تمكين
يكمن جدل العلاقة بين اللغة والدين، في مدى قدرة التعبير اللغوي على الإحاطة بالمعاني المطلقة التي يتناولها الدين؛ فاللغة الدينية في تناولها لمفهوم القدرة الإلهية، تطرح بالضرورة دلالات لا محدودة حول تلك القدرة، تختلف بالتبعية عن القدرة البشرية، والتي يمكن تصنيفها هي الأخرى إلى مستويات متفاوتة؛ من النبي، إلى الولي، إلى الصالح، إلى التابع، إلى الإنسان العادي..وهكذا.
الوجود المطلق
وبالتالي؛ فإنّ ثبات الكلمة لا يعني بالضرورة توقف المعنى عن الحركة؛ بحسب السياق. لكننا قد نقع في إشكالية حقيقية فيما يتعلق بأوصاف “الله” والصفات المنسوبة إليه، وكذا الكائنات الماورائية، حيث نجد أنفسنا أمام حالة من “غموض المعنى”، وعدم وضوح مستوياته؛ فكلام الله، بوصفه مطلق القدرة، ينبغي أن يختلف جذرياً عن كلام البشر ولغاتهم ومصطلحاتهم، الأمر الذي يحيلنا على إِشكالية أخرى هي كيفية تحقق التواصل بين المطلق والمحدود؟
إنّ الغموض في المعنى، الذي يكتنف الصفات الإلهية، أو الخصائص أو الأفعال المطلقة المنسوبة إلى الله، يمثل إشكالية حقيقية عند تناول الحضور المكثف لـ “الله” في التاريخ البشري، وينطوي الأمر على مغامرة كبرى، فيما يتعلق بضرورة إعادة فهم اللغة الدينية، وفض الاشتباك بين ما هو منسوب إلى “الله”، وما هو بشري محدود بتلك اللغة.
ثورة على المفاهيم
في محاورات أفلاطون، أثارت معضلة يوثيبرو إشكالية الألوهية وحرية الإرادة، في إطار سؤال جدلي هو: هل يختار الإله الإنسان الصالح لأنّه صالح، أم أنّ الصالح صالح لأنّ الإله اختاره ؟
وبدلا من الخوض في الجدل الكلاسيكي حول الجبر والاختيار، ربما علينا أنّ نتوقف هنا حول معنى الصلاح “لغوياً”، وهل “الصلاح” عند الله المطلق بنفس القدر عند الإنسان المحدود؟ وما الذي يعنيه “الصلاح” الإلهي بكل ما في أطلقة المعنى من عمق؟ وهو عمق لا ينبغي أن تدركه الذات البشرية المحدودة (بحكم المنطق)؛ فالله بوصفه أبدي، غير مادي، وغير محدود، لا يمكن أن تنطبق عليه المعايير اللغوية للمخلوقات الجسدية المحدودة والزمنية. وعليه لا يمكن إطلاق خصائص لغوية بعينها على المطلق كلي القدرة؛ لأنّ الله ليست له خصائص مثلما يوجد لدى المخلوقات.
خاض فلاسفة الدين غمار سجالات معرفية طويلة، حول طبيعة المعرفة الإلهية المسبقة وحرية الإنسان، دون أن يعي هؤلاء أنّ الموجود البشري (بالمنطق) تحكمه قوانين لغوية محدودة، تناسب قدراته. ومن ثمّ فإنّ كل هذه السجالات تبدو غير مفهومة، في إطار محدودية الفعل البشري، مقارنة بمعنى “الفعل” من الناحية اللغوية، ودلالاته عند الله، ومن ثم فإنّنا قد نخلص إلى نتيجة جديدة؛ هي أنّ الإنسان غير قادر على خلق الأفعال “بمفهوم الله”، لكنّه قادر بالضرورة على خلق أفعاله البشرية، في إطار معناها البشري المحدود والواضح في اللغة.
نسبية اللغة وجدل التعبير الديني
قد تبدو ملاحظة لودفيغ فتغنشتاين، حول استعمال البشر استخدامات مختلفة للغة؛ تأخذ فيها الكلمات معاني متعددة، حسب السياقات؛ مدخلاً للاشتباك مع إشكالية اللغة وتموضعها داخل حقل التعبير الديني، بحيث تبدو قابلية الكلمات للتكرار مع اكتساب معاني مختلفة، أمراً شائعاً وجدلياً؛ ربما يفكك النزوع الأصولي التقليدي لأطلقة اللغة، واعتبار معاني الكلمات نهائية وناجزة؛ ففعل “قتل” ربما يأخذ عدة معاني متباينة؛ وفقاً للسياق المستخدم فيه؛ فقتل الشخص يختلف عن قتل الدابة، والذي يختلف بدوره عن قتل الوقت؛ ومن ثمّ تتعارض نسبية المعنى مع إدعاءات قداسة اللغة – أي لغة – وأطلقتها.
