تكوين
تعرضنا في المقالات السابقة للإرهاصات التاريخية التي سبقت ظهور الفرق والمذاهب الإسلامية، وسلطنا الضوء على أهم الحوادث التي أثرت بشكل كبير في ميادين السياسة والفكر في المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري. في هذا المقال نبدأ الحديث عن مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الذي شكلت مبادئه العقيدة السائدة لدى الأغلبية الغالبة من المسلمين على مر التاريخ.
من كربلاء إلى دير الجماجم
تعرض الفصيل العلوي لمحنة كبرى عقب مقتل الحسين بن علي في معركة كربلاء سنة 61ه. ولم تلبث خسائر المعارضة أن تزايدت بعدما أقدم الجيش الأموي على استباحة المدينة المنورة في واقعة الحرة في سنة 63ه. في تلك الأثناء، تمكن عبد الله بن الزبير من جمع الناس من حوله في مكة المكرمة، وأعلن رفضه لخلافة يزيد بن معاوية، وتحصن مع أتباعه في الحرم. وبعد شهور قلائل، تمكن من التصدي للجيش الأموي الذي هاجم مكة، ولمّا وصلت الأخبار بموت يزيد دعا ابن الزبير الناس إلى خلافته، فبايعه الكثيرون. فكان “آخر الخلفاء الذين اختارتهم الأمة عن شورى ورضا”([1]).
بعد وفاة يزيد، اضطرب أمر البيت الأموي في الشام، خصوصًا بعدما اعتزل معاوية بن يزيد الخلافة وتنازل عنها. في الوقت نفسه، تمكن ابن الزبير من فرض سطوته على معظم ولايات الدولة الإسلامية. وظلت الأوضاع على ما هي عليه من الفوضى والتناحر حتى تمكن عبد الملك بن مروان من هزيمة عبد الله بن الزبير في سنة 73ه. ليصبح -عبد الملك- عندها الخليفة الوحيد المُعترف به في شتى جنبات العالم الإسلامي. مُنهيًا بذلك حالة الفوضى التي استمرت لسنوات متعاقبة. بعد مرور عشر سنوات من وصول عبد الملك بن مروان للخلافة، تمكن والي العراق القوي الحجاج بن يوسف الثقفي من القضاء على ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في سنة 83ه في الموقعة التي عُرفت باسم “دير الجماجم”. رسخ الانتصار في تلك المعركة للحكم الأموي المؤسس على القوة والشوكة. وفتح الباب لظهور مذهب أهل السنة والجماعة على مسرح الأحداث التاريخية.
أهل السنة والجماعة
تسببت الأحداث الدامية التي وقعت بين المسلمين عقب وفاة النبي في اختلاف الآراء السياسية، وفي ظهور التيارات الفكرية المتباينة. في هذا السياق، ظهرت بعض الأحاديث والآثار المنسوبة إلى النبي، والتي يُفهم منها أن حالة الانقسام والتشظي كانت أمرًا متوقعًا منذ العهد النبوي، وأنها كانت قدرًا مقدورًا لا سبيل لتغييره أو تبديله. على سبيل المثال أورد الترمذي المتوفى 279ه في سننه واحدًا من أشهر تلك الأحاديث عندما نقل عن النبي قوله: “ليأتينَّ على أمَّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذوَ النَّعلِ بالنَّعلِ، حتَّى إن كانَ مِنهم من أتى أُمَّهُ علانيَةً لَكانَ في أمَّتي من يصنعُ ذلِكَ، وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أَنا علَيهِ وأَصحابي”. عبّر ذلك الحديث عن الأمر الواقع الذي وجد المسلمون أنفسهم بإزائه بعد سنوات متوالية من الاقتتال والحرب الطاحنة. بطبيعة الحال، حاول كل فريق -بشتى السبل- أن يثبت أنه الفرقة الناجية التي أشار لها النبي في حديثه من جهة، وأن يرمي خصومه بالبدعة والكفر والخروج عن تعاليم الدين الصحيح من جهة أخرى.
في تلك الأجواء المتوترة، ظهر مسمى أهل السنة والجماعة للمرة الأولى. وربما كان الصحابي عبد الله بن العباس أول من صك هذا المصطلح عندما قال في تفسيره للآية 106 من سورة آل عمران “يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ” أن اليوم المُشار إليه في الآية: “يعني: يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة”، وذلك بحسب ما ورد في تفسير ابن كثير.
