تتعداه إلى فوارق ثقافية واجتماعية واقتصادية… الأمر الذي يُحتم العمل لتقريب وجهات النظر بين الطوائف بوصفه مرحلةً أولى، ثم السعي في إقامة توازن بينها بوصفه مرحلةٍ ثانية.
لا شك في أن غالبية أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي أعطوا الأولوية لقوميتهم وليس لانتماءاتهم الطائفية، وهذا أمرٌ يُشهد لهم به، وقد فعلوا ذلك عن قناعةٍ ذاتيةٍ استمدت مقوماتها من كون “زعيمهم” لا طائفيًا.
لكن توصيف سعادة فكرة “لبنان” بالمبهَمَة داخل الأحزاب الطائفية كان ذا هدفَين: الأول تأكيد إنكاره المطلق للبنان الوطن بجغرافيته وبرقي حضارته الخاصة (على رغم ورود اسم “لبنان” أكثر من سبعين مرة في التوراة من جهة، واعتقاد الكثير من اللبنانيين بأصولهم الفينيقية من جهةٍ أخرى)، والآخر تفعيل الفكرة السورية في أذهان المنتسبين إلى حزبه وغير المنتسبين بعد. في هذا السياق اتهم سعادة كل من عارض مشروع “الهلال السوري الخصيب” بالطائفي، كما فعل في انتقاده الأديب والمؤرخ اللبناني يوسف السودا (1891-1969) الذي دعا إلى القومية اللبنانية وإلى لبننة المؤسسات القائمة في لبنان، ملتزمًا الخط الفكري العَلماني. كان لبنان وفق رؤية السودا مركزًا لالتقاء الشعوب المنتفضة على الظلم والمتعطشة إلى الحرية، “فكَم من الفِرَق والشِيَع المسيحية والإسلامية المضطهدة وجدت فيه مقرها الآمن، وكم من ناسكٍ نصراني أو ولي مسلم… وجد في مغاوره وكهوفه ملاذًا. وهذا ما يفسر تمازج الشعوب فيه وانصهارها، على الزمن، في بوتقة الولاء للأرض الرحوم.”91 فهل هذا كلامٌ طائفي؟ بالطبع لا، خصوصًا أن السودا دافع بقوةٍ عن مساواة اللبنانيين جميعهم أمام القانون، وإلى تنظيم الشباب اللبناني بعيدًا عن أي توجهات طائفيةٍ أو إقليمية، ومع أن السودا التزم بخط فكري عَلماني، إلا أن سعادة لم يرتدع عن مهاجمته، لا سيما في شأن مفاخرته بالتراث الفينيقي وبحضارة جبيل وصيدا وصور ورأس شمرا وبيروت وطرابلس، ولأنه كان يعتقد أن تاريخ لبنان هو تاريخ فينيقيا ذاته، إضافةً إلى ذلك أخطأ سعادة في نقده اللاذع للشاعر إيليا أبي ماضي واتهامه بالتزلف إلى الأغنياء وبالتحريض على الطائفية، وأبو ماضي كان صاحب “وطن النجوم”، تلك القصيدة الوطنية البعيدة عن أي تصنع، والغارقة بحب جمال الوطن اللبناني، وصاحب “الطلاسم” والاعتقاد باللاأدرية التي ما زالت تحفر عميقًا في الفكر الفلسفي إلى اليوم.
أما إذا استثنينا مخطط القومية السورية لإسقاط القومية اللبنانية، فإننا نجد معارضة سعادة للطائفية أمرًا ضروريًا، لا سيما بعدما تعمق النزوع الطائفي في النفوس وطرق التعامل المجتمعية. وهنا نؤيده في نقده العقليات المتحجرة والمفاسد الروحية والسياسية والاجتماعية، وخطر الذهنية الطائفية على صدقية الكلمة. إلا أنه لم يكتفِ بالرد على الصحافة الإكليريكية الطائفية، وإنما تعداها إلى هجومٍ شرسٍ على الصحافة الناطقة بلسان القومية العربية، والتي رأى فيها أيضًا منحىً طائفيًا، وفي الحقيقة هذه الصحافة هاجمته تحديدًا لأنها وجدت في كتاباته ومقالاته صورة الثائر على كل مبدأ يعارض مبادئ حزبه، وكل أيديولوجيا لا تتوافق مع أيديولوجية الحزب. وقد هاجم سعادة القومية العربية “الطائفية” لأنها اتخذت من بناء الدولة التيوقراطية هدفًا، ومن إثارة التعصب الديني سلاحًا. طبعًا ومع تشديدنا على خطورة النظام التيوقراطي أينما طُبق في العالم، العربي أو غير العربي، لا بد من الاشارة إلى أن الرابطة الدينية التي جمعت وتجمع تحت لوائها الشعوب العربية، ليست وليدة فترة زمنية محدودة، لذا فمن الصعب “تبديدها” بسهولةٍ كما أراد سعادة.
