-1-
انتهت الفتنة الكبرى بظهور الدولة الأموية وتبلور فرقتين معارضتين من الخوارج والشيعة، وهو الثالوث السياسي المبكر الذي سيكون قد تحول – في مرحلة التنظير للخلافة – إلى مذاهب ” دينية” ثلاثة. منذ البداية أنكرت الفرقتان المعارضتان شرعية الدولة بوصفها مغتصبة للسلطة بالقوة، مما يعد خرقاً لمبدأ “الشورى ” بحسب الخوارج، ولمبدأ “الوصية” كما سيذهب إليه الشيعة. أما غالبية الجمهور التي أذعنت للأمر الواقع فأقرت ضمناً بشرعية الدولة رغم كونها مغتصبة للسلطة، وهو الموقف الذي سيترجم بواسطة الفقه إلى حكم شرعي بجواز ولاية التغلب والقهر.
حين بدأ التنظير للخلافة في القرن الثاني، كانت الملكية الوراثية التي فرضها الأمويون نظاماً مستقرأ بحكم الواقع. وقد تم دمجه بسهولة في الإطار العام للنظرية من خلال قاعدة التعيين بالعهد، و بنوع من التوفيق مع مبدأ الشورى، الذي حصرته الشروح في جماعة الحل والعقد، التي انحصرت بدورها في عدد محدود من الأفراد، صاروا ينتمون بالطبع إلى القبيلة أو الأسرة الحاكمة .
بالنسبة إلى الفقه تم احتواء التحفظات المثالية على مبدأ التوريث، وتجاوز فكرة التمييز بين الخلافة والملك على اعتبار أنه يقوم على أسس تتعلق بالتقوى الشخصية للحاكم أكثر مما تتعلق بشكل الحكومة أو بوظيفة الحكم. من منظور الفقه كانت وظيفة الحكم واحدة في الحالتين وهي سياسة الدنيا وحراسة الدين، وهو ما حرصت الأنظمة الملكية على إعلانه والترويج له، ولذلك لا يظهر هذا التمييز في كتب السياسة
الشرعية، التي تعاملت مع ملوك الدولتين الأموية والعباسية كخلفاء مسلمين. وبشكل أوضح لا يظهر هذا التمييز في كتب السياسة العملية أو الأدب السلطاني التي صارت تستخدم مصطلح ” النصيحة” بدلًا من الشورى و مصطلح “الملك” بدلاً من الخليفة.
أما كتب الفلسفة أو السياسية المدنية ، المستمدة أصلاً من أفلاطون وأرسطو وهما من كبار المنظرين للأوتوقراطية ، فلم تتخذ موقفاً نقدياً من فكرة النظام الملكي. وإذا كان ابن رشد قد أشار إلى دولة الراشدين بوصفها المقابل الموضوعي للمدينة الفاضلة التي يضعها أفلاطون في مقدمة ترتيب المدن و إلى الدولة الأموية كمقابل للمدينة التيماركية التي يقوم الحكم فيها على طلب المجد والشرف لذاته لا لمحض الفضيلة ، والتي يضعها أفلاطون في المرتبة الثانية ، فعلينا ملاحظة أن تقييمه كان يتم بناء على معيار محدد هو أن تتحقق في شخص الحاكم مثالية الشرع، التي تقابل مثالية الفضيلة عند أفلاطون، بمعنى أن نقده النسبي للدولة الأموية لم يكن ينصب على فكرة التوريث أو الحكم الفردي ، بل على الخصائص الأخلاقية للحاكم.
-2-
الخلافة ملك، والملك خلافة: ابن خلدون
بالنسبة إلى ابن خلدون، كانت الملكية الوراثية أو ” انقلاب الخلافة إلى ملك” تطوراً طبيعياً فرضته قوانين الاجتماع السياسي وفي مقدمتها قانون “العصبية” فالدولة بحسب الأصل تنشأ بقوة العدد من الأتباع والعشيرة “لأنه في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب” (ابن خلدون ، المقدمة ، تحقيق الجويدي، بيروت. 2006 ، ص 143 ) ، يسرى ذلك على أي دولة ولو كانت قائمة على دعوى دينية ” فالشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلابد فيه من العصبية ، إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه ، فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها ( المقدمة ، ص 189)
ومع ذلك، فالدعوة الدينية قد تؤدى أحياناً دور العصبية كوازع يدفع الناس إلى الطاعة والانقياد، وهو ما يفسر به ابن خلدون – كون حكومة الراشدين لم تقم على محض العصبية : “حضور الملائكة و تردد خبر السماء، وتجدد خطاب الله في كل واقعة تتلى ، ولذلك لم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان ولما انحسر ذلك المد بذهاب تلك المعجزات ، ثم بفناء القرون التي شاهدوها استحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان” ( المقدمة ، تحقيق وافي ، القاهرة ،1965، ج2 ص566).
