إشكالية الهوية والثقافة في المواطنيَّة وإمكان العالَميَّة

تكوبن

[I] الهُويَّة والمواطنيَّة: إشكالات التأسيس لعلاقة قلقة

[I-I] في أوَّلِيَّة المواطنيَّة العالَميَّة بوصفها مؤسسة مجتمعيَّة، وضرورتها:

إنَّ ما ينبغي أن نؤسِّسَ له ضمن إطار العلاقات المجتمعيَّة، في البلد الواحد، والوطن الواحد، إنَّما هو الوعي بالعلاقة المجتمعيَّة على أنها ذات قيمة بحد ذاتها. إنَّ العلاقة المجتمعيَّة، من حيثُ إنَّها بناء العلاقة مع العالَم الخارجي، إنَّما هي علاقة مع المؤسسة المجتمعيَّة التي تضع أسس التحديد، والفعل، والتشارك. ومتى فُهِمَت المؤسسة المجتمعيَّة من جهة كونها تقنِّنُ السلوك المجتمعيّ، وتعيد بناء الذَّات على نحو إتيانها إلى الخارج المجتمعيّ (إميل دوركايم، ومارسيل موس)، وإذا هي فُهِمَت على أنها تفتح إمكانات موضوعيَّة للذات الفاعلة مجتمعيَّاً كي تمارس حريَّتَها، وفقًا للظرف المجتمعيّ، والحالة التي من شأن الفعل المجتمعيّ (ماكس فيبر)، وحينما نريد فهمها على نحو إمكان الرمز وقوَّته وسلطته في ضروب تحديد التعالق المجتمعيّ، أي صيرورات بناء العلاقة المجتمعيَّة، واِصطفائها، ورسم أطر الشرعية التي للأفعال المجتمعيَّة في الخارج (بيار بورديو)؛ نكون أمام أوَّل درجة من درجات فهم إشكاليَّة المواطنية بوصفها علاقة مجتمعيَّة. إنَّ ذلك، من موقع المجتمعات العربيَّة، إنَّما هو أوَّلُ بدءِ الدَّربِ نحو أن نكون على نحو جديد. إنَّ المواطنيَّة العالَميَّة تُصبِحُ مؤسَّسَةً مجتمعيَّة حينما نعي العلاقة من دون توسُّطِ الهُويَّات في فهم الإنسان لذاته، ولعلاقته بالآخر، ولمجتمعه، ولوطنه، ولدولته. إنَّ المواطنية العالَميَّة مؤسَّسةٌ مجتمعيَّة؛ أو لا تكون. ولكن كيف يمكن ذلك؟ ولماذا يضعنا أمام إمكانات جديدة؟ وفي أيَّة معانٍ علينا أن نفهم تراث الذَّات، وعالميَّتَها من جديد؟

[I-II] قلقُ البحث عن الأرضيَّة:

إنَّه متى قام التَّساؤل عن الهُويَّة والمواطنية، والعلاقة بينهما، تقوم الإشكالات على بساط من القلق بين مكوِّنات الهُويَّة وعناصر المواطنية العالَميَّة، على نحو ما تريده العناصر التي تتعارض وتتناقض مع المحدِّدات الوجودية والمعرفيَّة لـ[الوجود- في- العالَم]. أن نتساءل: الآخر ونحن؟ أم نحن والآخر؟ يعني أن نتساءل عن أوَّلِيَّة وأسبقية الذَّات على الآخر، أو أوَّلِيَّة وأسبقية الآخر على الذَّات. وفي هذي المسألة الأكثر دقة وتحديدًا تقع كل الإشكالات والإشكاليات التي تهيِّئُ، على هذا النحو أو ذاك، لعلاقة مع العالَم.

نتساءَل عن مُكَوِّنات تُحدِّد الآيديولوجيا العربيَّة، وتقع في الآيديولوجيات المحليَّة والإقليمية والعالمية، بالاِنطلاق من مفهوم المواطنية العالَميَّة. في هذا السياق، يتعرف التَّساؤل الضابط والمتحكم بالإشكالات والإشكاليات على نفسه، باِعتبار أن عودة الآيديولوجيا أم وعيها من جديد، لم تعد مسألة أصليَّة، إلاَّ لأنها في تعالقٍ، على نحو الوجود والكينونة، وعبر الهُويَّة ووعي الذَّات ما بعد الحديثة، بتوسُّطِ المجتمع والتغيُّر المجتمعيّ. لكن أيضًا من خلال كونها [في- العالَم]. أن نكون في العالَم هو من جنس ذاك القلق الذي يرتبط بفعل التخارج. أن نخرج من ذاتِ أنفسنا العميقة بوعي التمييز بين الذَّات والهُويَّة من جهة الإمكان؛ هو ذا قلق البحث عن أرضيَّة تتكامل مع المواطنيَّة العالَميَّة. إنَّنا، نحن معشر المتسائلين عن جملة إمكانات التخارج، وتكاملها مع الشروط الموضوعيَّة، على نحو واقعاني- مجتمعي، لسنا أكثر من دروب إمكان أن نكون.

[I-III] [أن- نفكِّرَ- معًا] هو [أن- نكونَ- معًا]:

إنَّه علينا أن نتعرف إلى هذه الضروب من التَّساؤلات، من موقع الدعوة- النداء، دعوة أن [نفكر- معاً]، وندائِه الأكثر قوة في العالَميَّة اليوم. إنَّها ورشة فكرية من أجل تفكير بين جيلين، جيلنا وجيل آبائنا، بشأنِ مصيرنا ومصير العالَم الذي نعيش فيه. إنَّ حوارًا بين الماضي والحاضر، يعني الاِنفتاح على إمكان المستقبل. وهكذا، أقدِّمُ هنا دعوة الذِّهاب إلى مستوى [التَّفكير- معاً]، وقد صارت، أي الدعوةُ، ضرباً من شجاعةِ التفكيرِ في أن نقع معًا، أو نتورَّطَ على نحو وجودي عميق، بالتَّساؤل عن الموضوعات الأكثر خطورة وقلقًا في الواقع المجتمعيّ العربيّ، بعامَّةٍ، وفي الشرق الأوسط، وفي العراق ولبنان بخاصَّةٍ.

وهكذا، تتضح الحدود النظريَّة للموضوع، على نحو واقعيٍّ حدَّ الألم- الأمل، ضمن  إشكالات، وإشكاليات المواطنيَّة، اِنطلاقاً من بداهات عصر ما بعد الحداثة، أي: – I اِنهيار السرديات الكبرى، و – II بداهة النقد وضرورة ممارسته على نحو جديد، و – III أهمية ممارسة اِستراتيجية التفكيك، و – IV التعدُّد في المناهج والأساليب والطرق لبناء المفاهيم العِلميَّة- والفلسفية، بالتوقف عند المحطات الموضوعيَّة والمَنْهَجيَّة الآتية: أولاً: مفهوم المواطنة والمواطنية، وثانياً: [النموذج- المثال Ideal-Type] لبناء التَّساؤل عن المواطنية اليوم، اِنطلاقاً من المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وثالثاً: ثُنائيَّات إبستيمولوجيَّة في التعرف إلى المواطنية والتفكير بها، ورابعاً: الفرضيات السُّوسيولوجيَّة في الفهم، وخامساً: المواطنية وممارسة السلطة في الواقع المجتمعيّ، وسادساً: العقبات المجتمعيَّة في وجه المواطنية.

[I-IV] الإشكاليَّة ليست تساؤلاً، بل هي إمكان فتح الإمكان في علاقة سَبَبِيَّة- عِلِّيَّة تتضمَّنُ مفاهيم فلسفيَّة- علميَّة، وعلاقاتها: إنَّها العالَم، وعقبات الوجود فيه.

