مطبات
[I]
أنحن قوَّمنا التَّساؤل: ما هو التحديث؟ قَبلَ الصراع الآيديولوجي عن معنى التحديث، ومضمونه، والهدف منه، والوسائل التي تحقق ذاك الهدف؟، وهل نحن بنينا التَّساؤل هذا كفايةً وبإحكام؟ وعلى أي نحو يمكن أن نفهم التحديث على أنَّه، في أصله، شأن عالَمي يخصُّنا؟ أي يخصُّ ذاتَ أنفسنا العميقة؟
يتضمَّنُ التحديث معنى إمكان التحديث. إنَّ التحديث إنَّما هو، في كل الأحايين، بحثٌ عن جملة الإمكانات الذاتيَّة، والشروط الموضوعيَّة التي، بوحدتها، تجعل من التحديث أرضيَّةَ وجودٍ لكلِّ إمكانٍ من الإمكانات التي للمجتمع، والدَّولة. إنَّ التحديث، في هذا السياق، يستمد مبرِّرَهُ من المجتمع نفسه، من الدولة عينها؛ من جهة كونها نتيجة ونتاجًا للمجتمعيّ. ولكن ما هو ليس تحديثًا يجعل الطريق إلى التحديث جليَّةً في اِنتظار بنائها. فأنْ نتعرَّفَ إلى التحديث بما هو ليس تحديثًا إنَّما هو أوَّل الطريق.
[II]
المعيار المعرفي في الفكر والواقع
يتمثَّل المعيار المعرفيّ في تصنيف ما ليس تحديثًا بالاِنطلاق من ثُنائيَّة الفكر والواقع؛ أي الفكرة والممارسة. فإذا نحن اِنطلقنا من الفكرة إلى الممارسة وتساءَلنا ما الذي يجرُّ الفكر إلى الفكرة، ويُبقي عليها فيه، ويحافظ عليها من دون بناء وإعادة بناء فيه، من دون أن ينتقل إلى الواقع؟ نكون أمام الآيديولوجيا؛ وإذا نحن اِنطلقنا من الممارسة إلى الفكرة، وتساءَلنا عن الذي يحول دون الاِنتقال إلى بناء وإعادة بناء الفكرة نكون أمام تسيس المعرفة، وتسييس الفكر. وهكذا نكون أمام ستة ضروب ممَّا ليس تحديثًا، تكون الثلاثة الأولى مرتبطة بالاِنتقال من الفكرة إلى الممارسة، وتكون الثلاثة الثَّانية مرتبطة بالاِنتقال من الممارسة إلى الفكرة. وهي، على أقل تقدير، الآتية:
– I إنَّ التحديث ليس تجميعًا لجملة نظريَّات ومناهج حديثة، وتطبيقها على موضوعات محليَّة، ومسائل خاصَّة؛ إلاَّ إذا فُهِمَ على أنَّه حصر المفاهيم العِلميَّة ضمن جدران القاعات الآكاديمية؛ أو إثارتها في جلسات المثقفين الأكثر اِغترابًا عن الواقع المجتمعيّ المحسوس.
– II هو ليس اِرتماءً في التُّراث العربيّ الإسلامي، أو حتَّى اِنقذافًا فيه والبحث بالاِنطلاق من داخله لتبريرالتحديث، وتسويغه؛ إلاَّ متى صار التحديث ضربًا من المواقف الآيديولوجية إزاء الآخر الغربي، ضمن ثُنائيَّة مصطنعة مُفبركة هي التُّراث والحداثة.
– III إنَّه أيضًا لا يرتبط بإعلانٍ عن رؤية بعينها للعالَم؛ إلاَّ إذا كان الموقف من العالم هو الهدف الأخير للفكر، والتفكير الفلسفي.
– IV وهو أيضًا لا يمكن أن يكون موقفًا فكريَّاً يفتح حلبة الصراع على اِحتكار الحقيقة بين التيارات الفكريَّة والآيديولوجية في مجتمع ما، أو مجتمعات بعينها؛ إلاَّ إذا حدث، وقد أصبح التحديث هُويَّةً منغلقة على العالَم؛ هُويَّةً بآيديولوجيا القطع- الطَّرد: إلاّ متى كان الفكر فكرًا سلطويَّاً مأخوذًا بوضع نفسه، وتعيينها، وتمييزها، وفرضها على هذا النحو أو ذاك.
