تكوين
في “لسان العرب” حكمة اللجام: ما أحاط بحنكي الدابة سُميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد، وأحكمت الشيء فاستحكم أي جعلته مُحكمًا، واحتكم الأمر واستحكم: وثق، ونقلا عن “الأزهري” أن: كل من منعته من شيء فقد حكمته وأحكمته، قال: ونرى أن حكمة الدابة سُميت بهذا المعنى لأنها تمنع الدابة من كثير من الجهل(1).
عكس المُحكم هو المتشابه، والشبه والشبيه هو: المثل، وأشبه الشيء الشيء: ماثله. وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم(2). وفي معنى المتشابه يقول “الرازي” في تفسيره: “ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سُمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل سُمي بذلك لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مُشكل، ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساويًا للحكم بعدمه في العقل والذهن، ومشابها له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جَرَمَ سُمي غير المعلوم بأنه متشابه…“(3).
وفي القرآن: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ”- هود: 1، و”االلَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ”- الزمر: 22، و”هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”- آل عمران: 7.
بناء على الآيات توزع الرأي في محكم ومتشابه القرآن إلى ثلاثة أقوال (4):
- أحدها أن القرآن كله مُحكم
- والثاني أن القرآن كله مُتشابه
- والثالث أن منه المُحكم ومنه المُتشابه.
إلى القول الثالث تذهب سائر المذاهب الإسلامية، ويقول به غالبية المتمذهبيين في الإسلام، ويجزمون بأنه الرأي الصحيح، ويعتمدون في تبنيّه على التأسيس لمذاهبهم العقائدية والفقهية. فلكي يتأسس الحكم المذهبي لا بُد أن يعتمد صاحبه على ترجيح إحكام آيات من القرآن تكون في فهمه مصداقًا لآرائه، من ثم يترجح لديه تشابه الآيات الأخرى التي تبدو مخالفة لترجيح إحكام المحكم من الآراء والآيات، الأمر الذي يُجمله “فخر الدين الرازي” في تفسيره بالقول:
“واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتُسمي الآيات المطابقة لمذهبهم مُحكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم مُتشابهة”
ويؤكد: “إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه مُحكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه مُتشابهة، فالمعتزلي يقول قوله: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”– الكهف: 29 مُحكم ، وقوله: “وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين“- التكوير: 29 مُتشابه، والسني يقلب الأمر في ذلك”.
ويزيد الأمر إيضاحًا بالأمثلة:
- “فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى: “وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا “- الأنعام: 25
- والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: “وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر“- فصلت: 5
- وأيضا مُثبت الرؤية يتمسك بقوله: “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”– القيامة: 22، 23
- والنافي يتمسك بقوله: “لا تدركه الأبصار“- الأنعام: 103
- ومُثبت الجهة يتمسك بقوله: “يخافون ربهم من فوقهم“- النحل: 50، وبقوله: “الرحمن على العرش استوى“- طه: 5
- والنافي يتمسك بقوله: “ليس كمثله شيء– الشورى: 11
- ثم إن كل واحد يُسمي الآيات الموافقة لمذهبه: مُحكمة، والآيات المخالفة لمذهبه: مُتشابهة“(5)
مع كر الأزمنة وتوارث الآراء والمعتقدات المذهبية وتحجرها، وتحولها لذلك -من وجهة نظر أصحابها- إلى أحكام أصولية نهائية الاكتمال وثوابث عقائدية مطلقة الصواب، يصل المذهب الديني إلى وضع التماهي التام مع صحيح الدين الذي يحرص صاحبه على طمر ذاكرة الاختلاف المؤسس للمذهب، ويتم ذلك له عبر التنكر للمتشابه (محكم الآخرين) وتغييبه ونفيه إلى الأطراف القصيّة في الوعي الديني، وهو ما جسمه “ابن حزم” الفقيه الظاهري بقوله:
“وأما المُتشابه فحرام علينا بالنص تبعه وطلب معناه، فبطل بذلك أن يكون المختلف عليه متشابها، وإذا بطل ذلك صح أنه محكم، ولا يضر الحق جهل من جهل، ولا اختلاف من اختلف فيه”(6).
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر المفهوم السادس: الخلافة؛ نظام الحكم الشرعي والإلهي
هذا المقال محاولة في سياق إحياء ذاكرة الاختلاف بشأن المُحكم والمُتشابه ومعانيهما، وما ارتبط بالمفهومين من اختلاف التفسير وتعدد التأويل، ليس “ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله” طبقًا لفهمنا للشرط القرآني للتعقب الفاسد أو الباطل لمعاني القرآن، وهو تعقب المتشابه بحسب هوى النفس (ابتغاء الفتنة)، أو طبقًا لإلزامات الأحكام المسبقة وإكراهات الميول والاشتراطات المذهبية الجامدة (ابتغاء تأويله)، أي تأويله للغير وإلزامهم بالتأويل الخاص وإكراههم عليه. إنما هو ابتغاء لتحرير المعنى القرآني وإتاحته للقراءة الاجتهادية العامة والاختلاف الحر، بلا فتنة ولا افتتان، وبلا إكراهات تأويلية وإقصاءات عنيفة للمختلفين.
