تكوين
هل يختار الله الإنسان الصالح لأنّه صالح، أم أنّ الصالح صالح لأنّ الله اختاره؟
هكذا جاءت معضلة يوثيبرو في محاورات أفلاطون[1] لتثير إشكالية علاقة الله بالإنسان، وهي الفكرة التي انطلقت منها المسيحيّة نحو مغامرتها الفلسفيّة الأولى، والتي دمجت في لحظة تاريخيّة فارقة بين المطلق والنسبي، حينما أغلق يسوع المسيح الهوة الفاصلة بين الله الإنسان. ويبدو البعد الرومانسي لفكرة الإله في المسيحية في ذروة التجلي لحظة الفداء، كونه إلهًا محبًا للبشر، تؤرقه خطاياهم فيقرر الفداء، في لحظة إعلان تاريخي عن الخلاص.
صورة الله بين الكنيسة والقصر
استلهمت صورة “الله” في المسيحيّة مكوناتها من داخل نسقين متمايزين في مسيرتها عبر التاريخ: نسق كنسي لاهوتي سعى في تكريس سلطة الكنيسة عبر سلطة أبويّة مطلقة، يُمثلها البابا بوصفه النائبَ الأول عن السماء، بداعي أنّ المسيح خلق جميع السلطات، ثمّ سلمها إلى القديس بطرس وورثها من بعده خلفاؤه. ونسق آخر حاول التحرر من هيمنة الكنيسة. وبطبيعة الحال كان الصراع حتميّا بين النسقين.
كانت الإمبراطورية الرومانية بدأت تتحول تدريجيًا إلى المسيحية، وقد حسم الصراع مع الوثنية نهائيًا مع إعلان الإمبراطور ثيودوسيوس، عام 394م المسيحية عقيدة رسمية للإمبراطورية، ومنذ ذلك التاريخ بدأ نفوذ الكنيسة في الازدياد بطريقة تتجاوز حدود السلطة الدينية، وهو الأمر الذي بدا واضحًا عندما تولى “جريجوري الأول” كرسي البابوية الذي اتخذ لنفسه سلطات واسعة، وأصبحت له قوات عسكرية وأسطول تجاري، ثم جاء مرسوم عام 757م الذي قضى بإعفاء الكرسي البابوي من الخضوع للسلطة الزمنية، ليكرس مزيدًا من الدعم للمنظومة اللاهوتية، حتى إذا جاء العام 800م أصبح لزامًا على الإمبراطور الحصول على دعم الكنيسة وتأييدها، لإسباغ الشرعية على حكمه، فقد توَّج البابا ليو الثالث شارلمان، ما يؤكد سيادة السلطة الدينية على السلطة الزمنية، ليصبح البابا هو سيد الأباطرة وفق تعبير “جريجوري السابع” الذي وظف نظرية السيفين، لتكريس سلطة الكنيسة. ومفادها أنّ هناك سيفان: الأول روحي سلمه الله البابا، والثاني زمني سلمه الله إلى الإمبراطور عن طريق البابا[2].
إقرأ أيضًا: تطورُ لائحة انتخاب البطريرك: مسارات الكنيسة الأرثوذكسية
وعليه مضت الكنيسة تمارس تسلطها المطلق، وباتت السلطة الدينية -وهي تملك لعنة الحرمان وصكوك الغفران في آن واحد- تمارس هيمنتها على البنى الاجتماعية والسياسيّة، ما انعكس على جميع الطروحات الفكرية والإشكاليات اللاهوتية والفلسفية التي ظهرت على السطح المعرفي الفارغ آنذاك، إلّا من سلطة الكنيسة.
الكنيسة بوصفها مؤسسة مغلقة
عملت السلطة الكنسيّة باستمرار لتغذية مكونات وجودها وفق خطاب أيديولوجي صارم، ازدحم بطروحات غيبية غامضة لا يملك أسرارها سوى البطاركة، مع زخم في استخدام مصطلحات ذات دلالات مفارقة، في ظل تحالف ضمني مع السلطة السياسيّة، وهو تحالف وظيفي ظاهري، كان يخفي في طياته كمًا لا بأس به من التناقضات والصراعات.
ومن قلب المنظومة اللاهوتية المرتبكة معرفيّا، جاء القديس أوغسطين (354-430م) ليقر أنّ الإنسان لا يملك في ذاته الحرية ولا القدرة على توجيه أي عمل في إطار الحياة مع الله، وأنّه عاجز كذلك عن القيام بفعل الخير بعد سقوطه في أوحال الشهوة والخطيئة.