تاريخيًا، ظهرت البوادر الأولى لتيار أهل السنة والجماعة عقب وصول معاوية بن أبي سفيان لكرسي الخلافة سنة 41ه. في الحقيقة، يمكن أن نجد تشابهًا كبيرًا بين مسمى “عام الجماعة” الذي وصفت به سنة الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية من جهة، ومسمى أهل السنة والجماعة التي شاع استخدامه لتسمية التيار السني من جهة أخرى. كان أهل السنة الذين عُرفوا بهذا الاسم في تلك الفترة هم عموم المسلمين الذين ارتضوا خلافة معاوية، والذين انضووا تحت راية الدولة الأموية، فخالفوا بذلك الشيعة والخوارج الذين ناصبوا الدولة العداء. بعد سنوات، سيترسخ استخدام المصطلح -أهل السنة والجماعة- عقب تمكن عبد الملك بن مروان من الوصول للسلطة المطلقة في الدولة. في مرحلة لاحقة، سيُستعمل المصطلح على نطاق واسع لوصف الصيغة الأرثوذكسية من الدين، مؤسسًا بذلك لحالة من حالات الربط والتماهي والدمج بين السياسي والديني في الإسلام.
بشكل عام، يمكن القول إن: هناك مجموعة من القيم والخصوصيات التي شكلت أبرز معالم التيار السني عبر القرون، والتي أسهمت في تأطير هذا المذهب وعزله عما أحاط به من مؤثرات سياسية وعقائدية مخالفة له. ويمكن أن نختصر أهم تلك الخصوصيات في ست نقاط رئيسة، وهي:
1- شرعنة حكم المتغلب.
2- الطاعة المطلقة والاعتقاد بالجبر.
3- النظرة المعظمة للصحابة.
4- تقديم السنة ومضاهاتها بالقرآن.
5- اعتماد الاجماع كأحد الاصول المهمة للفقه.
6- الفهم الحرفي لصفات الله الواردة في القرآن.
شرعنة حكم المتغلب
يُعدّ الاعتقاد بشرعية حكم المتغلب أحد السمات المهمة التي اختص بها الأغلبية الغالبة من أهل السنة والجماعة دونًا عن غيرهم من الفرق الإسلامية. كما بينّا من قبل، اختلفت الطرق التي وصل بها الخلفاء الأوائل إلى السلطة. بويع أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة من قِبل عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، قبل أن يقبل الأوس وباقي الأنصار على بيعته تباعًا. واُختير عمر بن الخطاب كولي عهد لأبي بكر عقب استشارة مجموعة من كبار الصحابة. أما عثمان بن عفان فقد وصل للحكم بعد حادثة الشورى المعروفة. فيما تولى علي بن أبي طالب زمام السلطة بطلب من ثوار الأمصار والأغلبية الغالبة من الصحابة الموجودين في المدينة المنورة.
اختلف الوضع في حالة معاوية بن أبي سفيان. وصل الخليفة الأموي الأول إلى السلطة بالحرب والقتال بعد أن قوي جانبه وتمكن من إضعاف المعسكر العراقي. ومن ثم فإن مسألة الصلح مع الحسن، كانت -في حقيقة الأمر- ترسيمًا شرعيًا لأمر واقع لا يمكن رفضه أو إنكاره. استمر التغلب سبيلًا للوصول للسلطة في عهد يزيد بن معاوية، إذ لم يجد الخليفة الأموي الثاني غضاضة في التماس العنف لتثبيت سلطته، حتى لو تطلب ذلك قتل حفيد النبي الحسين بن علي، والإغارة على المدينة المنورة، وحصار الحرم المكي ورمي الكعبة بالمنجنيق. هذا السمت -الوصول للحكم بالقوة- سيصل إلى مداه مع عبد الملك بن مروان. والذي سيعلن عن نفسه خليفةً شرعيًا للمسلمين بعد أن يقتل عبد الله ابن الزبير ويصلبه بالقرب من الكعبة.
