تكوين
[I]
ترتبط علوم الفهم، علوم المجتمع والإنسان، من جهة موضوعِها، بمفهوم الحقيقة على نحو مباشر. هي تؤسس الحقيقة، وتتأسَّس في علاقة وطيدة معها، وبتوسُّطها؛ وعلى جهتها. ولأن الحقيقة، في المعنى المعاصر لها، أي وفقًا لأسس ما بعد الحداثة، والبداهات الأنطولوجيَّة والإبستيمولوجية لها، تتواشج بِنيويَّاً مع التعدد في الفهم، والمشاركة في بنائها، والحوار المتواصل حولها، وبالتالي هي متعالقة مع النقد والنقد المضاد، فإنَّها، أي الحقيقةُ لا تكون إلاَّ متى فُهمت على أنها تُبنى في كلِّ مرَّةٍ على أنها، وكيف أنها.
في هذا السياق، كانت علوم الفهم، وتكون؛ وتستمر طالما للإنسان صلة بِنيويَّة بالحقيقة، تجعله، في علاقته بالعالَم، يكون، أو يتوفر على إمكان ذلك. إنَّ علوم الفهم، على هذا الأساس، تتقوَّم، في كل الأحايين، ضمن رُباعيَّة أصيلة لا مفر من اِنطلاق الوعي بالأشياء في العالَم، منها، في أيَّةِ محاولة تريد أن تقدِّمَ شيئًا جديدًا، على صعيد التساؤل، والتفكير، والفهم، في العلاقة بالعالَم؛ إنها رُباعيَّةُ
- I – المحدِّدات القَبليَّة
- II – الرؤية إلى العالَم
- III – وجهة الفهم
- IV – قابلية التصوُّرات القَبْلِيَّة في الحُكْمِ على موضوعات العالَم، والوجود في العالَم، والكينونة، والمجتمع، والإنسان.
هذه الأربعة التي تسبق، على الدوام، كل ضرب من ضروب فهم الأشياء- الموضوعات في العالَم. وهكذا، نفهم الإشكالية التي تحيط الفكر، كل الفكر، على نحو تفكيك هذه الرباعية، في صيرورتها البنيوية، داخليَّاً وخارجيَّاً: أي ضمن علاقة المكونات الداخلية التي من شأن الإشكالية بذاتها، ومن ثَمَّ، نحو الخارج، أي العلاقة التي للمكوِّنات الداخلية بالإشكالية نحو الخارج، بالإشكاليات الأخرى، الإشكاليات خارج الإشكالية الأصلية. على هذا النحو نتساءَلُ عن إشكالية إسلامية المعرفة.
[II]
ما هي بنية إشكالية إسلامية المعرفة التي قامت وسادت في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، ولازالت تمارس شتى أنماط التحديد والتعيين في الفكر والنظر، من جهة، وفي الفعل والعمل، من جهة أخرى؛ والتي وضعت أسسًا للكثير من ضروب التفكير والفهم والوعي بالمسائل المجتمعية، والثقافية، والاِقتصادية، والسياسية، في المجتمعات العربية؟ وعلى أي نحو يمكننا أن نتساءَل عنها؟
إن التساؤل عن الإشكالية The Question about Problematique، ضمن إطار فهمها على نحو سوسيولوجي- إبستيمولوجي، أي اِنطلاقًا من مفاهيم السوسيولوجيا لفهم بِنية الإشكالية على نحو إبستيمولوجي، ومن حيثُ ما تعنيه بالنسبة إلينا، أي بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية، وواقعنا المجتمعي العالَمي، إنما هو إشكالية التساؤل The Problematique of the Question. أعني أن التساؤل، من جهة كونه محورَ اِرتكازٍ، هو، على الدوام، ومن حيثُ هو لا ينطلق إلاَّ من منظار المصادر المعرفية القَبْلِيَّة، يقوم على أرضية محدَّدة، دون أخرى. وعلى هذا الأساس، لا ينهض التساؤل الأصلي إلاَّ متى وفَّر، بجلاءٍ وإحكام، إمكان التعرُّفِ على أرضيَّة وقوفه؛ أو فَتَحَ الدَّربَ نحوَه.