لا بُدَّ من أنْ نتساءلَ عن مفهوم المواطنيَّة من جهة كونه مفهومًا إشكاليَّاً في أفق ذاتِ أنفسنا العميقة. نريد هنا أن نقول أنَّنا نتوفر على إمكان أن نكون مواطنين عالميين. إنَّنا لسنا أكثر من كوننا، في السَّبيل إلى ذلك، متسائلين عن جملة الإمكانات الذاتيَّة، وجملة الشروط الموضوعيَّة العالَميَّة بعامَّةٍ، والشروط الموضوعيَّة المجتمعيَّة المحليَّة بخاصَّةٍ، التي تمكِّننا من الوجود في العالَم على نحو جديد. وهكذا، علينا أن نتوقف طويلاً عند مستوى إشكاليات المواطنية في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، ومجتمعات شرق الأوسط بخاصَّةٍ. إنَّه علينا أن نستجلي مفهوم المواطنية بوصفه قد أصبح مفهومًا حرجًا، ونحن نتكلم ضمن عنوان عميق وقوي هو أن نكون مواطنين عالَميِّين اِنطلاقًا من ذاتِ أنفسنا العميقة؛ عَبرَ علاقة القلق الوجودي والمعرفي التي بيننا والعالَم. ولأنَّ ذلك يتطلَّب ضربًا من [الوجود- على- نحو- أكثر]، فإنَّ التجرُّؤَ على أن نكون أصليِّين إنَّما هو الشجاعة في أن نكون عالميين على نحو ما توفِّره العالَميَّة من التعدُّد في الأشكال الثقافية والآيديولوجية والهُوَوِيَّة المُمارَسة داخل العالَم.

في هذا السياق، باِعتبارنا كائنات عالَميَّة على الرَّغْمِ مِنْ جملة المحدِّدات القَبليَّة Priori المنغلقة على ذاتها، نحن بوصفنا مجتمعات إنَّما نحنُ عقبات في وجه المجتمع العالمي، بعامَّةٍ، والمواطن العالمي في هذا المجتمع بخاصَّةٍ. تتمثَّل هذه العقبات في إنتاج فكر ومعرفة وفهم ووعي يتناقض مع العالَميَّة وأسسها وقواعدها والقوانين التي من شأنها. لماذا عقبات بالتحديد؟ لأننا لازلنا واقعين في شكلٍ من الأشكال الثقافية في العالَم، على الضدِّ منه، ولم نبلغ بعد الشكل الثقافي الأصليّ للعالَم، والمجتمع العالمي، والتعدُّد الثقافي الذي كان قد بلغه.

[I-V] اِستراتيجية تفكيك العقبة المجتمعيَّة، وبراديغم المواطنيَّة:

إنَّ العقبات التي تُستجلى، ويجب أن تُفكَّكَ، في الطريق إلى المواطنية يجب أن تُفهم اِنطلاقاً من ضروب بناء إبستيمولوجيَّة – أي ضمن الأرضيات الموضوعيَّة التي على أساسها نفهم الموضوعات الخاصَّة بتراث الذَّات فينا-، ومن بَعدُ سوسيولوجيَّة- أي وفقًا لحقول علوم المجتمع والإنسان التي تمكِّننا من رسم الاِحتمالات الموضوعيَّة لأنْ نكون من جديد-، ومِنْ ثُمَّ سياسية، أي ضمن ماهيَّة السلطة، وعلاقات السلطة، وبنية السلطة في المجتمعات- العقبات هذه، أو في الـ[نحن]، وصولاً إلى شروط إمكانٍ تتوفَّر لدينا في السَّبيل إلى بناء دولة المواطنيَّة؛ تلك التي لازالت تعاني من كونها يوتوبيا فكرية ليس أكثر.

إنَّه والحال هذي، تتمثَّل إشكاليَّة المواطنية في مجتمعاتنا- ولمجرَّدِ أنْ نقول [مجتمعاتِـ- ـنا] نكون قد نخرج من براديغم المواطنية، على نحو عالميّ- في أن القوانين والتشريعات، خلافاً لما تَصوَّرَ جيل الآباء والأجداد- أولئك الذين أخذوا الحداثة بوصفها وحدة، في حين أن الحداثة تعددٌ أولاً وفوق كل شي، ولذلك هي حداثة- إنَّما هي، أي القوانين والتشريعات، لا تتوفَّر على إمكان أن تَبنيَ، أو أن ترسُمَ لنا الطريقَ نحو أن نكون مواطنين عالميين.

[I-VI] الشرعية على السوق الدينية:

إنَّنا، نحن العرب والمسلمين، أزمة العالَم الذي يعاني منها منذ صحوة الجماعات الهُوَوِيَّة التي ذهبت إلى بناء الدولة على شرعية مجتمعيَّة وفَّرت السوقُ الدينية أرضيةَ إمكانها، أو ذاك الإمكان الذي جَعَل الدِّين قادراً على أن يعلِّمَ الأمة- المِلَّة على أن تنتمي، على هذا النحو أو ذاك إلى العالَم، من جهة، ومشروعية وفرتها وحدة النص، والسنة، والحديث، أي وحدة الماضي ضمن ضرب من اِحتكار الفهم به يذهب إلى بناء عصابة، من جهة أخرى. إنَّها عصابة الفساد، والإفساد المجتمعيَّة؛ التي في أفضل الأحوال يمكنها أن تجد كل الإمكانات في الاِلتفاف على الدولة. تلك التي جعلتنا، ضمن العالَم، دولاً مارقة. ولكن، متى قام التَّساؤل: ماذا نعني بالشَرعَنَةِ على السوق الدينية؟ نكون أمام مفهوم الهُويَّة الدينية. إنَّ الدِّين وقد صار آيديولوجيا يعني أنَّه ناتجٌ عن أصول مجتمعيَّة تمكّنُ شكلاً من أشكال الممارسة الدينية من الوصول إلى السلطة. إنَّه الشرعية الدينية للسلطة. بَيْدَ أنَّهُ، متى أخذنا الشرعية من جهة الذَّات المجتمعيَّة الكُلِّيَّة نكون أمام تناقض بنيوي في مبدأ جعل الدِّين فاهمًا ومحدِّدًا لرؤية العالَم، وموضوعات العالَم، والكون، والمجتمع، والإنسان. إنَّه تناقض تقوم أقطابه على ثُلاثيَّة متصارعة على نحو عنيف: من جهةٍ أولى، ضرورة النَّظَر إلى المجتمعات العربيَّة وفقًا لتراثها الديني، ومن جهة ثانية، أوَّلِيَّة العالَميَّة في المجتمعات العالَميَّة بمجملها، ومن ضمنها المجتمعات العربيَّة، ومن جهة ثالثة، فهمُ المرتجى أن يسود في علاقة المجتمعات العربيَّة والمجتمع العالَمي، أي التكامل على نحو الوجود في العالَم، والكينونة في أن نتشارك، بتوسُّطِ المشترك العالَمي- الإنساني، في الإنتاج والبناء، مع المجتمعات الأخرى. يمكن للكسل الفكري أن يضع هذا التناقض جانبًا؛ وهو في الغالب، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي، فعل ويفعل ذلك على الدوام. لكننا، من جهة التورُّط الوجودي بذاتِ أنفسنا العميقة، علينا أن نتساءَل: على أي نحو يمكن أن نخصِّصَ، بِنيويَّاً، علاقة الهُويَّةَ العالَميَّة بالهوية المحليَّة؟ وفي أيَّة معانٍ تُبنى الذَّات المحليَّة على الذَّات العالَميَّة، في كلِّ مرَّةٍ، وعلى نحو جديد؟

[II] السابق إلى التَّساؤل عن المواطنيَّة:

[II-I] أرضيَّة التَّساؤل:

لا بُدَّ من أنْ يقوم التَّساؤل عن المواطنية، مفهومًا وممارسةً، على أرضيَّة واقعيَّة مجتمعيَّة كي يُصبح التَّساؤل عنها مشروعًا؛ أو يتوفَّر على شرعيَّة القيام. ويجب، من جهةٍ أخرى، أن نكون قادرين على بناء التَّساؤل، على نحو الحُرِّيَّة الحديثة، كل نفكِّر، في ما بعد، حول إمكانات مجتمعيَّة ومعرفية لتقويم مفهوم المواطنية. وينبغي، بعد ذلك، من جهة ثالثة، أن يكون المجتمع قد بلغ مستوى من مستويات دَمَقْرَطَةِ المجتمع، كي يكون في مستطاع كينونته أن يدفع نحو التفكير بالمواطنية. إنَّنا في هذا السياق علينا أن نبني [السابق- إلى- المواطنية]، في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وفي بلدان المنطقة والإقليم، بخاصَّةٍ. فإذا كانت عمليَّة دَمَقْرَطةِ المجتمع Democratization ترتبط على نحو مباشر بجملة السياسات الاِقتصادية، التي تضعها الدولة بالتكامل مع البنك المركزي، والتي تتوفَّر على إمكان نقل المجتمع من صورة إلى صورة أخرى، وبالتالي تُسهم على نحو مباشر في إحداث ثورة اِقتصادية، قَبلَ أن تكون سياسية، في المجتمعات التي تقع، على نحو ثقافي، [قبلَ- الديموقراطية]، فإنَّ صيرورة المواطنيَّة إنَّما هي صيرورة التغيُّر الثقافي، على نحو فهم الهُويَّة، والحرية، والحقوق، والمساواة، من قِبَلِ الذَّات الفاعلة مجتمعيَّاً، على بساط جديد. إنَّ المواطنيَّة، متى أخذت على أنها علاقة اللا- توسُّط التي بين الإنسان والدولة، تُفهم على نحو إعادة فهم الهُويَّة الوطنية؛ وما توفِّره هذه الأخيرة للذات في أن تكون كما تريد هي أن تكون، وكما تريد الشروط الموضوعيَّة المجتمعيَّة القائمة بالأساس على أسس المواطنية، للذات في أن تكون. إنَّ أرضيَّة التَّساؤل عن المواطنية، والحال هذي، إنَّما هي، بداهةً، متى صارت البداهة ناتجة عن حركة المجتمع، تتضمَّنُ مفاهيم الهُويَّة، والذَّات، والإنسان الذي يتوفَّر على إمكان تجاوز الآيديولوجيات السائدة.

[II-II] التناقض البنيوي بين المواطنية مأخوذةً كفكرة، والمواطنية في الواقع:

وعلينا في هذا المضمار، أي ضمن تساؤلاتنا عن نمط وجودنا في العالَم، ورؤيتنا الشاملة الكُلِّيَّة عن الوجود، والمجتمع، والإنسان، والاِنوجاد اِنطلاقاً منها، أن نتوقف عند تساؤلات واقعيَّة في جذرها العميق- والمؤلم. عميق لأنَّ الواقع، أي [واقعـَ-ـنا] يتوفَّر على إمكان أن [يقع- علينا- في-…]: الهُويَّة، أو الحُرِّيَّة، أو الديموقراطية أو أيُّ موضوع حيوي من موضوعات المجتمع والإنسان، وهو بإمكانه أن يختفي بوقوعه علينا. كما هو، من جهةٍ أخرى، قادرٌ ضمن شروط إمكان توفرها آيديولوجيَّات اِحتكار فهم النص بعامَّةٍ، والمقدس بعامَّةٍ، أن يختفي في وقوعه، أو يقع في ضرب من ضروب تزييف الواقع، أو فبركته، أو اِصطناع واقع مُضاف إليه؛ واِختزال الواقع الأصليّ بذلك. ومؤلم، لأننا نعاني من إصابة تتمثَّل في يوتوبيا فكرية، تريد منا، دائماً قَبْلِيَّاً، حالمين بمستقبل أفضل؛ وتجعل كينونتنا مُصابة بهذه الصورة. قالَ أحدهم ذات مرة: “لدي حلم”، وكان يقصد لدي حلم الأمة- الملة، في معنى قومي قد صار، بوصفه شكلاً من أشكال الاِنتماء إلى العالَم، الشكل الأكثر تناسباً مع عالَم اليوم، ووقعت الكارثة: كارثة مجتمعيَّة تتمثَّل في التناقضات المذهبية والطائفية التي تبلغ مستوى اِستحالة الوجود على نحو العيش المشترك؛ متى أُخِذَ هذا الأخير من موقع هُوَوِيٍّ ما: دينيَّاً أو آيديولوجيَّاً أو فئويَّاً، لا فرق.

[II-III] [النموذج- المثال Ideal-Type] لمفهوم المواطنية، والثنائيات الإبستيمولوجيَّة الضابطة له:

في هذا المعنى، ما يمكن فعله إنَّما هو يتمثَّل بتحديد [النموذج- المثال Ideal-Type] لبناء التَّساؤل عن المواطنية، اليوم، في أفق الإنسانيَّة، اِنطلاقاً من المشترك العالَمي. ويتضمن ذلك معنى الذِّهاب إلى الإمكانات الموضوعيَّة Objective Possibilities التي من شأن بِنيَة مفهوم المواطنية، وما يمكن أن يشتمل عليه؛ وفي الوقت نفسه، هو يشتمل على معنى الشروط الموضوعيَّة الراهنة التي يمكنها أن تحول دون الاِنتقال إلى المواطنية؛ أو تقف عقبةً في وجهها. ولكن من جهة أن الإمكانات الذاتيَّة تفتح، في كل الأحايين، الواقعَ على نحو الأشكلة عليه، فإنَّهُ، وبناءً عليه، نتوقف هنا عند ثلاثة أصعدة: الصعيد الإبستيمولوجيِّ، والصعيد السُّوسيولوجيِّ، والصعيد السوسيو- سياسيِّ؛ كي نتفحَّص فيها معنى المواطنيَّة، وممارستها، ومفهومها، في تخصيص بنيوي للمفهوم اِنطلاقًا من ممارسة المفهوم. وهكذا، تظهر ثُنائيَّات إبستيمولوجيَّة في التعرف إلى المواطنية والتفكير بها، هي، على أقل تقدير، على النحو الآتي:

إبستيمولوجيَّاً، علينا أن نحدِّدَ المواطنيَّة اِنطلاقاً من ثُنائيَّات أساسيَّة تتطلَّب التعرف عليها في أفق الوجود في العالَم الذي يمكن الظفر بفهمه، ضمن منظور باراديغم المواطنية، بوصفه المواطنية العالَمية. تتمثَّل الثُنائِيَّة الأولى، التي تتعلَّق بمفهوم الآيديولوجيا، بثنائية [الآيديولوجيا بوصفها قلباً (أو تزييفاً) للواقع- والآيديولوجيا بوصفها عِلمَ الأفكار أي الرؤية الكُلِّيَّة للعالَم، والوجود، والمجتمع، والإنسان]. في هذا المعنى، إذا توقفنا عند مستوى الفهم الآيديولوجي لمفهوم الآيديولوجيا، أي الفهم الماركسي، نسقط في أنانية فلسفية فظيعة؛ هي الآخر بوصفه موضعَ اِتهام دائماً. فيصبح شكل من أشكال المعرفة، أي شكل من أشكال ممارسة أفكار بعينها في بناء المعرفة، الشكلَ الأساسيَّ، الوحيدَ، الذي يختفي برداء العلم الحديث، والفلسفة الحديثة، ويخبرنا أنَّه قد صار العلمَ، وقد صار الفلسفة. ويغدو المعيار المعرفيّ الأول والأخير في قياس كل أشكال التعدُّد المعرفيّ، والاِختلاف الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ.

وإذا اِنطلقنا من الفهم الكُلِّيّ لمفهوم الآيديولوجيا بوصفها الإجابة الصريحة، الأوَّلِيَّة التي ينطلق منها الفكر، في فهم ذاته، والآخر، والعالَم الذي تتشاركه مع الآخر، تُصبِح الآيديولوجيا تلك الأصولَ المجتمعيَّة التي يستحيل أن تغيبَ عن أي ضرب من ضروب المعرفة، وعن أي شكل من أشكال ممارستها. إنَّ الآيديولوجيا، والحال هذي، إنَّما هي، كما يذكرنا أنطوان “دوستات دِي تْرَيْسي”، تتوفَّر على مكوِّنات نظرية يمكن بسهولة أن تُوظَّف في مشاريع- شُعارات سلطوية بائسة تجعل [الـ – ـنحن] التي لنا، وقد صارت مكوِّناً هُوَوِيَّاً، معياراً أساسيَّاً للوجود، في المجتمع، واِنطلاقاً منه، لا بواسطة الإنسان، ووضعه مركزًا في صيرورة الفهم والتفهيم: الأنسنة.