طبعًا كلنا ضد الطائفية… هذا واجبٌ وطني! لكن سعادة أراد من الكل أن يكون سوريًا قوميًا… وهذه دكتاتورية موصوفة!
- فصل الدين عن الدولة
الدين جوهرٌ مقدس، علوي الأبعاد، عميق الأهداف، أما السياسة فهي مظهرٌ تتستر خلف أقنعته مرامي الإنسان المادية ومصالحه الذاتية. انطلاقًا من هذا الواقع التبايني بين الاثنَين، عدَّ سعادة تدخل رجل الدين في العمل السياسي أمرًا خطيرًا كونه سوف يؤدي حتمًا إلى إفساد الدين بالابتعاد عن جوهره، وإلى الفشل السياسي لخروج رجل الدين عن حدود عالمه، وقد ضَمن هذا الرفض ضمن بندٍ من بنود حزبه. وإذا كان رحب بانضمام الأب بولس مسعد إلى صفوف الحزب، بوصفه مواطنًا وليس راهبًا وفق ما قال.
ونقرُّ في مسألة الفصل بين الدين والدولة أن سعادة كان على صواب، لأن الجوهر الديني موسومٌ بالصدقية فيما الواقع السياسي يوقع في المفاسد، فالنقد الذي وجهه سعادة إلى البطريرك عريضة كان مبنيًا على واقعة مطالبة هذا الأخير بإنشاء وطنٍ قومي للمسيحيين في لبنان، وهذا المطلب طائفي بامتياز بخاصةٍ أنه ترافق مع فكرة إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، (علمًا أن الدوافع وراء المطلبَين وظروفهما مختلفة حتمًا)، ونحن نعتقد أن من حق رجل الدين، بل من واجبه بوصفه فردًا مشاركًا في المجتمع، أن يحاول هداية الشعب نحو الطريق الحق، لا سيما في زمن الأزمات السياسية، لكن بشرط ألا تتعدى تلك الهداية حدودها، فلا يمكن لرجل الدين أن يحكم سياسيًا، وإلًا حول الدين إلى سلاحٍ فأفقده جوهره.
ثم إن المغالطة الكبرى التي وقع فيها سعادة كانت تأكيده انتماء المسيح السوري وليس اليهودي، في حين أن الآيات الإنجيلية تُشير في وضوح إلى أن المسيح كان يهوديًا، “فأعميا أريحا” قالا ليسوع: “يا سيد، يا ابن داود، إرحمنا”92 ورددا هذه العبارة مرتَين، وعلى طريق الجلجثة، وضع اليهود فوق رأس يسوع “علة الحكم عليه، مكتوبة هكذا: “هذا يسوع ملك اليهود.”93 وعندما قال اليهود لبولس: “لم يبلغنا من اليهودية كتب في أمرك، ولا قَدِم أحد من الاخوة يخبرنا…”94 أخذ بولس يشرح لهم ملكوت الله ويشهد به، ساعيًا في إقناعهم بشأن يسوع من ناموس موسى ومن الأنبياء، وذلك من الصباح حتى المساء.”95 كان المسيح يهوديًا من سبط داود، لكن فكرة “السورية القومية” دفعت سعادة إلى القول “بسورية” المسيح، وكأنه أراد بذلك إزالة تهمة اليهودية عنه، تلك اليهودية شبه المتمدنة في رأيه، والتي لم تستطع “أن تعمر طويلًا في سورية لأنها كانت دون استعداد البيئة الروحي.”96 وكذلك فعل بخصوص النبي محمد الذي عدَّهُ سوريًا وليس عربيًا. ويأتي الرد الأمثل عليه بعودتنا إلى ما قاله الأديب والمفكر والمؤرخ المصري أحمد أمين (1886-1954) في كتابه “فجر الإسلام” عن أن مكة كانت “منبع الإسلام، وبها كانت نشأة محمد… وبها كانت الأحداث الأولى من دعوة قريش إلى الإسلام ومناهضتهم الدعوة، وبها كان التشريع المكي… وأما المدينة، فمهاجر النبي… وبها كان أكثر التشريع الإسلامي، وكانت منبعًا لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام…”97
ولا بد هنا من الإشارة وضمن مقارنةٍ فلسفية إلى التعارض الواضح بين سعادة والفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1917-1976)، الذي رفض فصل الدين عن الدولة ومن ثم العَلمانية، ملتزمًا القومية اللبنانية في مقابل القومية السورية، و “النصلامية” في مقابل “المدرحية”، ووجوب لعب رجل الدين دوره كاملًا في السياسة، في تعارض جلي وحازم مع تفكر سعادة أن بكركي هي “صخرة الخلاص”.