في هذا المضمار، أنْ نتساءَلَ هو أن نشاركَ العالَمَ فهمه بالتَّعدُّد الذي من شأنه. نتشارك، على نحو إعادة بناء التساؤل عن الموضوع، بالعالَم، ومع العالَم، ضروبَ إمكانِ الفهمِ الذي من شأن موضوعاته. إن التَّساؤلَ ضربٌ من ضروب الوجود في العالَم، متى أُخِذَ من خارج إطار الواجب- الوظيفة (أي متى حَدَّدَ واجبٌ آيديولوجيٌّ وِجهةَ الفهم، أو متى عيَّنَتْ وظيفةٌ مجتمعيَّةٌ ما إمكانات الفهم). وعلى هذا النحو، تفتح العالَميَّةُ، أي ضروبُ الوجود في العالَم المختلفة والمتعدِّدة والمتنوِّعة، على صعيد الفكر والواقع والمجتمع، أفقَ التساؤل، أيَّ تساؤل مهما كان. في هذا الأفق، علينا أن نميز، في المجتمعات العربية، بدءًا من دولة الاِستقلال، وصعود الآيديولوجيات القوميَّة، والتيارات الفكرية الدينية، بين أربعة ضروب مختلفة من زج الدين في التورط المعرفي بالعالَم:
- I – إسلامية المعرفة
- II – أسلمة المعرفة
- III – المعرفة الإسلامية
- وصولاً إلى IV – أسلمة المجتمع.
إنها أربعة ضروب مختلفة من توريط الدين، وضروب التديُّن المختلفة، والمعرفة الدينية، بالمعرفة الفلسفية والعلمية الحديثة وما بعد الحديثة، بعامَّةٍ، والتساؤل المعرفي عن العالَم، بخاصَّة. ولكن من أجل أن التمييزَ إمكانٌ موضوعيٌّ من إمكانات التعيُّن القَبْليِّ الذي يصرِّح ويفتح ويغلق- أو يمارس واحدًا منها، أو أكثر- الإمكانَ في جذر الممارسة الفكرية، في كل مرَّة، فإنَّه يقع علينا، على نحو صارم، أن نضع معيارًا إبستيمولوجيَّاً للتمييز بين الضروب الأربعة هذه؛ ضمن معيار معرفي يقوم على أساس العلاقة، وكيفيَّة العلاقة مع العالَم. إذا تساءلنا عن إمكان المعرفة بالعلاقة مع العالَم سنكون أمام المعرفة الإسلامية. وإذا ما تساءَلنا عن إمكان المعرفة في العلاقة مع الهُويَّة، هُويَّة المجتمعات العربيَّة، سنكون أمام إسلامية المعرفة. وإذا قام التَّساؤل عن إمكان المعرفة في العلاقة مع الآيديولوجيا ستظهر، على السطح، عمليَّة أسلمة المعرفة، وعملياتها المختلفة في علاقتنا مع الآيديولوجيا المجتمعيَّة بعامَّةٍ. ومتى قام التَّساؤل عن الواقع المجتمعيّ وماهيته وكيفه سنكون أمام عمليات أسلمة المجتمع.
إقرأ أيضا: إشكالية الهوية والثقافة في المواطنيَّة وإمكان العالَميَّة
[III]
وترتبط هذه الضروب الأربعة بالالمن فهم العالَم، والوجود فيه، بضربين من التأسيس. يقوم الأول على أدلجة المعرفة بما يتناغم مع مصالح جماعة بعينها في المجتمع؛ كما يتعالق الثاني بضروب إنشاء جماعة سياسية– مجتمعية تتوفر على إمكان تحويل الموضوعات المجتمعية والإنسانية، التي أصبحت، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي، موضوعاتٍ عالميَّةً، إلى موضوعات دينية خاصة. وهكذا نكون أمام الآتي:
- تتضمن المعرفة الإسلامية ضربًا من ضروب الممارسة في عملية إنتاج المعرفة، أو عملياتها المختلفة؛ يقع كإمكان بين إمكانات أخرى. فنقول المعرفة الإسلامية، أو المعرفة الليبرالية، أو المعرفة العلمانية، أو المعرفة الماركسية، أو المعرفة القومية… وهكذا دواليك من المعارف التي تقوم على رؤية بعينها إلى العالَم. يمكن أن تتعين الرؤية هذه، ضمن المصادر القَبْلِيَّة التي من شأنها، على نحو ديني أو قومي أو عالمي أو جماعي أو اِشتراكي… أو إلى آخِره. إن المعرفة الإسلامية، والحال هذي، إنما هي إمكانٌ من الإمكانات الموضوعيَّة التي من شأن فهم الأشياء في العالَم. يقع إمكانها داخل الآيديولوجيا الإسلامية، ويفتح أفقًا من داخلها.