– V إنَّ التحديث ليس ضربًا من المواقف الآيديولوجيَّةِ إزاء التُّراث الديني، أو الماضي المجتمعيّ، أو تاريخ أمة من الأمم. ولا هو موقف من الواقع، وتعيينه على أنَّه واقع آيديولوجي ما. سواء أخذ على أنَّه واقع قومي، أو واقع ليبرالي (أو علماني)، أو واقع شيوعي (أو ماركسي)، أو واقع إسلامي (أو ديني).
-VI وهو كذلك لا يتعلَّق بأي فكرة دَعَوِيَّة أو مفهوم تبشيري. وهكذا يُصبح رفع شعار التحديث، كما هو رفع شعار التتريث، ضربًا من الفهم الآيديولوجي للتحديث.
[III]
إنَّ التحديث مؤسَّسٌ على التَّساؤلات الجديدة التي تنبثق من الإصغاء إلى نداء الواقع، من جهة، وهو مؤَسِّسٌ لإمكانات الإجابة على نحو جديد (النحو الجديد هذا تحدده الواقعيَّات التي تم الوعي بها على نحو علمي ما بعد حديث)؛ أو لا يكون من جذره. فإنه مؤسَّسَةٌ- مؤسِّسَةٌ، أو لا يكون.
ولكن للتحديث ميتافيزيقاه الخاصَّة؛ فلأنَّ الوجود في العالَم يقوم على وعي الوجود وكيفه قبليَّاً، فإنَّ للتحديث [القَبْليَّ Priori] الذي يخصُّه. أي جملة المصادر التي تعيِّنُ، على نحو قَبْلِيٍّ، كيفيَّة وجودنا في العالَم، وماهية ذلك، فسبل إمكانه. وإنَّ لذلك تساؤلات أربعة على أقل تقدير.
– I نتساءَل، عند الدرجة الأولى من فهم الإمكان: ما هو إمكان العالَميَّة؟ وكيف يمكن التأسيس له داخل الإشكالات والإشكاليات الفكريَّة- والمجتمعيَّة، في مجتمعاتنا العربيَّة- والإسلامية؟
– II ونتساءل، عند الدرجة الثَّانية من فهم الإمكان: ما هو إمكان تعدُّد العالَميَّة؟ أي، في أيَّة معانٍ يمكننا أن نوجد في العالَميَّة، على نحو التعدُّديَّةِ، وما الذي توفره لنا هذه الأخيرة؟
في اليوم العالمي للفلسفة هل بقي للفلسفة ما تقوله؟
– III ونتساءل، عند الدرجة الثَّالثة من فهم الإمكان: على أي نحوٍ نفهم، نحن العرب والمسلمين، ذاتَ أنفسنا العميقة؟ وكيف وضمن أيَّة حقول وجودية ننتج مفاهيم ننطلق منها في وجودنا في العالَم؟ وبتساؤل صريح: ما هي المساهمات العربيَّة- الإسلامية في: فهم العالَم، وفهم المجتمعات العربيَّة، وفهم العلاقة بين المجتمعات العربيَّة والعالمية؟ وفي تساؤل مباشر: كيف نتذوَّت في العالَم؟
– IV ونتساءل، أخيرًا، في الدرجة الرَّابعة من فهم الإمكان: كيف نتموضع في العالَم؟ أي كيف نتكاون (نسبةً إلى الكينونة) في العالَم، معه؟ وضمن أيَّة أطر ومستويات يمكننا أن نموضعَ العالَميَّةَ في الإشكالات والإشكاليات الفكريَّة- والمجتمعيَّة في المجتمعات العربيَّة؟
[IV]
إنَّ التَّساؤلات الأربعة هذه إنَّما هي أوَّلُ بدء أي ضرب من ضروب التحديث التي تريد بناء علاقة مع العالَم، على نحو الاِعتدال. ولكن لماذا الاِعتدال، وليس أي شيء آخر؟ وما هي الضرورة الملحة للاِعتدال في الفكر العربيّ الجديد، من أجل الاِنطلاق إلى التعالق مع العالَم؟
في أوَّل الأمر، ومن خلال اِرتسام الملامح الأساسيَّة لفكرة الاِعتدال، بوصفها ممارَسةً على نحو علمي، سوف يتوفَّر البحث عن [العلاقة- مع- العالَم] على وِجهة ما، عَبرَ فهم الاِعتدال على أنَّه ليس [الـ- لا- موقف]، بل إنَّه موقف علمي- فلسفي حديث، وما بعد حديث، في تناول الموضوعات المجتمعيَّة والإنسانية في العالَم.
