تحاول هذه المقالة أن تقدم تصورا للخطاب الديني للدولة والمجتمع في المرحلة القادمة والمستقبلية في ظل ما تشكل من تطورات وأحداث وأفكار جديدة تستدعي مراجعة الحالة الدينية القائمة والتاريخية مؤملة أن هذا الخطاب المقترح يصحح العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع، ويعالج الاختلالات القائمة اليوم في الحالة الدينية، من التطرف والإرهاب، وتنظيم العلاقة والولاية بين الدولة والمجتمع، وظاهرة الإسلام السياسي، والتدين الاحتجاجي
وتتكون المقالة مما يلي:
مفهوم الخطاب الديني
سيرورة الخطاب الديني التاريخية
وصف الخطاب الديني السائد
التطورات والتحولات التي جرت في الخطاب الديني والبيئة المحيطة والتحديات الجديدة الناشئة.
المراجعات والبدائل المقترحة للخطاب الديني المستقبلي
تركز المقالة بشكل أساسي على التطورات والتحولات والتحديات القائمة في الخطاب الديني اليوم باعتبارها القضية الأساسية التي استدعت التفكير المتواصل في الأزمات والتحديات والآفاق الممكنة للخطاب الديني، ولأنها بطبيعة الحال المدخل الأساس لبناء الاقتراحات والتصورات المستقبلية للخطاب الديني.
مفهوم وتعريف الخطاب الديني
يعني الخطاب بعامة “منظومة التعبير التطبيقي عن فكرة أو فلسفة أو حضارة” فالخطاب الديني هو التعبير التطبيقي عن الدين أو المعالجة المنهجية للنص الديني وتحويله إلى مجال عام تطبيقي في الحياة والفكر والسياسة والاقتصاد والتشريع وسائر مجالات الحياة والثقافة والعلاقات الاجتماعية.
فالخطاب الديني ليس هو الدين، وإن كان مستمدا من الدين والعمل على تطبيقه وفهمه والرجوع إليه، لكنه مجهود بشري يخطئ ويصيب، ويقترب من الدين أو يبتعد عنه، ويستلهم المرحلة والبيئة المحيطة به سلبا أو إيجابا، وقد يكون متقدما أو مبدعا، وقد يكون ناجحا أو فاشلا، وهو ليس خطابا واحدا كما الدين، ولكنه خطابات عدة مختلفة حسب قراءة النصوص والتجارب الدينية وفهمها، وما يؤثر في هذه القراءات من بيئة محيطة، ومحددات إنسانية، مثل اللغة والعلم والاتجاهات الفكرية والفلسفية والتحيز والنزاهة والأهواء والمصالح.
الحديث عن النظام السياسي أو الاقتصادي الإسلامي أو الإعلام الإسلامي والتعليم، أو الجماعات والمؤسسات الإسلامية، والدول وأنظمة الحكم السياسية الإسلامية هو تعبير نسبي، بمعنى نسبة الخطاب إلى الإسلام، وفي الحقيقة فإنه نسبة إلى المسلمين، وليس الإسلام، فالخطاب الإسلامي هو “خطاب المسلمين”، والنظام السياسي الإسلامي، هو النظام السياسي للمسلمين، وكذا الدول والمؤسسات والأفكار والبرامج.
ونسبي أيضا بمعنى “النسبية” أي أنه يسعى للاقتراب من الصواب والعدل، لكنه حتما ليس الصواب المطلق، ولا الحالة المطلقة التي لا يجوز مراجعتها والتخلي عنها، فالنسبية أولا وإن بدأت نظرية علمية فيزيائية أطلقت عام 1905 على يد عالم الفيزياء المشهور “اينشتاين” لكنها اليوم فلسفة وقاعدة عامة تمتد إلى كل شؤون العلم والفكر والحياة تعبر عن اكتشاف حقيقة عميقة في الكون والحياة.
إذن الخطاب الديني يتصف بما يلي:
- إنساني، بمعنى أنه منتج إنساني وليس مقدسا نزل من السماء وان كان مستمدا من الدين.
- متغير وعدم يقيني، فهو بالضرورة كونه “إنساني” أنه قابل لأن يكون خطأ ويخضع للمراجعة والتغيير والتطوير.
- نسبي، بمعنى أنه يسعى الى الصواب ويحاول الاقتراب منه ولكنه ليس الصواب المطلق.
الخطاب الإسلامي المعاصر في سيرورته وتشكلاته
يعكس الخطاب بما هو المعالجة المنهجية للنص البيئة الحضارية والاجتماعية التي يعمل فيها هذا النص، وفي ذلك يمكن بناء المعرفة “الجينالوجية” للأفكار والمنظومات السياسية والاجتماعية، ويمكن أيضا ملاحظة العلاقة بينها وبين سيرورة الموارد والتكنولوجيا، بما هي الأساس السردي المنشئ للحضارة والمجتمعات. هكذا نصف التشكلات الاجتماعية والحضارية عبر العصور، فنقول المجتمعات الزراعية، الصناعية، الرعوية، أو نقول العصر الحجري أو عصر الحديد والبرونز في إدراك للعلاقة الرئيسية بين الموارد والتكنولوجيا وبين الخطاب الحضاري والديني، فهل يسعنا القول في الفهم والتحليل لتشكل الخطاب الديني خطاب الورق، وخطاب المطبعة، وخطاب الانترنت؟
الحال أن التيارات الدينية السائدة والمنحسرة تعود في جذورها إلى تيارات واتجاهات سياسية تشكلت حول مسألة الحكم والخلاف عليها، وهي في منشئها كانت سياسية ولم تكن دينية، ولم يكن الخلاف الديني ليشكل أزمة أو شرخاً في الدول والمجتمعات لولا إكساب السياسة قسراً صفة دينية، والحال أنها متوالية من التشكلات والتحولات والصراعات السياسية والاجتماعية ألحقت بها الدين، ووظفت الفرص والتطورات الاقتصادية والتقنية في إنتاج الأفكار والمعاني. ففي المرحلة السابقة لصناعة الورق وانتشاره، كانت النصوص الدينية تغلب عليها الرواية الشفوية، بما في ذلك من حريات واسعة في الفهم والتطبيق تعلي من شأن الفردية والعقل والرأي، واستقلت السياسة والسلطة عن الدين، ولم يكن ثمة مجال كافٍ لقدرة مادية على تنظيم الأفكار والتطبيقات الدينية، فتعددت الأفهام والاتجاهات بعدد العقول، ولم يكن من حلّ لهذه التعددية بلا حدود سوى إرجاء الأمر في الحكم على الناس وإيمانهم إلى الله.
كان هذا الفهم “الإرجائي” سائداً بين كبار الصحابة والتابعين والعلماء، كان المرجئة يعتقدون أن الحكم مسألة ليست دينية ولا يردون الخلاف إلى فهم ديني ويرون جميع الفرقاء مسلمين تلخص موقفهم الإيماني والديني مقولة منسوبة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) «قل آمنت بالله ثم استقم» (رواه مسلم) أو الآية القرآنية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” (سورة فصلت، 30) ويشمل ذلك جميع المؤمنين بالله من المسيحيين واليهود والصابئة والربوبيين وكل مؤمن بالله. يذكر أن تسمية الإرجاء أطلقها المخالفون لهم، لأنهم كما يقول المخالفون لهم يرجئون أمر الإيمان والحكم على الناس لأسباب متعلقة بإيمانهم إلى الله، ولا ينفون الإيمان عمن وصف نفسه بالإيمان، ولا يطبقون أحكاما على الناس بسبب معتقداتهم، ولا يحكمون عليهم ابتداء بالكفر أو الإيمان فذلك أمر “يرجئونه” إلى الله. والحال أن “الإرجاء” في الفكر والاعتقاد والحكم على عظمته لم يأخذ ما يستحق من اهتمام ودراسة، ومعظم إن لم يكن جميع ما يقال عن هذا الاتجاه إنما كتبه خصوم المرجئة؛ ذلك أن مؤسسات السياسة والحكم والمؤسسات الدينية تجد تعارضا في مصالحها مع الإرجاء، لأنه فكر ينزع “الشرعية الدينية” عن الحكام والفقهاء.
ثم ظهر الخوارج متحدّين الإرجاء والتهميش أيضاً، فقد ابتدأ الإرجاء سلوكاً استعلائياً أرستقراطياً، عزل به أصحابه أنفسهم في الحجاز أو بعيداً من الحكام مكتفين بمواردهم المادية والاجتماعية، ولم يجدوا حاجة اقتصادية أو اجتماعية لمنافسة الحكام، لكن الخوارج الذين لم يستفيدوا مكانة جديدة بعد إسلامهم دخلوا في صراع مع القوى المتنافسة على الحكم مقدمين فهماً دينياً جديداً يجعلهما عدوين، فقد اعتبروا الحكم من الإيمان والمعصية كفراً وأباحوا لأنفسهم بذلك التمرد على الأقوياء والمؤثرين، باعتبارهم كفاراً يرتكبون المعاصي ولا يحكمون بما أنزل الله.
ثم ظهر التشيع الديني والسياسي باقتراح ممن تشيعوا إلى علي بن أبي طالب في مواجهة عثمان ثم معاوية وكان مبتدأهم سياسياً، ثم تحولوا إلى طائفة دينية متميزة وصار فيها مذاهب واتجاهات مختلفة.
ظهر أهل المعتزلة “العقلانيون” أو أهل الرأي والعقلانية، وهم امتداد للمرجئة لكنهم دخلوا إلى السياسة والحكم في تفسيرات واتجاهات دينية وعقلانية، وهذا أضر بهم كثيراً لأنهم تورطوا في الاستبداد والظلم في عهد المأمون والمعتصم والواثق عندما أرادوا فرض العقلانية فرضاً وحاربوا أهل الحديث، علماً أن متأخري الخلفاء الأمويين مثل عمر بن عبد العزيز ومروان بن محمد كانوا من المعتزلة/ العقلانيين، وكذلك الخلفاء العباسيون الأوائل قبل المتوكل، لكنهم قبل المأمون لم يقحموا المذهب في السياسة والحكم.
تشكلت مذاهب واتجاهات «أهل السنة والجماعة» وهم التيارات الدينية والفقهية التي تشكلت حول السلطة السياسية أو قريباً منها أو برعايتها ويستمدون من النصوص وبخاصة الحديث والتقاليد الفقهية والتشريعية التي كانت سائدة ومستمدة من التشريعات الرومانية واليهودية التوراتية والتلمودية بعد استيعابها استيعاباً إسلامياً وموافقتها مع الشريعة الإسلامية ويندرج في هذا الاتجاه المذاهب الفقهية التي صارت تسمى سنية أو شيعية. ومن المهم التذكير بأن تسمية السنة والجماعة كانت رداً على المعتزلة/ العقلانيين وليس الشيعة فلم تكن الشيعة ظهرت بعد طرفاً دينياً رئيسياً.
الحال أنه يمكن وصف فقه أهل السنة والجماعة وكذلك الشيعة بــ «إسلام الورق»، فقد وافق التدوين الورقي التمدد التقليدي للفهم الديني والانحسار العقلاني، إذ بدأت عمليات تدوين النصوص الدينية والسيرة والفقه والتشريع وأصول الفقه والنحو واللغة والتاريخ والأخبار منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، ونظمت السلطة السياسية تنظيماً امبراطورياً مستنداً إلى الحق الإلهي الذي كان سائداً ومتبعاً في الامبراطوريات الفارسية والبيزنطية، وأُدخلت في النصوص الدينية والتشريعية والفقهية نصوص وأفكار هائلة ورثت التراث السرياني واليوناني والروماني واليهودي والمسيحي والفارسي والهندي ومنحته صبغة إسلامية مؤسسية وسلطوية، ويمكن مثلاً ملاحظة كيف ظهر عبدالله ابن عباس جد الخلفاء العباسيين عالماً وفقيهاً في مستوى هائل من الرواية والتفسير والفقه والحكمة، وكيف ظهرت أحاديث وأحكام الطاعة والخلافة والانتصار للمذاهب والأفكار والردّ عليها مما لو كان موجوداً بالفعل أو معروفاً قبل الورق لما نشأت مذاهب ولا اختلف المسلمون وتعددت اتجاهاتهم ومواقفهم. هذا برغم أن عمره كان عندما توفي الرسول عشر سنوات فقط!
ثم جاء خطاب «المطبعة» في ثلاثينات القرن التاسع عشر، فأعاد إنتاج التراث الديني وتوزيعه على نطاق واسع وشغل بترجمة واستيعاب الحضارة الغربية استيعاباً إسلامياً منشئاً نظاماً إسلامياً جديداً ملائماً للدولة الحديثة لم يعرفه التراث الإسلامي من قبل.
يبدو منطقياً ومرجحاً اليوم مع سيادة الشبكة وثقافتها وصعود الفردية أن يصعد التدين الفردي الإرجائي المتعدد مصاحباً للفرص الفردية بلا حدود للمعرفة والفهم، وفي ذلك أيضاً مخرج من الصراعات الدينية المهلكة، وعودة إلى أصل الدين وما كان عليه الفهم الديني السائد من البعثة النبوية حتى منتصف القرن التاسع الميلادي. فالأصل في الدين والدعوة هو الفردية بما هي إيمان فردي ومسؤولية فردية وعلاقة فردية بالخالق.
تشكلت الدولة الحديثة مصاحبة لـ “المطبعة” مستمدة منها قدراتها التنظيمية والتنميطية للمؤسسات والثقافة والتعليم والإعلام، وأمكنها بذلك أن تشمل بتوجيهاتها وتحيزاتها كل فرد في حدود سيادتها، بل وأن تحدد للناس ماذا يعرفون وماذا لا يعرفون، وماذا يعرف او لا يعرف أو ينبغي أن يعرف أو لا يعرف كل مواطن، واختفت المذاهب الفقهية والمؤسسات الاجتماعية للتعليم والتشكيل الديني، والزوايا الصوفية وحلقات الذكر والنشيد وجماعات الدعوة والإرشاد المتجولة بين الناس في القرى والبلدات، وتحول المتدينون إلى صفوف وأرتال منظمة ومنسقة ومنضبطة مثل صفوف طلاب المدارس والجامعات. حلّت الجامعات والمدارس والمؤسسات الرسمية محلّ المذاهب والمجتمعات والعلماء والملهمين المستقلين بذاتهم أو الذين نشأوا في مدنهم ومجتمعاتهم. الإسلام (الخطاب) صار هو ما يعلّم في المدارس والكليات ويقرأ في الكتب المطبوعة، والاجتهاد والتشريع هو ما تنتجه البحوث والرسائل الجامعية التي تنفق عليها السلطات السياسية! أو المؤسسات التمويلية، فالاقتصاد “الإسلامي” ترعاه البنوك “الإسلامية” وشركات التأمين “الإسلامية” والإعلام “الإسلامي” والتعليم “الإسلامي” تنتجه جماعات الإسلام السياسي التي وجدت في الإعلام والتعليم أداتها في التأثير والانتشار، وهامشها الذي تأوي أليه بعدما استأثرت السلطة السياسية بالمتن!
يقول جون لوك في كتابه “الحكم المدني” إن المطبعة غيرت في فهم الدين وتطبيقه وفي دور ومصير المؤسسة الدينية، فعندما يكون في مقدور كل مؤمن أن يقرأ الكتاب المقدس بنفسه يكون سؤال عن الدور والمصير الجديد للمؤسسة الدينية التي تشكلت في ألف عام حول تعليم الكتاب المقدس للناس، فماذا بعد أن يتعلم الناس الكتاب المقدس بأنفسهم؟ والواقع أن حركة الإصلاح الديني التي تطورت إلى تشكيل مسيحي جديد (البروتستنتية) مختلف عن الكنسيتين التقليديتين اللتين تنتظمان المسيحيين (الأرثوذكسية والكاثوليكية) استمدت فكرتها ووجودها حول المطبعة، وصارت تضم اليوم حوالي مليار مسيحي.
وفي ذلك فإن الخطب الإصلاحي أو إصلاح الخطاب هو ببساطة الاستجابة للتحديات والفرص القائمة والمتوقعة استجابة صحيحة وملائمة، وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى الخطاب الديني المتوقع أو المفترض تشكله في ظل “الشبكية” التي تسود اليوم بما هي امتدادات وتطبيقات الحوسبة والاتصالات ومتوالياتهما في التصغير والأنسنة والمسافات والحدود والزمن والسلطات والمؤسسات والعلاقات. لكن عندما يتشكل الخطاب الديني في ظل شبكية تحلّ في بيئة اقتصادية واجتماعية هشة لا تملك المنعة والقدرة على استيعابها، كما لا تملك الخبرة والإرادة الكافية لتحويلها إلى فرص أو التكيف معها بما يحمي الدول والمجتمعات ويقلل خسائرها؛ فإن هذا الخطاب يعكس الهشاشة والخوف، هو في واقع الحال خطاب الهشاشة والضعف، وليس خطاب الشبكة او المعرفة!
في الأداء الفني؛ يمشي المؤدي في خط مستقيم عندما ينسى أو لا يعرف ما يجب أن يفعله، وهذا يفسر ما يجري من اتجاهات وأنماط سائدة اليوم في التدين وفهم الدين. ما الخطاب الديني الملائم للشبكية؟ أو كيف يعكس الخطاب الديني استجابة صحيحة وملائمة مع عصر المعرفة والشبكية؟
وصف الخطاب الديني السائد
يمثل الدين مكونا رئيسيا في خطاب الدولة الديني في الدستور والقضاء والتشريع والتعليم والقيم الأساسية الموجهة للدولة وسياساتها وعلاقاتها، ويشكل جزءا رئيسيا في ثقافة المجتمع وسلوكه وعلاقاته الداخلية وقيمه وعاداته وتقاليده، ويؤثر جوهريا على سلوك الأفراد ومواقفهم، ويمثل أيضا موردا أساسيا لكثير من الجماعات والمنظمات الاجتماعية في العمل العام والسياسي والاجتماعي.
وظل الخطاب الديني مستقرا بشكل عام حتى بدأت التحولات الكبرى التي هبت على العالم الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر، وفي أثناء ذلك كان الخطاب الديني كما الدولة والمجتمع يواجه تحديات كبيرة تؤثر جوهريا في التطور والصراع الاجتماعي والسياسي الذي يدور، وظل الخطاب الديني فاعلا رئيسيا في هذه التفاعلات الجارية، وكان العلماء والقادة الدينيون في القرن التاسع عشر رواد حركة الإصلاح ومحاولة النهضة بالعالم الإسلامي واقتباس النموذج الغربي في النهضة وفق خطاب إسلامي؛ رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، خير الدين التونسي، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد بلحسن بلحجوي وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي في الجزائر، وسعيد النورسي في تركيا، والطاهر والفضل بن عاشور في تونس، والمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا والمريدون بقيادة الإمام شامل في القفقاس، والدهلوية في الهند وحركة دان فوديو في نيجيريا، . وفي ذلك صار الخطاب الديني جزءا من سياسات الدولة ومن الصراع والمعارضة أيضا.
في النصف الأول من القرن العشرين انقسم الخطاب الإصلاحي بين خطاب ديني وخطاب ليبرالي، وصار الخطاب الديني للمرة الاولى موضع مراجعة استراتيجية في وجوده ودوره في الدولة والمجتمع بعدما كان وجوده مسلّمة غير قابلة للنقاش، وتعدد الخطاب الديني نفسه، وانقسم في اتجاهاته ومواقفه وعلاقاته بالصراع والاحداث، فبعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924 (الحال أن إلغاء الخلافة لم يكن في الحقيقة سوى إعلان وفاتها؛ ذلك أن الخلافة العثمانية توقفت فعليا قبل ذلك بعقود، ولم تكن الدول العثمانية تصف نفسها بالخلافة إلا في فترات قليلة محدودة) نشأ خطاب ديني يسعى إلى استئناف الخلافة والدعوة إليها، مثل الإخوان المسلمين ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وخطاب ديني آخر يمثل طريقا ثالثا بين العلمانية والدين، يسعى في إعادة تشكيل خطاب ديني يلائم الحداثة ويعيد النظر في مسلمات دينية مثل الخلافة والحكم تواطأ الناس والعلماء والحكام على اعتبارها من الدين وهي ليست كذلك، وأوضح مثال على هذا الخطاب هو الشيخ علي عبد الرازق.
في سعي المجتمعات إلى التحرر والاستقلال وبناء دولتها الحديثة كان الخطاب الديني أيضا جزءا من هذا النضال، وتعدد الخطاب الديني في ذلك حسب تعدد المواقف والأفكار المتبعة للنهضة والتحرر وبناء الدولة، وصار لدينا خطاب إسلامي سياسي طور تجربته وأفكاره لاستعادة الخلافة والدعوة، وفي مشاركته في العمل لأجل التحرر والاستقلال إلى جماعات واحزاب سياسية وحركات اجتماعية وفكرية وثقافية تستلهم الدين لتقديم نموذج سياسي اجتماعي ثقافي معاصر، وتشكل للمرة الأولى (ربما) خطاب ديني مستقل عن الدولة الحديثة.
حدث انفصال واضح وكبير بين الخطاب الديني والدولة الحديثة التي قادتها وشكلتها في الغالب نخب سياسية استلهمت النموذج الغربي الحديث في الفكر والمؤسسات والقائم على الاستقلال عن الدين وتحييده في الإدارة والتنمية والنهضة، وتحول الإلهام في الاستقلال والتحرر والنهضة من الدين إلى القومية واليسار، وصارت هذه الأفكار والنماذج تلهم الافراد والمجتمعات والنخب، وانحسر الخطاب الديني الرسمي وضمر تأثيره ودوره في الدولة والمجتمع أيضا.
يمكن إجمال التحولات التي جرت في الخطاب الديني والمشهد العام حتى سبعينات القرن العشرين فيما يلي:
- الخطاب الديني في محتواه ونخبه وقادته والقائمين عليه ظل على نحو منفرد يقود المجتمع ويؤثر بشكل رئيسي في الدولة، وياصل دوره القيادي في استيعاب النموذج الغربي واقتباسه والتفاعل معه، وذلك حتى أوائل القرن العشرين.
كانت هذه الحركات والمشروعات والمبادرات والدعوات قائمة على إصلاح الخلافة والدولة العثمانية أو تحديها ببدائل يراها أصحابها أفضل أو أنها على هامش الدولة وبعيدا عن تأثيرها وغير معنية بها، ثم شغلت بمقاومة الاحتلال والاستعمار والعمل على التحرر والاستقلال، وانشغل بعضها بالنهضة والتقدم واستيعاب تجربة الغرب وتطوره.
ثمة اتجاه فكري وتاريخي سائد أن جمال الدين الأفغاني هو مؤسس الخطاب الديني المعاصر وأن جهده الفكري والإصلاحي والذي حمله معه ومن بعده تلميذه الشيخ محمد عبده، وأثر الأفغاني في جيل كامل من القادة والمفكرين والمصلحين، وكان له نفوذ وتأثير في مختلف أنحاء العالم الإسلامي التي طاف بها من أفغانستان إلى إيران والهند وفرنسا ومصر والعراق وتركيا، وكان له عبر تلاميذه وبخاصة محمد عبده تأثير على المفكرين والمثقفين في مصر وبلاد الشام وبخاصة إصلاح مؤسسات التعليم كالأزهر والمحاكم، وامتد هذا التأثير إلى رشيد رضا الذي كان لمجلته “المنار” صدى وتأثير في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكان حسن البنا على صلة قوية برشيد رضا وقد استأنف لبعض الوقت مجلة المنار بعد وفاة الشيخ رشيد رضا.
ظهرت خطابات فكرية وسياسية مستقلة عن الدين منذ مطلع القرن العشرين، ويعتبر لطفي السيد رائد هذا الخطاب والمؤسس العربي له، وبدأ هذا الخطاب يزيد قوة وتأثيرا حتى هيمن على المشهد السياسي والفكري والثقافي.
وظهر خطاب ديني جديد يؤسس لعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع مختلفة عن الخطاب الديني التاريخي والتقليدي، وينسجم مع الخطاب العلماني، ومن رواده علي عبد الرازق، ولكنه لقي مقاومة شديدة من الأزهر والسلطة السياسية، وعوقب بالعزل والحرمان.
تحول الخطاب الديني الإصلاحي في غالبه إلى جماعات سياسية واجتماعية تدعو إلى استئناف الخلافة، ولقي هذا الخطاب تشجيعا وتأييدا من السلطات السياسية. وبدأ الخطاب الديني الرسمي بالضمور والانحسار، ولم يعد قادرا على مواكبة العصر والتحولات، ولقي إعراضا شديدا وهجرانا من قبل النخب والاجيال.
جاءت السنوات الأخيرة بتحولات كبرى حضارية واجتماعية وسياسية واقتصادية وتقنية، وبأحداث عالمية وإقليمية ومحلية غيرت كل شيء تقريبا، وكان الخطاب الإسلامي واحدا من مكونات وموضوعات التحولات الكبرى التي تجعل فهمها خطوة مهمة وضرورية بل وحتمية لنفهم أين نحن وأين كنا وإلى أين نمضي، وماذا كسبنا ماذا خسرنا، وماذا نريد، وكيف نوفق بين أهدافنا وإمكانياتنا ومواردنا، ونخرج من دوامة التكرار والهدر لنبدأ بالإقلاع في الطريق الصحيح.
ويبدو العمل الإسلامي اليوم يواجه أسئلة كثيرة، ويجري مراجعات مهمة واستراتيجية للمواقف والسياسات والأفكار، وتحليل خريطة تحولات الأمة والتقدم والقصور والإنجاز، وفهم البيئة الجديدة المحيطة بالعمل الإسلامي، فالمشروعات الإسلامية التي بدأت العمل في النصف الأول من القرن العشرين هي اليوم في أوائل القرن الحادي والعشرين أنجزت معظم إن لم يكن جميع ما نذرت نفسها له، ولكن هذا الإنجاز قد يعني نهايتها أيضا.
لقد فرض هذا التحول الكبير تحديات وفرصا وبيئة أخرى للعمل تختلف كثيرا عما كان عليه الأمر طوال العقود الماضية، وهي معطيات إن لم تدرس وتفهم ستجعل من الأعمال والمؤسسات غير ذات جدوى، وجعلت بعضها بالفعل تجاوزته الحاجة وعفى عليها الزمن.
وكان من أهم خصائص المشهد الجديد انتقال التدين وإدارة وتنظيم الشأن الديني والإصلاحي من الرواد والمؤسسات الحكومية المتخصصة إلى حالة مجتمعية تنهض بها شبكة من الحكومات والمؤسسات والجماعات والأفراد، ويقتضى هذا التحول إعادة النظر والتفكير في مسارات العمل الإصلاحي لتناسب المشهد الجديد وأولوياته واحتياجاته وتحدياته وفرصه، فالركون إلى أفكار وأساليب ربما نجحت في الثمانينات والسبعينات أو كانت ضرورية أو ملائمة لا يعني أبدا صلاحيتها في العمل اليوم، فقد حدثت تحولات في الموارد والمواقف والأفكار جعلت الإصلاح والتنظيم الاجتماعي عملا شبكيا ولم يعد مركزيا تنظمه او تحتكر تنظيمه حكومة مركزية؛ فلم تعد الحكومات قادرة على التنظيم المركزي للإعلام والإرشاد والتعليم والثقافة.
إن إعادة تشكيل الخطاب الإسلامي صارت ضرورة حتمية تقتضيها التحولات الجارية التي لا يمكن استيعابها إلا بمؤسسات وفلسفات تتفق أو تتكيف معها؛ وللمقال صلة.