تعيين المُحكم والمُتشابه
يورد “السيوطي” في كتاب “الإتقان” ما يصل إلى خمسة عشر وجهًا من وجوه التعريف المختلفة للمحكم والمتشابه من آيات القرآن. من بين تلك التعريفات أن المحكم والمتشابه هما: الظاهر والمؤول، وقيل: الواضح والغامض، وقيل: المحكم ما احتمل التأويل من وجه واحد والمتشابه ما احتمل التأويل من وجوه عديدة، وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى والمتشابه ما تعدى ذلك، وقيل: المحكم ما استقل بنفسه والمتشابه ما لا يستقل بمعناه إلا برده إلى غيره، وقيل: المحكم تأويله بتنزيله والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل، وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه بالعكس، وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال، وقيل نقلًا عن ابن عباس: المحكم هو الناسخ والحلال والحرام والحدود والفرائض وما يؤمن ويعمل به والمتشابه المنسوخ والمقدم والمؤخر والأمثال وما يؤمن به ولا يعمل به، وقيل نقلًا عن ابن عباس كذلك: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام “قل تعالوا أتل عليكم ما حرم الله“، وقيل المحكم ما لم ينسخ والمتشابه ما قد نسخ، وقيل: المتشابه فواتح السور (حم، آلم، عسق…)(7).
وما لا يسعُ الملاحظة إغفاله في وجوه التعريف التي أوردها السيوطي أن كل منها يضع –ابتداء وعلى حدة- أساسًا نظريًا مستقلًا لآلية في القراءة وإنتاج المعنى من النص القرآني على أساس التعريف المستقل لماهية المحكم والمتشابه من آيات القرآن، ثم أنها –تاليًا وعلى الإجمال– تُفيد على وجه الإلزام تقريبًا حضور المنحى الشخصي الفردي والاجتهادي في قراءة القرآن، وبالأخص تلك التعريفات غير المتطابقة والمنسوبة إلى شخص واحد مثل “ابن عباس” أو لأشخاص مختلفين، لكنهم أصحاب مذهب واحد في التفسير.
إقرأ أيضًا: شيطنة التأويل وسلطة التفسير: الصراع السياسي على معاني القرآن
ويقدم “أبو جعفر الطبري” بدوره في سرده لاختلاف أهل التأويل في ماهية المحكم والمتشابه الوجوه المختلفة نفسها من المعاني، بإضافة أن المحكم هو ما يمكن الوصول لعلمه أو خبره من لدن البشر (ما عرف العلماء تأويله) أمَّا المتشابه هو ما يستأثر الله بعلمه دون خلقه (الغيب) نحو قيام الساعة وفناء الدنيا وما أشبه ذلك فإن ذلك لا يعلمه أحد. لكن “الطبري” يستدرك بعد نقاش مُدقق إلى أن جميع ما أنزله الله على رسوله هو بيان للناس وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إلى علمه، ولا أن يكون فيه ما بهم حاجة لعلمه ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل(8).
على رغم ذلك يُرجح لديه أن يكون معنى المحكم هو ما يحتاج الناس إلى علمه ومعنى المتشابه هو ما لا حاجة لهم إلى أن يعلموه، فالناس في حاجة إلى علم الساعة لكنهم ليسوا في حاجة إلى تبيين مدتها. ولا يخفى ما في ترجيح “الطبري” من وجوه النقص، فلو صدقت تفرقته بين المحكم والمتشابه في مثال قيام الساعة لأخفقت في تفسير غيرها من وجوه “التشابه” بين الآيات المتشابهة، كفواتح السور مثلًا، ليصبح السؤال عن الحاجة إلى ذكر فواتح السور في القرآن إذا لم يكن للناس حاجة إلى علم معانيها؟
على النحو الجدلي نفسه يُضاهي “فخر الدين الرازي” في تفسيره الكبير بين وجوه التفسير المختلفة لمعاني المحكم والمتشابه، واضعًا في الحسبان –بإدراك عميق لعنصر بشرية اللغة- إشكاليات التعاطي مع النصوص من مدخل لُغوي، يقول: “لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة البتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونًا، فثبت أن شيئًا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعًا”(9).
