يتوجس الفكر الإسلامي المعاصر من مصطلح الديموقراطية. لا بسبب تحفظه المعتاد حيال مفردات القاموس الغربي فحسب، بل لأسباب أصلية كامنة في ثقافته الموروثة من تاريخه السياسي وتاريخه الفقهي معاً: التيارات الأكثر سلفية تعلن صراحة عن رفضها للمصطلح الدخيل على معجمهما الشرعي، ولمضمونة المناقض لسلطة الفقه “الإلهية”. أما التيارات الأقل سلفية – والتي تبدي استجابة نسبية لمثيرات الحداثة، وتخرج أحيانا على حرفية التقليد الفقهي – فتقبل الحديث عن الديموقراطية ، لكن بوصفها صيغة من صيغ الشورى، أو تشير إلى الشورى بوصفها صورة من صور الديموقراطية ، بغض النظر عن عدم تطابق المفاهيم والسياقات التاريخية.
الديموقراطية
بوجه عام، وخارج نطاق الفكر الديني، تظل الديموقراطية مفهوماً إشكالياً في الوعي السياسي، بدءاً من التحفظات الكلاسيكية المنقولة عن التراث اليوناني خصوصاً أفلاطون وأرسطو، حتى الملاحظات ما بعد الحداثية التي توجه سهام النقد إلى جوهر الفكرة ذاتها، أو إلى صياغاتها الأيديولوجية المختلفة، أو إلى نتائج تطبيقها في سياقات جغرافية وثقافية بعينها أو إلى ربطها حصراً بقيم وآليات الرأسمالية الغربية.
-2-
في سياقاتها “اليونانية” المبكرة ظهرت فكرة الديموقراطية في إطار “علماني” خالص. بمعنى أن سلطة الشعب / الجمهور لم تطرح كمقابل لسلطة إلهية مفترضة أو مفروضة بل كمقابل لنظام الحكم المطلق الذي يمنح السلطة لحاكم فرد مثالي أي فيلسوف محصن بالمعرفة (كما عند افلاطون) أو لنظام القلة الخيرة أي الأرستقراطية المنضبطة بالقانون. (حسب أرسطو).
لكن في سياقاتها الغربية المتأخرة ستتبلور الفكرة الديموقراطية داخل إطار “ديني علماني مختلط” بمعنى أن سلطة الشعب/ الناس صارت تطرح كمقابل للسلطة الدينية
الإلهية” التي تمثلها الكنيسة الكاثوليكية، وللسلطة الزمنية المطلقة التي يمثلها الملك والتي كانت تستند بدورها إلى فكرة الحق الإلهي. لقد دخلت سلطة الناس في مواجهة مزدوجة ضد الثيوقراطية والأوتوقراطية معاً:
في مقابل سلطة الكنيسة / الدين برزت سلطة الإنسان/ العقل القادر على فهم الواقع، وعلى صياغة حياته على الأرض وفقاً لحاجاته المباشرة. لقد أخذت “المعادلة” شكلاً يضع العقل ضد اللاهوت، وصارت الديموقراطية تحمل معنى ” إناسيًا” يقابل “الإلهي” بقدر ما تحمل معنى “جماعيًا” يقابل الفردي أو معنى شعبويًا يقابل “الأرستقراطي” .
ظهرت هذه المعادلة بشكل أوضح مع حركة ” التنوير الفرنسية” التي سبقت الثورة ومهدت لها. كان النشاط الرئيس لهذه الحركة نظريًا فكرياً ينصب العقل في موقع الحاكم الوحيد الذي يستطيع ضبط العالم، وبدا وكأنه يركز أساساً على مواجهة الكنيسة والدين عموماً أكثر من مواجهة الحكم المطلق للملك. بالنسبة إلى الفلاسفة التنويريين الذين كتبوا “الموسوعة” الفرنسية قبيل الثورة، كانت الكنيسة الكاثوليكية نظاماً منافياً للعقل بوصفها مؤسسة رجعية تروج للخرافة، وتقمع حرية الناس، فضلاً عن تواطئها المعلن مع الدولة الاستبدادية .