- بينما تتضمن عملية أسلمة المعرفة ضرباً واحداً صريحاً يريد أن يجعل من معرفة ما المعرفةَ الأصليَّةَ التي تشتمل على كل المصادر القبلية التي من شأن كل المعارف الممكنة؛ وتصبح المعرفةَ التي تمكِّن المعارف الأخرى من أن تكون معرفةً في كل مرة. إن الأسْلَمَةَ، والحال هذي، إنما هي عملية آيديولوجية سياسية.
- وفي الضرب الثَّالث، تتضمَّنُ إسلامية المعرفة شيئًا آخر- مختلفًا جذريَّاً عن كل ذا، يرتبط بصيرورة أدبية وفكرية لتديين (نسبةً إلى الدِّين) المعرفة. تعني إسلامية المعرفة، وتقوم على اِفتراضات وتصوُّرات تعيِّنُ النظريَّة والمنهج في العلم بالمجتمع والإنسان، وفي ضروب فعل التفلسف في الحقول الفلسفيَّة العالَميَّة الستة (الميتافيزيقا، واللوجيكا، والإبستيمولوجيا، والإثيكا، والبولتيكا، والإسثتيكا). بالتالي نكون أمام عمليَّة معرفية كُلِّيَّة شاملة تريد أن تُصبِح الأرضيَّة الإبستيمولوجيَّة والميثودولوجيَّة لكل المعارف الممكنة. إنَّها عمليَّة فلسفية- علميَّة تستخدم كل النظريَّات الحديثة والمناهج الحديثة وما بعد الحديثة كي تفرغها من مضمونها الأصليّ، وتضع بدلاً عن ذلك مضمونها المحلي والخاص؛ كما تشاء وحيثما تشاء، وبتوسُّطِ ما تشاء؛ أي كما تقول، في كل الأحايين، مصالحها السياسية في العلاقة مع العالَم، اِنطلاقًا من الهُويَّة، هويتها هي؛ باِعتبار أن أقوى الهُويَّات إنَّما هي تلك التي يُحدِّدها المقدَّسُ في كل الأحايين.
- أمَّا الضرب الرَّابع، أي أسلمة المجتمع، يرتبط بتحويل البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة الثلاث، أي بِنيَة الثقافة والاِقتصاد والسياسة، وما توفره كل بِنيَة من حقول وجود مجتمعي، وما يعيِّنه كل حقل مجتمعي من مؤسسات مجتمعيَّة، وما تمارسه كل مؤسسة مجتمعيَّة من [تقنين- وضبط- وتعيين]، هذه المحدِّدات الثلاثة دفعة واحدة، على العلاقات المجتمعيَّة، والفعاليات المجتمعيَّة، وبالتالي على الفاعل المجتمعيّ الفرد، إلى بِنى إسلامية، وحقول وجود مجتمعي إسلاميَّةٍ، ومؤسسات مجتمعيَّة إسلامية، وتقنين للسلوك إسلاميٍّ، وضبط للأفعال المجتمعيَّة إسلاميٍّ، وتعيين للعلاقات المجتمعيَّة إسلاميّ. إنَّ هذه، إنَّما هي صيرورة أسلمة المجتمع التي بدأت مع فتوى، ولا يمكن أن تستمر من دون فتاوى. وهكذا نكون، على سبيل المثال، لا الحصر، أمام شرعية مجتمعيَّة للسلطة تقوم على توجيه ديني، ومشروعية قانونية للسلطة يُتوفَّرُ عليها بتوسُّطِ النص الديني، وسياسات اِقتصادية، مالية أو نقدية أو صناعية أو تجارية أو زراعية، وإلى آخره، تُحدَّدُ عَبرَ آراء رجال الدِّين، أو بواسطة الأخذ بها سياسيَّاً ومجتمعيَّاً.