وبالاعتماد على صيغة رباعية منسوبة إلى ابن عباس يتموضع المحكم والمتشابه في طرفيها وتقول: “تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدًا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى”، يصل “الرازي” في محاولته لصقل قانون تأويلي محكم إلى تعريف مؤسس للمحكم والمتشابه بمعيار الدلالة العقلية، يقول:
“فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة: أحدها، ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقًا، وثانيها، الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره، وثالثها، الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابهًا، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها”(10).
والملاحظ مع ذلك هو أن “الرازي” لا يُقرن تفاوت الدلالة العقلية بتفاوت الفهم ونسبيته في العقل البشري، إما بسبب الانحياز المُضمر لكليات مذهبه الأشعري، أو لأنه يعتمد على مفهوم “العقل الكلي” في الفلسفة الكلاسيكية، وهو معنى يقترب إلى حد بعيد من مقولة الإجماع الفقهية، وتُلخصه مقولة “ابن سينا“: “هو المعنى المعقول المقول على ألسنة كثيرين مختلفين بالعدد من العقول التي لأشخاص الناس”(11)، أو لأنه رأى محدودية العقول ونسبيتها –ومن ثم اختلافها- مسألة بديهية ليست في حاجة إلى ذكر.
حكمة المُتشابه
اجتهد الأصوليون في تفسير أسباب وجود أو فوائد المتشابه من آيات القرآن مع ما يكتنفها من مخاطر الخطأ في الفهم والمشقة في الوصول إلى المعنى، وعددوا لذلك أسبابًا مختلفة يُمكن توزيعها إلى فئتين:
الأولى، فئة عامة تتجه إلى إبراز طبيعة التدين والإيمان بالغيب والامتحان والابتلاء الإلهي فيهما، واستحقاق ثواب الاجتهاد والعلم والاشتغال بهما، مضافًا إلى طبيعة الخطاب القرآني الذي يتجه إلى كل الناس مع ما بينهم من تفاوت في الفهم واختلاف المعارف والعقول، وهو ما يتبين من قول ابن عباس: “نؤمن بالمُحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله”، وفيما أخرج عن عائشة: “كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه”(12).
الأخرى، فئة مخصصة دارت على ألسنة أصحاب الاتجاه العقلي في اهتمامهم بترسيخ مشروعية النظر والاجتهاد والتأويل العقلي، ومفادها أن تركيب المحكم والمتشابه في القرآن يجعل من الاستعانة بالدلائل العقلية حاجة ملزمة لفهمه، ويؤدي نشاط العقل في فهم القرآن إلى شحذ ملكات الاجتهاد والتحصيل ونبذ الجهل والتقليد.
إقرأ أيضًا: عشر مغالطات في توظيف قاعدة لا اجتهاد مع النص
ويضيف “الرازي” المفسر ها هنا إضافة ذات مغزى بتعلقها بطبيعة المذهبية، لا بوصفها أحكامًا عقائدية فقهية مستنبطة من الآيات، بل بوصفها أحكامًا مسبقة وميولًا عقلية راسخة تبحث عن تأييد لها عبر فهم وتفسير خاص للآيات، أو بوصفها بنيةً اعتقادية سابقة على النظر وليست لاحقة له ومترتبة عليه. إلا أن ذات الطبيعة المذهبية التي تُملي الإيمان بالصحة الضرورية لمذهب المفسر دون غيره من المذاهب، جعلته يرى مع ذلك أن التعاطي مع تلك الآلية المذهبية في النظر والاستدلال قد تخلص المبطل (صاحب المذهب المختلف) من باطله، يقول:
“لو كان القرآن محكمًا بالكلية لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مُبطلًا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مُشتملًا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يُقوي مذهبه، ويُؤْثِر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق”(13).
لكن هذه النظرة الإيجابية تجاه الحكمة الإلهية التي اقتضت وجود واختلاط الآيات المحكمة والمتشابهة في القرآن تبقى، تحت وطأة التعصب للمذهب وفي ظل الإدانات التكفيرية المتبادلة (الفتنة) بين المذاهب، نظرة محدودة منحصرة داخل حدود التأييد الأصولي لصحة المذهب، وبعيدا -بدرجات تختلف من آن لآخر ومن مُفسر لآخر- عن انفتاح الرسالة القرآنية الدائم على الأفهام المتباينة والأزمنة المختلفة والذهنيات المتفاوتة.