بوجه عام، لم توجه الموسوعة، هجوماً مباشرة إلى مبداً الدين، بل إلى الكنيسة بما هي مؤسسة قابضة، وسعت إلى خلق مساحة للجمع بين الدين والعقل، ففي المقال الذي كتبه ديدرو عن العقل حاول الترويج لفكرة أن الدين لا يقوض العقل ، بل يؤكد على سلطته حيث تكون هناك ” فكرة واضحة ومتميزة” ، وفى هذه الحالة يكون العقل هو الحكم الصادق والكفؤ ” ، أما الوحي فإنه يستطيع أن يؤكد الأحكام التي تقوم على العقل، ولكنه لا يستطيع أن يخالفها. بحسب ديدرو الدين هو التفوق الأكثر تمييزًا لطبيعتنا على الحيوانات” لكنه في الوقت نفسه هو في الأغلب المنطقة التي يظهر فيها الناس أكثر لا عقلانية “(الموسوعة، ديدرو، مقال، “العقل ، 74 – 773 .11x).
إقرأ أيضاً: إشكالية الدين والدولة الحديثة – 12
لكن خارج نطاق الموسوعة سيوجه الفلاسفة الفرنسيون هجومًا صريحاً لا إلى سلطة الكنيسة فحسب، بل إلى مضمون الدين في ذاته.
وفي هذا السياق تبرز أسماء معروفة مثل هولباخ ، وكلود هلفتيوس وجوليان دى لا مترى ، وبوجه خاص فولتير الذي كان مؤلهاً طبيعياً، لكنه صرح بنفوره الشديد من ديانات الوحي التاريخية التي أغرقت الناس في ظلام الجهل والتخلف. بالنسبة إلى فولتير لم يكن العهد القديم سوى سجل طويل من القسوة والهمجية والخرافة. أما المسيحية فهي ديانة تثير الاشمئزاز” كما ينبغي أن ينظر إليها كل إنسان حصيف وكل إنسان جدير بالاحترام “انظر ، Peter Gay, The Enlightenment: An Interpretation, Vol.1).
ومع ذلك، اعترف الفلاسفة للدين بدور اجتماعي ضروري، على الأقل بالنسبة إلى عوام الناس الذين يحتاجون إلى رادع أخلاقي، تساءل فولتير : هل يمكن أن توجد أمة من الملاحدة ” ؟ ليجيب بأنه ” يجب التمييز بين الأمة كما تسمى بصورة ملائمة ، وجماعة من فلاسفة هم أجل وأعظم من الأمة ، من الصحيح للغاية أن عامة الناس في كل بلد يحتاجون إلى رادع أو ضابط” .. ومن دون الدين ستتحول الطبقات الدنيا إلى “حشد من قطاع الطرق واللصوص ” ( انظر فولتير، قاموس فلسفي ، “الإلحاد”)
للدين – إذن – فائدة واحدة هي تحقيق الردع الداخلي الذي يحول بين الناس والفوضى ( لأن الناس لا ترى الأخلاق ، إلا من خلال الدين ).
وفي هذا السياق يلحق فولتير بالعوام طبقة “الأمراء” ، فهم أيضاً يحتاجون إلى رادع أو ضابط، لكن الناس بصفة خاصة هم الذين يحتاجون إلى ” موجود أسمى، خالق ، حاكم، مكافئ، ومنتقم” أما الذين لا يحتاجون إلى مثل هذا الضابط الغيبي فهم الفلاسفة أو الخواص الذين يحتكمون إلى العقل.
