تكوين
-1-
على المستوى السني كان الفقه ينظر للسلطة نيابة عن الدولة المتغلبة، أي كان ينظر للسلطة من موقع السلطة، وتحت ضغط المعارضة المسلحة من قبل الشيعة والخوارج. وفى هذا السياق نفهم تركيز النظرية على مفهوم النظام، الذي يكرس مبدأ الخضوع للحاكم، على حساب أي مفهوم آخر في معادلة الدولة، وخصوصاً مبدأ “الحرية” الذى يتعلق بالمحكومين وحقوقهم الطبيعية في اختيار الحكومة والرقابة عليها.
يلح الفقه السني في مجمله على فكرة الصبر حيال الحاكم مهما كان فاسداً أو ظالماً وذهب النووي كعادته إلى انعقاد الإجماع على ذلك ( انظر شرح صحيح مسلم ، ج 12) ، وهو ما يشرحه ابن تيمية تعليقاً على الحديث الشهير المنقول عن حذيفة بن اليمان ” بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله..”، بقوله : ” فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولى الأمر وذلك ظلم منه، ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهى عن الخروج عليه” و يبرر الفقه السنى هذا المذهب بدفع الفتنة التي تنجم عن مقاومة الظلم خصوصاً عن طريق القتال : ” فالفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيجب دفع الفساد الأعظم بالتزام الفساد الأدنى” تطبيقاً لقاعدة القبول بأخف الضررين. فحسب ابن تيمية : ” لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزلته” ( انظر منهاج السنة النبوية، ج 2، ص 87،88).
-2-
يعكس هذا التصور – بالطبع – طريقة التفكير السياسي لدى الوعى العربي الإسلامي الوسيط، حيث تختزل الدولة في سلطة الحكم، وتختزل السلطة في شخص الحاكم الفرد. لم يكن من الوارد تصور الدولة ككيان معنوي عام، تستند فيه السلطة إلى إرادة المحكومين أو جمهور الشعب، أو تتوزع فيه السلطة على عدد من المؤسسات، وجرى تصورها كقوة قهر طبيعية، مملوكة لفرد مؤيد من السماء أو يملك عصبية كافية للدفاع عنها .
بحسب الثقافة السياسية السائدة، كانت المسألة في التصور السلفي لا تخرج عن خيارين اثنين: إما قبول الظلم أو الخروج للقتال، حيث يبدو ضرر الظلم أخف من ضرر القتال. لم يرد في الخيال النظري بديل ثالث يتعلق بفكرة تنظيم الاختلاف مع السلطة أو معارضتها بدون قتال. حيث كان الحاكم ينظر إلى كل اختلاف أو معارضة بوصفها خروجاً ينطوي على تهديد محتمل لكرسي الحكم، الأمر الذى كرسه المسار الدموي الذي اتخذته الأحداث منذ الفتنة الكبرى في مجتمع مشحون دينياً.
على أرض الواقع، كان ثمة حاجة لدى الحاكم المتغلب لصد عمليات الخروج المسلح من قبل الخوارج وحركات التشيع المبكرة، ولوقف تيارات المعارضة ذات النفس الديني بوجه عام. وكان على الفقه المتحالف مع الدولة تقديم الإسناد الشرعي اللازم لهذه الحاجة السياسية . وفي هذا السياق اعتمد الفقه بالدرجة الأولى على ماكينة التحديث، التي كانت تشتغل حينذاك على نطاق واسع، والتي أمكن من خلالها لجميع الفرق السياسية تقديم دليل “نصى” على صحة دعواها المذهبية.
وهو ما أسميته بظاهرة “التنصيص السياسي”.
التنصيص السياسي
التنصيص – عموماً – ظاهرة متكررة في أنساق التدين الكتابي ، تصاحب عادة المرحلة التالية على غياب المؤسس ، وهي مرحلة التدين القصوى في تاريخ الديانة. الحاجات السياسية والاجتماعية الجديدة التي تريد التعبير عن نفسها دينياً، تظهر في أشكال ذات قوام نصي، بسبب كون النص – القريب زمنياً – هو الشكل الوحيد المعروف للتعبير الديني. إسلاميًا – حيث تحول الصراع السياسي إلى مذهبية دينية – أدت هذه الحالة إلى استحداث “نصين” جديدين كاملين إلى جانب النص التأسيسي؛ الأول: مجموعة الروايات الأحادية التي ستعرف سنيًا بالأحاديث النبوية، والثاني: مجموعة الروايات التي أسندها الشيعة إلى أئمة أهل البيت. ومن خلال هذا النص المرن والبالغ الاتساع تم تمرير الصياغات اللاهوتية والمفاهيم السياسية المطلوبة على الجانبين.