[V]
ومتى فُهم الاِعتدال على أنَّه الأرضيَّة الفكريَّة لأي تساؤل قادم، أو مقبل إلينا من مستقبلنا، يمكن أن نظفر بفهم الدرجة الأولى من الإمكان: إمكان أن نكون في العالَم. في الحقيقة، [أن- نكون- في- العالَم] ليس هي عينُ ذاتِها [أن- نوجد- في- العالَم]. الأولى فعل قائم على إمكانات ذاتيَّة، والثانية فعلٌ محدَّدٌ قبليَّاً عَبرَ الهُويَّة. الأولى فاتحة للإمكانات، والثانية محدِّدَةٌ لوِجهة الإمكانات، وكيفها. تفتح العالَميَّة إمكانات الأولى، كما تُحدِّد الخُصوصيَّة والمحلية مكوِّنات الثَّانية.
إنَّ إمكان العالَميَّة لا يمكن أن يعني تجاوز الخُصوصيَّة والمحليَّة، وإزالة الملامح الأصليَّة التي للهوية في العالَم؛ للهويات من جهة كونها ضروب التمايز، إلاَّ عَرَضًا. إنَّ وِجهةَ العالَميَّة، متى نُظِرَ إليها من منظار مما فوق سياسي- آيديولوجي، يمكن أن ترتسم على نحو الاِنفتاح على الاِكتمال والتَّتمَّةِ والتكامل. إنَّ العالَميَّة ليست مضمونًا كاملاً واحدًا يريد أن يُفهم على نحو قبلي فحسبُ؛ بل هو، أيضًا، وفوق ذلك، مضامينٌ ومنظوراتٌ وسبل إمكان نحو إعادة البناء في كل مرَّةٍ، وعلى نحو جديد.
[VI]
في كلِّ مرة، وعلى نحو جديد، هذان يعنيان أننا أمام إمكانَيْن موضوعيَّيْن: من جهة أدلجة العالَميَّة وفهمها بالاِنطلاق من مضامين ومنظورات جاهزة معيَّنة قبليَّاً، ومن جهةٍ أخرى فتح العالَميَّة نحو إعادة بناء مضامينها ومنظوراتها. حينما نشير إلى إعادة بناء العالَميَّة في كلِّ مرة، فإننا نذهب مباشرةً إلى ما توفره العالَميَّة بذاتها، ضمن وعي ضروب تجسُّدها وتمثيلها، في التَّساؤلات المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ عن الواقع الموضوعيِّ في كل الأحايين. ومتى قلنا العالَميَّة من جديد، فإنَّهُ علينا أن ننطلق من وعي العالَميَّة بوصفها يمكن أن تُؤخَذَ على أنها تنطوي على الفتح والتفسير والفهم، مع كل بحث علمي وممارسة علميَّة- فلسفية يتساءَلان عن الواقع المجتمعيّ، الواقع الواقعيّ، موضوعيَّاً. في صيرورة البناء وإعادة البناء هذه، من حيثُ إنَّها إنتاجُ وإعادةُ إنتاجِ المفاهيم التي من شأن العالَميَّة، نكون في كل الأحايين، ضمن تناول العالَميَّة على أنها مما فوق السياسي- الآيديولوجي، نكون من جديد، ونكون في كلِّ مرة. إنَّ [الفتح- والتفسير- والفهم]، فتح العالَميَّة، وتفسيرها، وفهمها، إنَّما هي ضروب تساؤل أنطولوجي- إبستيمولوجي؛ ولكن بمعزل عن أيَّة مواقف آيديولوجية مغلقة. إنَّ ما يُراد من وحدة العالَم إنَّما هو وحدة المساهمات والأفعال والأفكار، وبالتالي ضروب [أن- نكون]، و[أن- نوجد]، التي تنطوي على التعدُّد والتنوع والاِختلاف. لأنَّ العالَميَّة، قَبلَ قيامها، لم تكن بهذه الضروب في الإنوجاد، وسبله وطرقه ودروبه ووسائله، إلاَّ لأنها تريد أن تكتمل في كل مرَّة، ومن جديد.