تكوين
في القرن السابع عشر تفاقم حضور التيار الوضعي في أوربا. وبالتوازي مع الصراع المحتدم بين الكنيسة والحكام المحليين، تصاعد الجدل النظري حول فكرة الدولة الممزقة عمليا بين السلطتين، وظهرت نظريتان رئيسيتان في أصل الحكومة : ١- نظرية “الحق الإلهي” التي تبنى سلطة الملك على تفويض أصلى موروث من الله 2- نظرية “العقد الاجتماعي” التي تبني هذه السلطة على تفويض مفترض من قبل الشعب.
نظرية العقد الاجتماعي
لم تعارض الكنيسة نظرية العقد الاجتماعي رغم فحواها الوضعي، بل وظفتها في إطار السعي إلى تقييد سلطة الملك، بغرض وضعه في مرتبة أدنى من البابا. فالسلطة العلمانية يمنحها البشر، خلافاً لسلطة الكهنوت المستمدة مباشرة من الله والمحفوظة دائماً برعاية الروح القدس، وبالتالي فالمعنى المطلق للسلطة هو حكر على الكنيسة. بالهجوم على السلطة الأوتوقراطية للملك لم يهدف اللاهوتيون إلى خدمة الأفكار الديموقراطية التي كانت تتنامى في أوربا مع توسع الطبقة الوسطى، لكن حجج اللاهوتيين المناهضة للملكية ستوظف لاحقاً لصالح هذه الأفكار مع تراجع نفوذ الكنيسة وتصاعد التوجهات القومية.
في المقابل، لم تكن نظرية العقد تعني بالضرورة نقض السلطة المطلقة للملك، خصوصاً في صنيعتها المبكرة التي طرحها هوبز. بحسب هوبز نشأت السلطة بعقد أو عهد “مفترض” بين عدد من الناس يتفقون على اختيار ملك أو هيئة تمارس السيادة عليهم. الغرض من هذا التفويض هو وضع حد لوضعية الفوضى والاحتراب التي تنجم بالضرورة من حالة الاجتماع الطبيعي (المجتمع في حالة الطبيعة ) . الهدف الرئيسي للدولة هو إقرار الأمن، وهو هدف يسمح للملك بممارسة السلطة المطلقة، فحتى أسوأ استبداد هو أفضل من الفوضى. يرفض هوبز فكرة التمييز بين الاستبداد والملكية كما طرحها أرسطو، ليس ثمة ملكية بدون استبداد، والاستبداد “لا يعدو كونه ملكية يحدث مصادفة أن يكون المتحدث عنها كارها لها” ( انظر راسل تاريخ الفلسفة الغربية ، ك 3، ف 8) .
لم تكن نظرية العقد الاجتماعي إذن – في سياقات ظهورها المبكرة- نظرية شعبوية مكرسة ضد “الأوتوقراطية”، وإن جرى توظيفها لاحقاً في هذا الاتجاه، لكنها منذ البداية ولدت محملة بشحنة وضعية مضادة “للثيوقراطية” ، أعنى تنطلق من توجه رافض لتغول الكنيسة التي تضع السلطة الروحية فوق السلطة الزمنية وكما يصرح هوبز في القسم الثالث من كتابه “اللفياثان” Leviathan” ” ليس ثمة كنيسة عالمية ، لأن الكنيسة يجب أن تعتمد على الحكومة المدنية، وفى كل قطر يجب أن يكون الملك هو رئيس الكنيسة، فليس في الوسع التسليم بكون البابا هو السيد الأعلى وكونه “معصوماً من الخطأ”. بحسب هوبز “كل الكهنة في الدولة المسيحية ليسوا إلا كهنة صاحب السيادة ، يستمدون سلطتهم منه”(انظر، تاريخ الفلسفة السياسية، من ثيوكيد يدس حتى اسبينوزا ، ليو شتراوس ، جوزيف كروبي، الترجمة العربية ، ط 2 ، القاهرة 2016، ص 611-612).