لذلك ظلت تُرافق تلك النظرة التعددية الإيجابية للتشابه والاختلاف نظرة واحدية سلبية تحولت مع توالي أزمنة الجمود الفكري وحقب الانغلاق التاريخي إلى قاعدة للتعاطي المذهبي المحكم –بمعنى الواحدي والإقصائي– مع التشابه والاختلاف. تلك النظرة لا تحصر سلبيات الاختلاف في تفسير المتشابه داخل الحدود القرآنية المشروطة بالزيغ والفتنة فحسب، وإنما تتوسع عبر ما تحشد من آراء ومأثورات لتجعل كل سؤال –فضلا عن كل فهم مختلف– يتعلق بالمتشابه القرآني من المحظورات المؤثمة، لا بل من الملعون المجرم المطارد باللعن والعقوبة.
إقرأ أيضًا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} قراءة معرفية لآيات المواريث
من ذلك مروية “صبيغ” التي يذكرها الدَّارِمِي في سننه، وتُروى عن رجل اسمه “عبد الله بن صبيغ” قدم إلى المدينة على عهد عمر بن الخطاب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فضربه حتى دُمي رأسه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد وضربه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد وضربه، ثم دعاه فقال له “صبيغ“: “إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا”!، وعندئذ أذن له عمر بالعودة إلى أرضه ليعيش فيها منبوذًا لا يُجالسه أحد من المسلمين(14).
ومن بين تلك القراءات الأكثر تشددًا ونكيرًا مذهبيًا في باب المحكم والمتشابه تأتي قراءة “ابن تيمية” الحنبلي الذي ينطلق من معنى مزدوج للإحكام القرآني: الأول، هو معنى ما يحكمه الله من الآيات بعد نسخ “المتشابه” الشيطاني كما في آيات سورة الحج: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ”- الحج: 52 و53.
والآخر، هو معنى الإحكام بنسخ آيات قرآنية بآيات ترفع حكم الأولى ودلالتها وتُثبت حكم التالية ودلالتها، ويصل “ابن تيمية” في هذا الباب إلى وضع المحكم (الناسخ) في مواجهة المتشابه (المنسوخ) في ثلاثة معاني: “وهنالك جعل الآيات قسمين: محكمًا ومتشابهًا كما قال: “منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات”. وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه الله. فصار المُحكم في القرآن تارة يُقابل بالمُتشابه والجميع من آيات الله وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان. ومن الناس من يجعله مقابلًا لما نسخه الله مطلقًا حتى يقول: هذه الآية محكمة ليست منسوخة ويجعل المنسوخ ليس محكمًا وإن كان الله أنزله أولا اتباعًا لظاهر من قوله: “فينسخ الله” و”يحكم الله آياته، فهذه ثلاثة معان تُقابل المُحكم ينبغي التفطن لها”(15).
من تلك النقطة يؤول “ابن تيمية” كل اختلاف مع مذهبه في المحكم والمتشابه -الذي يراه مذهب السلف الصالح بإطلاق- بوصفه اتباعًا للشيطان. ولعل ذلك هو فحوى قوله: “ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رُفع حكمه أو دلالة له فإنه يُلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباعَ ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد. وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال: المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار والله أعلم”(16).
ولعل الرد القوي على تشدد “ابن تيمية” في إيقاع التماهي بين المحكم والناسخ، والمتشابه والمنسوخ، يأتي من اختلاف مذاهب التفسير في الناسخ والمنسوخ، فوفق ما يذكر “الزركشي” في “البرهان“: “قيل لا يقع الناسخ في قرآن يُتلى ويُنزَّل، والنسخ مما خص الله به هذه الأمة في حكم من التيسير”(17).
المراجع:
_____
- لسان العرب، مادة: ح ك م.
- لسان العرب: مادة: ش ب ه.
- فخر الدين الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت، 1981، ج 7، ص 181
- أنظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الحديث، القاهرة، 2006، ص 370
- الرازي، التفسير الكبير، ج 7ـ ص 182
- ابن حزم الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ب.ت.، المجلد الأول، جـ4، ص532
- جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مكتبة الصفا، القاهرة، 2006، المجلد الأول، المجلد الأول، جـ2، ص 210 ، 211
- أبو جعفر الطبري، جامع البيان عن تفسير آي القرآن، دار الحديث، القاهرة، 2010، ج3، ص 97 و98
- الرازي، التفسير الكبير، ج 7، ص 182
- الرازي، التفسير الكبير، ج 7، ص 183
- مراد وهبة، المعجم الفلسفي، دار قباء الحديثة، القاهرة، 2011، ص 426.
- السيوطي، الإتقان، مج 1، ج2، ص212
- الرازي، التفسير الكبير، ج 7، ص 185
- السيوطي، الإتقان، مج 1، ج 2، ص 213
- تقي الدين ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، دار الإيمان، الإسكندرية، ب.ت.، ص 11
- ابن تيمية، الإكليل، ص 12
- بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الحديث، القاهرة، 2006، ص348.