وبحسب ابن خلدون، العصبية تعنى الملك، فهي تؤدى إليه بضرورة الاجتماع ” فالملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار ، إنما هو بطبيعة الوجود وترتيبه “(ص ، 189) . كما أن الملك يعنى التغلب والقهر. يشرح ابن خلدون “قدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض ، فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك، وهذا التغلب هو الملك ، وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع ليس له عليهم قهر في أحكامه ، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر ، وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها ، فإذا بلغ رتبة السؤدد والأتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب النفس ، ولا يتم اقتداره عليه إلا بالعصبية ” . (ص 189 – 192 ).
و بالتأسيس على ذلك انتهى ابن خلدون إلى أنه لم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك ( انقلاب الخلافة إلى ملك ) عن نفسه وقومه. فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها، واستشعرته بنو أمية ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم، فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه. ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة “.
ابن خلدون هنا يؤكد بآلياته الاجتماعية على ما انتهى إليه الفقه بأدواته النقلية، فموضوعياً، لا تبدو الفوارق واسعة بين حكومة معاوية الملكية وحكومة الراشدين الشورية بما هي في نهاية المطاف سلطة حكم. ولذلك يبقى الفارق الشكلي، المتمثل في التوريث العائلي، وهو أمر ” ليس وراءه كبير مخالفة” ، وقد هون الفقه من أهميته من خلال تصنيف التوريث تحت باب العهد الذي عرفته مرحلة الخلافة.
لقد نشأ الإطار الشكلي الأول لحكومة الراشدين باستعارة مباشرة من النظام القبلي العربى ، قبل أن ينسب إلى مثاليات النص الديني، ولم يكن هذا الإطار، في الواقع ، أكثر من صورة أولية ( فوق بدائية) من صور النظام الملكي، مثلت حلقة تطور واصلة بين أنماط الحكم القبلية البسيطة في القبيلة العربية ، والنمط التقليدي المعروف للنظام الملكي . ويمكن القول بأن مصطلح “الخلافة”، لم يكن – عند انتهاء حقبة الراشدين – قد اكتسب في الوعي السياسي العام ما يشير إلى شكل محدد وثابت يمكن وصفه بنظام مضطرد مقابل للنظام الملكي المتجذر تاريخياً عند العصر الوسيط باعتباره النمط الاعتيادي للحكم .
إجمالاً، تبدو ملاحظات ابن خلدون حول الدور الاستثنائي للوازع الديني مفهومة، فهذا الوازع قد يغنى لبعض الوقت عن دور العصبية . لكن ما لم يتنبه إليه ابن خلدون هو أن العصبية لم تكن غائبة تماماً عند إسناد -السلطة إلى حكومة الراشدين الأولى ؛ فهذه الحكومة فرضت نفسها في مواجهة الأنصار بعصبية “قريش”. وظلت هذه العصبية تفرض نفسها على أرض الواقع لقرون عديدة تالية ، ولا تزال حاضرة حتى الآن كحكم ديني فقهى في متن النظرية ، بعد أن تحولت بفعل التنصيص السياسي إلى أحاديث نبوية ملزمة، وما حدث لاحقاً هو أن العصبية عادت لتؤدي الدور ذاته داخل الدائرة القرشية ، عندما تغلبت حيثية بني أمية على حيثية بنى هاشم التي صارت تستدعى دعم الوازع الديني . فكما يشرح ابن خلدون نفسه ” عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه. وإنما نسى ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحى وتردد الملائكة بنصرة المسلمين، فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية. . حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت ، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم . ( المقدمة ، 2000) .
ما لم يتنبه إليه ابن خلدون أيضا – وهذا طبيعي: هو أن مفهوم العصبية ذاته بمعناه الاجتماعي العشائري هو مفهوم ” تاريخي” مصمم على بنية الاجتماع السياسي الوسيط بتركيبته القبلية ذات الفحوى الجماعي الشمولي، ومن الصعب ضبطه على البنية الاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة. صحيح أن سلطة الحكومة في هذه الدولة تستند بدورها إلى حوامل أو قوى اجتماعية بعينها، لكنها ذات طبيعة (سياسية / اقتصادية / ثقافية) مختلفة تماماً ، بسبب التحولات الجذرية في هياكل الاجتماع السياسي التي تجاوزت أطر السلطة الجماعية القابضة لصالح الروح الفردي و مبدأ التعددية.