فقد ميز الحاج بين فئتيْن تطالبان بالعَلمانية في لبنان: فئةٌ جاهلة، وأخرى متجاهلة. الأولى ترمي إلى محاكاة الغرب غير مدركةٍ أن العلمنة تفضي بنا إلى دولة ملحدة وتعرض الوطن للخطر دون وعيٍ منها، أما الأخرى فمتآمرة وبوعيٍ تام منها على لبنان، وهي ترى في التسرب إلى المراكز العليا في الحكم تحقيقًا لمآربها، فتهدم بذلك كل ما هو لبناني، وبين الجهل والتجاهل والتآمر… نقد لاذع لسعادة.
وكان اختيار الحاج القومية اللبنانية عقيدةً له وليد قناعة عميقة منعقدة على المنطق السياسي-الاجتماعي وعلى تفكره الفلسفي في واقع السياسة اللبنانية، فالقومية اللبنانية كما رآها موجودة بالفعل وبالقانون وتعود بجذورها التاريخية إلى مئات السنين، وفي المقابل فقد عارض بشدة القوميات العربية والسورية الاجتماعية والصهيونية، على الرغم من إقراره بصعوبة القضاء على أسسها لأن القومية عقيدة والعقيدة تصعب إزالتها، لكن تجدر الاشارة إلى أن رفضه القومية العربية لم يمنعه من الاعتراف بعروبة لبنان، إنما في مستوى الجوهر اللغوي فقط، فلبنان بلد عربي لبنانيًا عروبته ضرورة لبنانية كما لبنانيته ضرورة عربية، ولو لم يكن لبنان عربيًا لكان يجب أن يكون، ولو لم يكن موجودًا في البلاد العربية لكان يجب أن يوجد لكن بكِيانه اللبناني. وفي حين عارض كل قوميةٍ عنصريةٍ قائمة على الأنانية، فقد رحب بالقومية الإنسانية المرتكزة على الغيرية، وتحتاج القومية حكمًا إلى الوحدة السياسية التي لا يمكن إلا للدولة أن تكون التعبير الأكمل عنها.
ولذلك في لبنان يجتمع الإنجيل والقرآن ويتلاقى الكاهن والشيخ في تجسيدٍ عالي الصدقية لجوهر الدين، والتعايش بين النصرانية والإسلام حتمي… من هنا أطلق الحاج مصطلح “النصلامية” على دين القومية اللبنانية، وذلك لسببيْن: “السبب الأول أن القومية اللبنانية مزيج عضوي من الدينَين معًا، فلا هي نصرانية مئة بالمئة، ولا هي إسلامية مئة بالمئة. إنها الاثنتان في وقتٍ واحد… السبب الآخر أن تكاتفهما ضروري من أجل الصمود في وجه عدوهما المشترك… أعني الصهيونية.”98
ويجب على المسيحي أن يدرك أن حياته مع المسلم نعمة وأنه مسوق إلى التعايش معه بحكم التاريخ واللغة والأرض، داعيًا إياه إلى التبصر في الحضارة الإسلامية العريقة، وفي الطابع الإثني الخاص بلبنان الذي يُسهل مهمة التلاقي. وتحدث أخيرًا عما سماه “الواقعية الروحانية” التي تميز وطننا، تلك الواقعية التي كما شدت المسيح إلى لبنان فقد شدت الفقيه اللبناني عبد الرحمن الأوزاعي (700-774 م.) إليه أيضًا بعدما كثرت الأحداث وانفصلت للأسف عُرى الأخوة بين الناس. وكل ذلك ينبغي أن يتم في رأيه وبخلاف “عَلمانية” سعادة، ضمن نظامٍ طائفي تكون الطائفية مرتبطة بطقوس الطوائف اللبنانية كافة، وهي ظاهرةً حضارية لأنها جمعت اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم، ولأن الله خصَّ لبنان بقوة التوفيق بين النصرانية والإسلام، فهذا ما جعل الطائفية المُبرر الأول لوجود لبنان.
