الحديث عن درس الفلسفة الإسلاميّة والتصوّف في مصر دون ذكر المُعلِّمِ الأوّل الشيخ مصطفى عبد الرّازق (1302-1366هـ / 1885-1946م) حديثٌ مبتور! كان الشّيخ عقلًا كبيرًا حوّل في نفسه ما عرفه من هدي الدّين وفلسفة الرّأي إلى حكمة الخلق الرّاجح واللّفظ النزيه والعمل المبرور، وتحلّى بالصوفيّة العقليّة العمليّة التي تُربّي مريدها بالأدب الرّفيع، الذي أخذه عنه أغلب تلاميذه، وسرت فيهم بساطته مع اقتدار، وصدقه مع هدوء، ومعارفه مع حكمة. أجمع النّاس على سماحته ونبله وفضله، فهو من بيت لا واحد له في تقاليده وتربيته وبيئته، مثّل نوعًا من الفتوّة الإسلاميّة، له خصائصه وسننه، يرى العزّة في سموّ الإنسانيّة، ويجد المزيّة في سؤدد الفكر المهذّب على حدِّ تعبير أحمد حسن الزيّات.
كتب عن الشّيخ مصطفى عبد الرّازق وآثاره كثيرون من أقرانه ومعاصريه وتلامذته، أكّد أغلبهم على ريادته ومعرفته ودوره في تاريخ التّعليم في مصر، في جامعة القاهرة والجامع الأزهر. كتب عنه العقّاد ورثاه بمرثيّة ألقاها في حفل تأبينه في جامع الأزهر، وكذلك فعل طه حسين، وقدّم المجموع من آثاره بعناية أخوه علي عبد الرّازق، وكتب عنه الزيّات في الرسالة وغيرها، وكتب عنه إبراهيم مدكور أكثر من مرّة، ومحمّد فريد وجدي، ومحمّد كرد علي، ومنصور فهمي، وأمين الخوليّ. وكتب عنه من تلامذته الرّاحلين أبو العلا عفيفي، ورأى أنّه “ما مات من خلَّف سيرة كسيرته”. وكذلك فعل تلميذه النّجيب محمّد مصطفى حلمي، وسرد لنا ما تميّز به الشيخ في الدرس الفلسفيّ، وظلّ وفيًّا لذكراه، فكلّما ألّف كتابًا أهداه إليه. وكذلك فعل محمد كمال جعفر مناقشًا منهجه ورؤيته للفلسفة الإسلاميّة. وكتب عن مدرسته الفكريّة أبو الوفا الغنيمي التفتازانيّ، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة، الذي تأثّر به تأثّرًا واضحًا نلمسه في كتاباته وترجماته. واحتفى به تلميذه عليّ سامي النشّار، وحفظ لنا بعض أوراقه العلميّة ثمّ نشر جزءًا منها في مقدّمة تحقيقاته، كما فعل في كتاب الفخر الرازيّ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. وظلّ مدينًا له في نشره لبعض الكتب الأخرى ككتاب السيوطيّ في نقض المنطق صون المنطق والكلام عن فنّ المنطق والكلام، الذي نبّه الشيخ مصطفى إليه في وقت مبكّر.
تناول جهود الشيخ في الدّرس الفلسفيّ بالتّحليل والنّقد كلّ من الأستاذ ماجد فخريّ، ومعن زيادة، ومحمد عابد الجابريّ. كانت كتابات الشيخ مصطفى بمثابة الفتح الجديد للدرس الفلسفيّ في مصر، ولا شكّ أنّها حدّدت خط السّير لتلاميذه ودفعتهم إلى مزيد التّعمق في دراسة الفكر الإسلاميّ والتصوّف، لاكتشاف وجه الأصالة فيه. كما حفّزتهم على نشر عيون التراث الإسلاميّ، فنشروا جملة من نصوصه، وقاموا بدراسات علميّة جادّة لعديد من الشخصيّات الفلسفيّة والصوفيّة.
يقول أبو الوفا التفتازانيّ: “التحقتُ بقسم الفلسفة بعد أن تركه أستاذنا ببضع سنوات، فوجدتُ بالقسم نخبة ممتازة من تلاميذه، الذين أخذوا على عاتقهم آنذاك إكمال رسالته العلميّة التي بدأها، فأنستُ إليهم، وأحببتهم، وشجّعوني منذ كنت طالبًا على المضيّ في دراسة الفلسفة الإسلاميّة لما لاحظوه من ميلي الواضح إليها”.
محمّد مصطفى حلمي
ويتحدّث التفتازانيّ في سياق آخر عن تلميذ من تلامذة الشيخ مصطفى عبد الرازق قائلًا: لقد ظلّ محمّد مصطفى حلمي أكثر من ثلاثين سنة عاكفًا على دراسة التراث الفلسفيّ الإسلاميّ بوجه عامّ، والتراث الصّوفي بوجه خاصّ، وما ذلك إلاّ بدفعة روحيّة قويّة من أستاذه مصطفى عبد الرازق، وقد استطاع هو أيضًا أن يُحبّب التصوّف الإسلاميّ إلى كثير من تلاميذه، وأن يجذبهم إلى دراسته واكتشاف مجاهله طيلة الأعوام التي قضاها في الدّراسة والبحث.
ويتأكّد لنا كلام التفتازانيّ إذا نظرنا نظرة سريعة إلى ما تركه محمّد مصطفى حلمي من كتابات صوفيّة. نذكر منها على سبيل المثال: (ابن الفارض والحبّ الإلهيّ- الحياة الرّوحيّة في الإسلام- حكيم الإشراق وحياته الرّوحيّة- الخصائص النفسيّة للريّاضات والأذواق الصوفيّة- آثـار السـهرورديّ المـقتول- الحبّ الإلهيّ في التصوّف الإسلاميّ- ابـن الفارض سلطان العاشقين-كنوز في رموز- صفحات ونفحات- العشق عند ابن سينا).
وممّا یدلّنا على مدى الأثر الکبیر الذي ترکه الشیخ مصطفی عبد الرازق في تلامیذه، تـلك العـبارة التـي وجّهها محمّد مصطفی حلمي، عند إهدائه لمصنّف من مصنّفاته إلى روح أستاذه قائلًا: “کُنْتَ من زکاء الفـطرة وجـلاء البصیرة ونقاء السیرة وصفاء السریرة حتّی لم أجد فیك إلّا القدوة الحسنة في العلم، والأسـوة الصـالحة فـي العمل. وکنتَ من البرِّ لي والنّصح والعطف عليّ حتّی لم أعهد منك إلّا المثل الأعلی في الأسـتاذیّة والأبـویّة والصداقة جمیعًا. وإذا لم تتح لي الأقدار أن أهدي إليك في عالمنا الدنیويّ ما تهیّأ لي مـن نـتائج البـحث العلميّ التي ليست في الحقيقة إلّا نفحة من نفحاتك، وثمرة من ثمراتك فلا أقلّ من أن أهدي إليك في عالمك العلويّ هذه الصـفحات، إجـلالًا لشـخصك، واعترافاً بفضلك، ووفاءً بعهدك، وإحياءً لذكرك”.
آمن الشيخ مصطفى عبد الرازق بحرّية الفكر والقول والعمل، وكان يقول: “اللّهم إن كانت خطواتي في سبيل الحياة تقرّبني من الحذر وتجعلني أخاف بشرًا فاقبضني إليك”! ومن كلامه: “على أنّنا نحبّ لخير الإنسانيّة أن يشيع في النّاس الشعور بحرّيتهم واختيارهم، لأنّ هذا الشّعور ينعش النشاط البشريّ، ويدفعه في سبيل العمل وهو يُكبر في المرء الثّقة بنفسه، ويجعل آماله عالية”.
كان الشيخ مثلًا أعلى في الإيمان وحبّ الخير وصفاء النّفس، ممّا جعل منه صوفيًا عارفًا بالله، وقد رأى فيه أبو الوفا التفتازانيّ ما يجعل من بيت أبي الفتح البستيّ واصفًا حاله (صافىٰ فصوفي حتّىٰ سُمّي الصوفيّ).
من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق:
- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة، وهو أبرز كتبه وأهمّها في الدّرس الفلسفيّ المصريّ، وقد ظلّ أثر هذا الكتاب واضحًا وملموسًا في الكتابات الفلسفيّة العربيّة، تناوله بالعرض والتّحليل والنّقد كثير من الأساتذة، نذكر منهم إبراهيم مدكور، ومحمّد كمال جعفر، وسعيد زايد، وماجد فخريّ، وحامد طاهر، ومحمّد عابد الجابريّ.
- الإمام الشافعيّ، وهو من كتب الشيخ المهمّة. ومن جميل ما قاله عميد الأدب العربيّ طه حسين في مقدّمة آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق التي جمعها أخوه عليّ عبد الرازق ونُشرت في دار المعارف: “كان وفيًّا للشافعيّ رحمه الله. لأنّه ذهب مذهبه في الفقه، ويرى الوفاء له دينًا عليه، وأثّر هذا الوفاء للشافعيّ في حياته العقليّة نفسها، وفي نهجه الفلسفيّ تأثيرًا شديدًا، وفتح له أبوابًا من العلم لم تُفتح لأحد من قبله من علماء المسلمين. فدراسته لرسالة الشافعيّ في الأصول ألقت في روعه رأيًا خصبًا.. فقد رأى أنّ الشّافعيّ يفلسف في أصول الفقه وما يتّصل به من المشكلات المختلفة في الدين واللغة واستنباط الأحكام من النصوص. وكذلك جرّه الوفاء للشافعيّ رحمه الله إلى استكشاف مذهب جديد في الفلسفة الإسلاميّة له خطره العظيم إن عرف تلاميذه كيف يتعمّقون وينتهون به إلى غايته”.
- الصوفيّة والفرق الإسلاميّة، موضوع محاضرة ألقاها الشيخُ في مؤتمر الأديان بلندن عام 1932، وأعاد نشرها علي سامي النشّار عرفانًا بجميل أستاذه في تحقيقه لكتاب الفخر الرازيّ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين.
عبد الرحمن بدوي
كانت بداية القرن الفائت فاتحة خير. فقد تناول كثيرٌ من الأساتذة في مصر موضوع التصوّف بالكتابة العلميّة. منهم من تحوّل الموضوع لديه إلى طريقة حياة، ومنهم من استثمر المعارف الصوفيّة من أجل نشر مذهب فلسفيّ أو فكرة اجتماعيّة معيّنة، ومنهم من قرأ التصوّف بداية ثمّ انتقل من خلاله إلى عوالم أخرى رأى نفسه فيها.
نذكر من هؤلاء الكتّاب عبد الرحمن بدويّ الذي وفّر لنا جملة من دراسات المستشرقين المهتمّين بالتصوّف من أمثال ماسنيون وجولد تسيهر وبلاسيوس وآربري ونيكلسون وغيرهم، ومن خلال التّأليف والتّحقيق قدّم لنا شخصيّات وأفكار من أمثال إبراهيم بن أدهم، وبايزيد البسطاميّ ورابعة وابن سبعين وابن عربيّ وغيرهم والإنسان الكامل وشطحات الصوفيّة.
أبو العلا عفيفي
سُبق عبد الرحمن بدويّ بعلم من أعلام الدّرس الصوفيّ في مصر هو الأستاذ أبو العُلا عفيفيّ، كان رحمه الله ثاني اثنين، كان لهما الفضلُ الأكبر في إحياء العهد الزّاهر لمدرسة الإسكندريّة الفلسفيّة، وأوّلهما الأستاذ يوسف كرم، وقد شغف أبو العلا عفيفيّ بالتّجربة الروحيّة، فانطلق مؤيّدًا لها مُعجبًا بها وناطقًا باسم أصحابها، شارحًا لمواقفهم في دقّة وعنايةٍ، حتّى لا تكاد تحسّ من فرط إخلاصه في العرض بأنّه واحدٌ منهم عاشقٌ لمواجدهم، متلهّفٌ على آثارهم، لما تنطوي جوانب نفسه على قبسات أو نفحات من فيض أنوارهم. اختطفه الموت في السابع عشر من شهر أكتوبر عام 1966، أرّخ لوفاته عبد الرحمن بدويّ فكتب مقالًا في تأبينه ووصفه بالأستاذ النّادر، ووعد بأنّه سيخصّص بحثًا أوسع للتّعريف بفكره وإنتاجه.
اهتم أبو العلا عفيفيّ بالدرس الصوفيّ وتحدّث عن تجربته الشخصيّة في بدايات الطلب دونما خجل، فأخبرنا عن صعوبة فهمه للنصّ الصوفيّ في بواكير بحثه، لخصوصيّة اللغة الصوفيّة، التي لا تفتح مغاليقها لكلّ أحد بسهولة، فلا بدّ من دربة وصبر وعيش مع النّصوص فترة من الزّمان، كما أخبرنا عن فضل أستاذه نيكُلسون عليه، ولم يكن عفيفي أوّل من أشار إلى فضل هذا المستشرق الكبير، بل سبقه أساتذة آخرون من جامعة الأزهر والجامعة المصريّة، كما فعل عبد الوهاب عزّام في التّعريف بنيكُلسون على صفحات مجلّة الرسالة، وكذلك فعل نور الدين شربيه، في مجلة الأزهر، وسار على الدّرب أقرانهما المهتمّين بدرس اللغة والقرآن، فناقشوا أعمال نيكُلسون وعرّفوا القارئ العربيّ به.
كان فضل نيكلسون على تلميذه عفيفي عظيمًا، ولعلّ جزءًا من ترجمات عفيفي لنيكلسون جاءت اعترافًا بفضله على الدّارسين لهذا الأدب الصوفيّ، وقد تنبّه مبكرًا إلى فضل نيكلسون فيلسوف الشرق محمّد إقبال اللاهوريّ الذي رأى في نيكلسون بابًا من أبواب المعرفة.
ترجم عفيفي دراسات عن التصوّف لا تزال تشكّل مرجعيّة لطلاب هذا الفنّ من المعاصرين. وقد مثّل كتاب عفيفي الذي ألّفه عن التصوّف ثورة روحيّة في عصره فُتن به دارسو التصوّف وسلك طريقه في التّأليف الأساتذة من بعده كأبي الوفا التفتازانيّ وغيره، وإن تأثّر عفيفي بالمستشرقين في كتاباته كما تأثّر غيره.
لم يقتصر إنتاج عفيفي على الدّراسات الصوفيّة، بل بحكم تدريسه للفلسفة في الإسكندريّة ترجم وألّف عدة كتب في المنطق والفلسفة، وكما كتب عن التصوّف كتب عن المعتزلة وحقّق جزءًا من موسوعة المغني للقاضي عبد الجبار، ومن أهمّ الدراسات التي كتبها في هذا الباب دراسته عن ″التصوّف والاعتزال″ التي شارك بها في كتاب الصراط المستقيم. كذلك دراسته عن نظريّات الإسلاميّين في الكلمة (the Logos) والأعيان الثابتة في مذهب ابن عربيّ، والمعدومات في مذهب المعتزلة. وهو بحث في الكتاب التّذكاريّ لمحيي الدين بن عربيّ في الذكرى المئويّة الثامنة لميلاده.
وقد كان من أخبر الناس بكتابات عفيفي مصطفى لبيب عبد الغني رحمه الله، فقبل أن يترجم كتابه عن الفلسفة الصوفيّة عند ابن عربيّ كان حريصًا على تعريف القرّاء بمؤلّفات عفيفي، فتناول بالعرض والتّحليل جزءًا من كتاباته نشرها في الدوريّات المصريّة، متابعًا نهج الأساتذة السّابقين في العناية بمؤلّفات عفيفي.
مُحمّد كمال جعفر
ما نقرأه بقلم الراحل محمّد كمال جعفر يمثّل نموذجًا آخرَ من الكتابات الصوفيّة الرّاقية، فقد كتب عن التصوّف كسالك عاش بدايات ظهوره، وذاق من جماله ما ذاق أهله، ووعى عنهم درس الأخلاق ومعالجة النّفس وهداية الحيارى إلى طريق التحقّق. درس محمّد كمال جعفر في مصر وابتعث إلى الخارج لإتمام دراساته العليا كأقرانه ومعاصريه، وتخصّص في بحث تراث الصوفيّة الأوائل. فاهتم بتحقيق آثار سهل التُّسْتريّ. وتلقّى تكوينه في تلك المرحلة على يد المستشرق آرثر أربري الإنجليزيّ، الذي كان على دراية كبيرة بتاريخ التصوّف الإسلاميّ ونصوصه في اللغتين العربيّة والفارسيّة، واستطاع من خلال إخلاصه وتمكّنه أن يكتب عن التصوّف في الشرق والغرب من الهند وإيران إلى بغداد والشام وتركيا من المحاسبيّ إلى النفريّ ومن إقبال إلى الروميّ وكان خير خلف لنيكلسون في دراساته وأبحاثه.
وممّا يرويه جعفر عن أستاذه أنّه أطلعه على نسخة من كتاب الفناء للجنيْد الذي نُشر مرتين وترجم إلى الإنجليزية اعتمادًا على تلك النشرتين، كانت أولاهما للأستاذ علي عبد القادر (محقّق معراج البسطاميّ والقشيريّ)، والثانية لمستشرق قرأ نصوص التصوّف الإسلاميّ باعتبارها مجرّد صدى وتكرار للتصوّف الهنديّ، وكلتا النشرتين بسبب الاعتماد على نسخة واحدة جاءت ملآى بالأخطاء والتّحريفات. فأخبر أربري تلميذه جعفر عن اهتمامه بإعداد نشرة إنجليزيّة لهذا الكتاب وأراده أن يشترك معه وتصدّر باسمهما معًا! ثمّ حالت الظروف دون إتمام أربري للعمل، فصدر العمل بعناية الأستاذ جعفر ونشر النصّ مصحوبًا بالترجمة الإنجليزية في مجلّة كليّة دار العلوم عام 1969. بعد أن أنجز أطروحته عن سهل التستريّ وحقّق تراثه ونشره في مجلّدين.
لم تقتصر جهود جعفر على التّحقيق وإن وفّر لنا نصوصًا نادرة كنصوص سهل التستريّ وابن مسرّة الأندلسيّ. فكتب محمّد كمال جعفر كتابًا هامًا عن التصوّف الإسلاميّ لا يقلّ في أهميته عن كتاب التفتازانيّ ويمكن اعتباره مدخلًا مفصّلًا للقراءة في علم التصوّف، هو كتاب التصوّف: طريقًا وتجربة ومذهبًا. ناقش فيه ما يتعلّق بالتصوّف والدين والمعرفة والتّجربة الروحيّة وعلم النفس، كما ناقش ما تعلّق بالتصوّف الهنديّ والمسيحيّ، وكعادة التّصنيف في ذلك الوقت، ألحق بعض النّصوص المساعدة للتبصّر في ختام الكتاب ليفتح للقارئ بابًا يطلّ من خلاله على تراث الحكمة الصوفيّة. ومثلما ألّف جعفر بالعربيّة ألّف بالإنجليزيّة، وعرّب جملة من البحوث المهمّة عن التصوّف والأخلاق والفلسفة، كرمزية الألوان في التراث اليهوديّ والتصوّف، وحاول تبسيط ونشر المعارف الروحيّة في أغلب المجلّات التي كتب فيها. والقارئ لكتابات الأستاذ يحيا معه رحلته بين العقل والوجدان ويرتقي في مدارج السّالكين.
عثمان يحيى
وجهٌ آخر من وجوه الدراسات الصوفيّة أحبّ مصر وعاش فيها، هو الأستاذ عثمان يحيى، كان من أبرز الأساتذة السوريّين في نشر التراث الصّوفيّ، تلقّى تعليمه الأساسيّ في مدينة حلب، وكان دائم الذّكر لها، نظرًا لكبير أثرها في تكوين شخصيّته العلميّة. في بداياته أيقظت كلمات حكيم الصوفيّة ابن عطاء الله السكندريّ، والخواجة عبد الله الأنصاريّ إحساسه الدينيّ وهو لا يزال في سنّ الرابعة عشرة من عمره. ومن طريف ما يرويه الأستاذ أنّ الدروس الدينيّة التي كانت تُلقى على الطلاب وقتئذ كانت تتعلّق بتعاليم ابن عربيّ وابن تيمية، وكان هذا الأمر يثير غرابة في نفسه لما عُرف بتمام التناقض بين هذين العلمين، حتّى التقى يحيى بشاب صوفيّ كان يقرأ النصوص الصوفيّة جنبًا إلى جنب مع نصوص ابن تيميّة وابن القيّم، ليبدّد دهشته قائلاً: “بالنسبة لنا ابن تيميّة إمامٌ في الشريعة وابن عربيّ إمامٌ في الحقيقة، وعلى المسلم الذي يبتغي تمام الإسلام أن يجمع في داخله في تناغم واتّساق لا في تأليف وتلفيق بين الحقيقة والشريعة”.
سيحاول الجمع بين ابن تيمية وابن عربيّ بعد ذلك أحد الأساتذة السورييّن المعاصرين عبد الحكيم أجهر ليصدر كتابًا يجعل من فكر ابن تيمية مصادقًا على فكر ابن عربيّ ومستفيدًا منه [راجع: سؤال العالم الشيخان ابن عربيّ وابن تيمية: من فكر الوحدة إلى فكر الاختلاف].
دان عثمان يحيى بالفضل إلى أساتذته من المستشرقين الذين ساعدوه في رحلته العلميّة، ومنهم المستشرق الفرنسيّ ماسنيون، الذي عُرف باهتمامه بالآثار والنصوص الصوفيّة، وبلاشير، الذي قرن اسمه بالأدب العربيّ والدراسات القرآنيّة، وهنري كوربان، ولاووست. وفي رحلة عثمان يحيى العلميّة صاحبه كوربان ليعملا سويّة على نشر النصوص الصوفيّة وبخاصّة نصوص ابن عربيّ وشارحيه من الصوفيّة والعارفين. نذكر منها على سبيل المثال: كتاب نصّ النّصوص في شرح فصوص الحكم تصنيف حيدر آملي. كما حقّقا لنفس المؤلّف كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار.
إنّ من أهم الدراسات الصوفيّة التي قام بها عثمان يحيى ولا تزال مرجعًا مهمًّا لكلّ من أراد تتبّع أعمال ابن عربيّ، أطروحته للدكتوراة التي ترجمها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب مؤلّفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها، وهي الرسالة الأساسيّة التي ناقشها في السربون، وشفعت برسالة أخرى حقّق فيها نصّ كتاب التجلّيات، كما حقّق عثمان يحيى من نصوص شرّاح ابن عربيّ مثل كتاب داود القيصريّ في علم التصوّف. ومن الأعمال العلميّة العظيمة القدر التي أسداها للثقافة الإسلاميّة تحقيقه لكتاب الفتوحات المكّيّة، الذي وصف صاحبه بالشّارح الأكبر للتصوّف والناطق الرسميّ باسم الميتافزيقا في الإسلام. كما وُصف الكتاب بأنّه لا يُقارن به ولا يدانيه أيّ مؤلَّف آخر في كلّ ما عرفته اللغة العربيّة من كتابات في علم التصوّف، فهو كتاب فريد لم يُعرف له نظير ولم يُنسج على منواله من قبل.
لم تقتصر جهود عثمان يحيى على نشر تراث ابن عربيّ فحسب، بل نشر من تراث الحكيم الترمذيّ ومن نصوص شيخ الإشراق السهرورديّ، ومن جميل ما نقرأ له مقالاته عن مجابهة المعرفة الإنسانية بروح إسلامیّة من خلال كتاب الفتوحات المكيّة.
عليّ سامي النشّار
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور:35].
اختار من ساهموا في كتاب المشكاة هذه الآية عنوانًا على الدراسات المهداة إلى روح العالم الأشعريّ عليّ سامي النشّار. ظهر الاهتمام بكتابات النشّار منذ وقت مبكّر، فقد نال كتابه نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام عناية الدّارسين. وكرّمته الدولة المصريّة، إذ نال جائزة الدولة التشجيعيّة عام 1965، اعترافًا بجهوده في تأصيل الدّرس الفلسفيّ. وفي هذه الجائزة كما يقول الأستاذ محمّد مصطفى حلمي تعبيرٌ صادقٌ عمّا للكتاب من مكانة بين البحوث العلميّة، التي أخصّ ما ينبغي أن تتّصف به من الخصائص هي الإضافة الجديدة التي تفيد العلم فائدة محقّقة.
في عام 1968 نشر الأستاذ النشّار دراسته عن جهود الإسكندريّة في التّـأليف الفلسفيّ، وفي بدايتها قال: “نحن نعلم أنّ الإسكندريّة كانت مركزًا من مراكز التصوّف الإسلاميّ، وقد شُغل أوّل رئيس لقسم الفلسفة بجامعة الإسكندريّة بالتّصوّف، وهو المرحوم الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي وقد خصّص الدكتور عفيفي حياته العلميّة في دراسة الفلسفة الصّوفية لمحيي الدين بن عربيّ، وكان أوّل من وضّح وجود مذهب فلسفيّ متكامل في تراث هذا الصوفيّ الإسلاميّ الكبير”.
كانت قد تكوّنت في الإسكندرية مدرسة فلسفيّة إسلاميّة ذات نهج متناسق، اتّجهت نحو مصادر الفكر الفلسفيّ الأصيل تنفذ إلى أعماقه وتقوم بدراسته ونشره للباحثين، وقام بأمر هذه المدرسة عليّ سامي النشّار، أستاذ الفلسفة الإسلاميّة بجامعة الإسكندرية، وقد نشر النشّار كتابه الأوّل مناهج البحث عند مفكري الإسلام، واكتشاف المسلمين للمنهج العلميّ المعاصر (دار المعارف 1966). وفي هذا الكتاب إثبات لتوصّل مفكّري الإسلام للمنهج التجريبيّ قبل أوروبا بعدة قرون، ثمّ البرهنة على أنّ هذا المنهج قد وصل إلى أوروبا، فتلقّفه علماؤها وبنوا به حضارتهم الحديثة. ثمّ اتجه النشّار نحو دراسة الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ ونشأته وتطوّر هذه النشأة فكتب نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام، الجزء الأول (دار المعارف 1966)، وفيه عرضٌ لقيامِ الفلسفة في الإسلام والدّوافع التي دعت لقيام هذا النّوع من الفلسفة فيها. ثمّ تتبّع لنشأة أهل السّنة الأوائل ثمّ الجبريَّة والقدرية والمجسّمة، وفي العام نفسه (1966) صدر له في دار المعارف بالقاهرة، الجزء الثاني من هذا الكتاب، وفيه بحث نشأة التشيّع وأنماطه المختلفة، واتجاهاته الفلسفيّة المتعدّدة.
ثمّ صدر الجزء الثالث من الكتاب عام 1968، وهو يبحث في التصوّف ومدارسه الأولى المختلفة، ثمّ تطوّره إلى التصوّف الفلسفيّ، وفي خاتمة الكتاب قال النشّار: “وبعد، فقد تجاوزنا الصفحات المقرّرة لهذا الكتاب، ولهذا سنتوقّف عند إبراهيم بن أدهم، لكي نتابع الحياة الروحيّة في الإسلام في الجزء الرّابع من سلسلتنا عن نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام، فنكمل بحث هذه الحياة لدى مدرسة خراسان والمدارس الأخرى التي لم نتناولها في هذا الجزء، وهي مدارس الجزيرة العربيّة ومدرسة مصر ثمّ مدارس المغرب، وذلك في القرنين الأول والثاني الهجرييّن. ثمّ نتابع حركة التصوّف في القرنين الثالث والرابع الهجريّين”.
اهتم النشّار أيضًا بتحقيق التراث الإسلاميّ، ففي عام 1938 فنشر كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين لفخر الدين الرّازيّ، وقدّمه بإعادة نشر محاضرة الصوفيّة والفرق الإسلاميّة، التي ألقاها الشيخ مصطفى عبد الرازق في مؤتمر الأديان بلندن عام 1932، عرفانًا بجميل أستاذه. ونشر كتاب صون المنطق والكلام عن فنّي المنطق والكلام للسيّوطيّ (الخانجي 1947). لدعم نظريّته في أنّ المسلمين أقاموا منطقًا تجريبيًّا. ونقل إلى العربيّة كتاب فيدون لأفلاطون بالمشاركة مع نجيب بلدي وعبّاس الشربينيّ (دار المعارف 1962). كما كتب كتابًا مطوّلًا عن هرقليطس فيلسوف التّغيير (دار المعارف 1968) بالمشاركة مع أبي ريّان وعبده الراجحي. ثمّ نشر ديوان أبي الحسن الششتريّ الشاعر الصوفيّ وتلميذ ابن سبعين (منشأة المعارف 1960). وهو صوفيّ أندلسيّ كتب أشعاره في قصائد وموشحات وأزجال، وحقّق النشّار هذه الأشعار وشرح ما استغلق من كلماتها وأفكارها. وأتى نشره لهذا الدّيوان امتدادًا لجهوده في دراسة الششتريّ، فقبل عشرِ سنوات 1951 من نشره لديوانه كان قد حصل على الدكتوراة عن أبي الحسن الشُشتريّ، تحت إشراف المستشرق الإنجليزيّ آرثر أربري، وعندما كان مديرًا لمعهد الدراسات الإسلاميّة بمدريد نُشر له في مجلة المعهد عام 1953 بحثًا مطوّلاً عن الششتريّ تحت عنوان: أبو الحسن الششتريّ الصوفيّ الأندلسيّ الزّجال وأثره في العالم الإسلاميّ (العدد الأوّل- السنة الأولى، المعهد المصريّ، مدريد). وفي سنوات الدّرس والتّحصيل كان قد نشر مقالًا في مجلّة الأديب بعنوان: ″صوفيّ أندلسيّ مجهول″، 1944.
لم تقتصر كتابات النشّار عن التصوّف على هذه الكتابات فحسب، بل تناول في مقالاته وبحوثه الأخرى العديد من الموضوعات المتعلّقة بالتصوّف، فنشر في مجلة كلية الآداب عام 1959، بحثًا عن أبي حامد الغزّاليّ ومعارضوه من أهل السُّنة، وفي مجلّة الأزهر كتب مقالاً مطوّلًا عن أحمد الغزاليّ، صوفيّ من الأسرة الغزّاليّة. وأراد أن يكشف عن المجهول في تاريخ التصوّف، فتناول فكر الملامتيّة في مقاليْن، استعرض في المقال الأوّل ما كُتب عن الملامتيّة باللغة العربيّة، وفي المقال الثاني تحدّث عن الملامتيّة في عصورها الأخيرة، وانتقالها من مصر إلى تركيا مستعينًا في مقاله ببعض الترجمات عن التركيّة ساعده فيها الشيخ زاهد الكوثريّ رحمه الله.
وقد تخصّص مجموعة من تلامذة علي سامي النشّار في الدّراسات الصوفيّة بعد ذلك، نذكر منهم عبد القادر محمود، صاحب كتاب الفلسفة الصوفيّة في الإسلام (دار الفكر 1965). كذلك عكف تلميذه كامل مصطفى الشيبيّ على درس الصلة بين التصوّف والتشيّع، وأخرج لنا كتابًا بهذا العنوان في مجلديْن، لا يزال مرجعًا حتّى اليوم، ولعلّه أحسن السير على خطى أستاذه في الاهتمام بالشعر الصوفيّ، فحقّق ديوان الحلّاج والشبلي والسهرورديّ، وكتب صفحات مكثّفة من تاريخ التصوّف.
وأخيرًا، لقد أردنا في هذه العجالة أن يتعرّف القارئ العربيّ على جملة من التآليف التي أثرت المكتبة العربيّة، وما ذكرناه هنا مجرّد نماذج معدودة، وإلّا فإنّ أعمال المدرسة المصريّة في التصوّف الإسلاميّ والتصوّف المقارن أكثر من أن تُحصى في هذا المقال! ولعلنا نتابع الحديث عنها في مقالات لاحقة*.
الحواشي:
* تشرّف كاتب هذه السطور بالعمل على فكرة سفراء التصوّف في العالم الإسلاميّ، مستمدًّا من أفكار الأستاذ العقّاد رحمه الله، فبعد أن طالع الأستاذ عبّاس محمود العقّاد أشعار عبد الوهّاب عزّام وخواطره التي كتبها في الهند وباكستان، أشاد بشاعريّته وعذوبة كلماته وجزالة معانيه، وكتب عن (تصوّف عزّام)، وأطلق عليه وقتئذ (السفير الصوفيّ). وبذا يكون عزّام قد جمع بين السفارتين سفارته لعدد من الدول العربيّة والإسلاميّة، وسفارته للتصوّف بما قدّمه للقارئ العربيّ من آداب الأمم الإسلاميّة مترجمًا للأشعار والكتابات عن التركيّة والفارسيّة والأورديّة. وإذا جاز لنا أن نطلق هذا الوصف (السفير الصوفيّ) على عزّام، فإنّنا لا نخصّه وحده به، بل يصحّ أن نطلقه على مجموعة من الأساتذة والدّارسين الأوائل الذين قدّموا للأمة الإسلاميّة والعربيّة كثيرًا من المعارف الصوفيّة، عُرف بعضهم وغُيّبت سِير الآخرين مع سيرورة الزمان. ومن هنا جاءت فكرتي لتخصيص سلسلة تحمل عنوان: (سفراء التصوّف في العالم الإسلاميّ)، فجمعت أعمال هؤلاء الأعلام المنشورة في الدوريّات والمجلّات ورتّبت بعضها بغية نشرها، إلّا أني دهشت من كمّ إنتاج (السفراء المنسيّين) من أمثال الشيخ الصاوي شعلان، ومحمّد غنيمي هلال، ومحمّد عبد السلام كفافي، وأحمد السعيد سليمان، وأبي العلا عفيفي، فقد شاركوا في كثير من المحافل العلميّة بالمحاضرات والمقالات، وراحوا يعرّفون بأعلام التصوّف الفارسي والأورديّ والتركيّ، وقد يسّر الله لي إصدار ثلاثة كتب من هذه السلسلة، الأول: جمعت فيه ترجمات الشيخ الصاوي شعلان لقصص المثنويّ، والثاني: جمعت فيه مقالات الأستاذ عبد الوهاب عزّام الصوفيّة، والثالث: الأعمال الصوفيّة لرائد الثورة الروحيّة أبي العلا عفيفي..