-3-
التأصيل الفقهي:
استطاع الفقه أن يدمج النظام الملكي في مفهوم الخلافة. لكنه لم يتوقف طويلاً أمام مسألة تكييف سلطة الحاكم (الخليفة / الملك). أي لم يقارب مبحث “الشرعية” التي تتأسس عليها السلطة العليا في الدولة. مصطلح ” الخليفة” يوحى بأن الحاكم لا يحكم بوصفه صاحب حق أصيل في الحكم ، بل هو مستخلف من غيره ؛ فهل هو مستخلف من الله ؟
أم من النبي محمد صاحب الدولة الأصلي؟ أم من الشعب أي جمهور الأمة؟
رغم تصريحه العام برد كل شيء إلى الله، لا يرحب الفقه السنى بفكرة التفويض الإلهي لسلطة الحاكم ، مدفوعاً بحساسياته المذهبية حيال فكرة التعيين بالنص الإلهي الشيعية ، ولذلك فهو يرفض أن يقال للحاكم “خليفة الله” وينسب هذا “القوال إلى الفجور” كما يصرح الماوردي في الأحكام السلطانية ” لكنه يجعل الحاكم خليفة للرسول ، لا بمعنى أن الرسول نص عليه باسمه كما يذهب الشيعة ، بل بمعنى أن عليه القيام بوظيفة الرسول في سياسة الدنيا وحراسة الدين ” ، وهو معنى لا ينبني على نوع من “التخويل” الصريح أو الضمني .
أما أن يكون التفويض من قبل الشعب أو الجمهور فمسألة مستبعدة من حيث المبدأ : فالفقه وهو يثبت سلطة أهل الحل والعقد في اختيار الحاكم لا يؤسس هذه السلطة على تفويض ضمني مفترض من قبل الأمة لأهل الحل والعقد بل يتحدث عن ” تبعية”، الجمهور لهم بوصفهم أصحاب الشوكة التي تضمن خضوع الجمهور وإذعانه للحاكم وهو مطلوب الإمامة .
وفضلاً عن ذلك، ذهبت كتب الفقه والكلام صراحة إلى عدم وجوب وعدم جدوى موافقة الجمهور ، واعتبر الماوردي ذلك من المسلمات: ” لا يلزم كافة الأمة أن يعرفوا الإمام بعينه واسمه، إلا أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة وببيعتهم تنعقد الخلافة”.
ولو لزم كل واحد من الأمة أن يعرف الإمام بعينيه واسمه للزمت الهجرة إليه ولما جاز تخلف الأباعد ، ولأفضى ذلك إلى خلو الأوطان، ولصار من العرف خارجاً وبالفساد عائداً “.
( الأحكام السلطانية، ص 51 . وانظر الإمامة من كتاب المغنى، السابق ، ص 230 وما بعدها .. و انظر الحافظ ، الرسائل السياسية ، ص 307، وابن حزم ، الفصل 32).
في التخريجات “التجديدية ” المعاصرة للنظرية السنية ، تكيف عملية الاختيار من قبل أهل الحل والعقد بوصفها ” نيابة” مباشرة عن الأمة تقوم على تفويض مفترض ، بما يفيد أن الأمه هي مصدر السلطة في الإسلام، وهو معنى يمكن إسناده “بتصرف” إلى المبادئ الكلية في النصوص، لكن لا يمكن نسبته إلى النظرية ، هذا التخريج يعكس التأثير النسبي لضغوط الحداثة السياسية، ولا يعبر عن طبيعة السلطة كما كان يتصورها العقل السياسي السلفي .
-4-
تستند شرعية التوريث الملكة إلى مبدأ العهد أو الاستخلاف، و هو يحسب الفقه السني صلاحية مطلقة للحاكم يمارسها بإرادته المنفردة. بمعنى أنه تعيين نهائي في المنصب وإن كان مؤجلاً، وليس ترشيحاً موقوفاً على قبول الجمهور (فهذا مستبعد باتفاق) ، أو على إجازة أهل الحل والعقد. ويتأسس ذلك على فكرة الطاعة الواجبة للإمام من قبل الجمهور وأهل الحل والعقد على السواء، يشرح القاضي الهمداني : ” لو كان أبو بكر ولاه ( عمر ) من غير جمع ولا رضا لا يمتنع أن يصير إماماً ويلزم الناس الرضا به ، فمن يكره ولايته يصير عاصياً. ولذلك أجمعوا من بعد على الرضا بإمامته، وإجماعهم على ذلك يكشف عن صحة الطريق الذى صار به إماماً “( الإمامة من المغنى ، ص 227 ) .