[IV]
ولكن كيف يمكن أن نعثر على طريق الوعي بهذه الضروب من بناء معرفة تريد أن تواجه المعرفة العالَميَّة وتحل محلها؟ أين يجدر بنا أن نتساءل عن الإشكاليَّة ونتفحَّص حضورها في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟
إنَّه تساؤل الكيف. كيف تُبنى المعرفة، وتُنتج، وتكون فاعلة في الفكر، والواقع. وتساؤل الكيف من حيثُ إنَّه تساؤل المنهج، فإنَّ الوقفة الميثودولوجيَّة، ههنا، تعني الكشف عن مكوِّنات ومحطات ميثوديَّة تُمارَسُ، في كلِّ مرَّةٍ، أو هي تبني شروط إمكان المعرفة. إنَّها تمارس ذلك، على النحو الآتي، على أقل تقدير:
- تعيين إشكاليَّة الموضوع وإشكاليَّة الموضوعيَّة على نحو توجيه التصوُّرات والاِفتراضات والأفكار الأوَّلِيَّة التي تُحدِّد الموضوع، من خلال وضع الرؤية الدينية في كل تَصوُّر وكل اِفتراض وكل فكرة عن الموضوع، أي موضوع كان. بالتالي، تُصبِح وجهة الفهم، أي ذاك المسار الذي يتخذه الفهم لذاته، في سبيل موضوعه، والحدود الفكريَّة التي تُحدِّد مفاهيم الفهم، بوصفها المحدِّدات القَبليَّة Priori للفهم، ذاتَ روح دينية، ولو بدت، في الوهلة الأولى، وعلى نحو شكلي، غير ذلك. إنَّ ثُنائيَّة الشكل والمضمون، في المفاهيم التي تبدو، على نحو شكلي، مفاهيم حديثة وعالمية وتنويرية، تُتصوَّر عَبرَ الحفاظ على الشكل، ووضع ما تشاء الآيديولوجيَّاتُ الدينيَّةُ في المفهوم. يُصبح، المفهوم، هكذا، من دون مضمونه الأصليّ، ويُحرَّف، ويُفبرك، ويُصطنع، عَبرَ سلاسل سَبَبِيَّة، تبدأ في مجملها من المعرفة الدينية، وتتوقف عند حدودها المغلقة إزاء العالَميَّة. وتُحاجِج بالنصِّ الديني؛ فبالتالي تنقد وتنتقد اِنطلاقًا منه.
- تتضمَّنُ عمليَّة التوجيه هذه، توجيه الفهم، ركائز أربع على أقل تقدير، هي ذي: الركيزة الأولى تتعين وَفقًا لضروب الصراع على اِحتكار الحقيقة الدينية، والركيزة الثَّانية نفهمها في إطار الصراع على اِحتكار السلطة، أو الوصول إليها؛ ويمكن الوعي بالركيزة الثَّالثة على نحو إشكاليَّة الحقيقة ما بعد الحديثة، أي الحقيقة وقد صارت بالمشاركة، والحوار، والتواصل، تُبنى وتُخلق، وتُصنع؛ ونفهم الركيزة الرَّابعة على نحو الديالكتيك بين الحقيقة المجتمعيَّة، والآيديولوجيا المجتمعيَّة، والواقع المجتمعيّ، هذه الأشياء الثلاثة التي تُعيَّنُ، على الدوام، اِنطلاقًا من إشكاليَّة إسلامية المعرفة، من خلال الرؤية الدينية للعالَم.
- ولكن ما هو الواقع المجتمعيّ؟ والآيديولوجيا المجتمعيَّة؟ والحقيقة المجتمعيَّة بعدُ؟ إنَّ الموضوع يوجد على نحو واقعانيَّةِ الواقع من حيثُ إنَّه يعي ذاته ضمن المفاهيم العِلميَّة القَبليَّة Priori التي تؤسِّس له. ولكن ما هو الواقع الواقعاني، ضمن إشكاليَّة إسلامية المعرفة؟
- لا تنتظر الحقيقة المجتمعيَّة التَّساؤلات المنطقيَّة والفلسفية عنها، ولا هي تحتاج إلى ضرب من ضروب التَّساؤل والتفكير والفهم التي من شأنها، ولا هي تتوقف عند الوعي بالحقيقة في المعاني الحديثة وما بعد الحديثة التي من شأنها؛ إنَّ الحقيقة المجتمعيَّة إنَّما هي إيمان المجتمع بجملة أفكار تصنع له، في كل مرَّةٍ، ومن جديد، هويَّتَه هو، تصديقاته هو، ضروب إيمانه هو. ولو كانت، قد تبدو، من الخارج، وبعد حينٍ، في الكثير من الأحايين، ضربًا من الخرافة أو الأسطورة أو الوهم أو الكذب الآيديولوجي. إنَّ الحقيقة المجتمعيَّة تقوم على إجماع المجتمع، أو الغالبية الساحقة منه، حولها.