-4-
بدأ التنظير السني للخلافة بالاستناد إلى “الإجماع”. لكنه تطور حيال الطرح الشيعي النصي إلى الاستشهاد بالنصوص على نطاق ضيق في البداية، حيث لم تكن عملية جمع الحديث قد استشرت بعد. ثم اتسع النطاق بعد أن وفرت عملية التدوين السنية الواسعة كميات وافرة من النصوص المنسوبة إلى النبي ، والتي تحتوى على “مضادات نصية” مقابلة لمعظم مفاهيم الطرح الشيعي .
على مدى العصر الأموي (حتى 123 هـ ) كان التنصيص السياسي يصدر عن السلطة الحاكمة وأعوانها، كما عن جماعات المعارضة من شيعة و خوارج وزبيريين ( كمثال : انظر المبرد ، الكامل ، بيروت ، الرياض ، ج 2، ص 320، حيث يشير إلى اتهام المهلب ابن أبي صفرة القائد الأموي الشهير بأنه “ربما صنع الحديث يشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج ، فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رؤوا المهلب رائحًا إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب. وانظر ابن قتيبة الإمامة والسياسة، السابق ، ص 399، وانظر أيضاً أبو نعيم ، الحلية ، حيث يشير إلى رواية أبى لهيعة عن رجل من الخوارج: ” إن هذه الأحاديث دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرنا له حديثاً”. وبوجه عام أنظر عشرات الأمثلة على الوضع السياسي للأحاديث من قبل جميع الفرق، بمصادرها في المراجع الإسلامية الرئيسية، في كتابي السلطة في الإسلام، الفصل الثالث، المعنون ” في السنة : بين سلطة النص ونص السلطة “).
في العصر الأموي كانت معركة التنصيص تدور – غالباً – بين أطراف سياسية صرف، لكن. المعركة ستتسع في العصر العباسي بعد اكتمال التبلور النظري لهذه الأطراف السياسية بما فيها السلطة المحاكمة. التي ظلت تمثل ما صار يعرف بأهل السنة والجماعة. يضاف إلى ذلك نضوح الطرق الكلامية التي تطورت عن أصولها السياسية إلى فرق فكرية خالصة كالمعتزلة والمرجئة، وتشكل المذاهب الفقهية (التي صارت تتوفر على مرجعيات أصولية مركبة).
كرد فعل للتنصيص الشيعي الواسع، انغمس الطرف السني في حركة الطلب والتدوين الكبرى على الأحاديث، وظهرت على نحو مفاجئ روايات مرفوعة إلى النبي مطابقة بشكل مريب للمفهوم السني عن الخلافة كما أخذ يتبلور في القرن الثاني ترجمة لواقع الدولة ، ولأن هذا المفهوم المستحدث كان ينشأ من منطلق رد الفعل على الشيعة أساساً والخوارج نسبياً ، فقد ظهر في صيغة شبه فقهية ، تأخذ شكل الرد الدفاعي ، والطعن على مزاعم الخصوم ، التي كانت بدورها مزاعم مستحدثة. وهو ما ينطبق على صياغات النصوص الجديدة التي ظهرت لدعم النظرية. فهي تبدو كما لو كانت مركبة على الأحداث القائمة، رغم أن المفترض – بوصفها نصوصاً – أن تكون ابتدائية ومطلقة، أي سابقة على الأحداث والمفاهيم الناشئة.
-5-
أحاديث الفتن والملاحم: نموذج البخاري.
يخصص البخاري لهذه الأحاديث كتاباً كاملاً من صحيحه تحت عنوان “كتاب الفتن” الباب الثاني من هذا الكتاب يعد نموذجاً مثالياً لعملية التنصيص السياسي بمعناها المتطور في عصر النظرية، حيث يتم توظيف النصوص من خلال الترجمة الفقهية، وتوجيهها لتثبيت حكم فقهى بعينه يقضي بوجوب الخضوع للسلطة بناء على نص ملزم : فالعنوان هو : باب قول النبي (ص) و سترون بعدى أموراً تنكرونها”.