ويؤكد الماوردي، كفقيه شافعي، على هذا المعنى بقوله “والصحيح أن بيعته منعقدة ، وأن الرضا بها غير معتبر، لأن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة ، ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى ، وقوله فيها أنفذ ” ( الأحكام السلطانية ، ص34 ) . ويجوز للإمام – بحسب الماوردي –” أن ينفرد بعقدها لولد ووالد ، لأنه أمير الأمة نافذ الأمر لهم وعليهم ، فغلب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة طريقاً على أمانته ولا سبيلاً إلى معارضته ، وصار عهده فيها كعهده إلى غير ولده ووالده … ( السابق ، ص 44 )
و يذهب الحنابلة نفس المذهب، فوفقاً للفراء ” يجوز للإمام أن يعهد إلى من ينتسب إليه بأبوة أو بنوة ” ، وهو “لا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد” لكنه يضيف أن الحاجة إلى أهل الحل والعقد تظل قائمة بعد وفاة الإمام ، لا لتعيد النقاش حول قبول أو عدم قبول العهد ، بل لكي تقلد المعهود له الإمامة كشرط إجرائي ” ” لأن عهده إلى غيره ليس بعقد للإمامة. بدليل أنه لو كان عقداً لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد وهذا غير جائز. وإذا لم يكن عقداً لم يعتبر حضورهم، وكان معتبراً بعد موت الإمام العاقد .. لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد وإنما تنعقد بعهد المسلمين (أهل الحل والعقد ) .” ( الأحكام السلطانية ، ص 25) .
يتحدث الفراء هنا عن غرض إجرائي فنى وليس موضوعيا ، فهو لا يناقش المسألة من ناحية جواز أو عدم جواز أن ينفرد الحاكم ( الفرد ) باختيار الحاكم بدلاً من الأمة أو من أهل الحل والعقد ، ومدى تناقض ذلك مع مبدأ الشورى ، بل يناقش صحة تكييف العهد كعقد يحتاج إلى عاقد . عملياً، وفي ظل الاعتراف المقنن بولاية المتغلب، لا ينطوي موقف الحنابلة على معارضة فقهية للسلطة المطلقة للخليفة وانفراده دون الأمة باختيار الحاكم، وهو موقف الفقه السنى في مجمله .
خارج الدائرة السنية، يمكن الإشارة إلى بعض الآراء المعارضة، لهذا الاتجاه : فمن المعتزلة يشترط أبو بكر الأصم ” إجماع المسلمين من عامة المسلمين وخاصتهم” ( الأشعري ، مقالات الإسلام ة الإسلاميين ، ج 2 ، 149) . أما أبو على الجبائي فيشرط لصحة العهد أن يقع برضا جماعة الحل و العقد (الإمامة من المغنى ، السابق ، ص 277 ) ، وفي هذا السياق يبرز موقف الإباضية الذى يرجع إلى تراث المحكمة الأوائل، والذى يرفض من حيث المبدأ فكرة التعيين بالعهد وفكرة التوريث انتصاراً لمبدأ الشورى.
أما المطاعن التقليدية للشيعة على التعيين بالعهد فلم تطلق من باب الانتصار لمبدأ الشورى، ولا اعتراضاً على فكرة التوريث في ذاتها ، بل لصالح مبدأ النص الإلهي على الأئمة من أبناء على وفاطمة ، وهو مبدأ يقوم أساساً على التوريث.
-5-
التوريث ومفهوم صاحب الدولة
منذ البداية كان التوريث حاضراً كمفهوم سياسي طبيعي، أعني كسبب مقبول لانتقال السلطة، حيث الدارج وفق الثقافة القبلية والوسيطة عموما أن تنسب السلطة إلى مؤسسها الأول بوصفة صاحب الدولة. ففي وقائع السقيفة – كما تنقلها المصادر الإسلامية المبكرة – احتج على لنفسه بحق القرابة لمحمد : ( الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل بيته ، ( ابن قتيبة ) الإمامة والسياسة ، 19) . “أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبا يعكم وأنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتجتم عليهم بالقرابة من النبي، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً (انظر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 28/69 ، نقلاً عن ابن قتيبة ) . ويستعيد على المعنى ذاته وهو يشكو إلى أخيه عقيل قبل موقعة الجمل “اللهم فاجز قريشاً عنى بفعالها، فقد قطعت رحمي ، وظاهرت على ، وسلبتني “سلطان ” ابن عمى ، وسلمت ذلك لمن ليس في قرابتي وحقي في الإسلام”.