الهوية والذات

وبالتالي تظهر الثُنائِيَّة الثَّانية التي تتمثَّل في [الهَويَّة- والذَّات]: الهَويَّة بوصفها ما به أكون على ما أكون: أكون أنا. إنَّ الهَويَّة، في هذا المعنى، تقوم على الوحدة، فيما تنهض الذَّاتُ على التعدُّد والاختلاف والتنوع. إنني بواسطة الذَّات التي ليَّ أنا، وفيَّ أنا، ومني أنا، وبيَّ أنا، أكون بواسطة جملة الإمكانات المتعدِّدَة، والمتنوِّعةِ، والمختلفة التي تجعل، في كلِّ مرَّةٍ، منِّي، كائناً في وضعيات مختلفة، وشروط إمكان متباينة. وإنني بواسطة الهَويَّة التي لنا نحن، وبنا نحن، وفينا نحن، ومنا نحن، ومهما زُيِّفت هذه [النحن] التي لنا، وتمت فبركتُها، أوجد بوصفي بالاِنطلاق من اِنتماء بعينه إلى مجتمع، أو جماعة، أو فئة، أو طبقة، أو مجموعة، أو طائفة، أوجد بوصفي لا أتوفر على معنىً ذاتيٍّ، ودلالةٍ ذاتيةٍ، وهدفٍ، ضمن الفعل المجتمعيّ الذي أقوم به؛ بل أوجد بوصفه ماشيناً Machine- آلة ردة فعل؛ ضمن ضروب فعل محدَّدة قَبْلِيَّاً.

إنَّ الذَّات إنَّما هي ما به أتوفَّرُ على إمكانات موضوعيَّة في أن أصير أو أصبح أنا ضمن أنوات أخرى، ذوات فاعلة أخرى. الذَّات فعلٌ، ولا توجد إلاَّ بوصفها فعلاً مجتمعيَّاً، على هذا النحو أو ذاك؛ فيما الهَويَّة، ولأنَّ الذَّات مجتمعيَّة، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ، لأنَّها فعلٌ، أو لا تكون، فإنَّ الهُويَّة تُصبِح ذاك الماضي الذي يريد أن يسحبَ ذاتي لكي تكونَه في كُليَّتِهِ بكُلِّيَّتِها؛ تكون كما يريد هو (الماضي) لها أن تكون. بهذا المعنى ينحصر مفهوم الهَويَّة ضمن المُنطلق منه الذي بواسطتِهِ أصير كائناً مجتمعيَّاً. بَيْدَ أنَّهُ لا يمكنني إلاَّ أن أكون كائناً مجتمعيَّاً ضمن المجتمع العالَمي. وعلى هذا النحو تظهر على السطح الثُنائِيَّة الثَّالثة التي تشمل معاني [الوحدة- والاِختلاف الهُوَوِيِّ، من جهة، والتعدُّد الآيديولوجيِّ، والتنوع المجتمعيِّ، من جهة أخرى]. ليست الوحدة اليوم ضمن براديغم المواطنية غير الوطن- الدولة؛ بعد أن صارت هذه الأخيرة قائمةً على أنماط فعل بنَّاءٍ في المدرسة والجامعة (الآكاديميا)، أي في التربية والتعليم، وفي المصنع، أي بناء الدورة الإنتاجية الكُلِّيَّة، ضمن محطاتها الثُلاثيَّة العالَميَّة أي ثُلاثيَّة [الإنتاج- والتبادل- والتوزيع]، وفي اِستقلالية القوة الدفاعية، أي العسكر ضمن الولاء المطلق للاِستقلالية والسيادة في القرار ووضع مصلحة الوطن فوق جميع المصالح الأخرى. وهكذا يُصبح الاِختلافُ الهُوَوِيُّ، والتعدُّد الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ، وممارسة هذه الضروب من الإمكانات المجتمعيَّة، ضرباً من ضروب الاِنتماء إلى العالَم بالإمكانات الموضوعيَّة التي يوفرها لنا من أجل أن نعيد بناء الذَّات على ذاتِ أنفسنا العميقة وقد صارت في المستقبل؛ أمامنا. أي بوصفها إمكانَ بناءٍ مستقبلي لذواتنا التي تريد أن تفعل وبالتالي هي تريد [أن- تكون]، على نحو الحُرِّيَّة والمساواة والعدالة.

[III] في تأسيس ثقافة المواطنيَّة:

[III-I] فلسفة بناء الفرضيَّة الأساسيَّة:

تحدُّ السُّوسيولوجيا على الدوام ضروب التَّساؤل والتفكير والفهم في حقلها عَبرَ الاِلتزام بالتفسير القائم على علاقات سَبَبِيَّة- عِلِّيَّة، والدلالة الموضوعيَّة (دلالة الأفعال المجتمعيَّة في الخارج)، والمعنى الذي يمكن التوفُّر عليه عَبرَ المؤشرات الخارجيَّة، والفهم على نحو واقعاني (ضمن واقع واعٍ بذاته). إنَّها، من جهة كونها علمَ الفهمِ المركزي، في علوم المجتمع والإنسان، تصنع، مع كل ممارسة علميَّة تُضاف إليها، على نحو التراكم المعرفيّ أو على نحو الثورة المعرفيَّة، هي تصنع فرضياتٍ تفسيريَّةً دالَّةً فاهِمَة. إنَّها تفسيريَّةٌ بقدر قدرتها على تفسير الواقع، ووضعه ضمن حدود نظرية مفهومة، وهي دالَّة باِعتبار أن الفهم فاتحٌ لأفق الأفهام السُّوسيولوجيَّة الجديدة، وهي فاهِمَة باِعتبار أن التفسير والدلالة يشيران إلى توفُّر المواد الخام لبناء المفاهيم العِلميَّة بالمجتمع والإنسان. إنَّ الفرضيات السُّوسيولوجيَّة في فهم المواطنيَّة، في العالَم العربيّ، والحال هذي، إنَّما هي تستمد معناها وجدواها وقوَّتها من الواقع المجتمعيّ العربيّ، أو لا تكون من جذرها. على ذلك، سوسيولوجيَّاً، علينا أن نتوقف، اِنطلاقاً من الإمكانات الموضوعيَّة التي توفرها الفرضيَّة- مفهوم الفرضيَّة بعامَّةٍ، ضمن فلسفة للفرضية تراها فاتحةً لتفسيرِ ودلالةِ وفهمِ فكرةٍ بعينها، عند فرضيات مفسرة دالة فاهِمَة لوجودنا في العالَم اِنطلاقاً مباشرةً من الواقع المجتمعيّ الذي جعلنا في مواجهة عنيفة مع ذاتِ أنفسنا العميقة.

[III-II] فرضيات الإمكان الفاهم والتفسيري والدالِّ في المواطنية:

لا أقصد هنا تاريخنا، وتراثنا، وماضينا بعامَّةٍ، فحسبُ؛ بل أقصد تاريخ العالَم على نحو كوزموبوليتاني، وتراث العالَم، وماضي العالَم… لأننا، ومرَّةً أخرى، على الرَّغْمِ مِنْ كوننا شكلاً من أشكال الثقافة العالَميَّة بعامَّةٍ، إلاَّ أننا نقع ضمن وحدة العالم- الكوسموس- شئنا ذلك أم أبينا لا فرق- بكل إمكانات التعدُّد والاِختلاف والتنوع التي توفرها تلك الوحدة. وهذا، من جهة أننا لم نتوفر على واقعه، [واقع- الكوزموبوليتاني] الذي يخصُّنا، ونستطيع أن نفعل فيه، ينفتح على فرضيات مفسِّرة دالة فاهِمَة، هي على أقل تقدير، على النحو الآتي:

الفرضيَّة المفسرة الدالة الفاهِمَة الأولى: كل ما ينطلق من قوالب فكرية جاهزة بعينها لا يتوفَّر على إمكان أن يتحرَّرَ في السَّبيل إلى ذاته. وهكذا، تُصبح الهَويَّة المجتمعيَّة لنا في موقع التَّساؤل الجذري عن مدى فاعليَّتها في أن تنقُلَنا إلى مستوى أن نكون مواطنين ضمن أفق ثقافة تريد أن تنفتح نحو العالَم.

الفرضيَّة المفسرة الدالة الفاهِمَة الثَّانية: على صعيد بِنيَة الثقافة، نقع بواسطة إشكاليَّة [الكونية- والخُصوصيَّة] ضمن مجتمعات غارقة في الجهل والتجهيل، والاِصرار على توظيفهما سياسيَّاً.