حاول أوغسطين تأكيد خلاصيّة الإرادة الإلهيّة التي جاءت لتفدي الموجود البشري التائه، وتضعه على طريق الخير عبر الإيمان “النعمة”، والتي تمتلكها السماء حصريّا وفق انتقاء إلهي لم يحدد ماهيته، لأنّ النعمة في ظنّه إذا مُنحت للجميع فقدت مغزاها ولم تعد نعمة، ومن ثم صار الانتقاء حتميًا، لتصبح النعمة ذات قيمة. وعليه فإنّ الخلاص هو نتاج منحة إلهية قرّر الله منحها لبعض من اختارهم منذ الأزل[3].
وعليه، كانت دروب الخير جميعها، محض انصياع حتمي لنعمة إلهيّة قدرت سلفًا، ومن ثم يغدو الصالح صالحًا، لأنّ الله اختاره وفق معايير مفارقة، أمّا الهالكون فهم في رأيه هالكون بحريتهم، لأنّهم رفضوا قبول النعمة. إذ يقول: “إنّ الله الذي خلقك دونك، لا يشاء أن يخلصك دونك”[4].
إقرأ أيضًا: المجلسُ المِلِّي وقصة الصراع بين الإكليروس والتيار الإصلاحي في الكنيسة القبطية
رأى أوغسطين وفق طروحاته الغامضة، مشيئة الله سبيلا واحدًا للخلاص، واستند إليها يلتمس منها النعمة، وهو طرح يدور حول مسلمة نهائية، تستند إلى قدرة الله اللامتناهية على الفعل، ذلك أنّ القوانين والنظم التي تقع الأحداث وفقًا لها، كلها من صنع الله؛ لأنّ العلّة الأولى لجميع الحوادث هي الله، وهو ما يتجلى في الأفعال التي لا يُمكن إرجاعها إلى القانون الطبيعي، فهو يرى أنّ المعجزات التي تطرح النظم الكونية جانبًا، هي تجل لقدرة الله التي تعطل القانون الطبيعي، وبما أنّ الله هو واضع نظام العالم ومكون قوانينه ونظمه، فهو وحده القادر على خرق هذا النظام وتلك القوانين، فلا يوجد شيء يحد من حرية الفعل الإلهي. يقول أوغسطين: “الله يحكم كل الأشياء التي خلقها، بطريقة تسمح لهذه المخلوقات بأن تسلك السبل المناسبة لهم”[5].
ولا مفر وفق هذه التصورات، إن أردنا النجاة من رقِّ الخطيئة، سوى الدخول في رقِّ النعمة، في تأثر واضح بنموذج الإله البشري الذي أتي إلى عالمنا كاشفًا عن ذاته، ليمنح البشرية نعمة الخلاص.
البيلاجية خُطوة على طريق العقل
وعلى الرغم من نمطيّة تصورات أوغسطين، إلّا أنّها فتحت الباب أمام اشتباك نقدي، أسهم في تطوير النموذج التقليدي، لصالح تصورات أكثر وعيًا بآليات حضور الإدراك الإنساني في حقل الفلسفة الدينيّة، فخرج الراهب البريطاني بلاجيوس على هذا الطرح القسري، مؤكدًا أنّه إذا كانت النعمة التي وهبها الله للإنسان تعني الحرية في القيام بالفعل، فإنّ القدرة على الإتيان بهذا الفعل هي إرادة الإنسان النابعة من قوته الذاتية دون أي مساعدة إلهية.
رفض وبلاجيوس فكرة الانحطاط الأبدي في أوحال الخطيئة، فالإنسان يولد -في رأيه- دون أي صفات أخلاقية، ثم يغدو قابلا للتكون واختيار أي الطريقين، وفقًا لإرادته التي تتحدد بناء على دوافعه وسماته الشخصية، وعلى هذا فإنّ صفات الإنسان الأخلاقية هي نتيجة لأفعاله، ومن ثم تصبح الإرادة الحرة مصدرًا للأخلاق بشقيها الخيّر والشرير، فالقدرة على الفعل عند بلاجيوس هي التي تحدد الواجبات، وفي ضوئها تتحدد المسئولية، ممّا ينفي عن النفس أي طباع خارجة عن الإرادة، من شأنها توجيه صاحبها لفعل الخير أو الشر، ومن ثم يصبح كل شيء رهنًا بإرادة الإنسان وقناعاته بتعاليم الله[6].