لم ينفرد على بالاحتجاج بالقرابة كسبب لوراثة السلطة ، فقد احتج بها المهاجرون القرشيون على الأوس والخزرج في السقيفة ، حيث یورد الطبرى على لسان عمر بن الخطاب ” من ذا ينازعنا “سلطان” محمد و إمارته ونحن أولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل أو متجانف لإثم ومتورط في هلكه ، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ” (التاريخ ، ج 3 ، ص 200 ، وانظر الإمامة والسياسة ، ص 15) . ووافقه على ذلك من الأنصار سعد ابن بشير بقوله ” إن محمداً رسول الله رجل من قريش ، وقومه أحق بميراثه وتولى “سلطانه ” ( الإمامة والسياسة ، ص 16).
ولاحقاً، سيحتج بها معاوية وهو يؤسس لتوريث يزيد رداً على معارضة ابن الزبير وابن عمر: ” إنما كان هذا الأمر في بنى عبد مناف لأنهم أهل رسول الله ( مؤسس الأمر أي الدولة ) ، فلما مضى رسول الله ولى الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة (يعنى أنهما من خارج بنى عبد مناف ورثة الملك عن المؤسس) ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ( يقصد من خلال عثمان ثم معاوية نفسه ) فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة. وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر (باعتبار الأول من بنى أسد ، والثاني من بنى عدى ) .
سبب استحقاق السلطة كما يطرحه جميع الفرقاء هو ميراث القرابة من المؤسس: على يشير إلى أهل بيته الأقربين، ومعاوية يشير إلى عشيرته الأوسع من بنى عبد مناف. وهذا هو الأساس الذي ستنبى علية شرعية السلطة في النظريتين الشيعية والسنية على السواء: الأولى تسندها إلى الورثة المباشرين من أبناء فاطمة وعلى، والثانية تحصرها في قريش دون سائر القبائل .
كانت النظرية في الحالتين تصدر عن الثقافة السياسية السائدة التي تربط ربطا مباشراً بين «الدولة» ذات التركيب البسيط ومؤسسها الأول . لم يكن مفهوم الشخصية المعنوية للدولة قد تبلور في الوعى السياسي مستقلاً عن الحاكم المؤسس ، كانت القبائل التي دخلت في عهود تحالف مع النبي تتعامل معه بصفته السياسية كصاحب الدولة أو رئيس التجمع القبلي الكبير الذي أنشأه في الجزيرة ، ولذلك سارع معظمها عقب وفاته إلى الخروج من عهود التحالف التي اعتبرتها عقوداً سياسية منتهية .
السلطة موضوع الوراثة هنا هي السلطة السياسية، أي سلطة الحكم الطبيعية المعهودة، غير الملتبسة بصلاحيات الوحى الدينية التي يختص بها النبي بحكم نبوته. فالحديث يجرى عن “سلطان” ، محمد ، أو عن “ملك” بني عبد مناف كما يشير معاوية. ما يتشكل هنا هو دولة اجتماع طبيعي وإن كان الدين هو محرك ظهورها.
في سياقات التشكل المبكرة، كان هذا المعنى واضحاً، ولم يتكلف الوعي السياسي تغييبه كما سيحدث بعد نضوج الدولة واكتمال التنظير. لقد كانت الدولة – في الواقع – مشروعاً سياسياً خاصاً بمؤسسها، لكنه تحول في النظرية، إلى مشروع سياسي ديني” بفعل التجاور والتداخل مع الدعوة الدينية المصاحبة.
في النظرية الشيعية الإمامية، سيتطور حق الوراثة إلى وصية منصوصة لسلسلة متعاقبة من أبناء على الفاطميين ، محددة أسماؤهم على سبيل الحصر إلى نهاية الزمان . وسوف يتسع نطاق التوريث ليجمع بين صلاحيات السلطة السياسية وصلاحيات الوحي الدينية، بحيث لم يعد موضوع الاستحقاق هو سلطة الحكم، بل أيضا سلطة الإرشاد الديني الموصول بالوحى.
بدورها، طورت النظرية السنية حق الوراثة إلى وصية منصوصة تجعل الأئمة حصراً في قريش، وسوف يتسع أيضا لصلاحيات دينية بعد أن أسندت إلى الحاكم الخليفة مهمة “حراسة الدين “، إلى جانب سياسة الدنيا.