على كل؛ ربما كان من المنطقي كذلك التعاطي مع شبكة المفاهيم المرتبطة بالأفكار التأسيسية (كمعطى)، بشيئ من المرونة، ذلك أنّ الأفكار التي تأتي من خارج الاجتماع الإنساني؛ كمعتقدات أساسية، تتموضع بدورها كقوانين مهيمنة على نظام الأفكار بأكمله، دون مراجعة أو إعادة التفكير في حمولتها المعرفية.
العلاقة بين الدين والعلم
التقط الفيلسوف الأمريكي نورمان مالكولم، طرف الخيط من فتغنشتاين، لافتاً إلى أنّ المعتقدات الدينية لا ينبغي التعامل معها على أنّها فرضيات وقوانين صارمة، كما هو الحال في العلوم. لكنّه ألمح إلى وجود عامل مشترك بين الدين والعلم، وهو أنّ العلم لديه مجموعة من المعتقدات الأساسية، التي لا يمكن التحقق منها، والتي يبني عليها الآخرون أو يعتمدون عليها، وأنّ الدين لديه مثل هذه المعتقدات التي لا يمكن التحقق منها. وربما يعود ذلك إلى قصور اللغة وعدم قدرتها على الإحاطة بالمعاني المطلقة.
لاحظ فيتغنشتاين أنّ حدود اللغة هي حدود العالم، فاللغة هي التي تحدد مساحة الأفكار ومدى اتساعها. ومن ثمّ تلعب الثقافة المحلية دورًا في بناء النظام اللغوي، وتكثيف المعاني أو تولد معاني متعددة لموضوع واحد.
على سبيل المثال: تتنوع مفردات بيئة الصحراء لدى قاطنيها، بينما تتضاءل لديهم الألفاظ المعبرة عن بيئة النهر، وعليه يرتبط النص الديني بالبيئة التي يظهر فيها، وفي ضوء ذلك يمكن فهم التباين الموضوعي بين النص التوراتي والنص القرآني، رغم الارتباط البنيوي بينهما، فيما يتعلق بالتشريعات والقصص الديني، وهو ما تجلى بالضرورة في جملة التصورات الذهنية حول المفاهيم ذات الصلة؛ فالبيئة حاضرة بقوة في النص، بوصفها حاضنة اللغة، والنص بدوره لا يستطيع الإفلات من حالة التعالق تلك؛ فنعيم الفردوس على سبيل المثال؛ لا يخرج عن إطار الملذات الحسية المعروفة في جزيرة العرب لحظة التنزيل؛ من نخيل وأعناب وأنهار من خمر وعسل؛ وهو أمر يرتبط كلياً بعقلية المتلقي وقدرته على استيعاب الخطاب؛ وفقاً لوعيه المعرفي، ومفرداته اللغوية.
الوضعية المنطقية واللغة الدينية
ترى المدرسة الوضعية المنطقية، أّنّ المعنى لا يتحقق إلّا إذا كان من الممكن إثباته أو نفيه عن طريق التجربة والاختبار. وبناء على هذا المبدأ؛ حاول الوضعيون دحض الدين برمته؛ بداعي أنّ اللغة الدينية خالية من المعنى؛ لأنّها، وفقاً للمبدأ الوضعي، غير قابلة للاختبار أو التحقق التجريبي.
بدوره، يرى نورمان مالكولم أنّ المعتقدات الدينية لا يمكن ولا ينبغي تبريرها عقلانيًا؛ ذلك أنّ اللغة الدينية يمكنها التماهي مع المعتقد، وتطويع كافة معطيات المعنى الكامن في الوجود، لمعرفتنا الذاتية الخاصة بالدين، حيث يلاحظ أنّ العلم والدين لعبتان لغويتان مختلفتان، وبالتالي لا ينبغي للمرء أن يُخضع ادعاءات نظام فكري ما لمعايير أو قواعد لعبة لغة أخرى أو نظام فكري آخر، ولا يحتاج أي منهما إلى التبرير أو الدعم أكثر من الآخر.