وقال عبد الله بن زيد قال النبي (ص)، اصبروا حتى تلقوني على الحوض” الشطر الأول مقدمة تشير إلى المشكلة: ستظهر لكم أمور منكرة من الحكام. والشطر الثاني نتيجة تتضمن الحل: وهو الصبر عليهم إلى يوم القيامة، على القارئ أن يدخل إلى الباب محملاً بهذا العنوان ليدرك مقدماً أن المقصود هو الصبر على مفاسد الحكام، فالنبي قد تنبأ بها ومع ذلك يدعو إلى التجاوز عنها، يستخدم البخاري الشطرين في إنتاج حكم فقهي مركب له صفة الإلزام .
في الحديث الأول من الباب يورد البخاري النص كالتالي: ” إنكم ترون أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم “. وبحسب الشراح، يتضمن حق الحكام ” بذل المال الواجب في الزكاة ، وبذل النفس في الخروج للجهاد بالدعاء عند التعيين ونحو ذلك”، بينما يفسرون قوله ” وسلو الله حقكم” بالدعاء إلى الله أن ” يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيرًا منهم”.
( انظر ابن حجر، فتح الباري ج 13، ص 5، 6) والمعنى الواضح هو أن حق الحكام معجل في الدنيا، أما المحكومون فحقهم مؤجل إلى الآخرة، وليس أمامهم إلا الدعاء.
كان المطلوب تقنين واقعة “الأثرة ” للرد – بأثر رجعي – على معارضة الأنصار المبكرة ومعارضة علي وشيعته لنتائج السقيفة، وفي الوقت نفسه تقنين حالة التغلب القائمة بوجه عام؛ يشرح ابن حجر:
“لا يلزم من مخاطبة الأنصار بالحديث أن يختص بهم ، فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين، ويختص ببعض المهاجرين دون بعض، فالمستأثر من يلي الأمر ومن عداه هو من يستأثر عليه. ولما كان الأمر يختص بقريش ولا حظ للأنصار فيه خوطب الأنصار بأنكم ستلقون أثرة، وخوطب الجميع بالنسبة لمن يلي الأمر”. (فتح الباري، 132، السابق).
لقد ظلت الحاجة قائمة إلى تأسيس نص لواقع التغلب المتواصل، ولذلك يظهر هذا النص عند الطبراني في صيغة عامة أو مطلقة، وتبدأ بسؤال مباشر من الصحابة ( وكأنهم كانوا يمتلكون أيضا صلاحية التنبؤ ويشعرون بالقلق حيال حكومات المستقبل ) :يا رسول الله إن كان علينا أمراء يأخذون بالحق الذى لهم ويمنعونا الحق الذي عليهم ، أنقاتلهم ؟ قال لا . عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم “. (انظر فتح الباري، السابق). هنا يظهر السؤال المتكرر عن القتال ليتكرر النهي عن القتال، من حيث هو الهاجس الأكثر إقلاقاً لكرسي السلطة.
في الحديث الثاني من باب الفتن، نجد تنويعاً للمعنى ذاته في صياغة أكثر تركيزاً: ” من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً فمات مات ميتة جاهلية ” وكرره البخاري عن ابن عباس بعبارة “فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية”.
تبدو المسألة في أحاديث السمع والطاعة كما لو أن الفتنة لا تأتي إلا من جهة الخروج على الحاكم أو معارضته (حيث كل معارضة خروج) أما حقوق المحكومين وحرياتهم ومصالحهم فلا يتصور أن يكون الاعتداء عليها سببًا للفتنه. وإذا كان على أحد الطرفين في معادلة الحكم أن يصبر دفعًا للفتنة فليكن المحكوم وليس الحاكم، وعلى المحكوم أن يصل بصبره إلى أقصى مدى، ففي الحديث الشهير – الذي أخرجه مسلم في صحيحه – يرد الخطاب الموجه إلى المحكوم كالآتي: “تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك” هنا تبدو الحدود غائمة بين حق الحاكم في السمع والطاعة، وحق المحكوم في الحرية والعدالة، وهو حق طبيعي يمكن إسناده إلى القيم المطلقة في الدين ، لكن من الصعب حمايته وفقاً للطرح الفقهي الذي يورد الحديث في سياق الدعم السياسي لسلطة الحاكم المطلقة.