بدورها، لم تكن نظرية الحق الإلهي – رغم مقدماتها الدينية- . مكرسة للدفاع عن ثيوقراطية الكنيسة، بل على العكس لتثبيت السلطة الزمنية للملك مقابل سلطة الكنيسة . كان روبرت فيلمر في انجلترا يمثل هذه النظرية في صيغتها الأكثر تطرفاً. وفي كتابه المعروف ” الباطريكا” Patriarcha أو السلطة الطبيعية للملوك (الذى نشر سنة 1680، والذى سينتقده “جون لوك” لاحقًا ) هاجم فيلمر فكرة العقد الاجتماعي التي تتطلق من “القول بأن الجنس البشرى مولود بالطبيعة مزوداً بالحرية الخالصة من كل خضوع وأنه حر في اختيار شكل الحكومة التي تروقه “، واعتبر فيلمر أن هذه الفكرة جرى الترويج لها من قبل بعض اللاهوتيين بغرض “الهبوط بالملك إلى المنزلة الأدنى من البابا، فقد وجدوا أن أضمن سبيل إلى ذلك هو تقديم الشعب على الملك بحيث تحتل البابوية مكان السلطة الملكية” (انظر راسل : السابق، في 14).
في هذا السياق الصدامي بدا الجدل بين النظريتين معقداً وغير محسوم، لكنه صار يكشف عن شرور الثيوقراطية والأوتوقراطية معا. لقد ظهرت النظرياتان في ظل مناخ ثقافي يهيمن عليه اللاهوت، ولم تهدف أي منهما إلى استبعاد الدين كليًا من أجندة الدولة ، بل إلى ضبط نفوذ الكنيسة وإخضاعها لسلطة الدولة الزمنية. كان الهاجس المشترك الذي يفرض نفسه على النظريتين هو ” ازدواجية السلطة”، التي برزت كمعضلة بنيوية مزمنة تمنع تطور المجتمع والدولة المسيحية. هذا الهاجس يبدو واضحاً فى الصياغات المختلفة لنظرية العقد الاجتماعي بدءاً من هوبز (ت1679) إلى اسبينوزا ( ت 1677) ولوك (ت 1704) حتى جان جاك رسو (1778).
–
في القرن الثامن عشر سيطور التيار التنويري . في فرنسا هجومه ضد الثيوقراطية؛ فسهام النقد لم تعد توجه إلى مؤسسة الكنيسة وأدائها السياسي فحسب، بل إلى المسيحية وفكرة الدين الذي اعتبر في ذاته سببًا لإثارة التوتر داخل الفضاء الاجتماعي. وهو التوجه الذي عبر عنه فولتير، وهولباخ ، وكلود هلفتيوس وجوليان دى لا مترى.
رفض رسو هذا التوجه “الإلحادي” لكنه ظل واعيًا بمشكل الدين التاريخي كما كرسته الكنيسة بامتداد العصور الوسطى، وهو، ما يسميه “بالمسيحية الرومانية” ، أو “دين الكاهن” الذي يمزق الفرد والمجتمع المسيحي بين مملكتين روحية وزمنية ” فهو يمنح الناس شريعتين ورئيسين ووطنين، ويجعلهم خاضعين لواجبات متناقضة ، ويحول دون كونهم عابدين ومواطنين معاً”. لقد نشأ عن هذه الازدواجية سلطة تحكم مضاعفة، وتنازع في الاختصاص “تتعذر معه كل سياسة صالحة، ولم يصل الناس إلى معرفة نحو من يلتزمون بالطاعة أ للسيد أم للكاهن” ( العقد الاجتماعي ، الفصل الثامن : الدين المدني) .