الفرضيَّة المفسرة الدالة الفاهِمَة الثَّالثة: على صعيد بِنيَة الاِقتصاد، لا تتوفَّر الدورة الإنتاجية لدينا إلاَّ على المحطة الأخيرة من الدورة الإنتاجية. أي التوزيع. توزيع الثروة على مجموعات صغيرة تتحكم بالمجتمعات. بواسطة معادلات صيرورة الفساد والإفساد في مؤسسات المجتمع والدولة، من المؤسسات المجتمعية: الأخلاق، والدين، والقانون، وصولاً إلى مؤسسات الدولة: البرلمان، والوزارات، والدوائر. (يمكن مراجعة تصريحات السياسيين، في الصراعات السياسية بينهم، في العراق ولبنان مثلاً، متى كانوا يكشفون عن مدى تجذُّر الفساد في الفعل السياسي).

الفرضيَّة المفسرة الدالة الفاهِمَة الرَّابعة: على صعيد بِنيَة السياسة، والتساؤل الأصليّ لها، أي السلطة، وشرعية السلطة، ومشروعيتها، لا نتوفر إلاَّ على مصدرين أساسيين: توظيف الدِّين في ممارسة التسلُّط، وتوظيف المال الفاسد في حشد الجماهير.

وبهذه الفرضيات يمكن أن نفهم، من جديد، كيف يمكن للعقبات المجتمعيَّة أن تحول دون ممارسة المواطنية، وتمثل عقبة في وجه ممارسة السلطة، القائمة أساسًا على  مفاهيم المواطنية، في الواقع المجتمعيّ، بالاِنطلاق منها. وفقًا لذلك، سياسياً، أي بالعودة إلى سوسيولوجيا السياسة، نتكلم بواسطة إشكاليَّة التُّراث والحداثة في المجتمعات العربيَّة بوصفها إشكاليَّة مفبركة مُختَلَقة مصطنعة تريد أن تستدعي التُّراث على نحو حداثوي بائس. أي اِستدعاء، وجرجرة تلك المفاهيم التي تقع على هذا النحو أو ذاك ضمن توظيف للحداثة قد يُصبح في خدمة اِختزال الحداثة تراثياً في شكل من أشكال ممارسته. مثلاً: تُختزل الديموقراطية في صناديق الاِقتراع، يحدث الوطن بوصفه ذاك الذي تحدده جماعة هَويَّة بعينها، تكون الدولة ذات صبغة جماعية بعينها، وبعد ذلك تصير المواطنية مختزلة في البحث عن الحقوق، ويقع الواقع على نحو ما تريده هُويَّة فرعية من الهُويَّات الآيديولوجية السائدة في المجتمعات… وهكذا دواليك. وعليه، نجد أنفسنا في البؤرة الأكثر توتراً من جديد؛ أي داخل التَّفكير بالمفاهيم من حيثُ إنَّها إمكانات واقعيَّة، أوَّلاً وقبل كل شيء، في إعادة بناء الواقع، سوسيولوجيَّاً، ومن بَعدُ فعليَّاً ضمن مجتمع الثورة، الثورة على الواقع وقد صار شكلاً بائساً من ذاته؛ إنَّه قد فقد ذاتَهُ من جهة كونه، في كلِّ مرَّةٍ، في طور من الاِنتظار من أجل أن يُخلق من جديد بواسطة الذَّوات الفاعلة فكرياً وسياسياً ومجتمعياً بعامَّةٍ.

[III-III] البداهات الموضوعيَّة للعلاقة بالعالَم:

وهكذا، تقول لنا سوسيولوجيا السياسة، وتحدِّدُ البداهات الموضوعيَّة، في فهم المواطنية ضمن فلسفة ما بعد الحداثة التي قد فكَّكَت في مجتمعاتنا كل ضروب ممارسة آيديولوجيات الاِنغلاق والاِختزال واِحتكار الفهم بواسطة العنف، أو التهديد بممارسته. وهي، على أقل تقدير، الآتية:

البداهة الموضوعيَّة الأولى: لا نتوفر على إمكان أن نكون عالميين بالاِنطلاق من تحديدات التُّراث الذي لم نمتلكْهُ إلاَّ عَرَضاً، بعامَّةٍ، ومن تحديدات الدِّين، دين بعينه، أو الطائفة، طائفة بعينها، أو مذهب، مذهب ما، أو جماعة هُوَوِيَّةٍ ما، وبعامَّةٍ، لا يمكن أن ننتقل إلى براديغم المواطنية بواسطة الهَويَّة. إنَّها اِستحالة الاِنتقال بتوسُّط الهُويَّة. ما يمكن أن نفعله في هذا الصدد، هو ضرب من تأويل عالَمي جديد للهُويَّة على أنها شكل من الأشكال الثقافية في العالَم؛ لا أكثر.

البداهة الموضوعيَّة الثَّانية: إنَّ تديين مفاهيم السياسة، بعامَّةٍ، مفاهيم بناء الدولة، دولة المواطنيَّة بخاصَّةٍ، إنَّما هي ضرب من ضروب مشاريع بعد- وطنية، أو قَبلَ- وطنية، فعلت كلَّ شيء تقريبًا، في مجتمعاتنا بواسطة إخراجنا من العالَم، ورمينا في المجهول. إنَّها سيَّسَت المعرفة، وعسكرت الفضاء العمومي، وأخرجت الاِقتصاد المحلي من دائرة الاِقتصاد العالَمي. وعلى هذا النحو، هي أوقفت تكاملنا مع العالَم.

البداهة الموضوعيَّة الثَّالث: لا نتكلم عن المواطنية إلاَّ بعد وجود الوطن- الدولة. علينا أن نعي أننا بعد مفهوم المدينة- والمدينيَّة، في المعنى الحديث لهما، أمام تحدٍ سياسي جديد، على نحو عالَمي، هو بناء الوطن، ذاك الذي يجد فيه المواطن إمكاناً للوجود في العالَم.

البداهة الموضوعيَّة الرَّابعة: قد وصل الإسلام السياسي إلى حائط مسدود. وإنه لا يمكن أن يوفر لنا إمكاناً للشروع في بناء علاقة مع العالَم. أي التواصل مع المؤسسة الحديثة، مؤسسة العالَمية الحديثة، في أن نكون مواطنين عالميين. وذلك لسبب بسيط واضح: إنَّه، أي الإسلام السياسي، يذهب نحو بناء الوحدة، وليس أمامه غير بناء تلك الوحدة، من أجل مصالح مشروعات، وشعارات، قد أثبتت فراغها، في أفق بناء الدولة في المجتمعات التي تشكو بعدُ من أولئك الذي يتاجرون، متاجرةً مُربحة دائماً، بالدين، والممارسة الدينية. إنَّ المتاجرة بالدين والحال هذي، لهي الأكثر فتكاً بمجتمعاتنا لأنها تقضي على إمكان أن نختلف، ونتعدد، ونتنوع، ضمن آيديولوجيات وأفكار وهويات نريد أن نختارها ونمتلكها ونحددها، على نحو الحُرِّيَّة والحوار، في كلِّ مرة ومن جديد.

البداهة الموضوعيَّة الخامسة: إمكان المستقبل هو إمكان أن نحافظ على ذاتِ أنفسنا العميقة بواسطة أبنائنا. إنَّ هذا الإمكان من جهة عالَميَّة إمكان المواطنية، إنَّما هو قد صار مطروحاً أمامنا ضمن الصراع، الصراع على معنى الفكر السياسي، ممارسته. الصراع الذي يذهب- لا بين ثُنائيَّة كلاسيكية بائسة هي رجال الدولة ورجال السلطة- لا بل هذه المَرَّة هو يقوم بين المجتمع الكُلِّيّ وبنية التسلط الدينية والعائلية، أو التي تقوم على عصابة الإفساد في المجتمع؛ إنَّه  صراع قائم- على الضد منْ تسلُّطِ رجال الفساد، وإفساد المجتمعات- إلى يوتوبيا مواطنية عالَميَّة لا نصل إليها إلاَّ بممارسة العلم بالمجتمع والإنسان، وبالفلسفة الحديثة، من جهة، وبواسطة إمكانات تتوفَّر للذات الفاعلة، وتوفرها هذه الأخيرة، للمجتمعات لكي تنتقل إلى براديغم المواطنية.

