تمكين
إنعقد همّ الفلاسفة منذ المراحل ما قبل السقراطية، مروراً بسقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى الرواقيين والأبيقوريين والشكوكيين وأفلوطين، مروراً بالفلسفة الاسلامية العربية، وحتى بلوغنا الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر… على تحليل مكنونات الذات الانسانية بغية التوصّل إلى فهمها، وإدراك جدليّة كماليّتها وشوائبها، توصّلاً إلى إيجاد حلّ لانتشالها من مآزقها. فهل انتصر مفهوم “الذات الانسانية” من خلال ما قدّمه الفلاسفة من تحديداتٍ وتأويلاتٍ، وهل تظهّر كما أرادوا في الواقع المجتمعي للفرد، أم أنّ الحقيقة الملموسة تحمل صورةً مخالفة؟
ما هي الذات الإنسانية؟
رأى فيثاغوراس كمال النفس واكتمال صورتها في عوداتها المتكرّرة إلى الحياة عبر التقمّص، وأكّد أنه مرّ بهذه التجربة خمس مرّات، وتقصّد فرض أصول التدريس الحازمة، والعيش وفق القواعد الصارمة على تلامذته، وصولاً إلى تلمّس صفاء الذات كما ينبغي أن تكون. وعلّم سقراط في شوارع أثينا عن الفضيلة ومعرفة النفس بالنفس وأصرّ، باعتماده الطريقة الحوارية التوليدية للأفكار La maïeutique مع طلاّبه على استخراج الحقيقة من ذواتهم .. إلى أن قبِل طوعاً بتجرّع السمّ بعد الحكم عليه ظلماً. وعلا أفلاطون نحو “عالم مُثّلٍ” إبتدعه ليحتضن هذا العالم وحده حقيقة الانسان في جوهر ذاته، مؤكّداً أن لا صلاح للشعب إلاّ إذا أصبح الحكّام فلاسفةّ والفلاسفة حكّاماً، على أن يمتلكوا ذاتاّ نقيّةً تقيّةً عادلةً ومتناغمة، فلا يضرب ذواتهم فساد الأنظمة، من التيموقراطية إلى الأوليغارشية إلى الديمقراطية وصولاً إلى الاستبدادية (1). وميّز أرسطو بين الفضائل الأخلاقية والفضائل العقلية، ورأى في الحكمة قمّة ما يمكن أن يبلغه الانسان الباحث عن الحقيقة، ولا سيّما حقيقة ذاته، فتكون كلّ فضيلةٍ حدّاً وسطاً بين حدّين متقابليْن، هي النفس التي تؤثر الاعتدال على الافراط والتفريط.
وانبرى الرواقيون والأبيقوريون إلى تحديد هدفٍ لحياة الفرد الذي عليه أن يبلغ المرتبة الأسمى المتمثّلة في تنقية ذاته من الاضطراب تحقيقاً للسلام الداخليّ، وإن كان المذهبان اعتمدا بالطبع سبلاً جدّ مختلفة، نظراً للمتناقضات الجذرية في نظرياتهما الفيزيائية والأخلاقية. وعلّق الشكوكيون الحكم بمعرفة الأشياء، سوى حالاتنا الشعورية المباشرة عن تلك الأشياء، ما يؤدّي حكماً إلى ضمان اطمئنان النفس. ثمّ كان الفيض والانبثاق في فلسفة أفلوطين بلوغاً لاهتداء الذات وعودتها الارادية إلى “الواحد” L’Un أوّل الأقانيم الثلاثة وأكملها في فلسفته.
مفهوم الذات في الإسلام؟
ثمّ كان للفكر الاسلاميّ العربيّ تدخّله الواضح في سبر أغوار الذات عبر نظرياتٍ وأفكارٍ متعدّدة. فاعتبر الكندي أنّ السعادة لا تُحصّل إلاّ في بلوغ النفس كمالها، فينبغي تعزيز القيم الأخلاقية الانسانية لتتلبّس ذات الانسان درجةّ عاليةّ من الصدقيّة والترفّع عن الأثًرة. وكان الشرط الأوّل للفارابي في “مدينته الفاضلة” التعاون على بلوغ السعادة الحقيقية، فنحن “لا ننال السعادة القصوى إلاّ بالعلم والفكر والتأمّل” (2) وهي العوامل الثلاثة التي تصقل ذات الفرد وتقوّي إرادته. كذلك وصفت فلسفة إبن سينا “إرتقاء العارفين بالارادة والرياضة والتأمّل إلى ذروة الحقيقة”(3) ، ما يحتّم امتلاك ذاتٍ تتحلّى بقدْر من الحكمة يضمن بلوغها هذه الذروة. وسعى الغزالي إلى الرقيّ المعرفيّ والأخلاقيّ، معتبراً إيّاه فعلاً أساسياً للذات الانسانية الحرّة. ورأى إبن رشد أنّ على المربّي أن يكون متمرّساً بقواعد الصناعة الفلسفية التربوية، ليتمكّن من بناء ذاتٍ إنسانيةٍ منعتقة من قيود الانعزال والاغتراب.
ومرّت حقباتٌ تاريخيةٌ طويلة حملت في طيّاتها تفكّراً، إمّا مجرّداً وميتافيزيقياً وإمّا ملموساً وواقعياً، في أصول الذات وتجاربها ومآلها.. فأطلق نيوتن في القرن السابع عشر نظريته في الجاذبية معبّراً، في الوقت عينه،عن انجذابه اللامتناهي نحو المطلق. وحاول ديكارت، عبر الكوجيتو، منح معنى عقلانياً إستثنائياً لوجود الانسان والله والعالم، إنطلاقاً من الشكّ والفكر اللذين يمثّلان حكمنا اليقينيّ الأوّل، وحاول لايبنتز التركيز على عدم مسؤولية الله عن الشرّ في العالم وفي أفعال البشر، أكان شرّاً ميتافيزيقياً أو فيزيقياً أو أخلاقياً، مؤكّداً على حرية الذات لدى الانسان، واستكمل نظريّته في شرحه مفهوم “الجوهر الفرد” La monade وهو يخصّ كلّ وعيٍ فرديّ يمتلك رؤيةً للعالم..