وهكذا تُفهم الآيديولوجيا المجتمعيَّة، على أسسها الثلاثة: التُّراث والهُويَّة والذَّات المجتمعيَّة الكُلِّيَّة. نفهم الذَّات المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، في هذا السَّبيل، على أنها تشمل ما يفهمه المجتمع من ماضيه [الـ- ما- وَقَعَ] The History of Fact، ومن حيثُ إنَّه فهمُ الماضي الخاصّ بالمجتمع فهو له مكانته الخاصَّة في الميتافيزيقا المجتمعيَّة، وبالتالي هو ينسحب إلى حاضر المجتمع من جهة الوقوع [الـ- ما- يَقَعُ] The Present Fact، ويؤسِّس به مستقبله- أي إمكانات المجتمع الذاتيَّة وقدراته على بناءِ مستويات الوعي المجتمعيَّة الأساسيَّة، على أنها، أي الذَّات المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، رافعةُ الحقيقةِ المجتمعيَّة في كلِّ مرة، أو لا تكون. إنَّها صيرورة الأسلمة، في الفكر والواقع، في مجتمعاتنا العربيَّة.
إقرأ أيضا: تحديثُ الإنسانِ، والمجتمع
[V]
لكن هذه الصيرورة تأخذ مسارًا مختلفًا متى فُهِمَت بواسطة العلاقة مع الآخر العالَمي؛ وذلك لا يتبيَّن إلاَّ متى صارت المفاهيم التي تُوظَّف في التَّعرُّف إليه جليَّةً، ومفتوحةً إزاء التفكيك. إنَّ تفكيكًا لا يلج إلى الطبقات العميقة للمفهوم يبقى خارج إطار التفكيك الجذري الذي يهدف إلى التَّعرُّف إليها. إنَّ التَّعرُّف إليها يتضمَّنُ معنى إيضاح الإمكانات الموضوعيَّة التي يمكن للمفاهيم أن توفِّرَها في التعامل مع الآخر، الآخر بعامَّةٍ، والآخر العالَمي الذي يخصُّنا، وصولاً إلى الآخر الداخلي الذي نتشارك الوطن والمواطنية معه؛ نحن الذين نتلقى المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة وما بعد الحديثة من بلدان العلم في الغرب.
فإنَّه، وَفقًا لذا، حينما نقول أسلمةً، نذهب مباشرةً إلى مستوى فعلٍ معرفيٍّ يقوم على فعاليَّة معرفية، وحقلِ معرفةٍ، ومؤسِّسةِ معرفةٍ، وبالتالي مجتمع- متَّحِد معرفة Knowledge Community بعينه تضبطه جملة قواعد، وضوابط تتحكم بعمليات إنتاج المعرفة، وكل ضروب إمكانها. ومتى قلنا المعرفة الإسلامية نقول، في الوقت نفسه، أن ثمة معرفة ما، قد تطرح نفسها، أو تضع نفسها في مواجهة، ضمن الصراع المعرفي حول مفهوم الحقيقة، وإمكانها، مع المعارف الأخرى، والاِتجاهات المعرفية الأخرى، والمدارس المعرفية الأخرى، والتوجهات الفكرية داخل المدارس المعرفية الأخرى. ولكن هل يعتبر ذلك أساسًا آيديولوجيَّاً يسبق كل إمكان من إمكانات المعرفة؟ وأدوات إنتاجها؟ ووسائل خلقها؟ وضمن أيَّةِ معانٍ يمكننا أن نتفحَّصَ العلاقة بين المعرفة والآيديولوجيا، في المضمار هذا؟
تميز المعرفة الشائعة بين الآيديولوجيا والمعرفة بشكل صارم، وبحدود حادَّة لا تنفك عن وعي الآيديولوجيا على أنها نقيض المعرفة، علميَّةً كانت، أو فلسفية. في الحقيقة، يقع هذا الكلام، وغيره من ضروب إمكان إنتاج الكلمة، ضمن تصور ماركسي مغلق لمفهوم الآيديولوجيا. إذ إنَّه لا ثَمَّةَ معرفةَ من دون حضور الآيديولوجيا فيها، على هذا النحو أو ذاك. إننا حينما نقول آيديولوجيا داخل المعرفة نشير مباشرةً إلى الأصول المجتمعية التي تُسهم، وتشارك في إنتاج المعرفة، وتحدد نمطاً بعينه من أنماط المعرفة. وبعبارة مباشرة: تجيب الآيديولوجيا عن التساؤل الذي يرتبط بالشروط المجتمعية والتاريخية، التي تصبح، بعد حينٍ، بنيويَّةً، داخل المعرفة؛ وتشارك على نحو واقعاني، من جهة وعي الواقع بذاته، في إنتاج المعرفة وبالتالي دفعها إلى الواقع المجتمعي؛ الذي هو بدوره، في المقابل، يُنتج إشكالاته وإشكالياته الخاصة في كل مرَّة. وهكذا، علينا أن نعيد بناء التساؤل، وفقاً لذلك، من جهة مفهوم آخر هو الفهم المغلق إزاء العالَميَّة. أو الفهم الذي يذهب نحو بناء جماعة- هُويَّة. إنه الفهم الذي يريد أن يحجب إمكان الفهم. ذلك الفهم الهُوَوِيُّ (نسبةً إلى الهُويَّة) الذي يجعل منا كائنات منفصلة عن العالَم. حينما نتساءل بهذه الطريقة، يمكننا أن نضع الفرضيات التفسيرية الدَّالة الفاهمة الآتية:
[VI]
- يجب أن نميز بين نفي وجود المعرفة، ونفي إمكان المعرفة؛ ثَمَّةَ إمكان للمعرفة في أن تُبنى اِنطلاقاً من الإنسان؛ بوصفنا شكلاً من أشكال ممارسة فكرة الإنسان في عصر الإنسان هذا. إنَّنا في عصر الإنسان على الرَّغْمِ منَّا؛ شئنا ذلك أم أبينا، لا فرق، مواطنون داخل عالَم واحد، ومجتمع عالَمي واحد، بكل ضروب الاِختلاف والتعدُّد والتنوع العالَميَّة. حينما نضع هذه البداهة في أعلى درجة من درجات سلم الإعلان عن ذات أنفسنا العميقة بوصفنا كائنات ننطلق من ثقافة، أي شكل من أشكال الثقافة، عالميَّاً، إلى العالَم، نحدِّدُ على نحو صريح أن لا ثَمَّةَ إمكان لمعرفة تُضاف إلى حقل المعرفة العِلميَّة الحديثة تنطلق من الدِّين، أي دين كان. إذن إذا كانت المعرفة الإسلامية يمكنها أن توجد، وتكون، وتمارس صراعاتها الآيديولوجية مع المعارف الأخرى، فإنَّ إسلامية المعرفة تواجه اِستحالة أن تكون؛ بل هي ضرب من الاِنحراف المعياري الذي يمارسه عقل دينيٌّ مأخوذ بذاته؛ لا يفهم العالَميَّة إلاَّ اِنطلاقًا من الهُويَّة، هويته هو. بالتالي هو لا ينطلق من ذاته إلاَّ لأنْ يتوقَّفَ في ذاته.
- لا يمكن إنتاج معرفة ما، أي شكل من أشكال المعرفة، وممارستها، إلاَّ بواسطة ثُلاثيَّة [إدراك المعرفة- وفهم المعرفة- ووعي المعرفة]. أي تلقي المعرفة من الخارج، ومن بَعدُ تفكيكها إلى أجزاء مفهومة، ومِنْ ثَمَّ وضعها في موقع معرفي يخصها؛ أي وضعها بواسطة فهمٍ حاكِمٍ ضمن حقل فهم بعينه. وعلى نحو بَعْدِيٍّ، يمكن أن نفتح الأفق نحو إيضاح الإمكانات الموضوعيَّة التي يتوفَّر عليها كل مفهوم من المفاهيم، أو هو يوفِّرها من أجل الأفهام البَعدِيَّة Posteriori. وهكذا، حينما نقول معرفة إسلامية تتضمَّنُ آيديولوجيا إسلامية تريد أن تواجه كل ما سواها نقول أشياء معرفية أخرى قد تكون خارج موضوع المعرفة الحديث؛ أي بهذا القول نقع، على هذا النحو أو ذاك، خارج تاريخ المعرفة، بوصفه، [ههنا- و- الآن]، صار صناعة، وخلقاً، وإنتاجاً.
- ثَمَّةَ مُكَوِّنات أساسيَّة في المعرفة، أيَّة معرفة مهما كانت. المُكَوِّن الآيديولوجي، والمُكَوِّن الإبستيمولوجي، والمُكَوِّن السُّوسيولوجيّ. تقع كل المُكَوِّنات الأخرى التي يمكن أن تُضاف إلى شكل من أشكال ممارسة المُكَوِّنات الثلاثة هذه. وعلى ذلك، لا ثَمَّةَ بُعدًا آيديولوجيَّاً في المعرفة، بل إنَّه مُكَوِّن أساسي في المعرفة. لكن هذه ليست دعوة للسقوط المدوي للمعرفة داخل التَصوُّر الماركسي لمفهوم الآيديولوجيا؛ بوصفه تصوراً آيديولوجياً، وهذا ضمن حقل لغة كارل ماركس نفسه، عن الآيديولوجيا. وفي عبارة صارمة: الفهم الآيديولوجي الأكثر بعداً عن المفهوم إنَّما هو أتى إلينا، أي اِنتقل إلى مستوى وحدة الفهم، بواسطة كارل ماركس، وأدبيات ماركسية لم تستطع أن تصل إلى المفهوم العلميّ الَّذي من شأن الآيديولوجيا مأخوذةً كعلم الأفكار. أي وحدة المفهوم، وتعدد المفهوم، وصيرورة المفهوم، وبالتالي [حقل- الفهم] الذي من شأن المفهوم بوصفه موضوعاً فلسفياً علمياً حديثاً.
إقرأ أيضا: المنطقة العربية وأسلمة مخيال شعوبها: المقدمات والتبعات
[VII]
تصطدم هذه الفرضيات، وما يمكن أن يكون على شاكلتها من تلك التي تسعى لفهم وتفسير المعرفة العالمية، وبالتالي إنتاجها، وتريد، في كلِّ مرَّةٍ، أن تضع نفسها في تكامل معرفي مع العالَم، بمقولات آيديولوجية من قبيل: “التحيز الغربي للمعرفة، و”هيمنة الفكر والثقافة الغربيَّيْن على بلاد المسلمين”، و”التطرف الغربي في المعرفة”، “العُصيان الإبستيمولوجي على المعرفة الغربية”، “التمرُّد الإبستيمولوجي على المعرفة الغربية”،… وإلخ. ومن جهة أخرى، تواجَه هذه الضروب، من موقع هُوَوِيٍّ لا يختلف كثيرًا عن كل ضروب الاِتهام الجاهزة التي تُوَجَّه للمعرفة العالَميَّة؛ فهو، متى وجد جعبته النظرية والمنهجية فارغة في ممارسة النقد والنقد المضاد، على نحو حديث، وما بعد حديث، وقعَ ضحيَّةَ تصوُّرٍ ديني للهُويَّة. فماذا يفعل؟ يذهَبُ إلى التراث الديني، والمعرفة الدينية الجاهزيْن، على نحو صريح، أو بشكل يحتجب في مفاهيم حديثة من دون مضمونها النظري، ومنظورها النظري الأصليَّيْن، للرد على نتاج المعرفة العالمية الذي لا يقوم إلاَّ على عقل عالَمي، عقلاني حديث، متوفِّر على إمكانات عقلنة الأشياء في العالَم. ولكن، أين يجدر بنا أن نعثر على كيفية فهمه، وممارسته لهذا الضرب من الهروب إلى الماضي الذي لم يمضِ بعدُ؟ وعلى أي نحو؟ أو كيف هو يحجب هذا الهروب ضمن خطاب عَصري يستخدم لغة المفاهيم الحديثة وما بعد الحديثة، فلسفيَّاً وعلميَّاً؟
ثمة تصور للعالَم، والوجود في العالَم يحتجب بواسطة هذا النوع من الكلام. إنه تقسيم العالَم إلى ثنائيات منهكة مستهلكة لم تعد تقدم إمكاناً لفهم العالَم. ثنائيات من نوع: [شرق- غرب]، [مفاهيمنا- مفاهيمهم]، [لغتها- لغتهم]، [علمنا- علمهم]، [فلسفتنا- فلسفتهم]، … وإلى آخره من هذه الثنائيات التي لا أول لها ولا آخر. ولكن التساؤل الأساسي في هذا النوع من تقسيم العالَم، تصنيفه ضمن معلبات فكرية- مفهومية جاهزة إنما هو سحب المعرفة إلى التساؤل عن ماهيتها، بوصفنا كائنات لا نتوفر على إمكان أن نكون خارج العالمية. وههنا، علينا أن نميز بين العالمية التي تخصنا، والعالمية في المعنى العالمي الذي يتضمن معنى الكوزموبوليتانية، والكونية، والمفهوم العلمي- الفلسفي القائم على المشترك الإنساني- المجتمعي.
حينما ننطلق من بداهات المعرفة الحديثة، في الوقت الذي نفهم، بداهةً، أن الحداثة مؤجلة إلى التتمة، أي البناء وإعادة البناء على نحو مستمر؛ ويستحيل أن تنتهي، مادام ثمَّ إنسان قادرًا على أن يقدم فهماً ما، خارج إطار الأوهام التي تتعلق بالاِنغلاق، وخلق جماعات هُويَّة، والتخشُّب ضمن هوية ثقافة ما، مهما كانت، نكون أمام تساؤل جذري يقوده فكر جذري يتضمن الآتي:
- تقوم المعرفة على [التعدُّد- في- الفهم]؛ بوصفنا كائنات ثقافية تتعدد، وتتنوع، وتختلف. إنَّ فعل التعدُّد، والاِختلاف، والتنوع، إنَّما هو فعلُ العقل الحديث. أعني، أننا لا يمكن أن نعي أفق الحداثة والتحديث إلاَّ بعد التَّعرُّف إلى الاِختلاف، والتدرُّب على فنِّ الاِختلاف.
- حينما نذهب إلى، أو نأتي من، تفكيك المعرفة، فإنَّنا، في الحقيقة، نقول خلق المعرفة، وصنعها، وخلقها، وبناءَها. هكذا، تأخذ كوغيتو رينه ديكارت، ووضع مشكلة الاِستقراء بواسطة بيكون، وكارل بوبر، وضروب النقد والتفكير النقدي لدى إيمانوئيل كانت، موقعاً في إنتاج المعرفة يبلغ مستوى بناء المحطات المَنْهَجيَّة في بناء الموضوع، موضوع المعرفة العِلميَّة- والفلسفية الحديثة. وهكذا، علينا أن نفهم أننا في عصر يتمُّ تحديده بواسطة الإنسان، وتلك الإمكانية الهائلة في أننا لم نقع في الحقيقة، وعليها، إلاَّ حينما تكون الحقيقة، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ]، جزءًا من الحقيقة.
- لقد قام عصر الحداثة على رؤية جديدة للإنسان، والذَّات، والعقل، بواسطة ثُلاثيَّة [فولتير (فكرة التسامح)- رينه ديكارت (مبدأ الكوغيتو، ومنهج الشك)- وإيمانوئيل كانت (نقد القوة العاقلة، ونقد القوة الفاعلة، ونقد القوة الحاكمة)]. قدم لنا فولتير نموذجًا- مثالاً Ideal- Type عميقاً في تجاوز الأحاديات إلى مستوى التعدُّد؛ على صعيد بِنيَة الثقافة في الحداثة. أخذنا ديكارت إلى مستوى بناء الذَّات بوصفها إمكانات قيام المعرفة على العقل البشري، واِنطلاقًا منه فحسبُ؛ اِنطلاقاً من العقل البشري وإليه. أي في، وبواسطة فعل عقلي- عقلانيّ يقع، في ما بعد بناء الذاتيَّة Subjectivism، في الدرجة الأولى من مستوى الإعلان عن المعرفة بوصفها خلقًا؛ أي من جهة كونها أخذت تُصبِح فعلاً ممكناً قائماً على إمكانات خارج حقل الدِّين؛ كما وضعنا إيمانوئيل كانْت في البؤرة الأكثر توتراً للعقل؛ تلك التي يجد العقل نفسه فيها وحده، ويجب أن ينقذ نفسه وحده. ولا ثَمَّةَ إنقاذ إلاَّ بعد الشعور العميق بالخطر. إنَّنا في عصر خطر، في المعنى الأخص لهذه الكلمة. أعني، إنَّنا أصبحنا مع ثُلاثيَّة إيمانوئيل كانْت النقدية، لأوَّلِ مرَّةٍ أمام القوة القادرة على إنتاج معرفة بالموضوعات في الخارج، بالاِعتماد على العقل البشري، والعقل البشري فحسبْ.
- حينما نواجه هذا النوع من التصوُّرات والاِفتراضات والأفكار التي تتعلَّق ببناء موضوع المعرفة، بواسطة النص المقدس، أو الحديث، أو السنة، أو التُّراث بوصفه قد جُمِّدَ في طريق رؤية سلطة ما له، أيَّة سلطة مهما كانت، ناهيك عن أننا نمارس قلة لياقة تجاه العقل العالمي؛ فإنَّنا، في الحقيقة، نضع أنفسنا خارج إطار العقل؛ لا أقصد العقل الحديث، بل العقل بعامَّةٍ. لماذا؟ لأنَّ الوظيفة الأساسيَّة للعقل أي إنتاج [الإدراك- والفهم- والوعي]، الوعي بوصفه فهمًا حاكمًا على الأشياء في العالَم، يتمُّ توجيهها نحو موضوع ليس من صناعة العقل البشري. وهكذا نسقط في بئر مظلم تريد مؤسسة الدِّين، الدِّين كما تراه مؤسسة قد صارت وقامت وفقاً لعقل بشري، في النهاية، أن يبقى، أي الدِّين، محتجباً عن الفهم. إنَّ ذلك لهو أمر يقع في صلب مهام سوسيولوجيا السياسة، والمعرفة.