وفي رأينا أن لبنان لن يكون له وجودٌ حقيقي وفاعل إلا ضمن حدوده الجغرافية الحالية، ومع اعتماد نظامٍ عَلماني يحرره من لوثة النظام الطائفي المعتمد، ومن كل ما أدى إليه من أزماتٍ وحروبٍ ما تزال تتوالد وتتفاقم إلى اليوم.
خاتمة
كيف يمكن توصيف أنطون سعادة بعد عملية العرض والتحليل والتقييم التي حاولنا القيام بها لغالبية مؤلفاته ومحاضراته؟ لقد سعينا في الحقيقة من طريق ما كتب في استنباط أسس تفكره في الفلسفة السياسية-الاجتماعية الرامية إلى تكوين الركائز التي انعقدت عليها شخصيةٌ حملت لقب “الزعيم”، والمفكر، والثائر، والرافض أن يتنازل عن أي من مبادئه أو أن يستسلم إلا “بالإعدام”.
في رأينا أن الأمة السورية المُمثلة “في الهلال الخصيب” كانت فكرةً أوطوبيةً في شرقٍ تتنازعه أزماتٌ لا نهاية لها، وصراعات وحروب مصحوبة بمجازر ضد الإنسان والإنسانية نعيشها كل يوم، لا سيما في كل من لبنان وفلسطين.
ما يمكن أن نحتفظ به من عقيدة سعادة هو في الواقع مسألتان: الأولى اعتماده العلمية والعقلانية والموضوعية في بناء أفكاره، والأخرى دفاعه عن فصل الدين عن الدولة الذي نعدُّه الخلاص الوحيد لكل دولةٍ (وأولها لبنان)، تريد أن تتحضر بعيدًا عن آفات التدين الأعمى ونشوء الأصوليات واستفحال الروح الطائفية. والمسألتان تفتحان الطريق لفكرٍ تنويري متجدد، يحترم الإنسان وحريته أولًا، لتنساب بعدها القضايا الأخرى تباعًا، وتُحل الاشكاليات المتأتية عنها وبخاصة المتعلقة منها بالدولة والقانون.
“ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟”99 سأل سعادة، مهما كانت الإجابة فالقومية السورية لم ولن تكون هي الحل. وفي نظرةٍ معمقة إلى الخريطة الجيوسياسية العربية اليوم، وإلى الصراع الدامي المتواصل مع الجشع الاسرائيلي غير الإنساني… نجدنا تخطينا زمن القوميات على اختلافها، لنكون للأسف في مهب مصالح دولٍ كبرى تتلاعب في غيابٍ كاملٍ بالضمير وبمصائر شعوبنا!
المراجع والهوامش:
[1] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة (1898-1939)، دار النهار للنشر، الطبعة الرابعة، بيروت، 1986، ص. 378.
[2] منير البعلبكي، معجم أعلام المورد، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت، 1992، ص. 237.
[3] ناصيف نصار، طريق الاستقلال الفلسفي، سبيل الفكر العربي إلى الحرية والابداع، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان، 1988، ص. 79-80.
[4] جورج متري عبد المسيح، مدخل إلى الفلسفة السورية القومية الاجتماعية، ص. 14.
*كتاب “نشوء الأمم”: قال سعادة: “يعود الفضل في إنجازنا تأليف هذا الكتاب إلى التسهيلات العملية التي قدمها لي في السجن المعاون الصحي الأدجوان كمال الزاهد، بتقديرٍ منه، وإلى العناية التي أحاطني بها أصدقائي ورفقائي في الحزب السوري القومي، السادة نعمة ثابت، فخري معلوف، زكي النقاش، جورج حكيم، إذ سهلوا لي الحصول على المستندات واللوازم للعمل. وإن قراء (نشوء الأمم) مدينون بطبع هذا الكتاب وجعله في متناول أيديهم، للأديب القومي أسد الأشقر…” (أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الخامس: نشوء الأمم (1938)، ص. 10.)
[5] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الخامس: نشوء الأمم (1938)، مرجع مذكور، ص. 22.
[6] المرجع نفسه، ص. 24.
[7] المرجع نفسه.
[8] المرجع نفسه، ص. 36.
[9] المرجع نفسه، ص. 51-52.
