خاتمة:
لقد اجتهدتُ في مقالة: (ذاتنا العميقة: إسهام في التكوين المعرفي للإنسان العربي الحديث) أنْ أرسم مُخطَّطاً يُنظِّم عمليات تحصيل المعرفة من ثقافتنا العربية الإسلامية من ناحية، والثقافة الإنسانية على إطلاقها من ناحية ثانية. وذلك كنوعٍ من المُساهمة في تكوين الإنسان العربي الحديث معرفياً، إحقاقاً للنسق الذي حاولت إبرازه منذ البداية. ويمكنني التأشير هنا على أنَّ هذا المُخطَّط ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم مُفترَض رسمت هذه المقالة معالمه على الورق، إلى أن يتبلور ويتحقَّق في الواقع التطبيقي، على يد قارئٍ منشود أو مُستَهْدَف، يأخذه ويُطبّقه، فيتحول إلى جزءٍ من سيرورة حياته اليومية.
القسم الثاني: قسم واقعي، فهذا المُخطَّط كُنتُ قد طبّقته على نفسي أولاً، وأنا إذ أضع لبناته في هذه الخطاطة، فلأني مارسته ابتداءً ليكون أكثر صدقاً وإقناعاً.
في القسم الثاني أو في القسم الواقعي، حدث التباس عندي في تكويني المعرفي[1]، وهذه المقالة تصويب للطريق الذي كان ينبغي أن أسلكه منذ البداية، لكن بسبب غياب التأصيل المبدئي، حدثت إشكالات عملت على حلها على مدى سنوات طويلة، وهذه المقالة بمثابة الخريطة التي تُرشد قارئها إلى الخروج من حالة الضياع التي كنت أتمنى أن أحصل على مثلها في مراحل مُبكرة من حياتي.
وقد أتى هذا الالتباس في تكويني المعرفي على ثلاثة مستويات، وهي مُنسجمة، بطبيعة الحال، مع الأسباب التي دعتني لكتابة هذه المقالة[2]، وهي: التباس أول في مفهوم التراث، رافقه التباس ثانٍ تمثَّل في حالة ضياع في القراءات التي يمكن أن تُغطِّي مفهوم التراث، والتباس ثالث في العلاقة بيني وبين الثقافات الإنسانية في عموميتها. ففي الفترات المُبكرة من حياتي لم أجد مُخطَّطات جادة وحقيقية تضبط عمليات القراءة لدى جيلي، وإذا كان لي ملاحظة عامة، وإن كانت بحاجةٍ إلى مزيد من البحث والنقصي، فإني أغامر وأقول: إنَّ جيلي لا يعرف شيئاً عن تراثه المعرفي من ناحية، وإذا تحصَّل على شيء من ثقافات الأمم والشعوب الأخرى فإنه يتحصل على القشور ليس إلا، من ناحية ثانية.
لقد عرفنا جزءاً من التراث المعرفي من خلال أسماء بعض الشعراء العرب القدامى، مثل: أمرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وجرير والفرزدق، وأبي العلاء المعري، والمتنبي. ولكن، للأسف تعرفنا عليهم بطريقة شفهية في العموم، أو من خلال بعض الأبيات المُتداولة لهم في المجال العام، وليس عبر عملية تحصيل مُنظَّمة ومستمرة.
وإذا كنا قد تعرفنا على بعضهم في المدرسة، فقصيدة من هنا وأخرى من هناك، لكننا لم نتعرف بكل تأكيد على الإرث المعرفي الكبير والواسع لأجدادنا القدامى. لم نتعرف على أديان العرب وقصصهم وأساطيرهم وحكاياتهم ورؤاهم وموقفهم من الحياة، أي أننا تعرفنا على بعض أسماء الشعراء، ولم يكن تحصيل التراث المعرفي، عبر المراحل المدرسية المختلفة، والممتدة لمدة 12 عاماً، جزءاً من خطة مُنظَّمة ومثمرة، وإذا عرفنا بعض ذلك التراث لاحقاً، فبجهود فردية، ليس إلا. وهذا يمكن أن يندرج في باب الكارثة الحضارية، فالاجتزاء في تراثنا المعرفي والتعرُّف على قطع صغيرة منه، رافقه غياب لخطَّةٍ مُنظَّمة ومُنتجة وشاملة للتعرُّف عليه، لتعميق صلتنا به بطريقة حقيقية مبنية على مجهود قرائي حقيقي، وليس بطريقة شفهية؛ مُخادعة ومُشوَّهة وممجوجة، وتنسجم مع اندفاعاتنا النفسية أكثر من انسجامها مع سياق معرفي قوي ومتين.
جزء آخر من التراث حضر معنا، تحديداً في التطبيقات العملية لحياتنا. فالمُدونة الفقهية حضرت بشكلٍ فاعل في حياتنا العملية، صغيرها وكبيرها، ومن لحظة الميلاد إلى مرحلة ما بعد الموت. هذا التراث ولد معنا دونما حاجة إلى أن نتعلمه أو نقرأه. فبعد أن أُقِرَّت الصيغ الأخيرة والنهائية من المُدونة الفقهية، من قبل السُّلطتين السياسية والدينية، أصبح تداوله في الاجتماع السياسي أمراً مفروضاً على الجميع، تحت وطأة معاقبة المُخالفين. وشيئاً فشيئاً أصبحت الأجيال تتوارث هذه المُدونة وتعتبرها الجزء الأهم في هُويَّة الأمة وكينونتها. وشيئاً فشيئاً –أيضاً- توارت تراثات أخرى، كالتُراث الفلسفي والتراث العلمي والتراث الصوفي؛ ولم يعد لها حضور كالحضور الذي حظيت به المُدونة الفقهية[3]، إلى حد أنْ نسيتها الأجيال اللاحقة، وصار تذكرها، أي التُراثات الأخرى، واستحضارها قائم أساساً على جهود فردية؛ في الوقت الذي أُسنُدَت فيه مهمة استدعاء التراث الفقهي إلى الأمة كاملة، حتى وهو يستدعى بطريقة شفهية!
بإزاء هذا الغياب لأجزاء كبيرة من تراثنا المعرفي، غابت الخُطَّة التي يُمكن أن تُنظِّم عملية الاستدعاء لهذا التراث، بطريقة تحترم تنوعه وشموليته. ومع هذا الغياب المزدوج، تعمَّقَ الالتباس بمفهوم التراث من جهة، وبالقراءات الصادقة والحقيقية التي يمكن أن تكون شاملة لتنوّع تراثنا المعرفي.
ومما زاد الطين بلّة، التباس ثالث، متعلق بعلاقتنا بالثقافات الأخرى، إذ لم يكن ثمة خطة مدروسة تضعنا أمام استحقاق التعرُّف والإطلَّاع على أمهات الكتب في ثقافات الأمم والشعوب الأخرى، ما جعل الإطلَّاع على تلك الثقافات مسألة شخصية من ناحية، وعملية عشوائية وغير مُنظَّمة وغير مُنتجة من ناحية ثانية.
مقالتي هذه: (ذاتنا العميقة: إسهام في التكوين المعرفي للإنسان العربي الحديث)، تجتهد في فكّ الالتباس الثلاثي الذي حصل على المستوى الواقعي، بالنسبة للقارئ الافتراضي، فهي تضع له مُخطَّطاً يُرشده ويُنوّر طريقه ضمن أربعة اتجاهات:
الاتجاه الأول: مُتعلق بالتراث المعرفي بشقيه: العربي والإسلامي، إذ تُجتهد في رسم خريطة تشمل كافة جوانب هذا التراث، بطريقة لا يطغى فيها شيء على حساب الأشياء الأخرى. فمن حقّ الإنسان العربي الحديث أن يتعرَّف ويطلّع على تراث أجداده في صورته الكُليَّة.
الاتجاه الثاني: مُتعلق بالتراث المعرفي للإنسانية جمعاء، فالمقالة اقترحت قائمة من 100 كتاب، تشمل جميع الثقافات الإنسانية، قديمها وجديدها، بطريقة تُراعي أن تكون هذه الكتب كتباً أساسية في ثقافاتها، بحيث يتولد عنها معرفة حقيقية بتلك الثقافات.
الاتجاه الثالث: لم تنسى المقالة ضرورة إحداث ربط بين تُراث الإنساني العربي الحديث، وما أنتجه عصر النهضة العربية الحديثة، لذا وضعت قائمة من 30 كتاباً، اجتهدت أن تكون شاملة ومتنوعة، وتُغطِّي مفاصل رئيسية في هذا العصر، ابتداءً من بواكير القرن التاسع عشر، حيث بدأت معالم عصر النهضة العربية بالبروز والتكوّن، وصولاً إلى أيامنا الحاضرة.
الاتجاه الرَّابع: مُتعلق بمعارف تأتي من جهات غير الكتب، مثل السينما والمسرح والفنون والدراما، لا سيما بعد أن تحوّلت إلى جزء من حياتنا اليومية. لهذا اقترحتْ المقالة عدداً من أسماء الأفلام السينمائية، العربية والعالمية، مع ضرورة الإبقاء على حالة من التواصل مع المصادر المختلفة، كالمسرح والدراما والتلفاز والبرامج الوثائقية والمواقع الإلكترونية…إلخ. بما يُبقي الإنسان العربي الحديث في حالة تواصل مع كل جديد، بحيث لا تحدث فجوات كبيرة ومؤذية في تكوينه المعرفي.
فهذه المساحة الشاسعة التي تُغطيها المقالة، تجعل من الإنسان العربي الحديث، نقطة التقاء لحالةٍ معرفية كبيرة ومتنوعة، تشمل ذاته المعرفية القديمة والحديثة من جهة، والذَّات المعرفية الإنسانية من جهة ثانية.
وكما أشرتُ في الجزء الأول من هذه المقالة، فإنَّ النقطة التي تشتغلُ عليها هذه المقالة وتُركّز عليها هي وضع الإنسان العربي أمام استحقاق التعرُّف على تراثه وتراث الإنسانية المعرفي، بعيداً عن نقده في هذا المقام. فالأَوْلَى، أن يتعرَّف هذا الإنسان على هذا التراث، بحيث تتحوّل المعرفة إلى جزء أساسي من صُلب اهتماماته اليومية. ففي الأخير، سيكون من الصعب عليه نقد معارف أجداده أو نقد معارف الآخرين، إذا لم يقرأها ويطلّع عليها، فالنقد مرحلة لاحقة، لما يتم بناءه والتأسيس له، كما تفعل هذه المقالة التأسيسية.
[2] يمكن العودة إلى الجزء الأول من هذه المقالة.
[3] لإلقاء مزيد من الضوء على هذه النقطة يمكن مراجعة مقالة: (أيدي الإمام الغزالي: 1- يد الفيلسوف. 2- يد الصوفي. 3- يد الفقيه.. عن مواضعات المشروع الهُويَّاتي الإسلامي)