-6-
جزئياً، يعترف علم الحديث السني بظاهرة التنصيص السياسي. لكنه لا يناقشها تحت هذا العنوان، بل في إطار الكلام عن مسألة “الوضع”، أي بوصفها مشكلة “حديثية فنية”. ومن السائد في العقل السلفي أن هذه المشكلة تم حلها بالفعل بفضل الجهود التقنية الفذة لعلماء الحديث الذين استطاعوا الإحاطة بكل الروايات الموضوعة وبينوا عوارها بالاستناد أساساً إلى السند. ومن ثم فلم يعد لهذا المشكل محل الآن، وليس لأحد أن يعود إلى مناقشة الأحاديث من جهة متونها بعد أن وصلت إلينا محققة من قبل علماء السلف.
واقعياً، ورغم تصديه التقني لظاهرة الوضع وانغماسه في بحوث الرجال، لم يقدم علم الحديث معالجة توثيقية كاملة للنص السني بالمقاييس العلمية: في شرحه لهذه المعالجة يقول ابن الجوزي: “وإذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع” وهذا يعني من الناحية النظرية اعتماد “العقل” كمعيار لتقييم المتن ، بالإضافة إلى “الأصول”. إلا أن العبارة التالية تنسف هذا المعنى من أساسه، حيث يضيف ابن الجوزي ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة “. وهذا دور منطقي واضح، لأن المسانيد والكتب المشهورة وكلها من أخبار الآحاد، هي التي يجب أن تخضع للتقييم بمحاكمتها إلى الأصول. الأمر الذي يستلزم أن تكون الأصول من خارجها، معنى هذا أن المسانيد والمكتب المشهورة – أي معظم الأحاديث العاملة في الساحة – تخرج من نطاق البحث في مسألة الوضع لأنها بذاتها أصول وفقًا لهذه الرؤية السلفية. أما حكاية الوزن بموازين العقل فنادرة جداً، ولا تكاد تستخدم إلا في سياق الاعتراض على روايات الفرق المخالفة. (انظر ابن كثير، اختصار علوم الحديث، شرح أحمد شاكر، دار التراث، ط 3، 1972، ص 65).
أصل المشكل يكمن في أن العقل السلفي يتجاهل السياق السياسي الاجتماعي الذي تمت من خلاله عملية جمع الروايات من جهة التحديث والتدوين والتصنيف. واقعياً، تقف السياسة خلف كل عناصر العملية بما في ذلك عنصر تقييم الرجال، الذى كان يقوم على الموقف السياسي المذهبي للراوي “فمن كان من أهل السنة قبلت روايته ، ومن كان من أهل البدع لم تقبل روايته” كما يصرح ابن سيرين ، من الناحية العملية، كان ما يرويه الرجل هو معيار الحكم على عدالته، وليست عدالته معيار الحكم على ما يرويه، لم يكن تقسيم الرواة إلى أهل سنة ومبتدعة أكثر من تصنيف سياسي، أمكن من خلاله رد روايات الفرق المخالفة للطرح السني خصوصًا الروايات الشيعية.
نتيجة لهذه الرؤية الموروثة ، يتعاطى العقل الإسلامي الراهن مع هذه النصوص كمتون موضوعية صرف مفروغ من ثبوتها ، ثم يشرع في تأويلها لمواجهة المشكل الناجم عن تناقضاتها الداخلية ، أو عن تعارضها مع الواقع، أو مع القيم الكلية المطلقة للدين. (لاحظ الصعوبات التي يواجهها الفقه السني المعاصر في تأويل حديث مسلم بضرب الظهر وأخذ المال، بغرض التوفيق بينه وبين بقية النصوص الإسلامية من جهة، وبينه وبين ثقافة الحداثة السياسية من جهة ثانية. ومع ذلك فهو لا يجرؤ على رد الحديث من متنه، أو يفكر في قراءته من جديد موضوعاً في سياقه السياسي إلى جانب بقية أحاديث الفتن وروايات السمع والطاعة).
-7-
المعارضة السلمية
بحكم الثقافة السائدة والواقع الصدامي اللاحق على الفتنة، لم يقف الفقه السنى على فكرة الاختلاف السلمي حول السلطة أو المعارضة من داخل النظام السياسي. عالج الفقه المسألة ضمن باب “أحكام البغاة”، وهو الباب الذي يتناول الخروج المسلح على الحاكم بوصفها بغيا يستوجب “القتال” وفقاً لنص القرآن، أو تحت عنوان “البدعة” التي قد تصل إلى الكفر، وتستوجب “القتل”.