[10] المرجع نفسه، ص. 54.
[11] المرجع نفسه، ص. 45.
[12] المرجع نفسه، ص. 77.
[13] المرجع نفسه، ص. 82.
[14] المرجع نفسه، ص. 165.
[15] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الأول: ما قبل التأسيس (1921-1932)، المشرق، الطبعة الثانية، بيروت، 1982، ص. 29.
[16] أنطون سعادة، المحاضرات العشر (1948)، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، سلسلة النظام الجديد (2)، ص. 67.
[17] المرجع نفسه، ص. 135.
[18] المرجع نفسه، ص. 130.
[19] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الثالث عشر: في مغتربه القسري (1946)، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1984، ص. 281-282.
[20] المرجع نفسه، ص. 283.
[21] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، الطبعة الرابعة، بيروت، 1980، ص. 178.
[22] المرجع نفسه.
[23] المرجع نفسه، ص. 178-179.
[24] أنطون سعادة، أعداء العرب أعداء لبنان، ص. 194.
[25] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 242.
[26] المرجع نفسه، ص. 175-176.
[27] المرجع نفسه، ص. 176.
[28] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الخامس: نشوء الأمم (1938)، مرجع مذكور، ص. 162.
[29] المرجع نفسه، الجزء السابع: في مغتربه القسري (1940)، ص. 53.
[30] أنطون سعادة، المحاضرات العشر، مرجع مذكور، ص. 129.
[31] المرجع نفسه، ص. 38.
[32] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء السادس: في مغتربه القسري (1939)، الطبعة الأولى، 1983، ص. 71.
[33] المرجع نفسه، الجزء الخامس: نشوء الأمم (1938)، مرجع مذكور، ص. 162.
[34] أنطون سعادة، المحاضرات العشر، مرجع مذكور، ص. 183.
[35] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 112.
[36] المرجع نفسه، ص. 211.
**“العروة الوثقى”: مجلة أسسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. “خصصت معظم صفحاتها لتحليل سياسة الدول الكبرى في العالم الإسلامي، وبنوعٍ خاص سياسة إنكلترا في مصر والسودان. كما عالجت موضوع ضعف الإسلام الداخلي، وحثت المسلمين على التنبه له ومداواته. كانت لغة المجلة لغة محمد عبده، أما التفكير فيها فكان تفكير الأفغاني. وهكذا أصبحت، بفضل لغتها وفكرها معًا، من أشد المجلات العربية تأثيرًا. وقد عم انتشارها بالرغم من خطر دخولها إلى البلدان العربية الواقعة تحت النفوذ البريطاني.” (ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939)، مرجع مذكور، ص. 139.)
[37] المرجع نفسه، ص. 114.
[38] المرجع نفسه، ص. 241.
[39] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الثاني عشر: في مغتربه القسري (1944-1945)، ص. 13.
[40] المرجع نفسه، الجزء العاشر: في مغتربه القسري (1942)، ص. 115.
[41] المرجع نفسه، الجزء الثالث عشر: في مغتربه القسري (1946)، مرجع مذكور، ص. 283.
[42] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 242.
[43] أنطون سعادة، المحاضرات العشر، مرجع مذكور، ص. 134.
[44] أنطون سعادة، مختارات في المسألة الفلسطينية، دار فكر للأبحاث والنشر، الطبعة الخامسة، بيروت، 1991، ص. 139.
[45] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الثالث عشر: في مغتربه القسري (1946)، مرجع مذكور، ص. 16-17.
[46] المرجع نفسه، الجزء الحادي عشر: في مغتربه القسري (1942-1943)، ص. 61.
[47] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 236.
[48] أنطون سعادة، أعداء العرب أعداء لبنان، مرجع مذكور، ص. 119.
[49] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 213.
[50] أنطون سعادة، أعداء العرب أعداء لبنان، مرجع مذكور، ص. 196.
[51] المرجع نفسه، ص. 174.
[52] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 253.
[53] المرجع نفسه، ص. 162.
[54] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الثالث (1937)، ص. 104.
[55] المرجع نفسه، ص. 106.
[56] المرجع نفسه، ص. 241.
***جمعية “الجزويت”: أو “الرهبنة اليسوعية. هي واحدة من أهم الرهبانيات الفاعلة في الكنيسة الكاثوليكية، ومن أكبرها. تأسست على يد القديس إغناطيوس دي لويولا في القرن السادس عشر أيام البابا بولس الثالث في إسبانيا، كجزءٍ من الاصلاح المضاد، وأخذت على عاتقها مهمة التبشير ونشر الديانة في العالم الجديد.(https://ar.wikipedia.org). وأسست الجزويت إكليريكية شرقية العام 1843، انتقلت إلى بيروت العام 1873، وتأسست جامعة القديس يوسف في بيروت العام 1875.