اعتقد رسو أن “فكرة السلطة” لا تقبل التوزيع على أكثر من مملكة واحدة ، وأن “فكرة المملكة” لا تستطيع أن تظل روحية . ولا حظ – عن حق – أن المملكة المسيحية الروحية “المزعومة” ، عادت حين امتلكت القوة فكشفت عن طبيعتها الأرضية “وقدمت أعنف حكم استبدادي في هذا العالم”. ( العقد الاجتماعي، السابق)
انتهى رسو إلى أن “الوحدة السياسية” شرط لازم لأي حكومة صالحة التكوين ، ولذلك أثنى على نظام الخلافة الإسلامي من حيث أنه كان نظاماً أحادياً اجتمعت فيه السلطتان الدينية والسياسية تحت رئاسة الأمير الحاكم : ” كانت لمحمد آراء صائبة جدًا، فقد أحسن ربط نظامه السياسي في شكل حكومة موحدة تماماً ، وصالحة إلى هذا الحد، وظل شكل حكومته باقيًا فى عهد خلفائه. غير أن العرب أصبحوا موسرين ومثقفين ومن ثم مترفين فأخضعهم البرابرة، وهنا بدأ الانقسام بين السلطتين. وهذا الانقسام وإن كان أقل ظهوراً بين المسلمين منه لدى المسيحيين، إلا انه موجود على كل حال، وخاصة في شيعة على: ( العقد الاجتماعي السابق).
لكن رسو ظل واعياً بمشاكل النظام الإسلامي الأحادي من حيث هو في نهاية المطاف نظام “ديني” : ” فهذا النموذج جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين يعلمهم أن خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني لا ينبغي أن يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام، عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوانين إلحاداً ، وإخضاع المجرم للعنة العامة تسليماً له لغضب الله، إلا أنه نموذج سيئ في أنه يخدع البشر، نظراً لأنه بنى على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء متعلقين بالخرافات، و يغرق عبادة الله الحقيقية في طوفان من الطقوس الجوفاء، وهو سيئ أيضًا إذ يصبح قاصراً وطاغياً، فيجعل من الشعب متعصباً سفاكاً بحيث لا ينفس إلا القتل والمذابح، ويعتقد أنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أياً كان ممن لا يؤمن كإيمانه ، وهو ما يضع هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جداً بأمنه الخاص” ( العقد الاجتماعي 207، السابق).
-3-
يتنبه رسو إلى أن النظام الإسلامي صار يتحول مع تطور الثقافة إلى درجة من “الازدواجية السياسية”، تظهر خصوصاً لدى الشيعة ، لكنها تبقى بوجه عام أقل وضوحاً بالقياس إلى النظام المسيحي الغربي. وهي ملاحظة تستحق المزيد من النقاش لمقارنة النظام الإسلامي الذي لم يعتمد فكرة الكهنوت المنظم، بمثيله المسيحي الذي ورث هذه الفكرة من أرضيته اليهودية. إلى أي مدى يمكن الحديث عن ازدواجية سياسية في النظام الإسلامي التاريخي في ظل غياب “مؤسسة دينية” جامعة؟
في السياق المسيحي، كانت الكنيسة قد استكملت بناءها التنظيمي قبل نهاية القرن الثاني، أي كانت تتوفر على مؤسسة دينية مستقلة قبل قرنين من تشكل الدولة المسيحية الأولى التي ستنشأ بعد تنصر الإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن الرابع. مقابل ذلك، نشأت الدولة في السياق الإسلامي في القرن الأول قبل تبلور “طبقة الفقهاء” التي ستأخذ في التشكل عند بداية القرن الثالث، والتي ستتوفر تدريجياً على نوع من السلطة الدينية الموازية ، لكنها تبقى بوجه عام خاضعة لسلطة الدولة وتعمل في خدمتها. الدولة ، التي ولدت بقوة الدفع السياسي وقامت على التغلب المحض، توسعت عبر الغزو على يد قبائل عربية لم يكتمل استيعابها للدين الجديد، وعلى نحو واضح كان بناؤها قد اكتمل قبل تبلور البنية النظرية للديانة ، أي قبل تشكل منظومة الفقه والكلام .