بحسب الفقه الشافعي يُعرف البغاة بأنهم “مسلمون خالفوا الإمام ولو جائراً بخروج عليه” (انظر أبو البركات، الدردير، الشرح الكبير، مطبعة مصطفى محمد 1936، ج 4، ص 298). أما في الفقه المالكي فهم ” طائفة من المسلمين خالفت الإمام الذي ثبتت إمامته باتفاق الناس عليه لمنع حق لله أو لآدمي وجب عليها كزكاة، وكأداء ما عليهم مما جبوه لبيت مال المسلمين لخراج الأرض ونحو ذلك.. أو خالفته لإرادتها خلعه أي عزله، لحرمة ذلك عليهم وإن جار، إذ لا يعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته ، وإنما يجب وعظه” (انظر شمس الدين الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ،م مصطفى الحلبي ، 1938 ، ج 7) .
خلافاً للشافعية، يدخل المالكية في معنى البغي المبيح للقتال كل مخالفة للحاكم ولو لم تكن مسلحة، وينضم الأحناف إلى الشافعية بينما يميل الحنابلة إلى رأى مالك، الذى يذهب إلى قتل) وليس (فقط قتال) الإباضية والمعتزلة على اعتبار أنهم مفسدون في الأرض مثل قطاع الطريق. يروى ابن عبد البر من مالكية القرن الخامس “عن مالك، عن عمه أبى سهل بن مالك قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية (المعتزلة) فقلت: رأيي أن تستتيبهم، فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر : وذلك رأي، وقال مالك : وذلك رأيي”. وأضاف عن مالك قوله: “لا يصلى عليهم، ولا يسلم على أهل القدر ، ولا على أهل الأهواء كلهم ، ولا يصلى خلفهم، ولا تقبل شهاداتهم، إلا أن أحمد بن حنبل قال : ما تعجبني شهادة الجهمية ، ولا الرافضة ، ولا القدرية. قال أبو عمر: كل من يجيز شهادتهم لا يرى استتابتهم ولا عرضهم على السيف ” ( ابن عبد البر، الاستذكار ، مؤسسة النداء، أبوظبي ، 2002، م 9، ص 558.).
ويشرح ابن قدامة من فقهاء الحنابلة: “قال مالك في الإباضية وسائر أهل البدع يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال إسماعيل بن إسحاق: رأى مالك قتل الخوارج والمعتزلة من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم. وأما من رأى تكفيرهم (مثل الحنابلة الذين يكفرون الخوارج) فمقتضى قوله: إنهم يستتابون وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد. وحجتهم قول النبي (ص): فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ” (المغنى، دار الكتب العلمية، بيروت ، 12 ، ص 58).
تعامل الفقه خصوصاً المالكية والحنابلة مع الاختلاف السياسي من داخل مفهوم ” البدعة” الدينية التي كانت تقدم باعتبارها إفسادًا في الأرض يبرر قتل المخالف المسلم في حالة تعذر المبرر الأصلي للقتل وهو التكفير. فمالك يرى قتل الإباضية بسبب إفسادهم المتمثل في بدعتهم لا لأنهم كفار، فيما الحنابلة يرون أيضا قتلهم ولكن باعتبارهم كفاراً كالمرتدين؛ يقول ابن قدامة : ” والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والإجهاز على جريحهم لأمر النبي بقتلهم ووعده بالثواب لمن قتلهم ” ( المغني، السابق ) جميع الطرق تؤدى إلى القتل، الذي وردت به جملة من الأحاديث المنسوبة إلى النبي والمركبة بشكل تفصيلي على صفات المعتزلة والخوارج وهي صفات لم تكن حاضرة في زمن النبي ، لكنها صارت حاضرة الآن بفعل التنصيص السياسي لتسهم في تقنين القمع الدموي في مواجهة الخارجين المسلمين والمخالفين السلميين على السواء.
لم يكن من المتوقع – بحسب الثقافة – أن يصل الفقه إلى نسخة إسلامية من المعارضة الحزبية المعاصرة، لكن المتوقع الضروري أن يجرى التعامل مع هذا الفقه كمنتج تاريخي خاص بسياقه الزمني، لا كمصدر ملزم لتوجيه الوعي الحاضر.