[IV] العقبات المعرفيَّة، والمجتمعيَّة في وجه المواطنية:

[IV-I] في التَّعرُّف إلى الذَّات المجتمعيَّة:

أن نفهم ذاتَ أنفسنا العميقة، الذَّات المجتمعيَّة التي لنا على مصادر التذوُّت التي يمكننا أن نظفر بفهمها؛ على أننا كائنات عالَميَّة، وأننا مواطنون في العالَم، هو ذا الفكرة المركزية في المواطنية، على نحو عالَمي. وأن نعي ذاتنا في أفق مجتمع متعدد ومختلف ومتنوع، هي ذي المواطنيَّة، وقد قامت على مفاهيم العدالة والمساواة والحرية التي تسندها القوانين والتشريعات في الدولة. في هذا السَّبيل، يظهر تناقض بنيوي يُقدِّمُ نفسه ضمن صراع قطبي الدولة والمجتمع. من جهة ضرورة بناء الدولة الحديثة، ومن جهةٍ أخرى اِستحالة بناء الدولة الحديثة من دون وجود مجتمع ديموقراطي حديث. فما العمل؟ وكيف يمكن الخروج من هذا التناقض التاريخي- المجتمعيّ العامّ؟

ضمن إطار التوظيف المجتمعيّ- التاريخي لفكرة الدولة، لا نعثر إلاَّ على ضروب تلفيق وتوفيق بين نظريَّات وأفكار وتصوُّرات تراثيَّة- إسلامية وأخرى عالَميَّة حديثة. وفي أفضل الأحوال، نتعثر بشعارات علمانية- ليبرالية تترجم، وتُعرِّب، في المكان والزمان، مجموعة من الأفكار والنظريات والتصورات والاِفتراضات التي كانت نتيجة لصيرورة طويلة في الثقافة والاِقتصاد والسياسة، بعامَّةٍ، وفي الدِّين والمعرفة الدينية، والإنتاج ووسائل الإنتاج، والتوزيع وأساليب توزيع الثروة الوطنية، والشرعية المجتمعيَّة للسطة، والمشروعية القانونية لها، بخاصَّةٍ.

وإذا أردنا الظفر بفهم التناقض، وفتح إمكانات بناء فرضيات تفسيريَّةٍ فاهِمَة دالة لما يمكن أن يُسهم في تقديم مقترحات حل، أو بدائل اِنتقالية، نكون أمام ضرب من ضروب مجاملة العقل والفكر والواقع والتاريخ، في الفكر العربيّ المعاصر. تلك المجاملة التي تتسم على الدوام بمراعاة الضمير المجتمعيّ- الديني- والأخلاقي للشعوب. وإذا أمعنا النَّظر في القوالب الذهنية التي تُنتج اِستحالة الديموقراطية، واِستحالة الدولة، واِستحالة الفكر، واِستحالة الواقع، التي تنتج عن عقول مصابة باللوثة الفرانكوفونية، نجد الأفق أمامنا مغلقًا على نحو رهيب.

[IV-II] تفكيك العقبات المجتمعيَّة:

ما العمل؟ العمل هو البحث في الإمكان. إنَّه إمكان أن نكون على نحو مختلف جديد؛ في إطار البحث عن سبل التغيُّر المجتمعيّ الجذرية. وفي أوَّل بدءٍ، يمكن أن نشير إلى التخصيص البنيوي القائم بالأساس على تفكيك بُنى المعرفة، والوعي، والآيديولوجيا السائدة، وصولاً إلى الهُويَّة التي تدفع بالمجتمعات والجماعات إلى الاِنغلاق على ذاتِ نفسها العميقة. في هذه الطريق ثَمَّةَ عقبات مجتمعيَّة ثلاث، تفتح ثلاثة اِحتمالات موضوعيَّة مجتمعيَّة:

العقبة المجتمعيَّة الأولى: شبكة العلاقات السياسية المعقدة للغاية التي من شأن رجال التسلط والفساد والإفساد، التي تستمد قوتها ومبرر وجودها من توظيف الرساميل الدينية والثقافية في خدمة مصالحها الخاصَّة؛ التي، متى فُكِّكَت هذه الشبكة، يمكننا أن نجد، مرة أخرى سيادة سلطة الوطنية، متجسِّدة على نحو سلطة الدولة، على الجميع.

العقبة المجتمعيَّة الثَّانية: المشاريع بعد- الوطنية، أو قَبلَ الوطنية، التي تجعل من الأوطان ساحات حرب، وتجارب حرب؛ وهي تلك المشاريع ما بعد الهُوية الوطنية، أو ما قبلها حتَّى، التي تريد في كلِّ مرَّةٍ أن تنصهر الهُويَّة الوطنية في هويَّة مذهبية أو طائفية، بتوسُّط مشاريع إقليمية أو مناطقية. تفكيك هذه المشاريع يُسهم على نحو واقعي- موضوعي في ولادة نوعين من الممارسات السياسية: الأولى ممارسة الفعل السياسي القائم على شرعية مجتمعيَّة وطنية، مقبولة من قِبَلِ مجتمع متعدد ومتنوع ومختلف في مكوِّناته الآيديولوجيَّة والدينية والثقافية بعامَّةٍ، والثانية هي تلك الممارسات القائمة على براغماتية وطنية تعي منذ أوَّل بدئِها أسبقية المصلحة العليا على أيَّة مصلحة دينية أو آيديولوجية أو مذهبية أو طائفية أخرى.

العقبة المجتمعيَّة الثَّالثة: اِحتكار الهُويَّة، والهُويات، وفهمها، بواسطة رجال الدِّين الذين يُستَخدَمونَ، ويُوَظَّفونَ سياسيَّاً. أي أولئك الرجال الذين يحترفون حرفة رجل الدِّين، ويمارسون شتى أنواع الممارسات، التي تتغلف بالدين والتديُّن، وفي الغالب هي تتناقض وروح الدِّين. تستمد عمليَّة تفكيك هذه الممارسات أهميَّتها وضرورتها من ضربين إثنين من ضروب إمكان فهم الهُويَّة: أولاً تخليص الهُويَّة من إنهاك الدِّين والتديُّن لها، إلى فتحها نحو الآخر المختلف؛ والقبول به ضمن تسويغات تنتجها أفعال الهويات في العلاقة فيما بينها؛ وثانيًا: وعي التمييز بين وظيفة الدِّين على الصعيد الفردي باِعتبار أنَّه حقل العلاقة مع الميتافيزيقي بعامَّةٍ، وبين وعي ضرورة تقليص دوره في الفضاء العمومي.

[IV-III] تفكيك العقبات المعرفيَّة:

وكذلك ثَمَّةَ عقبات معرفية ثلاث: تتمثَّل العقبة المعرفيَّة الأولى باِختزال الفكر السياسي الحديث بالفكر الليبرالي منه؛ وهذا ضرب من تناول كاريكاتوري للفلسفة السياسية، والعلم بالمجتمع والإنسان وموضوعاته؛ باِعتبار أن أي اِختزال للفلسفة والتفكير الفلسفي في ضرب من ضروب ممارستها إنَّما هو يمارس ما يقع على الضدِّ من روح الفلسفة، والفكر العلميّ الحديث وما بعد الحديث؛ ولو كان يُقدِّمُ نفسه على هيئة فلسفية. والعقبة الثَّانية تشتمل على معنى ممارسة الحُرِّيَّة على نحو التفلُّت والتوهُّم بأنَّها تعبِّر عن الحُرِّيَّة الحديثة، التي تقوم بالأساس على الاِتفاق على ماهيَّة الاِختلاف بين الجماعات والهويات والذوات المتعدِّدَة والمتنوِّعةِ والمتباينة بالأساس. والعقبة الثَّالثة تتجسد بأفعال مجتمعيَّة- سياسية تقوم على الوعي بضرورة التغيير، وتجهل آليات وسبل وأساليب التغيير المجتمعيّ.

ولذا، إنَّ اللَّحظة، في الزمان المجتمعيّ الذي لنا، وبعيداً عن كل أوهام الحتمية التاريخيَّة، قد تتوفَّر على إمكان تحرير الأوطان من المواطنين، وجعلها مكاناً يُضبط أو يُتحكم به بواسطة دولة دين- رجال دين منغلقين عن العالَم؛ أي تحرير الوطن من الوطنيين، وتحييد المواطنين؛ وجعله دولة دينية، على هذا النحو أو ذاك، ضمن تحالف الكنيسة والمسجد، واِتفاق بين هذه الجهة أو تلك، ومصادرة الدولة لصالح الدولة الدينية، أو تلك التي تقوم على تشريعات دينية… وهكذا دواليك. وذلك إمَّا بالعنف، أو التهديد بممارسته، أو بواسطة الديموقراطية وقد أُخذت وظيفيَّاً: أعني ممارسة الفعل الديموقراطي في صناديق الاِقتراع فحسبُ؛ واِختزالها بذلك، ولو كان ذلك بفتوى. أي ضمن الوظيفة التي تؤديها في خدمة الإسلام السياسي، بتوسُّطِ الفكرة الأكثر مراوغة للديموقراطية ذاتها أي فكرة الديموقراطية الدينية.