وتشدّد روسو في إطلاق مقولته في أنّ الانسان خيّر بالفطرة، وأنّ ما يُفسد ذاته هو حياته المجتمعية. فكلّ ما هو طبيعيّ، في رأيه، حسن وخيّر، وكلّ ما هو من صنع الانسان فاسد وقبيح، وفي كتابه: L’Emile ، أراد أن يبني فرداً صالحاً بالارتكاز على قواعد تربوية جديدة وغير معهودة، إلى حدّ اعتبارها ثوريةً. أمّا كانط بأسئلته الأربعة: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا ينبغي أن أفعل؟ هل يحقّ لي أن آمل؟ ومن هو الانسان؟.. فأتت إجاباته من الميتافيزيقيا والأخلاق والدين والأنتروبولوجيا، لترسم خطوطاً محدّدة، وليبقى الواجب الأخلاقيّ لديه متوّجاً جوهر الذات الانسانية، بحزمٍ وعقلانية نقدية.
مفهوم الذات فلسفياً
وأسّس هيجل فلسفته الشمولية للتاريخ، وهو المنتوج الأكثر أهميةً للعقل الانسانيّ، مشدّداً على مفهوم “الوعي”، ومعتبراً “الوعي بالذات” تحديداً السمة الأساسية للانسان. فهي التي تهبه القدرة على الارتداد إلى ذاته، وهي نفسها جوهر الفكر الذي يعني الانعكاس أو الارتداد. وفي “جدليّة السيّد والعبد” لديه تأكيد على أنّ وعي الذات لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال وعي الآخر. هي جدليّة ولادة الذات في إطار ازدواجية الوعي. أمّا عند ماركس، فليس وعي البشر ما يحدّد وجودهم، بل هو وجودهم الاجتماعيّ ما يحدّد وعيهم. والذات الواعية الكاملة هي المتحرّرة من الارتهان، وكان يعني بذلك طبعاً الارتهان المتأتّي من النظام الرأسماليّ. ورأى كونت خلاص الانسانية في خروجها من نفق المرحلتيْن التيولوجية والميتافيزيقية، فتكتمل ذات الانسان شيئاً فشيئاً في المرحلة العلمية الوضعية. وتكمن حرية الذات الانسانية في فلسفة برغسون في تخطّيها كلّ تصنّع يمكن أن يُبعد أفعالنا عمّا يجب أن تكون عليه في بعدها الحقيقيّ، فتتظهّر حريتنا في علاقتنا العميقة مع ذاتنا.
تقدير الذات
تطول لائحة التنظير الفكريّ والفلسفيّ في رؤية الذات الانسانية… إلى أن نستفيق على واقعٍ أليمٍ، تتغلّب فيه المرارة على صفاء الحياة النابضة بالأمل، وتسقط قوّتا العقلانية واللاعقلانية في براثن عبثيّةٍ موجعة، الأكثر خطورةّ فيها أننا نعيشها يوماً بعد يوم، غير قادرين على التفلّت منها لا على مستوى الجوهر ولا على مستوى الوجود.
فالانسان اليوم يعيش حالتيْن من الصراع: الأول صراع يتآكله عميقاً بين ذاته الداخلية المفترض أن تكون خيّرة، وذاته المتّصلة بالعلاقة مع الآخر، وهي في أكثر الحالات علاقة أقلّ مل يُقال فيها إنها مأزومة. وأمّا الصراع الثاني، فهو صراع الذات الانسانية مع معنى الحياة في ذاتها، عندما نشهد على حروبٍ لا أفق لها، وعلى مجازر في حقّ الانسان، تحت شعاراتٍ واهية تتخفّى وراءها مصالح سياسة واقتصاد ودول أدمنت التسلّط والاستقواء والاستبداد والعنف الدمويّ… هكذا نشهد على احتضار الذات الانسانية في واقعٍ لاإنسانيّ.. فنجد أنفسنا للأسف داخل أسطورة سيزيف Le mythe de Sisyphe لألبير كامو، فيكون كلّ واحدٍ منا ذلك الفتى الاغريقيّ الأسطوريّ الذي “قُدّر له ” أن يصعد بصخرةٍ إلى قمّة جبل، ولكنها لا تلبث أن تسقط متدحرجةً إلى السفح، فيضطر إلى إصعادها مجدّداً، وهكذا إلى الأبد.. هل حُكم علينا، كما سيزيف، أن تحيا ذاتنا شقاءً وإحباطاً وعذاباً أبدياً إلى ما لا نهاية..؟! وهل تتجمّد نظريات الفلاسفة منذ ما قبل التاريخ وإلى اليوم في دوائر مفرغة من الصدمات المتتالية؟!
حيث الحروب والصراعات والصدامات تلتهم الأبرياء في كلّ أنحاء العالم، هناك عبثيةٌ واحتضارٌ للذات الانسانية التي تئنّ بصوتٍ خافت، وفي أغلب الأحيان، بصمتٍ عبثيّ.
المراجع:
- Platon, Œuvres completes, Tome I, La République, Livre VIII, nrf, Gallimard, 1950.
- جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1981، ص. 183. (عن: Madkour, La place d’Al Farabi, p.220.)
- المرجع نفسه، ص. 261.