-3-
بوجه عام، لم يحمل الفلاسفة الفرنسيون – مشاعر ودية حيال الدين. لكنهم – أيضًا – لم يحملوا مشاعر ودية حيال ” الجمهور ” أو العوام. فهم – خلافاً للمفكرين البريطانيين – لم يؤمنوا بوجود حاسة أخلاقية مشتركة لدى البشر يشترك فيها عوام الناس، وبالتالي فهؤلاء العوام ليسوا مؤهلين لإدراك فكرة “الإرادة العامة” أو مصلحة المجتمع، ومن ثم للمشاركة في عملية الحكم أو إدارتها بشكل مباشر، عملية الحكم الصحيح تحتاج إلى حاكم فرد “مستنير” أي قادر على إدراك الحكمة، وهذا هو الضمان لإدارة سياسية ناجحة ، وليس إشراك الناس في السلطة عبر اصلاح “دستوري” يقيد نفوذ الملك بفكرة الفصل بين السلطات. كما اقترح مونتسيكو نقلاً عن النموذج البريطاني، يقول هولباخ: إن السلطة المطلقة مفيدة جداً عندما تعتزم أن تحطم صنوف التعسف وتقضى على الظلم، وتستهجن الرذيلة وتصلح الأخلاق . إن الاستبداد سيكون أفضل الحكومات إذا كان من يمارسه على شاكله “تتيوس” أو تراجان أو أنطنيوس”
حتى مونتسكيو – الذي اهتم بتقييد سلطة الملك، وروج في كتابه “روح القوانين” ، لفكرة الفصل بين السلطات – لم يطرح هذه الفكرة لحساب ” الشعب ” أو جمهور الأمة ، بل لصالح طبقة النبلاء القريبة من موقع الملك والمؤهلة للمشاركة في إدارة السلطة.
لكن “الثورة” بإيقاعها العملي، ستستحضر مفهوم “الأمة / الشعب” كقوة سياسية فاعلة، وستضع هذه القوة بشكل مباشر في مواجهة سلطة الملك وسلطة النبلاء فضلاً عن سلطة الكنيسة. ولذلك لا يظهر مونتسيكو في الأدبيات المبكرة الثورة بل يظهر “رسو” وكتابة العقد الاجتماعي، الذي اقتبست منه حرفياً وثيقة “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”. لم توقف الثورة هجومها على الكنيسة لكن نشاطها الرئيسي صار موجهاً ضد السلطة المطلقة للملك.
-4-
في بريطانيا وقبل قرن كامل من الثورة الفرنسية، كانت الفكرة الديموقراطية في نسختها الحديثة تتطور – أيضًا – في سياق علماني ديني مختلط، لكن أقل توتراً. وخلافاً لما سيحدث في فرنسا (1789) كانت الثورة الإنجليزية “المعتدلة” نسبيا (1688) موجهة ضد سلطة الملك أكثر منها ضد سلطة الكنيسة، لم يكن الهدف المهيمن للتنوير البريطاني قبل الثورة هو إلغاء نفوذ الكنيسة أو تحجيم الدين بناءً على مبادئ عقلية مجردة – بل- عملياً – تقييد السلطة الملكية المطلقة لمصالح “البرلمان”، الذي يمثل الشعب وإقرار الحكم الذاتي.
بوجه عام، ظل هذا الهدف مهيمنًا على الفكر البريطاني بعد الثورة المجيدة: Glorious Revolution، التي أسفرت بالفعل عن مكاسب ديموقراطية واضحة تم النص عليها في “إعلان الحقوق” حق الملك في التاج مستمد من الشعب وليس من الله / ليس للملك الحق في إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة إلا بموافقة البرلمان/ لا تفرض ضرائب جديدة أو يشكل جيش جديد الا بموافقة البرلمان/ يتمتع أعضاء البرلمان بحرية الرأي والتعبير. لقد أصبح البرلمان هو الحاكم الفعلي والرسمي بحكم “الدستور”، وتولد بشكل عملي نموذج مبكر للديموقراطية البرلمانية الحديثة.
بامتداد القرن التالي للثورة ظل التطور السياسي في بريطانيا (انجلترا واسكتلندا وأيرلندا ) يتخذ منحى إصلاحياً متدرجاً، بالتوازي مع المنحى الإصلاحي المعتدل للكنيسة ( البروتستانتية )، وأمكن للنظام السياسي استيعاب الحضور “الهادئ” للدين داخل المجال الخاص، أي بعيداً عن النفوذ المباشر للدولة. مقارنة بفرنسا، لم تشهد انجلترا طغياناً دينياً شبيهاً بطغيان الكنيسة الكاثوليكية، وأدت الإصلاحات الدستورية إلى تحجيم واضح لسلطة الملك.