ولكن ما هي الثروة المجتمعيَّة الأصليَّة من أجل المواطنية في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وفي لبنان والعراق بخاصَّةٍ؟ وعلى أيِّ نحو يمكننا أن نعي ضرورتها اليوم؟

إنَّ ذلك يقوم على الوعي بالآتي، بِقُوَّةٍ وعمق: إنَّني بوصفي مواطناً لستُ أُختَزَلُ بهُويَّةٍ، بل، ومن جهة كوني ظافرًا بفهم العالَميَّة من جديد، أكون ذاتًا ضمن شروط موضوعيَّة بعينها؛ أو لا أكون من جذري. بهذه المعادلة البسيطة، صحبة الوعي بالأسس الديموقراطية والمواطنية، المجتمعيَّة قبلَ السياسية؛ يمكننا أن نفتح أفق المستقبل على نحو حديث مختلف جديد كُلِّيَّاً. إنَّنا مواطنون ذاتيون بِقَدْر ما نكون مجتمعيِّين، عالميَّاً، أي كوزموبوليتانياً، وقد أصبحت المواطنية المبدأَ الترانسندنتالي، بحقل الفهم الذي من شأن إيمانوئيل كانت، للوجود في العالَم، والإنوجاد، بوصفه فعلاً مجتمعيَّاً، قد صار، وحدث. إنَّ الصيرورة هذه، والحُدْثان هذا، إنَّما هما اللذان يؤسِّسان لحقل الكينونة التي من شأن ذواتنا من جهة كوننا إمكانات عالَميَّة. إنَّ الثروة المجتمعيَّة الأصليَّة، الأساسيَّة التي نحن، كلنا، ملزمون بالدفاع عنها، ويجب الدفاع عنها بالمجتمعيِّ وبالفرديِّ، إنَّما هي تتمثَّل في اِختلافنا، وتعددنا، وتنوعنا، والإمكانات الهائلة التي في حوزتنا، في أن ندافع عن هذه الحيثيات الوجودية، وأن نحافظ عليها، بقدر ما نريد أن نحافظ على المستقبل، وأن ندافع عنه، في مواجهة عنف الماضي، والهويات المغلقة. حينما نسحب تساؤل المواطنية، إلى هذه الطريق، إلى المساحة الأكثر خطراً على وجودنا المستقل، أي الواقع المجتمعيّ العربيّ وقد أصبح شظايا، يمكننا أن نقول، وبناء على ما قلتُ، نحن في هذا الواقع الذي يشكو من تخلُّعٍ بنيوي عميق، علينا أن نكون تغييريِّين من حيثُ إنَّنا لا نذهب إلى المشاركة في الزيف التاريخي. كلنا نخدم ثورة الوعي متى قام على الوعي بالعالمية الجديدة، وقد أصبحنا كذلك بعد اِنبثاق الذَّات بالهوية فينا. سواءً كنا في خدمة الثورة مباشرةً، أو في خدمة الثروة على نحو غير مباشر. وفي هذا المضمار، علينا أن نقول أن الثورة أولها ثورة في المعرفة، والوعي، والآيديولوجيا السائدة. إنَّها ثورة في صميم الهُويَّة وقد صارت جزيئات متناثرة.

[V] تساؤل التأسيس لثقافة عالَميَّة في الذَّات التي تخصُّنا:

[V-I] الذَّاتُ تُؤخَذُ كعلاقة، أو لا تكون:

كيف يمكننا أن نؤسِّسَ لثقافة عالَميَّة في الهُويَّة التي تخصُّنا؟ وهل هذا الضرب من التأسيس يمكنه أن يعثر على أرضيَّة له، في ما يخصُّنا؟ يرتبط تساؤل التأسيس على الدوام بما يمكن أن نحدِّدَهُ ضمن إطار العلاقة مع العالَم. ومتى أُخِذَتِ العلاقةُ مع العالَم على أنها ضرب من ضروب الفعل الثقافي نحو العالَميَّة، نكون أمام تساؤل جديد كُلِّيَّاً هو ذا: أي علاقة مع العالَميَّة يمكن اِحتمالها؛ أو توفيرُ إمكانها، أو إنتاجها، ضمن العالَم ما بعد السايبر؟ أين نتموضع؟ أو أين نُمَوْضِعُ (نسبةً إلى المَوْضَعَة Objectivation) ذاتَ أنفسِنا العميقة؟ إنَّها تلك العلاقة التي تفهم التقليد (الأصالة والتأصيل) على أنَّه إمكان من إمكانات الوجود، على نحو ثقافي، في العالَم. ولكن من جهة أنَّه ضرب من ضروب التعدُّد في العالَم، هو لا يمكنه أن يخالف شروط إمكان التعدُّد العالَميَّة. أعني بذلك شروط الإمكان التي تحدِّدها مفاهيم الحُرِّيَّة والمواطنيَّة والمساواة والعدالة. ولكن أيضًا الفردانية من حيثُ إنَّها مسؤولية الفرد، وواجبه، وحقوقه، في العلاقة بالدولة الحديثة. يعني التعدُّد في العالَم التواشج البنيوي مع العالَم وفقًا لشروط قَبْلِيَّةٍ يضعها المجتمع العالَمي على نحو ثقافي واِقتصادي وسياسي. كما يتضمَّنُ ذلك التوفُّر على كل الإمكانات المجتمعيَّة- الواقعيَّة، والموضوعيَّة بعامَّةٍ، التي تهيِّئُ لهذا الضرب من الوجود. إنَّ التعدُّد لم يكن خيارًا إلاَّ لأننا كائنات مُقدَّر لها أن تكون، في منبت ماهيَّتِهِا، علاقةً. إنَّ الذَّات المجتمعيَّة، في العالَم الجديد الذي بدأنا التَّعرُّف عليه، منذ ثورة السايبر- والذكاء الاِصطناعي، إنَّما هي، أي الذَّات، علاقةٌ أو لا تكون.

[V-II] التأسيس هو بناء العلاقة مع العالَم:

أنْ نُؤسِّس هو أن نتعالق على نحو جديد. إنَّ ما هو مُتساءَل عنه ههنا ليس تأسيسًا، أو محاولة لتأسيس تقليد جديد، بل هو محاولة لبناء علاقة، في أنها، وفي كيف أنها، منفتحةً على العالَم، على نحو الإنسان العالمي اليوم؛ أي من جهة أن الإشكالات والإشكاليات المحليَّة أصبحت عالَميَّة أو لا تكون. نحن نتعالق مع العالَم على أساس العالَميَّة التي فينا؛ وعلى نحو التكامل مع العالَميَّة التي تأتي إلينا من الخارج. إنَّ العالَميَّة لا تأتي إلينا إلاَّ لأنَّها قد وفَّرت قبليَّاً، فينا وبنا، أرضيَّةَ وجودها، وإتيانها إلى [المجتمعيِّ] الذي يخصُّنا. وهذا ضرب من الوعي لم يكن الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، ضمن الصراع المعرفيّ الذي كان قوامه التَّعرُّف إلى العالَميَّة، قد كشف عنه من قَبل؛ وإنَّ ذلك لهو الإشارة الأولى لما يجب أن نُؤَشكِلَ عليه. أي هذا الضرب من الاِستشكال الذي يُحدِثُ قلقًا معرفيَّاً- وجوديَّاً داخل حقل العالَميَّة؛ قَبلَ أي نقاش حول ثُنائيَّة العالَميَّة- والخُصوصيَّة. إنَّ العالَميَّة، إذن، إنَّما هي العالَميَّة التي لنا، والعالمية التي في الخارج. إنَّه ذاك الإمكان الذي من شأن ذاتِ أنفسنا العميقة في أن نكون أكثر من كوننا قد كنَّا من قَبل. وهو ذا العنصر العالَمي المتجذِّر فينا، بتوسُّط السايبر، والذكاء الاِصطناعي، الميديا الحرة.