ويمكن القول إنّ المعنى الديني يتجلى عبر اللغة، وفقًا لدرجات الوعي ومستوياته الكامنة داخل النظام اللغوي ذاته؛ وقد تعجز اللغة أحيانًا عن التعبير عن التمثلات الروحانية المطلقة؛ الأمر الذي تتشكل معه بنية اصطلاحية جديدة متجاوزة للمعاني الدارجة، رغم استخدامها نفس الألفاظ، وهو ما يظهر بوضوح لدى المتصوفة، ما دفع البعض إلى القول بإيمانهم بالحلول والتناسخ، وهو أمر ربما يفتقد إلى الدقة، ويمكن إحالة الغموض والتداخل اللغوي في النهج الصوفي، على عدم قدرة النظام اللغوي على مواكبة التطور المذهل، الذي تخطى به المعنى عند المتصوفة حدود اللغة.
وربما يرفض مايكل مارتن هذا الطرح، إنطلاقا من تأكيده على أنّه “بين التعبير اللغوي والدين، حدود للتعالق والانعكاس، فلا يمكن تجريد الدين من اللغة، أو أن تعجز اللغة عن التعبير الديني، بوصف اللغة هي التمثيل الطبيعي والخارجي لحالة داخلية، بوصفها سلسلة من الكلمات التي تعبر عن نظام من التفكير الكامل”[1]. ويمكن أن ينطبق ذلك على الديانات الوضعية البدائية؛ بوصفها نتاج لحالة التكيف البنائي بين الإنسان والبيئة، إلّا أنّ الديانات الإبراهيمية مثلاً؛ تحدثنا دوما عن الله المفارق كلي القدرة، الذي لا تدركه العقول والأبصار، فكيف تدركه اللغة أو تسعفنا على التعبير عنه؟ وهو الأمر الذي قد يكون دفع حلقة فيينا (التجريبيين المنطقيين) إلى القول بأنّ كل التصورات حول الله لا معنى لها؛ لأنّها لا تحتوي على مقولات حقيقية.
ويشتبك أنتوني فلو مع هذا المعني، بالتعريف المعكوس، فأي ادعاء في ظنه، لابد أن يكون قابلاً للتزوير (القابلية للتزوير) فإذا لم تكن هناك شروط من شأنها أن تبطل الدعوى، فإنّ الدعوى بالنسبة لفلو لا معنى لها، والاعتقاد بها ليس عقلانيا. وهكذا، يقدم فلو المعتقدات الدينية على أنّها ترتكز على ادعاءات لا معنى لها، لأنه لا يمكن تزييف تلك الادعاءات لدى أصحابها، ويرى كذلك أنّ المؤمنين المتدينين لن يتركوا أي شيء يتعارض مع معتقداتهم، ومن ثم لا يمكن إثباتها – أي المعتقدات- لأنّه ببساطة لا يمكن تزويرها بالنسبة لهم[2]. وهو ما يعارضه آر إم هير، الذي يؤكد أنّ معايير فلو للعقلانية، لا ينبغي أن تنطبق على المعتقدات الدينية، ذلك أنّ هذه المعتقدات مبنية على مجموعة من الافتراضات غير القابلة للدحض لدى أصحابها؛ لأنّهم يستخدمونها من أجل تنظيم حياتهم. وعليه فهي لا يمكن أن تنفصل عن محيطهم أو نظامهم اللغوي.
اللغة كحامل للمقدس
كان استخدام اللغة للتعبير عن الأفكار الدينية، وتدوين النص المقدس، مقدمة لأكثر الفرضيات إشكالاً في التاريخ، حيث تحولت اللغة بوصفها حامل مقدس، إلى مقدس بالتبعية، فصارت العربية مثلاً لغة أهل الجنة، وتم تقعيدها وبناء نظامها اللغوي وفقاً للنص القرآني، فصار لسان قريش، هو لسان كل العرب المعجز والمقدس والمبين. قبل أن تبدأ عملية “تبرير” قسري لحالات التناقض بين المقدس وحامله، أغلقت على أثره اللغة ومنعت من التطور.
ويلاحظ هير، أنّ المتدينين لديهم نزعة دينية تظهر بمجرد قبول الفكرة الدينية، حيث تتخلق طريقة جديدة للنظر إلى العالم، وبالتبعية يتم تغيير الإطار المرجعي الخاص بالشخص بشكل جذري، وكذ معايير اليقين بوجود الله المطلق. ويمكن القول إنّ اللغة تغدو في تلك المرحلة جزءً لا يتجزأ من هذا المطلق؛ بوصفها الطريق إليه والمعبر عنه.
وفي الفكر الفلسفي الكلاسيكي، يبدو الوجود مرتبطا بالقدرة الإلهية، فالإنسان قبل وجوده المادي كان مجرد فكرة في عقل الله، هذه الفكرة تطلبت وجود قدرة فاعلة ليتحقق الوجود الفعلي للخلق، وبالتالي تصبح القدرة الإلهية شرطًا أساسيًا لعملية الخلق، وتظل أمرًا فاعلا في مسيرة وحياة الإنسان الذي أوجدته، الأمر الذي يحيلنا من جديد إلى معنى “القدرة”، والذي يختلف كليًا إذا أخرجناه من سياقه الإلهي المطلق؛ ليتموضع داخل الحيز البشري المحدود.
ويبدو أنّ توما الأكوينى؛ خلص إلى عدم قدرة اللغة الدينية على التعبير عن الله أو وصفه؛ فالله في رأيه يظل مجهولا لنا في ماهيته الخاصة؛ بسبب كماله اللامتناهي، والله لا يمكن إدراكه؛ لأنّه غير قابل للمعرفة أو كما يقول :”الله لا يمكن أن يكون كذلك إذا أدركناه “. ويخلص توما الأكويني إلى الاعتراف بتجاوز الله في وجوده اللامتناهي، كل ما يمكن أن يقال أو يكتب عنه، مؤكداً “أنّ ذروة معرفة الإنسان بالله، هي معرفته بأنّه لا يعرف الله “.
لاحظ الأكويني أن بعض الكلمات، على سبيل المثال “الخير”، تمثل مشكلة عند استخدامها لوصف الله؛ لأنها تجعله إنسانيًا، على الرغم من أنّ الله يمثل كل شيء مغاير للبشر. لذلك، جادل الأكويني بأنّ القياس هو أبسط طريقة لفهم اللغة الدينية؛ مدعيًا أنّ ما نتحدث به ونعرفه عن الله جزئي. على سبيل المثال، صلاحنا معيب وجزئي، في حين أن صلاح الله هو المثال الرئيسي للصلاح.
ويرفض الأكويني كلاً من اللغة الأحادية والملتبسة؛ باعتبارها أبسط طريقة للحديث عن الله، ويجادل من أجل إيجاد أرضية وسطى، وهي اللغة التناظرية، ذلك أنّ اللغة الأحادية تؤنسن الله وتقوض كيانه الإلهي؛ لأنها تشير إلى أن الله والبشر متساوون، كما يرفض الأكويني أيضًا اللغة الملتبسة، لأنها تجعل الإيمان والادعاء بأنّ الله قد أعلن نفسه للبشر أمرًا مستحيلًا.
بدلاً من ذلك، يقول إنّ اللغة الدينية هي تشبيهية، مما يعني أنّ هناك مقارنة بين الشيئين، حيث يتم استخدام الشيء الأبسط لتوضيح الشيء الأكثر تعقيدًا، وهو مشابه، ولكنه ليس متطابقًا. ويستخدم الأكويني القياس بطريقتين مختلفتين. الطريقة الأولى: قياس الإسناد، وهو أن الصفات التي يدل بعضها على بعض أو على الأشياء الأخرى هي انعكاس لصفات الله. على سبيل المثال، إذا قلنا إنّ الخبز حلو، فإنّ هذا يجب أن يعني، نتيجة لذلك، أنّ الخباز أيضًا جيد؛ لأنّ الخبز هو مُنتَج الخباز، و”صلاح الخباز “ينتشر” إلى الخبز. وهذا يدل على أنّ الصفات مثل الصلاح تعكس صفات الله.
الطريقة الثانية التي يستخدم بها الأكويني القياس هي فكرة أنّ صفات شيء ما، أو شخص ما تتناسب مع طبيعته. على سبيل المثال، إذا قلت أنّ أختي الصغرى عازفة طبول جيدة بالنسبة لعمرها، وذهبت لرؤية عازف طبلة محترف يعزف بنفس مستوى أختي، فسوف أشعر بخيبة أمل. وبالمثل، فإن صفات الله تتناسب مع طبيعته، ممّا يدل على أنّنا عندما نتحدث عن الله، فإننا نتحدث عن كائن غير محدود، ولكن عندما نتحدث عن الآخرين، فإننا نصف كائنات محدودة، لذلك لا يمكن أن يكون المعنى واحدًا[3].