لكن إشعاع الثورة الفرنسية الذي اجتاح أوربا سيصل إلى الفكر البريطاني ليظهر تيار راديكالي يحرض على التغيير الجذري للنظام. بشقيه السياسي والديني في سنة 1789 عاد “ريتشارد برايس” إلى التذكير بالمبادئ الأساسية للثورة الانجليزية المجيدة وهي: الحرية الدينية، مقاومة سوء استخدام السلطة، والحكم الذاتي، اعتبر برايس أن هذه المبادئ لم تطبق في انجلترا على وجهها الصحيح، حيث لا توجد ، مساواة في التمثيل النيابي، وهو عيب دستوري ينتقص من سيادة الشعب ، وينزع – من ثم – شرعية الحكومة لان أي حكومة لا تقوم بإرادة الشعب هي مجرد “طغيان واغتصاب”. استخدم برايس لغة التنوير الثوري الفرنسي: “لا بد أن تحل سيادة القانون محل سيادة الملوك، وتذعن سيادة الكهنة لسيادة العقل والعلم”.
انظر:
Richard Price,” A Discourse on the Love of our Country” in The Debate on the French Revolution. 1789-1800, ed. Alfred Cabban (London, 1950) pp. 63-64).
-5-
ما هي العلاقة بين الدين والدولة؟
في هذا السياق توضع السلطة التي يمارسها الكهنوت في خانة واحدة مع السيادة المطلقة للملك، وتظهر الديموقراطية كمفهوم مناقض للثيوقراطية والأوتوقراطية معاً، أعنى كمفهوم ” علماني” بالضرورة. في الذهن السياسي الحديث تتعارض فكرة “الحكم الإلهي” التي تسند سلطة الملك إلى الله، أو تقول بشريعة الهيئة مؤبدة، مع فكرة، “الحكم الشعبي” التي تسند مهمة الحكم وإصدار القوانين إلى الشعب وفقاً لحاجاته المتطورة بحكم الواقع. وفي هذا الذهن تتحلل الثيوقراطية إلى أوتوقراطية ” مضاعفة” بما هي سلطة مقدسة تمارس باسم الله، أي بما هي مزيد من السلطة المطلقة، ومن ثم بوصفها أخطر صور الأوتوقراطية.
الفكر الإسلامي المعاصر – في شقه السلفي القح – يعي هذا التناقص الكلى و يبنى عليه رفضه المطلق لمصطلح الديموقراطية، بوصفها “حاكمية” بشرية مقابلة لحاكمية الله. أما الشق الأقل سلفية من هذا الفكر فيلتف على فكرة التناقض، ويحاول التوفيق بين الإسلام السياسي والحداثة والسياسية عن طريق القول بوجود مساحة “للحكم الشعبي” خارج نطاق الأحكام الإلهية الملزمة، هي المساحة التي يتقاطع فيها مفهوم الشورى مع مفهوم الديموقراطية.
سأطور النقاش حول هذه النقطة من خلال الطرح النظري الذي تقدمه “الأحزاب الإسلامية” بريادة جماعة الإخوان، بوصفه نموذجاً للفكر الإسلامي المعاصر في صيغته التلفيقية المهجنة التي تسعى إلى تصالح “جزئي “مع الحداثة.
كيف يمكن تقييم هذا الطرح على ضوء المفهوم الثابت للشورى في المصطلح الإسلامي، والمفهوم الثابت للديمقراطية في الوعي الحداثي؟
-6-
هل الشورى هي الديموقراطية
منذ الأفغاني في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت صيغة جديدة من “الإسلام الثقافي ” ، غير تقليدية من حيث الموضوع ولغة الطرح وهي الصيغة التي طورها رشيد رضا والتقطها حسن البنا لتصبح مادة الخطاب النظري لجماعة الإخوان المسلمين.