أن نكون أكثر ممَّا كنَّاه هو بالضبط ما يرتبط بأن نكون على نحو الوعي الجديد بذاتِ أنفسنا الفاعلة. إنَّ [أنْ- نكونَ- أكثر] تعني الاِرتباط الجذري بأننا أكثر أصليَّة في بناء العلاقة بتاريخنا وتراثنا وهويَّتِنا؛ لكن هذه المَرَّة على نحو العالَميَّة التي من شأننا. أن نكون أكثر تتضمَّنُ معنى الكينونة الخاصَّة بنا في أقصى إمكان من إمكانات بنائها، وتحديدها، وبالتالي الظهور بها في العالَم. أن نؤسِّسَ، والحال هذي، هو أن نفهم التعالق على أنَّه تكامل. بَيْدَ أنَّهُ، لا ثَمَّةَ ضروب تكامل، وبنائه، إلاَّ متى صار التكامل مسألةً معرفية- وجودية قائمة برأسها. وهي لحظة الأنطولوجيا المجتمعيَّة التي من شأننا. أعني لحظةَ أن نتساءَل، ثانيةً، عن المصادر الأكثر جذرية في تراث الذَّات، وتاريخ المجتمع، وهُويَّة الإنسانيَّة، التي تمكِّننا من أن نأتي إلى مستوى الإنسانيَّة العالَميَّة.

وهكذا، ثَمَّةَ اِستحالة، في طريقنا إلى فهم الذَّات، نواجهها في فهم التأسيس بمعزل عن العالَميَّة. لأننا كائنات عالَميَّة على الرَّغْمِ مِنْ تلك التحديدات السابقة لوجودنا، وضروب الديالكتيك بينه وبين كينونتنا. إذن ما يجب أن نتحدى به ذاتَ أنفسنا العميقة هو الكينونة من جديد، أو كيف يمكن أن نكون من جديد، عَبرَ الميديا الجديدة؟ أو كيف نؤسِّسَ لـ [أن- نكون- معًا] أي مع العالَم، والمجتمع العالَمي، والإنسان العالَمي، بكل ضروب الاِختلاف والتعدُّد والتنوع؟ ذلك، يتعالق على نحو بنيوي مع كوننا أكثر من الهُويَّة. أكثر من الهُويَّة تعني أن نكون منفتحين على إمكانات التغيير والتحول والتبدُّل داخل الهُويَّة. وهذا يتطلَّب ضربًا من ضروب الوعي بالنقص النبيل إزاء صيرورة التكامل العالَميَّة القائمة بالأساس على تقسيم العمل؛ فكريَّاً كان، أو ثقافيَّاً، أو دينيَّاً، أو اِقتصاديَّاً، أو سياسيَّاً، أو علميَّاً، أو فلسفيَّاً.

[V-III] العلاقةُ مع العالَم، بعد تفكيك أوهام الخصوصيَّة- والمحليَّة، لا قبلَها:

نحن الكائنات العالَميَّة اليوم أكثر من الهُويَّة، أو لا نكون. بمعنى، أن عالَم المضامين الموضوعيَّة التي من شأن الفكر، المُعقلَنة قبليَّاً، والتي نتوفر عليها في كل ضرب من ضروب فهمنا لموضوعات العالَم، على نحو قَبْليٍّ، هي في صيرورة إنتاج وإعادة إنتاج لذاتِ أنفسنا العميقة. وهذه لا تُفهم على أنَّها ضرب من ضروب التُّراث، أو هي تراثيَّتُنا إزاء العالَم؛ لا؛ بل هي تُؤخَذُ من جهة أن الميديا الجديدة هي في الحقيقة الثقافة الجديدة، وبالتالي هي حقل العلاقة التي تخصُّ الوجود العالَمي الجديد. هذا الأخير، يؤسس لهُوية عالَميَّة جديدة، فاتحةً آفاق إمكانات التذوُّتِ Subjectivation من جديد. إنَّ ما هو جديد في الميديا هو الجديد في الميديا العالَمية. ولكننا، ما أن نسمع العالَميَّة، حتَّى نتحسَّسَ تراثنا، وأسلحة التُّراث التي يمكن أن تعيد تأسيس التقليد من جديد. هذه هلوسة الفكر العربيّ، وبخاصة الإسلاموية العمياء، والعلمانوية العمياء، أو حتَّى القومية والشيوعية.

أعني تلك السساتيم الفكريَّة التي تفترض أن الآيديولوجيا تُؤخَذُ، وتُفهمُ، بالاِنطلاق من كونها خيارًا واِختيارًا بين نماذج وعي جاهزة. ولكن الآيديولوجيا من جهة كونها التعبير الصريح عن شروط مجتمعيَّة تاريخية، أصبحت، بَعْدَ حينٍ، بِنيويَّة، تُفهم اليوم على أنها منظومة الفهم، والتفسير، والاِندماج في التعدُّد، في الوجود في العالَم. إنَّ ثُلاثيَّة [الفهم- والتفسير- والاِندماج] إنَّما هي رأسُ كل ضرب من ضروب أن نكون عالَميِّين من جديد. وهذا لا يمكن أن يبلغ مستوى الوعي إلاّ بالاِنطلاق من تلك التَّساؤلات الموجَّهة- التخصيصيَّة- الذاهبة نحو سبر أغوار الآيديولوجيات. وإنَّ العالَم اليوم إنَّما هو حقل السايبر. نحن، من جهة ما يخصُّنا في الصورة المحضة- الخالصة، لسنا أكثر من إمكان من إمكانات العالَميَّة، أو لا نكون. وعلى هذا الأساس تنفتح أمامنا شروط إمكان الإنوجاد Existing، بوصفه فعلاً فاعلاً في العالَميَّة، من جديد، على النحو الآتي:

– I تجاوز الهُويَّة الفرعية إلى الهُويَّة الإنسانيَّة العالَميَّة.

– II تفكيك الحدود المغلقة في الهويات الفرعية، وفتح الهويات على بعضها بعضًا.

– III تأويل النص الديني على نحو يتوافق مع شروط إمكان أن ننفتح.

– IV توظيف الفلاسفة والعلماء والمفكرين في موقع عقل الدولة، ورسم السياسات العامَّة في الدولة، ثقافية واِقتصادية وسياسة، من قِبَلِ هؤلاء ونظرياتهم، وأفكارهم العِلميَّة الحديثة، وما بعد الحديثة.

– V وعي التمييز بين عمل العلم، وعمل الدِّين؛ بين وظيفة العلم في المجتمع، ووظيفة الدِّين في الفرد. ووعي التمييز في الفصل بين الدولة والدين، وبين ضرورة الوعي بأن للدين وظيفة في الحياة الروحية الفردية بعامَّة؛ وللدولة وظيفة في الحياة المجتعمية للمجتمع، على نحو عمومي.

على ذلك تُبنى الإشكالات والإشكاليات التي من شأن تأسيس ثقافة عالَميَّة في ذاتِ أنفسنا العميقة، من دون أي اِصطدام بالتراث العربيّ الإسلامي الأصيل؛ بل لربما يكون ذلك في خدمة إعادة فهمه على نحو عقلانيّ عالميّ جديد. لأنَّ ذاتًا لا تعي تاريخانيَّتَها إنَّما هي هُويَّةٌ منغلقة على نفسها، بوعي أو من دون وعيها. إنَّ ذاتًا تريد أن: – I تفهم العالَم اليوم، و – II أن تعي الوجودَ [ههنا- و- الآن]، و – III أن تفسِّر العالَميَّة وموضوعاتها، و – IV أن تندمج في المجتمع العالَمي، تمارس كل هذه الأشياء بالاِنطلاق من الرؤية الدينية للعالَم؛ إنَّ هذه الذَّات، بوعي ممَّن ينطلق منها، أو من دون وعيه، إنَّما هي اِستحالة الذَّات، واِستحالة الوعي بالذات الذي تريد أن تأتي إلى حقل الذاتيَّة. وبالتالي إنَّها والإنسانُ في عصر الظلام، والوعي فيه، والفهم فيه، والتفسير فيه، والاِندماج فيه، الشيءُ نفسه.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete