تكوين
«يلاحظ جروج سيمل أن هناك ثلاثة أصناف من الفلاسفة: الصنف الأول ينصت إلى دقات قلب الأشياء، والصنف الثاني ينصت فقط إلى دقات قلب الانسان، أما الثالث فانه ينصت الى قلب المفاهيم، في حين أن هناك صنف رابع هو صنف أساتذة الفلسفة الذين لا يستمعون إلا إلى قلب النصوص.
نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل، ص48.
تسعى هذه الدّراسة إلى الاشتغال على مشروع المفكر محمّد نور الدين أفاية، وذلك من خلال الوقوف عند أهمية مفهوم النقد وسياق استعماله، منذ لحظات المشروع المبكّرة وإلى الكتابات الأخيرة التي أثرى بها الدكتور أفاية المكتبة العربية. ما من سبيل إلى تأمل معالم هذا المشروع النقدي إلّا من خلال التفكير في مدارات التفكير التي يرومها مفكرنا، وهي في تقديري نطاقاتٌ ثلاثة: أوَّلها، يرتبطُ بالرُّوح النقدية للفلسفة الحديثة مع إيمانويل كانط؛ والثاني، يندرجُ في إطار فلسفة الفن وجماليات الصورة، بل وفلسفة الفيلم والسينما؛ أما الثالث، مدارهُ على الاهتمام بالذات العربية وهويتها وأشكال الإصلاح الممكنة لواقع ما يفتأ ينتقل من سيء إلى أسوأ. ومهما بعُدت الشقة بين هذه النطاقات إلا أن الغالب عليها الميلُ إلى تبنّي خطة نقديةٍ والتفكير في أبعادها وفق نسق مفاهيمي محكم.
أولاً: النقد ودلالاته الفلسفية
كانت البدايات الأولى للنظرية النقديةِ مع مدرسة فرانكفورت خطًّا رئيساً ارتسمَ في وعي أفاية، وذلك حين شرع في الاشتغال على أطوار الفكر النقدي في مراحله المعاصرة، وبالأخص في تجلياته الكبرى مع يورغن هابرماس. لا يمكنُ الاعترافُ بوجود خطيَّةٍ معرفية في مسار قراءة تاريخ الأفكار المعاصرةِ، وبالتركيز على مفهوم النقد يتبيَّنُ إلى أيِّ حدٍّ يمكنُ فهمُ أشكال تناوله، وتعالقاته المفاهيمية داخل المدرسةِ نفسها. لقد حصل في وعي أفاية أنَّ النقد غير النقد، وأن التفكير نقدياً يقتضي استيعاب حركة الأفكار في علاقتها بالنظم المعرفية المتغيرة، وفي علاقتها بالأطوار الاجتماعية والأحوال الإنسانية، ويصدُقُ عليه ما قاله عن هابرماس نفسه: «لقد استلهم هابرماس، وبأسلوب نقدي، مقومات النظرية النقدية، وحاور مؤسسيها في أفكارهم ونمط سؤالهم وتقصى أسسهم الفلسفية في تنوعها واختلافها وأحيانا في تنابذها. فدراساته لفكر هوركهايمر، وأدورنو، وبنيامين وكارل لوفيت، وماركوز… إلخ سمحت له بتلمس المجالات المعرفية والفكرية التي تحركوا فيها واستيعاب المفاهيم المختلفة التي وظفوها في عملية تنظيرهم للحداثة الاجتماعية والثقافية، وللعقل والثقافة الجماهيرية، وللفن والتعبيرات الجمالية، وللعلم والعلوم الانسانية وللفرد وأشكال الاستلاب. إلخ»([1]).
كانت هذه العلاقة التي ربطت نور الدين أفاية بهابرماس رأسًا، وبمدرسة فرانكفورت وروادها، سبيلاً إلى الانفتاح على قطاعات المعرفة الإنسانية كلها من دون استثناء. لا بد أن يكون النقد في جزء منه مساءلةً للبداهةِ، ورفضاً للوثوقية كيفما كانت، ولا بد أن يتضمّن في ثناياه، مراجعات لما أنتجه العقل من أفكارٍ صارت في حكمِ القواعد التي لا تقبلُ الفحص، ولكنه إلى جانب ذلك صارَ مراجعةً للعقل نفسهِ، وصارت الممارسةُ النقديةُ سؤالاً لحدود المعرفة البشرية وشرائط إنتاجها. كلمة نقد، وقبل أن نذهب بعيدا، تتضمن كما نعرف فكرة غالبًا ما المتعلقة تكون منسية، وهي وفي الوقت ذاته للموضوع الذي يهتم به في هذا المعنى يظل النقد مزدوجًا، سواء كان مرجعًا مرتبطًا بالنقد بمفهومه الكانطي أو الهيغلي بوجود أزمة. النقد كأزمة بالنسبة لنفسه، أو الماركسي، فإن عليه أن يبني ويؤسس ركائزه فيما هو يشغلها.
يرتبطُ النّقد ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة، إلى حدٍّ لا يمكنُ معهُ تصوُّر أيّ نشاط فلسفيّ إلا لجهة اتصاله بالنقدِ والممارسة النقدية. وليس النقْدُ في جوهره غيرُ النظرِ العقليّ معكوساً على المعرفة وموضوعاتها، وكما أنَّه الأداةُ التي من خلالها تعملُ الفلسفة على إعادة تنظيم بنائها المفاهيمي، وأسئلتها الجوهرية التي تجملُ ما في الذهن بحقيقة ما في الواقع، لكن هيهات أن يكون فعلُ النَّقد واضحاً بذاته، أو أن تكون أماراتهُ دالةً عليه، بل هو على النقيض من ذلكَ يثوي خلفَ حجب اللّغة، حتى يصير خفياً وغير مرئي، وتارةً أخرى تراهُ يتجلى وينبري، فلا يكاد أنْ يجاوزهُ المرء لشدّته ووضوحه. يمكن القولُ – تبعاً لما تقدّم – بأنّ العلاقةَ بين النَّقد والتفلسفِ علاقةُ تلازمٍ، بل وتضمُّن؛ إذ الفلسفةُ نقديةٌ بطبعها، وليس النقْدُ خاصًّا بالفلسفةِ وحدها، وإنّما يتخّطّاها إلى قطاعات معرفيّةٍ أخرى. ولفهم هذه العلاقة بين الفلسفة والنقد، وفهم شرائطهما المعرفية وجب أنْ نفهم أن النقد يجدِّدُ نفسهُ داخل النصّ الواحدِ مراراً وتكراراً فالنَّقدُ في “العقل المحض” لدى كانط، لا يشبهُ في شيء النقد في “ملكة الحكم”؛ لأنّ الأول يركزُ على الفكرةِ الخالصة، ومجالها الذهنيّ، والثاني ينظر في إنتاج العقل وحاستهِ.
يطلِعُنا نور الدّين أفاية في نصوص كثيرة على المعنى الواسع والشاملِ الذي يمكنُ أن يتّخذَهُ مفهوم النقدِ، ويطلعُنا، أيضاً، على المساحات الوسيعة التي يمكنُ أن تجدِّد من خلالها هذهِ الآليةُ نفسها، في شكلِ تحليل للوقائع، وتركيب بينها يسمَحُ بتفهّم المسائل التي تعيق الذات وتكبِّلها عن الفعلِ. يستحضرُ أفاية قيمة النقد من داخل المنظومة الغربية، ويعيدُ رسم معالمه منذ كانط إلى دولوز، من دون أن يمنعُه ذلك من تقديمِ رؤاهُ حول الوقائع الثقافية العربية والذات العربية بمعنى أشمل. يدركُ أفاية – جيّداً – أنَّ كل فهم لقيمة النقد يتلازمُ تلازماً ماهوياً مع فهم الدّور الذي تضطلعُ به الفلسفة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها، نسوقُ له نصًّا، في هذا المعرض، حيث يقول: «فالفلسفة ليست علما ساميا ولم تعد محكمة عليا، وليست لا مؤسسة ولا مشرعة. إذ أنه من خارجها تتشكل مضامين المعرفة، لذلك فإن التفلسف لم يعد إلا ذلك الفعل العقلي المنقب، الناقد والتفكيكي لانغلاق النصّ الفلسفي. وبذلك يصبح النشاط الفلسفي يلعب دورا «تأمليا» وبهذا النشاط فإن المعرفة، حتى في صيغتها الوضعية، ترجع إلى الذات التي تقوم بوظيفة التفكير على أن تفهم الذات من منطلق اعتبارها ذاتا خالصة، مؤسسة ومتعالية. وهكذا يمكن للمعرفة أن تفكر في ذاتها، وأن تتوحد المعارف وتتخذ معناها»([2]).
لم تعد الفلسفةُ داخلية المصدر، ولم يعد المعنى فيها كامناً وجوهرياً، بل أمسى كلّ شيء من خارجها، وباتت العلوم مانحة للمعنى، من دون أن نسوغ لأنفسنا أي إمكان للادعاء بإمكان تجاوز الفلسفة، أو القول بموتها؛ لأنها ما تزالُ تطلُّ بنفسها من خلال امتلاك القدرة على التأملِ وإعمال الفكرِ والنظرِ، إنَّ هذا المستوى من الإدراك الكلي لشرائط المعرفة، وهذا المبدأ التكاملي الذي ينظرُ إلى المعارف الإنسانية نظرةً تركيبية، هو الطابعُ الأصيلُ في فعل التفلسف الذي نشهدُ مراحلهُ، ونفكر به ومن خلاله. كان هايدغر يردِّدُ مقولتهُ الشهيرة: “العلم لا يفكر” وما يمنعُ العلم حقيقة عن التفكير هو وسائلهُ الخاصة التي تقودهُ دائما نحو الإنتاجية، ومن دون وجود صوت خارجي قادر على فهم هذه الحركية، سيغدو أي تفكير في مستقبل البشرية أمراً مستحيلا، وسيصيرُ كل شيء من دون جدوى.
اهتمّ نور الدين أفاية بالنظرية النقدية، وهو في اهتمامه ذاك يبين إلى أيّ حد تميز مفكرو هذا الاتجاه عن أقرانهم في التعامل الجدي مع قضاياهم الواقعية، واهتمامهم أيضاً بالعلاقة بين الفلسفة وعلوم الإنسان، يقول: «الفلسفة عند أصحاب النظرية النقدية لا تنفصل كثيرا عن أسئلة العلوم الانسانية، لأن هذه الفلسفة بحكم كونها نقدية وتسعى إلى صياغة نظرية في المجتمع فإنها تتفاعل مع عطاءات العلوم الاجتماعية، لكن دون التسليم بكامل نتائجها. لأن النظرية النقدية تطعن في مصداقية السوسيولوجيا المسيطرة باعتبارها غير قادرة على تقديم تصور كلي لا يغرق في الشروح التجريبية أو المنطقية ـ الاستنتاجية»([3]). لا وجود للفلسفة إلا في علاقتها بما تمدّها به العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والنفس. إلخ، هذه العلوم هي الوسائل الواقعية من أجل استمرار روح التفلسف، ومعها استمرار كل إمكانية نقدية، وفكرية.
يعترفُ أفاية أن ممارسة فعل التفلسف ليست قارّة، ولا هي عند من دَرسهم من الفلاسفة، الشيء عينهُ، إذ لا شكّ في أنّ «كل فيلسوف، من الذين يشاطرون النظرية النقدية منطلقاتها، مارس الفلسفة بأسلوبه الخاص واستنادا إلى مصادره الفكرية والفلسفية المتميزة، ولكنهم يلتقون كلهم في اعتبار الفلسفة حقلا للتفكير بالسلب وممارسة لاسلطوية تنصهر وتتداخل في صيرورتها الرغبة في المعرفة والرغبة في الحرية»([4]). وفي الحقيقة إن الاختلاف في ممارسة فعل التفلسف هو اختلاف في درجة إعمال النّقد، ضمن عمارة المشروع الذي يعملُ عليه المفكر أو الفيلسوف، وهذا الاختلاف قد تتباين صوره داخل المؤلف نفسه، وذلك يرجع بالأساس إلى طبيعة التكوين الذي تلقّاه كل فيلسوف، وإلى المجال الذي يفترضُ أنه متخصص به.
يبلغُ النقد ذروته حين يصيرُ نقداً للنقد، أو حين يُتوسلُ من أجل بيان تهافت مقولات نقدية؛ وليس ذلك بالمعنى الجدلي للكلمة، وإنما لكي نعيد إلى الذهن أن كلّ نقد هو ذو طابع تطوري، وأن من لم يخضع لمنطق التاريخ في فهم حركة الأفكار وبنياتها، فإن النقد عنده يصير وسيلة خارج التاريخ، وهو أمر يغدو ضمن المطلقات، النقد هو استيعاب لحركية التطور التي يعيشها التاريخُ بتقدمها ونكوصها، ومحاولة تقويمية، بل وإيضاح لتمفصلات المعرفة والمجتمع. لكن أي حجة هي تلك التي تقوم عليها مثل هذه الدّعوى -لدى أصحاب النظرية النقدية، بالأخص في نقدهم للعقل الأنواري – يقول أفاية: «لذلك فالعقل عند أصحاب هذه النظرية هو الحجة النقدية التي تؤسس تصورهم؛ إذ أن لا عقلانية المجتمع الراهن كانت دائما موضع سؤال بفضل الامكانية السلبية لمجتمع مغاير عقلاني بالفعل»([5]).
ثانياً: النقدُ والفلسفةُ وأفقهما الإبستمولوجي
لا بد أن الغاية من الممارسة النقدية، في نظر نور الدين أفاية، كانت الغاية من ورائها هي ممارسة الحرية في أسمى تجلياتها؛ إذ لا حرية من غير ممارسة نقدية، ولا نقد من غير عقل، إنّ هذه العلاقة قوامها تحريرُ الإنسان من كل ما يعيقه ويكبله، تحرير الإنسان من السحر، نقد العقل بواسطة العقل. لا شك أن الأمر يتعلق بمطلب أنواري، وذلك أن فلسفة الأنوار جعلت من العقل أداة جوهرية لممارسة النقد من أجل الخروج بالإنسان الأوربي من حالته السلبية والدفع به لكي يمارس حريته ويعبر عن إرادته في المعرفة وعلى اتخاذ المبادرة. ومهما يكن فإن القرن الثامن عشر قد عرف بقرن النقد، و«وكذلك برفع شعار محاربة اللاهوت والخرافات التي تكبل تفكير الانسان الاوربي وتقيد عقله، ونادت هذه الفلسفة بإعطاء الحرية للعقل، وبالقيام بنقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم وبإخضاع كل هذه الموضوعات لمحك العقل، وبالتالي الخروج بأوروبا من ظلام الجمود والظلم والأساطير إلى أنوار العقل والحرية والتقدم»([6]).
لكن يتساءلُ أفاية في هذا السياق عن الشكل الذي به استطاعت فلسفة الأنوار تقبّل نتائج الفلسفة الهيغلية. وما يلاحظ هو أن أصحاب النظرية النقدية لا يريدون التضحية بالفلسفة أمام هجوم النزعة الوضعية، بل انطلقوا من ضرورة نقدها ومحاسبة مفاهيمها. ولم يقبلوا التخلي عن السؤال أمام أنساق الأجوبة الجاهزة لهذا انتقدوا الوضعية وعملوا على تفكيك مكونات النسق الفلسفي، ولا سيما الهيغلي. «إن فلاسفة النظرية النقدية يبتدؤون تفكيرهم في مسألة العقل والعقلانية من ملاحظة أساسية وهي: أن الأنوار التي كان هدفها يتمثل في تحرير الانسان انقلبت إلى ضد ذلك تماما. إذ كرست العبودية القديمة للإنسان، وإذا كان تابعا للطبيعة في السابق فانه تابع اليوم للمجتمع، واستمرت بالتالي علاقات القوى المبنية على الخضوع والتفاوت وإقصاء الحرية»([7]). الفلسفة، إذن، أمست رهاناً لفلاسفة المدرسة النقدية، وصاروا أمام مهمتين اثنتين: مواجهة الوضعانيين، ومراجعةُ الأنساق الكبرى وبالأخص الهيغلية.
ما ينبّهنا إليه أصحاب النظرية النقدية، هو ما آل إليه الإنسان الغربيّ من خلال ما أنتجه التطور الأعمى للعقل الأنواريّ، لقد فقد هويته وصارت لغته أداةً لتكريس الواقع لا لنقده ونفي أصنامه. إنَّ فقدان وظيفة اللّغة هو فقدان لحقيقة الفكر الداخلية، وللقدرة على الاعتراض والرفض، وأدى إلى ضياع الفكر النقدي، وكل ذلك لحساب المجتمع الصناعيّ، الذي أصبح قادراً على تحجيم وتقزيم دور الاعتراض والاختلاف. «ففلاسفة النظرية النقدية عملوا على الكشف عن فظاعات العقلنة في النظام الاجتماعي ولكن منطلقين من أرضية العمل العقلاني لأنهم يسلمون بأن العقلنة أصبحت «محايثة لتطور البشرية»، غير أنها استعبادية أكثر مما هي تحررية بسبب كونها أفرزت عالما صارما في ضبطه الاداري يلغي الاختلافات ويستبعد ما هو خاص وينزع عن الفرد كل دلالة»([8]).
إن فلاسفة النظرية النقدية في عملية نقدهم للمجتمع الحديث وللعقلانية التي أسسته، يتفقون، كلهم، على أن أزمة العقل تتجلى، بشكل صارخ، في أزمة الفرد. وأمام هذه الأزمة المزدوجة تنفضح أوهام الفلسفة التقليدية بخصوص الذات وحرية الفرد، ذلك أن هذه الفلسفة، منذ ديكارت، كانت تنظر إلى العقل باعتباره أداة في متناول الآنا. أما الآن فإن هذا التأليه للذات كما يقول هوركهايمر، لم يعد ممكنا لأنه في الوقت الذي يريد فيه العقل الوصول إلى الاكتمال يصير لاعقلانيا، بل و «متبلدا». وبالتالي فإن ما يبدو أنه همٌّ شغل بال أصحاب النظرية النقدية يتمثل في إنقاذ الخصوصية الفردية، أي الطبيعة «الداخلية» للفرد، من السيطرة المجردة للمفهوم «والتجريدات الأسطورية مثل الكلية الهيغلية، وماهية هوسرل ووجودية هايدغر، بدون المساهمة في تذويب الفردانية في الصوفية اللاعقلانية، المستغلة من طرف الفاشية».
وما دام فلاسفة النظرية النقدية يربطون بقوة بين أزمة العقل وأزمة الفرد في المجتمع الحديث، فإنهم أيضا يؤكدون على التلازم العضوي بين انحطاط العقل وانحطاط الفرد. ذلك أن تصفية الفرد، أولا من طرف الفاشية، ثم من طرف الرأسمالية المتقدمة أدت، من منطلق معاناة خصوصية، بفلاسفة مدرسة فرانكفورت إلى القول بأن الدولة الكليانية هي نتاج التنظيم اللاعقلاني للمجتمع الرأسمالي وبأن الشر الاجتماعي يتماهى مع السيطرة. لكن كيف يمكنُ رصدُ معالم ابيستمولوجيا النقد في هذا المشروع الذي يعيدُ التفكير في طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؟ لكن قبل ذلك ينبغي أن نقول إنه لكي نفكر ابستمولوجياً في قضيةٍ ما، فإنه ينبغي أن نجترح البنى الأولية التي صاغت فلسفة النقد، وهو عينه ما قام به الأستاذ نور الدين أفاية بكثير من الإسهاب في كتابه: “الحداثة والتواصل: في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس” (1991).
ليست الفلسفة خطاباً معزولاً عن الواقع، ولا هي نوع من الكلام الأجوف الذي يتجاوز واقع إنتاجه، وإنّما هي جزء من تركيبة اجتماعية وثقافية، تحدّد طبيعة العلاقة بين ما يمكنُ اعتبارهُ ضرورةً تاريخية وما يمكن أن يكون إرادةً فرديةً خالصةً. يلاحظ نور الدين أفاية أن فلاسفة النظرية النقدية الأوائل كان يسكنهم هاجس أساسي يتمثل أولا؛ في جعل النقد أسلوبا رئيسيا في النظر إلى الأشياء والأفكار والأحداث، وثانيا؛ في التبرم من كل نزعة نسقية تستهدف الدمج والاحتواء، وثالثا؛ في الابتعاد عن كل استقطاب مؤسسي لا سيما مؤسستي الدول والحزب. هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم يفصلوا بين الممارسة الفلسفية وبين مختلف العلوم الاجتماعية باعتبارها علوما نقدية لا تصالح الواقع كما تريدها النزعة الوضعية.
ما ينبئنا به نور الدين أفاية هو أن قراءة هابرماس تستطيعُ إعادة تعريفِ الفلسفة وأدوارها الراهنة، إن الفلسفة لم تعد مجرد تمرين للتفكير حول ذاتها، لأنها أصبحت عاجزة عن تأسيس فكر نسقي. وأمام هذه المظاهر الغامضة لدمار هويات الجماعات والهويات الشخصية التي تكونت داخل حضارات كبرى، فإن فكرا فلسفيا ذا تأثير وفي تواصل مع العلم لا يمكنه أن يعبئ إلّا تلك الوحدة الضعيفة للعقل، أي وحدة الهوية واللاهوية التي تسمح بحدوث المناقشة العقلانية. يلاحظ هابرماس أن مبادئ الفكر الموضوعي والممارسة العقلانية قد تم بالفعل، اكتشافها داخل التراث الغربي، أي في إطار المجتمع البورجوازي، وفيه شهدت تطورا ملموسا، ولكن هذا الاكتشاف الغربي ليس سببا كافيا لاعتبار هذه المبادئ، التي هي مميزات خاصة بثقافة محددة قابلة لفرضها على كافة مناطق المعمور: «إن هذا التأويل للذات وهذا الدفاع عن الذات اللذان يتكرس لهما العقل، هما قضية الفلسفة»([9]).
إن الموضوع الأساسي للفلسفة هو «العقل» في نظر هابرماس، لأن الفلسفة، منذ بداياتها، تحاول أن تفسر العالم في شموليته، وتعدد الظواهر في وحدتها. ومن أجل ذلك فهي تستعين بالمبادىء التي يتعين اكتشافها في العقل نفسه. ولذلك إذا كان هناك شيء تشترك فيه المذاهب الفلسفية، فهو التفكير في الكائن أو في وحدة العالم من خلال تفسير للتجارب التي يقوم بها العقل.
وإذا كان للنقد من وظيفة تذكر فهي تلك التي مارسها هابرماس في مواجه الفكر العلموي، إن الخلاف الجوهري بين هابرماس وبين النزعات الوضعية يتمثل في الموقف من العلوم التجريبية، ومن الدور الايديولوجي الذي تؤديه هذه النزعات داخل المجتمع الصناعي المتقدم، ومهما أكد الوضعيون على الوظيفة المحايدة للعمل في المجتمع الديمقراطي، وعلى الموضوعية التّامة لعملياته ونتائجه، فإن هابرماس يعتبر أن موضوعية التجربة العلمية نفسها تتجذر داخل لحظة تتداخل فيها الذوات وتتفاعل من خلالها اللغة المشتركة. وهذا وحده كاف لفرض مشروعية المنهج التأويلي على الوضعية، ما دامت كل مقاربة عقلانية، بما فيها مقاربة العلوم التجريبية – التحليلية، تجد نفسها، كذلك موضوعة في الأفق القبلي للتفهم داخل اللغة المشتركة.
ثالثاً: من نقد المعرفة إلى نقد الذات
لا يستقيمُ الحديث عن الفكر النقديّ من دون التفكير في مرجعياته وأسسه التي قام عليها، وما يلاحظ أن التفكير النقدي قد بلغ مداه في الاتجاه الأنغلوسكسوني حتى صار عنواناً لمدرسة وتيار في الفلسفة التحليلية الأمريكية التي أولت اللغة عنايةً خاصّة. لكنّ هذا الأمر مختلفٌ تمام الاختلاف حين يتعلق الأمرُ بالفلسفة القارية والتداول الفكري الأوروبي، والذي تأثر النقد فيه بعوامل فكريّةٍ حاسمة أساسها العقلانيةُ التي طبعت الفكر النقدي بطابعها الخاصّ، وإن لم تسلم هي الأخرى من النقد الذي مارسته. الفكر النقدي فكر ناقد لذاته في الوقت نفسه الذي يوجه أسلحته لما هو خارج عنه، يستند إلى السؤال، يستشكل الأفكار والمفاهيم، يخلخل طمأنينة العادة، ويعاند الركون إلى التكرار السطحي والفكر المُعلب. وسواء كان محكمة، أو محاسبة جدلية، أو مطرقة، أو استراتيجية تفكيك، فهو يعمل بلا توقف، على تجذير الروح النقدية في الفكر والنظر، وعلى بناء الكفاءات الذهنية والمعارف المناسبة لممارسة الفعل النقدي على الذات والسلطة، والمؤسسة، والتاريخ([10]).
لكن ما ينبّهنا إليه المفكر نور الدين أفاية هو ضرورة النظر في أهمية النقد في المراحل الحاسمة من حياة الشعوب والحضارات، وبالأخص في اللحظات التي تكون فيها أمام أزمات حادّة ومفترقات طرق، وحيثُ يصير كلّ شيء موضع سؤال وتفكير.
نقرأ في ما كتبه نور الدين أفاية ما يلي: «في كل مرة يهتز فيها الكيان الحضاري لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، أو حتى فئة اجتماعية داخل المجتمع الواحد، يبدأ نظام العلاقات والقيم في التخلخل وطرق التصور والتنظيم في التبدل، ويبدأ في الآن نفسه حديث الهوية بالبروز، وتكثر التأويل وتتعدد المعالجات كل حسب موقعه ومرجعياته ونمطه في التعبير. غالباً ما يتم الحديث عن الهوية في ظروف هذا الاهتزاز، من منطلق ذات معذبة تعاني. مأساة ضياع تفاصيل مكوّناتها، ويؤشر إلى أزمة رمزية ووجودية. وفي سياق هذا التحول الذي يتهدد السائد، تنتعش الميتافيزيقا ويزدهر الشعر والأدب، ويظهر الخطاب الديني، بقوة، مطالباً بحقه في الحديث عن الهوية والانتماء. وفي الحالات جميعها، يشي خطاب الهوية، ولا سيما حين يتخذ صيغاً مأساوية تضخيمية، باختلال في الدلالات والقيم، وباهتزاز عميق في المعاني»([11]).
هذا النصّ، وعلى طوله، يكشف عن الدور الذي يمكن أن يلعبه النقدّ في سياق التفكير في الحضارة، والتعاطي الموضوعي مع سياقاتها المتغيرة. وإذا كان النقد إجراء نظرياً وعملياً تساوق مع الثقافة الغربية منذ عصر النهضة، ووجد تتويجه التاريخي في زمن الأنوار والمنظومات النقدية التي شرعت، إيبيستيمولوجياً، للاتجاه النقدي، فإن الفكر العربي الحديث لم يؤسس نظرية في النقد، أو على الأقل لم يحدد موقع النقد ودلالاته، كأداة وكمفهوم في ممارساته النظرية المختلفة المنطلقات والمناهج والرؤى. قد نجد بعض صيغ الاحتجاج والمؤاخذة أو المطالبة بالإصلاح والتغيير والثورة، سواء بالدعوة إلى الرجوع إلى الماضي، أو إدخال قيم الغرب وطرقه في التنظيم المؤسسي، أو الاشتراكية أو الاندماج الوحدوي للوطن العربي، غير أن المنطلق الأيديولوجي يبقى في جميع الحالات، طاغياً على الأدوات المعرفية والأساليب المنهجية، ويفرض الإيمان المذهبي، ويُغيب المفاهيم والأشياء([12]).
سيطرت على فكر العروي نزعة نقديةٌ – على حدّ تعبير أفاية – في الأيديولوجية العربية المعاصرة وصلت إلى مستوى جذري قوي الدلالات، حيث قال: نودع نهائياً المطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا، لا أمامنا، وأن كل تقدم إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي، وأن العلم تأويل أقوال العارفين، وأن العقل الإنساني يعيد ما كان ولا يبدع ما لم يكن، وبذلك نتمثل لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية تمليها ممارسات الجماعات المستقلة، وتتوحد شيئاً فشيئاً عن طريق النقاش الموضوعي والتجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي، فرداً كان أو جماعة، أنه يملك الحقيقة المطلقة عن طريق الوحي والمكاشفة، ويفرضها على الآخرين([13]). بقدر ما يجب أن ينصب النقد، عند العروي، على الوعي العربي الذي لا يرقى إلى واقع المرحلة، يتعين أن يتوجه إلى التشكيلة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، وأنماط السلوك التي تحول دون الممارسة الواعية للنقد.
أما عند الجابري فالنقدُ مرتبط ارتباطاً عضوياً بمشروع النهضة. لكن «غياب نقد العقل في المشروع الذي بشر به مفكرو الجيل السابق قد جعله يبقى مشدوداً إلى ما قبل، على الرغم من كل الأهداف والمطامح التي غازلها أو ألح في تبنيها. كما أن غياب نفس النقد في مشروع الثورة – «النهضة» الذي نحلم به نحن اليوم قد جعله يبقى على الرغم من كل الألفاظ والعبارات الجديدة التي نتحدث بها عنه امتداداً لنفس المشروع السابق، مشروع «النهضة» التي لم تتحقق بعد([14]).
لقد سبق للفكر العربي الحديث والمعاصر أن شهد دعوات إلى النقد، مثل محاولات طيب تيزيني، وحسين مروة، وحسن حنفي، وأدونيس، وعبد الله العروي، و هشام جعيط وآخرين. لكن محاولة الجابري – ومحمد أركون في مجال «نقد العقل الإسلامي – تستهدف تأسيس نظرية في النقد من خلال «نقد العقل العربي»، والكشف عن مكونات أساسياته المعرفية، سواء في التراث العربي – الإسلامي أو في الخطاب العربي المعاصر، معتبراً أن «نقد العقل جزء أساسي وأولي في كل مشروع للنهضة. ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن. وهل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه؟([15])
المشروع النقدي للعقل العربي الذي يقوم به الجابري، لا يمكن أن لا يذكر المرء بالنقدية الكانطية في نقد العقل الخالص والعملي. ونحن إذ نسجل هذه الملاحظة، فللإشارة إلى أن كل مشروع نقدي من هذا الحجم، في ظل ظرفية تاريخية وفكرية محدّدة، يستهدف محاكمة آليات العقل، يرتبط أساساً بمطلب نهضوي ويتغيَّا إشاعة الأنوار([16]).
في حين، يصرُّ ناصيف نصار على مفهوم «الاستقلال الفلسفي» سواء بالقياس إلى تاريخ الفلسفة أو باستدعائه لقاموس فلسفي من قبيل، التفلسف، وفعل التفلسف، والوجود الإنساني والتاريخي والعقل الفلسفي، ومحبة الحكمة، ومشكلة العمل، وخلق الذات بالذات… إلخ، فإنه في كتاب الاستقلال الفلسفي لا يتردد في إدراج ما ينعته بـ الفكر الأيديولوجي العربي الحديث في صميم الفكر الفلسفي، باعتبار أن هذا الفكر طرح وتناول قضايا كـالحرية، أو الاستبداد، أو المساواة، أو العدالة، أو التقدم؛ فضلاً. عن أنه يوجد عند زعمائه صفات أخلاقية وفكرية هي من صفات زعماء الفكر الفلسفي، كصفات الصدق والإخلاص، والاجتهاد، وفي ربط النظر بالعمل.
***
يمكنُ القول، في الأخير، بأن الرهان الذي يضعنا أمامهُ نور الدين أفاية يرتبطُ بمستويين، الأول يكون معهُ النقد أساساً للتفكير في معنى الإنسان، وشكلاً من أشكال استمرارية فعل التفلسف؛ والثاني يهم نقد الذات والذي لا يمكن تحقيقه إلا بالانخراط الكليّ في المشروع النقدي الذي تعدُنا به الفلسفة.
المراجع:
[1] – الحداثة والتواصل، ص8.
[2] – الحداثة والتواصل، ص20.
[3] – الحداثة والتواصل، ص23.
[4] – الحداثة والتواصل، ص26.
[5] – الحداثة والتواصل، ص27.
[6] – الحداثة والتواصل، ص28.
[7] – الحداثة والتواصل، ص30.
[8] – الحداثة والتواصل، ص33.
[9] – Jurgen Habermas, Aprés Marx, Paris, Ed Fayard, 1985, P309.
[10] – في النقد الفلسفي، ص12.
[11] – ص149.
[12] – ص154.
[13] – ص158.
[14] – ص160.
[15] – ص161.
[16] – ص164.