ويبدو تأثر بلاجيوس بنظرية أفلوطين (205-270م) الذي نفى نفيًا قاطعًا وجود إرادة إلهية من الأساس، فالله عنده لا يمكن أن يتصف بالإرادة، لأنّه إذا كان الله مريدًا، فمعنى ذلك أنّه في حاجة إلى غيره وفي هذا نقص[7].
صراع الأفكار ينتهي بلعنة الكنيسة
شن أوغسطين وأتباعه حربًا لا هوادة فيها على البيلاجية، ممّا دفع بلاجيوس للهرب من روما إلى فلسطين، بينما فر صديقه كلوستيوس إلى شمال أفريقيا، حيث اتهم هناك بالهرطقة، وعُقد مجمع قرطاجنة عام 412م، لمحاكمة كلوستيوس ومصادرة البيلاجية التي أقرتها الكنيسة بدعة، واتهم كلوستيوس بالهرطقة وصدر ضدّه قرار بالحرمان. وفي أورشاليم نُصبت محكمة أخري لبلاجيوس، وخلصت إلى اتهام البيلاجية بالهرطقة، وأيد أنوسنت الأول أسقف روما القرار الحرمان[8].
إقرأ أيضًا: الحوار المسكوني والجدل المسيحي.. المسارات التاريخية والرهانات المعاصرة
عُدت البيلاجية هرطقة، لأنّها تقول إنّ الإنسان بفطرته الطبيعية، يستطيع الوصول إلى أسمى درجات القداسة دون انتظار النعمة، وهي تعاليم رأتها الكنيسة فاسدة، لأنها لا تكترث بدم المسيح المراق على صليب أورشاليم.
محاولات التوفيق
في هذا السياق المحموم بالصراع والمشحون بالملاحقات واللعنات الكنسية، ظهرت محاولات التوفيق بين التيارين من طريق البيلاجية المعتدلة /الجديدة، ذلك أنّه -كالعادة- توجد دومًا منطقة وسطى، تجري في حواضنها المعرفية محاولات التوفيق بين أي طرحين متباينين، فظهرت البيلاجية الجديدة في أديرة مارسيليا، حيث قامت تلك الحركة على مبدأ عدالة الله، وعدم تمييزه بين البشر في اختصاص أحدهم بالنعمة دون الآخر، وفي الوقت نفسه أقرّ هذا التيار بوجود نعمة الخلاص التي تثبت الإنسان على طريق الخير، والله يمنح تلك النعمة لمن يطلبها، ومن ثم تكون رغبة الإيمان هي المبرر الذي يدفع الله لمنح النعمة، وهنا تقتصر حرية الإنسان على الإيمان، بوصفه طقسَ عبور لتلقي النعمة، حتى إذا ما حصل عليها، أصبح مُسيَّرًا في طريق الخير، وإذا رفضها أصبح مُسيَّرًا في طريق الشيطان. وهو ما رفضته الكنيسة أيضًا، فقد أقرّ مجمع أورانج عام 529م برفض تلك المبادئ، وأكد أنّ النعمة هي وحدها طريق الخلاص، وأنّها تسبق كل فعل وكل إرادة، بل هي الإرادة النهائيّة، وليس لإنسان أن يختار طريق الإيمان من دونها[9].
وهكذا لم تستطع الكنيسة تجاوز ذلك الاختلاف بشأن إشكالية النعمة، ذلك أنّ تدعيم السلطة الناجزة للسماء، أمر يستتبعه بالضرورة تدعيم سلطة المؤسسة الدينية، وبسط سيطرتها من طريق صيغة استسلاميّة دائمة، تتحرى دعم كتلتها المعرفيّة الصلبة، وهي وحدها القادرة على استيعاب تناقضاتها وارتباكها على صعيد العقلانية.
__________________
المراجع:
[1] Gordon Graham: Eight theories of Ethics, Routledge Taylor &Francis Group, New York, 2000, pp.185-186.
[2] Gerard E. Caspary: Politics and exegesis: Origen and the two swords, University of California press Ltd, Los Angeles, 1979, pp.2-6.
[3] Peter Robert Lamont Brown: Augustine of hippo, a biography, University of California press, 2000, pp.147-148.
[4] البابا شنودة الثالث: النعمة، الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس، القاهرة،1997، ص 14.
[5] ماهر عبد القادر، حربي عباس: دراسات في فلسفة العصور الوسطى، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص ص 384-385.
[6] Gustav Friedrich Wiggers: An historical presentation of Augustinism and Pelagianism from the original, pp. 189,191,209.
[7] ماهر عبد القادر، حربي عباس: المرجع المذكور، ص 99.
[8] Ibid, p167
[9] Gustav Friedrich Wiggers: op.cit., pp.19, 382