ويبدو هذا الرأي يتفق إلى حد كبير مع ما ذهب إليه نيقولا دي كوسا، والذي يفترض عبث اللغة إن ادعت قدرتها على معرفة الله ووصفه، ذلك أنّ الله الكامل المقدس مجهول بالنسبة إلينا، بوصفه الحد الأقصى المطلق الشامل، المميز للأشياء جميعًا، فهو فعلها الخلاق وغايتها، والشامل لها من حيث أنّها ماهية واحدة مطلقة فيه، كما يرى أنّ الكون نفسه نوع من الشئ الوسط بين الله والأشياء الفردية وهو ما يطلق عليه “الحد الأقصى المتضائل”، وما ينطبق على الله بطريقة مطلقة، ينطبق على الكون بطريقة مشتقة أو محدودة[4]. فالكون هنا حاضر في الأشياء الجزئية جميعًا، على نحو مماثل لحضور الله الكلي الذي هو علة تلك الأشياء وغايتها. وعلى هذا، يصبح ما تطرحه اللغة، مجرد تصور محدود حول اللامتناهي المطلق، مرتبطة بالإنسان فقط، بوصفه لا متناهي مجرد موجود له علة لا متناهية وغاية محددة، أرادها الإله المطلق .
وربما تكون مقاربة جون كالفن أكثر تعقيداً، حيث يرى أنّ اللغة تظل قاصرة وغير قادرة على وصف الله، أو حمل معرفة كاملة عنه؛ ذلك أنّ “تجلي الله الموضوعي- في رأيه- مستمر بكامل قوته، لكن الإنسان فقد الظروف الفائقة على الطبيعة، التي تمكنه من إدراك السمات الإلهية، وذلك بسبب خطيئته التي جعلته عاجزًا عن تنمية إحساسه الأول بالألوهية”[5]. وبالتالي عدم القدرة على الاستدلال إلى معرفة صلبة ويقينية بالله.
ويلاحظ اسبينوزا، أنّ الله هو ذلك اللا متناهي المطلق، وأنّ جوده حقيقة أزلية، ولا يمكن تفسيره بالديمومة أو بالزمان، فهو يفعل بنفس الضرورة التي يوجد بها، لأنّ الضرورة الطبيعية التي يوجد بها هي ذاتها الضرورة التي يفعل بها، وليس لله في رأيه علة غائية، فالله لا يوجد من أجل غاية ولا يفعل من أجل غاية[6] . وبالتالي تغدو كل التصورات اللغوية حوله غير حقيقية. فالإنسان بصفته جزء من الطبيعة، هو جزء من قدرتها، لذا فإن ما يصدر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية، هو بالتالي يصدر عن قدرة الإنسان، ومن ضمن ذلك اللغة، والتي تحتاج في رأيه إلى تطور دائم، عبر الارتباط والتفاعل مع الطبيعة، “فكلما ازدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة، كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أكثر كمالا.
ولعل اسبينوزا يقدم هنا انطلاقا من مذهب وحدة الوجود، تصورا لـ (الله) يقترب بعض الشيئ من فكرة أفلوطين، من حيث هو إله واحد متوحد في الطبيعة لا يمكن أن يملك عقلا ولا إرادة، والله هنا كائن غامض ومغاير لشتى التصورات، التي أسبغت عليه سمات وصفات إنسانية، حاولت تقديم مفهوم مبسط لخالق أسمى عاقل وقادر على كل شئ، من خلال لغة بشرية محدودة وقاصرة، لا يمكنها بأي حال أن تعبر عن ذات تمتلك عددًا لا نهائيًا من الصفات اللامتناهية.
المراجع:
[1] Martin, Michael. “A Critique of Fideism.” Atheism: A Philosophical Justification. Philadelphia: Temple University Press, 1990.
[2] Gary R. Habermas: Antony Flew’ ony Flew’s Deism Revisited: A Re visited: A Review Essay on There is a God, Liberty University, 2007.
[3] The Problem Of Religious Language. (2022, February 24). Edubirdie. Retrieved March 20, 2024.
[4] جيمس كولينز: الله في الفلسفة الحديثة ، ترجمة فؤاد كامل، مكتبة غريب بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة، القاهرة – نيويورك، 1973.
[5] Institutes Of The Christian Religion, Calvin, John, Book III, Translated by Henry Beveridge, Eerdmans,W M. B.Eerdmans Publishing Company,Grand Rapids, Michigan, 1995,
[6] جيمس كولينز: المرجع السابق نفسه.