[57] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الثالث (1937)، مرجع مذكور، ص. 115.
[58] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 27.
[59] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الأول: ما قبل التأسيس (1921-1932)، مرجع مذكور، ص. 40.
[60] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 37-38.
[61] المرجع نفسه، ص. 198.
[62] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الرابع عشر: (1947)، ص. 64.
[63] أنطون سعادة، المحاضرات العشر، مرجع مذكور، ص. 123.
[64] المرجع نفسه، ص. 184.
[65] المرجع نفسه، ص. 175.
[66] المرجع نفسه، ص. 53.
[67] المرجع نفسه، ص. 59.
[68] المرجع نفسه، ص. 62.
[69] المرجع نفسه، ص. 65.
[70] المرجع نفسه، ص. 103.
[71] المرجع نفسه، ص. 99.
[72] المرجع نفسه، ص. 117.
[73] المرجع نفسه.
[74] المرجع نفسه، ص. 311.
[75] Jean Daujat, Psychologie contemporaine et pensée chrétienne, ED. Desclée, Paris, 1962, p.211.
[76] أمين ناجي، لن نعيش ذميين، آفاق مشرقية (1)، الطبعة الأولى، 1979، ص.100.
[77] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الأول: ما قبل التأسيس (1921-1932)، مرجع مذكور، ص. 296.
[78] Julia Didier, Dictionnaire de la philosophie, Librairie Larousse, Paris, 1988, p. 59.
[79] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الخامس: نشوء الأمم (1938)، مرجع مذكور، ص. 51.
[80] جورج متري عبد المسيح، مدخل إلى الفلسفة السورية القومية الاجتماعية، ص. 59.
****يعتبر البعض أن من أبرز الدلائل على عدم إلحاد سعادة كان قبوله إجراء المراسم الدينية قبل تنفيذ الحكم بإعدامه. وقد قال الكاهن الذي عرفه، بعدما سمح له بالدخول إلى سجنه: “وخلوتُ به وسألته إن كان يود أن يقوم بواجباته الدينية، فأجاب: لمَ لا؟ وطلبتُ إليه أن يعترف، فأجاب: ليس لي من خطيئةٍ أرجو العفو من أجلها، أنا لم أسرق، لم أدجل، لم أشهد بالزور، لم أقتل، لم أخدع، لم أسبب تعاسةً لأحد.” (صحيفة الديار، عن أنطون سعادة: “الكاهن الذي عرفه”، الأربعاء 10 تموز 1991، ص. 14.).
[81] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الأول: ما قبل التأسيس (1921-1932)، مرجع مذكور، ص. 333.
[82] المرجع نفسه.
[83] المرجع نفسه.
[84] المرجع نفسه.
[85] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939)، مرجع مذكور، ص. 311.
[86] رشيد سليم الخوري، أعمال القروي النثرية، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، 1984، ص. 416-417.
[87] المرجع نفسه، ص. 98.
[88] المرجع نفسه، ص. 79.
[89] المرجع نفسه، ص. 83.
[90] المرجع نفسه، ص. 28.
[91] يوسف السودا، تاريخ لبنان الحضاري، دار النهار للنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1979، ص. 33.
[92] الكتاب المقدس، العهد الجديد (متى 20:30)، ص. 43.
[93] المرجع نفسه، (متى 27:37)، ص. 61.
[94] المرجع نفسه، (أع 21:28)، ص. 289.
[95] المرجع نفسه، (أع 23:28)، ص. 289.
[96] أنطون سعادة، الإسلام في رسالتَيه المسيحية والمحمدية، مرجع مذكور، ص. 175.
[97] أحمد أمين، فجر الإسلام، بحثٌ عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية، دا الكتاب العربي، الطبعة العاشرة، بيروت، لبنان، 1969، ص. 171-172.
[98] كمال يوسف الحاج، المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية، (محاضرة)، منشورات الندوة الثقافية، جامعة الروح القدس، الكسليك، 1963، ص. 30.
[99] أنطون سعادة، الآثار الكاملة، الجزء الأول: ما قبل التأسيس (1921-1932)، مرجع مذكور، ص. 11.