بالتوازي مع وقوع تلك الأحداث المتسارعة على المسرح السياسي، كان هناك توجهًا دينيًا- فقهيًا يعمل على إيجاد المبرر الشرعي لتصحيح حكم هؤلاء الخلفاء المتغلبين. استعان أصحاب هذا التوجه بعدد من الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بطاعة أولي الأمر[2]، وبعدد من الأحاديث المنسوبة للنبي والتي جاء فيها ضرورة الالتزام بطاعة الحاكم “حتى لو ضرب ظهرك، وأخذ مالك”. بدأ هذا التوجه مع الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي رفض الاشتراك في جميع أحداث الحرب الأهلية التي اندلعت عقب مقتل عثمان بن عفان، وآثر أن يعتزل العمل السياسي بشكل كامل. وأعلن عن مبدئه في مبايعة الغالب بغض النظر عن شخصه وصفاته، فقال جملته الشهيرة: “لا أقاتل في الفتنة، وأصلّي وراء مَنْ غلب”([3]). بعد سنوات قلائل، سيتلقف التابعي الشهير الحسن البصري الخيط من ابن عمر، وسيرفض الانضمام للفقهاء المشاركين في الثورة على الدولة الأموية، والذين خرجوا لقتال الحجاج بن يوسف الثقفي في موقعة دير الجماجم، وسيبرر موقفه بقوله: “إنّ الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف”([4]).
مع سقوط الدولة الأموية، وصعود نجم العباسيين سيترسخ مفهوم حكم المتغلب في العقل الإسلامي الفقهي. على سبيل المثال، سنجد الإمام محمد بن إدريس الشافعي يبدي موافقته الصريحة على حكم المتغلب، حتى روى عنه أبو بكر البيهقي أنه قال: “كلّ مَنْ غلب على الخلافة بالسيف حتّى يُسمَّى خليفةً ويجمع الناس عليه، فهو خليفةٌ”([5]). رغم حدة الصدام الذي وقع بين الإمام أحمد بن حنبل الشيباني من جهة، وعدد من الخلفاء العباسيين -المأمون، والمعتصم، والواثق- من جهة أخرى، فإن ذلك لم يمنعْ أن يتابع ابن حنبل أساتذتَه ومعاصريه من علماء أهل السنة والجماعة في تأييدهم لحكم المتغلب بالقوة وإقرار سلطتهم والتأكيد على طاعتهم. ويظهر ذلك بوضوحٍ في اعتقاده بحتمية الجهاد مع كلّ خليفة، سواء كان برًّا أم فاجرًا، و”الصبر تحت لواء السلطان على ما كان عليه من عدلٍ أو جور، وألا نخرج على الأمراء بالسيف، وإن جاروا”([6]). تلك الاجتهادات الفقهية المؤسِّسة والداعمة لنظرية ولاية الحاكم المتغلب، والمشرعنة للسلطة المستمدة منها، أدت إلى ترسيخ مبادئ تلك النظرية في العقل السُّنِّي الجمعي، حتى نجد أنه لم يأتِ الربعُ الأول من القرن الرابع الهجري حتى أُقرَّت تلك النظرية بشكل ضمنيّ من خلال واحدة من أهم المدونات الإسلامية، وهي متن العقيدة الطحاوية؛ إذ جاء فيها في أحد المقاطع “ونرى الصلاة خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ من أهل القِبلة”. كما جاء في مقطع أخر “لا نرى الخروج على أئمتِنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعوا لهم بالصلاح والعافية”([7]).
في السياق نفسه، نقل أبو بكر الباقلاني في القرن الرابع الهجري إجماع العلماء على طاعة الحاكم المتغلب، وإن كان معروفًا بفسقه وظلمه ([8])، وأكد أبو المعالي الجويني هذا الإجماع ([9])، واتفق معه في ذلك تلميذه الشهير حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، معللًا ذلك الاتفاق بالعبارة الشهيرة: “إمام غشوم خير من فتنة تدوم”([10]). كذلك، برز اسم أبي الحسن الماوردي كواحد من فقهاء القرن الخامس الذين نظّروا بحرفيةٍ لمفهوم حكم المتغلب. صنف الماوردي مجموعة ضخمة من كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، والتي أكد من خلالها أن “السلطان القاهر” أحد الشروط والقواعد الأساسية التي ينصلح بها حال الدنيا ([11]). في القرن السابع الهجري صحّح سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ولاية الإمام الفاسد والحاكم الفاسق؛ لِمَا في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة ([12]). وفي القرن الثامن الهجري، أقر بدر الدين بن جماعة حكم المتغلب رغم كل العيوب والمساوئ التي قد يُظن أنها تقدح في أهليته للحكم، فقال: “ولا يقدح في ذلك كونه جاهلًا أو فاسقًا في الأصح”([13]). في القرن نفسه، وتحت وطأة الحكم المملوكي في مصر والشام، أقر شيخ الإسلام “ابن تيمية” بشرعية حكم الحاكم المتغلب، ودعا إلى “قبول الوضع الراهن، كما فعل ذلك العلماء قبله مهما كان الحاكم مستبدًا وجائرًا”([14]). وكانت مبرراته في قبول ذلك الوضع منحصرة في إقامة الشريعة الإسلامية وصلاح حال الدولة.