هذه الصيغة حداثية بمعنى ما، من حيث هي ناتجة عن الاحتكاك السياسي والثقافي بالغرب. أعنى أنها رغم مكوناتها السلفية كانت واعية بحضور الحداثة وجاذبيتها الطاغية في هذه المرحلة، وصممت آلياتها الاحتجاجية على أساس الحوار مع نموذج “الدولة المدنية” كأمر واقع قابل جزئياً للتوافق مع مبادئ الإسلام. ومن هذه الزاوية يظهر الفارق النسبي بين السلفية الإخوانية المهجنة الموروثة من رشيد رضا والسلفيات النقلية الصرف التي تجهل وجود التحدي الحداثي ( مثل النموذج الوهابي المبكر) أو التي تتجاهل الجدل معه (مثل النماذج السلفية المتشددة التي ستظهر لاحقًا ).
روج رشيد رضا لفكرة التفوق الإسلامي، فالإسلام ليس قادراً على مواكبة أنظمة الدولة الحديثة فحسب، بل سبق هذه الأنظمة إلى إقرار المبادئ والقيم التي تقوم عليها. فبحسب رضا الديموقراطية مفهوم إسلامي منصوص عليه في القرآن.
يشرح في “تفسير المنار”: ليس بين القانون الأساسي الذي قررته هذه الآية على إيجازها وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض في هذا الزمان إلا فرق يسير، نحن فيه أقرب إلى الصواب وأثبت في الاتفاق منهم إذ نحن عملنا بما هدانها إليه ربنا: هم يقولون إن مصدر القوانين الأمة ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنة كما قرر الإمام الرازي، والمنصوص قليل جدًا”.
هذا الطرح الخطابي يتجاهل صلب المشكل وهو التناقض الجذري بين طبيعة النظام الديني الكتابي (والإسلامي خصوصاً) ونظام الدولة المدنية الحديثة: هذا المنصوص ” القليل جداً” يكفى لنسف حق الأمة في تشريع القوانين، وبالتأسيس عليه ينبني الفقه الذي ينكر على البشر من حيث المبدأ صلاحية التشريع بوصفها من خصائص التوحيد الإلهي. فهذا المنصوص – على قلته – يحتوي على شريعة تفصيلية ملزمة جرى تضخيمها وتكريسها بواسطة الفقه وبفعل الحضور المتواصل للدولة في مراحل التأسيس. وهي شريعة حصرية عامة ومؤبدة (واحدة عبر العالم، ولا يجوز تغييرها حتى نهاية الزمان) وهنا تكمن المعضلة النظرية الكبرى للنظام الإسلامي الفقهي الذي سيصطدم بالضرورة عند لحظة بعينها مع قوانين الاجتماع الطبيعي؛ قانون التنوع، وقانون التطور:
– التعميم الحصري يمنع من استيعاب الحاجات البشرية التي تتعدد من مجتمع إلى آخر ومن فرد إلى آخر بحكم قانون التنوع.
– التأبيد يمنع من مواكبة الحاجات البشرية التي تتغير من زمن إلى آخر بحكم قانون التطور.
عمليًا لا يستطيع أي نص “تكليفي” تجاوز سياقاته الثقافية التاريخية التي صدر فيها، ولا فرق في ذلك بين نص تكليفي ديني ونص تكليفي قانوني، فكلاهما تشريع اجتماعي فرعي يعالج حاجة آنية، ويفرض قانون التطور نفسه داخل دائرة المنصوص عليه مثلما يفعل داخل دائرة المسكوت عنه، فمع الزمن وبشكل تدريجي، تطغي السلطة “الفعلية” للواقع على السلطة “النظرية”، للنص، أي نص. لكن المشكل فيما يتعلق بالنص الديني هو أنه لا يتخلى عن حضوره النظري بمجرد تغير الواقع الاجتماعي، بل يبقى لبعض الوقت كسلطة ” إسمية” معلقة، تظل تشوش على مشروعية الواقع.