قامت الطبقة الفقهية بتقنين الأمر الواقع وتقديمه في شكل نظرية سياسية مسندة إلى الشرع الإلهي، وبمقتضي هذه النظرية أسندت إلى “الحاكم” مهمة تمثيل وحراسة الديانة ، وهي واحدة من الوظائف التقليدية للكهنوت ، فيما تولت الطبقة الفقهية بشكل عملي خدمة الشعائر وممارسة الفتوى.
تاريخياً، لم تتحول الطبقة الفقهية إلى “مؤسسة” رسمية ذات قوام عضوي، لكن نفوذها الديني / الثقافي ظل يتزايد مع التراجع التدريجي في قوة الدولة وتضخم المدونة الفقهية، حتى صارت تتوفر على نوع من السلطة الموازية وأمكن لها القيام بأدوار سياسية محسوبة.
( أشير هنا إلى السياق العام للدولة المركزية “السنية” حيث أمكن على الدوام احتواء الطبقة الفقهية تحت سلطة الدولة عبر نوع من التوافق الفقهي السياسي، وهى وضعية تختلف نسبياً عن السياقين الشيعي والإباضي حيث امتلكت الطبقة الفقهية حضورًا “سياسيًا” أكثر وضوحاً، سواء فى مواجهة الدولة المركزية من موقع “المعارضة”، أو على المستوى الداخلي حيث مارس الفقهاء الشيعة معظم صلاحيات الإمام الغائب وأهمها : جمع أموال الخمس ، ولعب فقهاء الإباضية أدواراً أكثر حسمًا في عملية اختيار الحاكم وتقديم الشورى).
-4-
مع زوال النظام الإسلامي التقليدي والتحول إلى نموذج ” الدولة الوطنية”، جرى تأميم السلطة المعنوية للفقه عبر إلحاق الطبقة الفقهية بالجهاز الإداري للدولة . وهنا ستحظى هذه الطبقة لأول مرة بكيان “مؤسسي” شبه رسمي. ورغم تبعيتها الحكومية، وفرت هذه الصيغة المؤسسية فرصاً مواتية للتطور المستقل والتعبير عن نزوعات الفقه المحافظة :
في المحيط الإسلامي لم تستكمل الدولة قط شروط النموذج الوطني الحديث التي تقوم على مبدأ “المواطنة” و “علمانية القانون”. في النموذج المصري – كمثال واضح – أبدت الدولة منذ بداية ظهورها في القرن التاسع عشر، توجهاً مدنياً صريحاً ، لكنها عادت تدريجياً إلى تقمص دور السلطة “الحارسة” للدين في صياغات مخففة . وهنا ظهرت أعراض الازدواجية داخل البناء الدستوري والقانوني ذاته.
مشاكل الازدواجية هنا لا تأخذ شكل المواجهة بين مؤسستين متمايزتين كما بين الدولة والكنيسة ، بل تختبئ داخل الصيغة الأحادية للسلطة رغم توجهها المدني المعلن. عملياً، تزايدت حدة هذه المشاكل مع تفاقم المد الأصولي، الذي نجح في فرض ضغوط مزدوجة على الدولة والطبقة الفقهية كليهما. ثمة تراجع واضح في زخم الحالة المدنية التي بلغت ذروتها في أواخر القرن الماضي، بما في ذلك وعى الدولة بدورها التجديدي الريادي. وفي المقابل تبدو الطبقة الفقهية أكثر نزوعاً للتعبير عن تكوينها السلفي المحافظ، وأقل تردداً حيال القيام بأدوار سياسية تكشف عن نوع من الاستقلالية حيال الدولة، والخصومة حيال المبادئ الدستورية.
يتبع
عبد الجواد يسن