الطاعة المطلقة والاعتقاد بالجبر
ترتب على شيوع الاعتقاد السني بشرعية حكم المتغلب وضرورة الخضوع له العديد من النتائج المهمة. والتي تمكنت من التأثير بشكل كبير في المجالين الديني والأخلاقي على الترتيب. كانت “الطاعة” أولى تلك النتائج. بشكل عام، أضحت الطاعة مبدأ مهم داخل الفضاء السني، و”فضيلة كبرى في كلّ الخطابات السياسية ذات الطابع التسلطي” ([15])، بَدءًا من لحظة وصول الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان إلى السلطة، وحتى اللحظة.
من النصوص المهمة التي توضح ظهور مفهوم الطاعة كأحد المفاهيم القيمية الأكثر حضورًا في الخطاب السني التقليدي، ما ورد من أن معاوية بن أبي سفيان قد خطب يومًا في أهل الكوفة، فقال: “ما قاتلتكم لِتصوموا، ولا لتصلوا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكوا، وقد أعرف أنكم تفعلون، إنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون”([16]). وما جاء أيضًا في خطبة “خالد بن عبد الله القسري” والي الوليد بن عبد الملك بمكة: “عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، وأني والله ما أُوتي بأحدٍ طعن على إمامه، إلا صلبته في الحرم، إنّ الله قد جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا، وأطيعوا، ولا تقولوا كيت وكيت، والله لو أعلم أن الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة، لأخرجتها من الحرم”([17]).
كان “الميل للاعتقاد بالجبر والإكراه” النتيجة الثانية المهمة لشرعنة حكم المتغلب. فلمّا كانت قيمة الطاعة قد احتلت تلك المكانة المركزية المتفردة في الخطاب السياسي السني، فقد كان من الطبيعي والحال كذلك أن يرتبط بها شيوعًا وحضورًا لممارسات الجبر والإكراه، تلك التي لجأت إليها السلطة في سبيل التضييق على مخالفيها من جهة، ودفعهم دفعًا لاتباعها والتخندق في خندقها من جهة أخرى. في الحقيقة، يمكن رصد الإرهاصات المبكرة لتلك الممارسات مع تقعيد نظام الحكم الوراثي في الدولة الأموية، الأمر الذي يتضح في الجملة المشهورة التي قالها أحد الخطباء في حضور معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، عندما قال: “أمير المؤمنين هذا – وأشار إلى معاوية -، فإن هلك، فهذا – وأشار إلى يزيد -، فمَن أبى، فهذا – وأشار إلى السيف -، فقال له معاوية: اجلس، فإنك سيد الخطباء”([18]). هذا الإكراه توسع شيئًا فشيئًا، إلى الدرجة التي حدت به ليصبح معلمًا مميزًا للسلطة في الإسلام السني، إذ صار بوسع الخليفة/ السلطان/ الحاكم/ الوالي أن يستخدم السيف والذهب لحشد الانصار أو لتفريق المعارضين، وما لبثت معظم الآراء الفقهية السنية أن روجت لكون أمر صاحب السلطان يعتبر في ذاته إكراهًا “دون حاجته إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد”([19]).
ما يهما هنا، هو الإشارة إلى أن الضغط المتواصل الذي مارسته السلطة على الرعية، قد أسفر عن الترويج للفكرة الذاهبة إلى خطأ المواجهة المباشرة مع الحاكم، والدعوة لانتحال الأسباب والأعذار التي يأمن بها المعارضون على أنفسهم، وفي هذا السياق ظهر ما عُرف في المجال السني باسم المعاريض/ التعريض، وهي نوع من أنواع الكذب المشروع الذي يستخدمه الفرد للابتعاد عن الصدام المباشر مع السلطة الحاكمة، والذي جرى تقعيده بموجب بعض الروايات والأحاديث المنسوبة للرسول، ومنها ما ورد في صحيح البخاري من كذب النبي إبراهيم على الحاكم لما دخل مصر، عندما قال إن: زوجته سارة هي أخته. هذه المعاريض ستصير أحد أهم الوسائل التي ستلجأ إليها الجماعة السنية في سبيل حفظ سلامتها، وسوف يتم التأكيد على مشروعية العمل بها من جانب الكثير من الفقهاء المعتبرين، ومنهم على سبيل المثال النووي، إذ يذكر في كتابه الأذكار “…إن دعتِ إلى ذلك -استخدام المعاريض- مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخاطب أو حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض…”([20]).