-7-
نقل حسن البنا عن رشيد رضا موقفه السلفي المتصالح جزئياً مع الدولة المدنية : بحسب البنا ” السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستوري الشورى ، وهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى ” وأمرهم شورى بينهم” فالديموقراطية فيها الشورى وتبادل الرأي ، وفيها إطلاق الحرية الفردية، فجعلها مشروطة بحقوق الجماعة وقيدها بذلك ” (رسائل حسن البنا رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين1939) .
وهذا بدوره طرح خطابي يخلط بسذاجة بين الديموقراطية والشورى، وهما مفهومان مختلفان يصدر كل منهما عن خلفية اجتماعية وبنية ثقافية خاصة:
فالديموقراطية الحديثة بحسب سياقها التاريخي وإطارها السياسي الذي تشتغل فيه، لا تعني طلب الرأي وقبول النصيحة من قبل الحاكم الفرد، أي لا تعنى “حكم الشعب” كمقابل للحكم الأوتوقراطي فحسب، بل أيضا كمقابل للحكم الديني الثيوقراطي.
ولذلك فإن مشكل النظام الإسلامي مع النظام الدستوري الحديث لا يقتصر على المنطقة التي يتقاطع فيها النظامان وهي منطقة الاشتراك بالرأي لتقييد استبداد الحاكم بالسلطة، بل يرجع أصلاً إلى منطقة التعارض الجذري بينهما وهي منطقة “التشريع” التفصيلي التي ينظمها “القانون”، والتي تسمح للمجتمع بتغيير التشريعات وفقا لحاجاته المتغيرة بفعل التطور.
في واقع الأمر يرجع التعارض إلى طبيعة النظام الديني ” الحصرية” التي تستبعد الآخر الديني خارج نطاق الدولة، وتصادر الحق الطبيعي للأفراد في حرية العقيدة وحرية التعبير.
الديموقراطية والنظام الدستوري
يرتبط مفهوم الديموقراطية بالنظام الدستوري الحديث ويعمل من داخله، وهو نظام يقوم على مبادئ صارت أساسية في الوعي السياسي الراهن : اقرار “التعددية” التي تحفل بمفهوم “الفرد” مثلما تحفل بمفهوم المجتمع ومفهوم الشعب، الدولة كيان عام اعتباري منفصل عن شخص الحاكم وعن الحكومة . / السلطة صلاحية موزعة على عدد من المؤسسات/ مع رسوخ فكرة القانون بما هو صلاحية شعبية علمانية.
أما مصطلح الشورى فيرتبط عضوياً بثقافة النظام السياسي الإسلامي في مرحلة التدوين، التي اختزلت السلطة في شخص الحاكم الفرد، واختزلت الشورى في مبدأ أهل الحل والعقد، وهم بحسب نظرية الخلافة مجموعة طبيعة قد لا يزيد عددها على ثلاثة أفراد، تسند إليهم نظرياً مهمة تنصيب الحاكم ، وإسداء النصح له دون التزام منه بقبول النصيحة. الشورى هنا لا تعرف فكرة الشعب أو جمهور الناس، بل فكرة النخبة المحدودة التي تحولت لاحقًا إلى مجرد بطانة تابعة لبلاط السلطان.
على مستوى النظرية السياسية، لم يترجم نص الشورى القرآني عبر التاريخ الإسلامي إلى أي صيغة “شعبية ” تشير إلى حق الجمهور في اختيار الحكومة، أو تقييد سلطة الحاكم والأهم أن النظرية عادت فنسفت مفهوم الشورى نفسه من خلال إقرارها بـ “التغلب” كألية مشروعة لإسناد السلطة ترجمة للأمر الواقع.
تتعلق المسألة بخلفية الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في العصر الوسيط الإسلامي التي انتجت هذا المفهوم الضيق للشورى، والتي لا تزال توجه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ، مقابل الخلفية الثقافية والاجتماعية الحديثية التي أفرزت النسخة الحديثة الراهنة من الديموقراطية والنظام الدستوري المدني .
يتبع عبد الجواد يس
4-2-2024