تكوين
صيغة “إسلام ضد اسلام” تعود الى المثقف الليبي الصادق النيهوم (-1994م) وهي عنوان لكتاب يضم ست مقالات للمؤلف مع حزمة من الردود والتعقيب عليها من لدن مثقفين في العالم العربي في عقد تسعينيات القرن الماضي بالأخص سنة 1993م. لسنا هنا بصدد استرجاع مقولات وأفكار النيهوم، الذي ذهب بعيدا الى القول بأن هناك إسلام متردم في القرآن وقد غطى عليه وحجبه فقه الفقهاء الذي تشكل بتحالف مع الإقطاع ورجال السلطة. فإسلام الفقهاء في نظره يجد أصوله في التراث الديني اليهودي والمسيحي، وفي مختلف العادات والتقاليد في الجزيرة العربية وخارجها. والحقيقة أن التاريخ الإسلامي تقاطعت فيه سلطتان: سلطة المعرفة التي طمحت أن تكون “سياسية” وسلطة السياسة التي رغب في امتلاك المعرفة وتوظيفها، وهي مسالة خصص لها عبد المجيد الصغير كتابا بعنوان “الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام”
إسلام القرآن
فالحل في نظر النيهوم هو العودة الى إسلام القرآن، فكثير من مقالاته يحضر فيها النفس التأويلي لمختلف آيات القرآن وسوره. إلا أنه لا يمتلك مشروعا واضح المعالم في قراءة القرآن وتأويله، بالرغم من استثمار المنهج الرمزي والسيميائي في قراءة بعض من آياته وسوره، كما أنه لم يملك مشروعا واضح المعالم في قراءة وتحليل التراث الإسلامي الواسع والعريض، الذي امتزج بمختلف إرث حضارات الأمم السالفة على الحضارة الإسلامية. فمن التعسف بما كان أن نختزل كل التراث الإسلامي في موضوع الفقه الذي لا يشكل إلا جزءا من تراث الثقافة الإسلامية. أهم شيء يحسب للنيهوم أنه تنبه لأهمية التمييز المنهجي بين التراث الفقهي في الإسلام وبين القرآن وفلسفته ورؤيته للعالم والوجود والإنسان، وهذه مسألة مهمة تجعلنا نفهم ما قال به القرآن، دون أن نسقط عليه مختلف التفاسير والتأويلات في فهمه.
لا شك بأن هناك الاسلام الذي تشكل في التاريخ وهو متعدد ومتنوع، بتنوع الثقافات واختلاف الأزمنة والسياقات الاجتماعية والثقافية، فبإمكاننا الحديث عن إسلام افريقي وإسلام أسيوي وإسلام محيط الجزيرة العربية…وعيا منا بأن الثقافة والجغرافية…لها دورها الأساسي في تميز مختلف نسخ الإسلام عن بعضها البعض، بالرغم من تقارب كلا النسخ في الأصول المرجعية، فمن جهة الأصل القرآن واحد، ولكن تمثل ذلك الأصل والتعاطي معه يختلف باختلاف أنماط الثقافة، ولا شك بأن كل المسلمين يقرون بالإله الواحد وبالرسول خاتم النبيئين والمرسلين وبمختلف الشعائر… ولكن إن نظرنا الى الموضوع من زاوية الأنثروبولوجيا سنجد أنفسنا أمام تنوع وتعدد الفهم في ما قلنا عنه أنه واحد. مثلا إن سألت مسلم في الداخل الافريقي جنوب الصحراء عن معنى الإسلام ومعنى الرسول…سيعطيك أجوبة ليست بالضرورة هي الأجوبة التي يعطيك إياها مسلم آخر في الصين أو في العراق، فالاختلاف هنا ليس في الأصول ولكن حول طبيعة التفاعل مع تلك الأصول وحول طبيعة تصورها. فالدارس للشريعة الإسلامية يجد الفقهاء يستحضرون هذا البعد، فالفتوى لديهم تختلف باختلاف الزمان والمكان قال القرافي “الجمود على النصوص أبدا ضلال وإضلال” ويرى الشاطبي بأن العالم الرباني، هو الذي ينظر في كل حالة ليقدم الحكم المناسب، ويقول ابن القيم “إن المفتي الذي يطلق حكما واحدا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد وكلما جاء مريض أعطاه إياه، بل هذا المفتي أضر”[2]
وهناك الإسلام الرسمي القائم على مختلف الشعائر الإسلامية من صوم وصلاة…وتسهر عليه المؤسسات الدينية بدءا من مؤسسة المسجد وتتبناه مختلف فئات المجتمع الاسلامي، وهو إسلام يستمد وجوده من مختلف العادات والأعراف في مختلف البلدان، ويستمد وجوده كذلك من التقليد الديني الراسخ لسنين طويلة في المجتمع، وفق أقوال وأراء مختلف المذاهب الفقهية والاعتقادية، وأهم شيء في هذا النوع من الإسلام أنه إسلام مسالم، لم يكفر المجتمع ولم يرى في المدنية والحضارة الغربية نظرة تختزلها في الكفر، وترفض كل ما هو قادم من الغرب، فبالرغم من أن جمهور هذا الاتجاه من الإسلام قد قاوم المحتل الأربي في المغرب وليبيا وتونس…باسم مختلف الحركات الوطنية، التي ميزت بين المدنية الغربية التي دعت الى تبنيها، وبين أوروبا المحتلة التي عملت على طردها ومحاربتها، فمقولة الغزو الفكري عند هؤلاء لا وجود لها عندهم بشكل عام.
وهناك إسلام آخر يمكن أن يكون اسلام متجدد ويستجيب لمختلف متطلبات العصر، يستفيد من الماضي ويستفيد من ثقافة الحاضر، باستحضار مختلف العلوم والمعارف في قراءة القرآن قراءة معاصرة، لا تقطع مع التراث ولا تقطع مع علوم العصر، وهذا مسلك سيجعل من الفقه فقها آخر، أي فقه القرن الواحد والعشرين وليس فقه القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي.
وهناك اسلام آخر يحتكر موضوع الإسلام لذاته، ولا يعترف إلا بنسخة واحدة وهي نسخته التي يرى فيها بأنها هي الحق وهي الصواب، فمن تبناها فهو صواب ومن وقف ضدها وخرج عليها فهو على ضلال، إنه إسلام الجماعات الدينية، فالجماعة هي الإسلام والإسلام هو الجماعة، وبهذا الفهم المعوج ساهمت في تعطيل حركة الإصلاح وهي دعوة ظهرت في في العالم الإسلامي مع رواد النهضة، بدءاً من الطهطاوي (-1873م)، وجمال الدين الأفغاني (–1897م)، والكواكبي (- 1902 م)، ومحمد عبده (-1905م) وغيرهم، لكن، مع الأسف، تم الابتعاد بشكل عام عن الخط الذي أسس له هؤلاء في الفكر والنظر بعد أن أسس حسن البنا (- 1949م) التنظيم الإسلامي لحركة الإخوان المسلمين سنة 1928م، بعد الإعلان عن سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك، وهو تنظيم طبع نفسه بصبغة عالمية، إذ انتشرت أفكاره وأطروحاته في جلّ بقاع العالم الإسلامي على شكل تنظيمات بتسميات متعددة، يشملها نعت الحركة الإسلامية. كما أن تنامي المد الوهابي السلفي، نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب (-1791م)، له الأثر البليغ في تعميم ونشر ثقافة فقهية سطحية لا تولي أيّ اهتمام في استحضار المقاصد والغايات في فهم النص الديني وفهم الواقع وأحوال الناس، والأخطر من ذلك أن المد الوهابي السلفي في كل بقاع العالم الإسلامي قد ساهم في نشر ثقافة الاستخفاف من الفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية، وساهم في نشر ثقافة التشدد والأحادية في الرأي… مستغلاً مواسم الحج كمحطة دعائية، وقد كان لعائدات البترول دور أساسي في انتشار المد الوهابي السلفي، كما أن الاستبداد السياسي وما له من تبعات اجتماعية واقتصادية، وعدم العناية بتأهيل المؤسسة الدينة وضعف التنمية واتساع دائرة الفقر… في مجمل الأقطار في العالم العربي، كان له أثر بليغ في تنامي الأصولية الدينية المتشددة التي جعلت من آراء محمد بن عبد الوهاب إلى جانب أصولية سيد قطب وغيرهما قاعدة إيديولوجية لها في الفهم.
مع الأسف اتسعت رقعة التطرف والتشدد في العالم الإسلامي، وبالأخص مع لحظة “داعش”، التي أعلنت عن الدولة الإسلامية سنة (2014م – 2017م) في العراق والشام، وهي شبه دولة لم يتم الاعتراف بها. أفكاره وتصورات “داعش” وغيرها مازالت منتشرة، والذي ينبغي أن ننبه إليه هنا أن التنظيمات الأصولية المتطرفة استثمرت الجرح التاريخي للعالم الإسلامي، وهو جرح يتصل بالتدخل والاحتلال الأجنبي، ونحن اليوم أمام جرح جديد جرح غزة، الذي كانت من ورائه أيادي الأصولية الغربية، على أمل ألا تستثمر الأصولية الدينية هذا الجرح لصالحها من جديد بالعمل على استقطاب فئات عمرية جديدة من الشباب الى صفوفها.
المصادر والمراجع:
[2] الشيخ عبد الله بن بية، تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، مركز الموطأ، 2018م ص. 58