أثر الإكراه والجبر انتقل أيضًا للميدان العقائدي عند أهل السنة والجماعة. نستطيع أن نتلمس تلك الآثار في العديد من الأحاديث النبوية التي تؤكد على معاني الجبر، وأن الإنسان مسير لا مخير. من أهم تلك الأحاديث ما ورد في الصحيحين -البخاري ومسلم- عن أبي هريرة من قول النبي: “احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى؛ فَقالَ له مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ؟! فَقالَ له آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذي اصْطَفَاكَ اللَّهُ برِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي علَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟! فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، مَرَّتَيْنِ”.
بحسب ما يلاحظ العديد من المفكرين، فإن وصول الأمويين إلى الحكم بالقوة، قد دعاهم إلى العمل على محاولة دعم شرعيتهم السياسية “بالاستناد لفكرة الجبر، وبالتركيز على مفهوم الطاعة والجماعة وإنكار الفتنة”[21]. بمرور الوقت، أثار الترابط بين فكرة الجبر والسلطة جدلًا فكريًا بين العديد من التيارات الإسلامية، الأمر الذي نستطيع أن نتلمس آثاره في الرسالة التي كتبها الحسن بن محمد الحنفية -بإيحاء من عبد الملك بن مروان- في الرد على القدرية. والرسائل المتبادلة بين الحسن البصري وعبد الملك بن مروان حول فكرتي الجبر والاختيار. يمكن أن نقول إن: النقاش حول الجبر/ القدر في العصر الأموي كان إرهاصًا للنقاش الموسع الذي سيدور حول مسألة خلق القرآن في العصر العباسي. وأن التيار المعتزلي الذي سيتصدر المشهد ضد التيار الأثري زمن المحنة، كان في حقيقة الأمر امتدادًا للمفكرين الأوائل الذين قالوا: بالاختيار ونفوا الجبر من أمثال كل من الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، ومعبد الجهني، وغيلان الدمشقي.
المراجع:
([1]) حاكم المطيري، الحرية أو الطوفان (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004)، ص 125.
[2] على سبيل المثال “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا” سورة النساء، الآية 59
([3]) محمد بن سعد بن منيع الزُّهري (230هـ)، الطبقات الكبير، تحقيق علي محمد عمر (القاهرة: مكتبة الخانجي، د. ت)، ج4، ص139.
([5]) أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (458هـ)، مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صقر (القاهرة: مكتبة دار التراث، د. ت)، ج1، ص448.
([6]) فهمي جدعان، تحرير الإسلام: ورسائل زمن التحولات (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014)، ص375.
([7]) أبو جعفر الطحاوي (321هـ)، متن العقيدة الطحاوية (بيروت: دار ابن حزم، 1995)، ص23-24.
([8]) أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت402هـ)، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1987)، ص478.
([9]) أبو المعالي الجويني (ت478هـ)، غياث الأمم في التِيَاث الظُّلم، تحقيق ودراسة مصطفى حلمي وفؤاد عبد المنعم أحمد (الإسكندرية: دار الدعوة، د. ت)، ص.77
([11]) أبو الحسن الماوردي (ت429هـ)، أدب الدنيا والدين، ط4، شرح وتعليق محمد كريم راجح (بيروت: دار اقرأ، 1985)، ص 148.
([12]) عز الدين بن عبد السلام (ت660هـ)، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق نزيه كمال حماد وعثمان جمعة (دمشق: دار القلم، د.ت)، ج1، ص145.
([13]) بدر الدين بن جماعة (ت733هـ)، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، تحقيق ودراسة وتعليق فؤاد عبد المنعم أحمد (قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1985)، ص55.
([14]) حسن كوناكاتا، النظرية السياسية عند ابن تيمية (الدمام: دار الأخلاء، 1994)، ص11.
([15]) كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية (بيروت: دار الطليعة، 1999)، ص180.
([16]) رضوان السيد، الخلافة والمُلك، ص21.
([18]) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، تقديم عمار علي حسن، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2012م، ص40
([19]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت، ج1، ص566
([20]) محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى 676هـ)، الأذكار، دار ابن حزم للطباعة والنشر، 2004م، ص600
[21] خير الدين يوجه سوي، تطور الفكر السياسي عند أهل السنة (فترة التكوين: من بدايته حتى الثلث الأول من القرن الرابع الهجري)، دار البشير للنشر والتوزيع، عمان، 1993م، ص88