تكوين
ابن رشد: المدخل إلى العقلانية الإسلامية:
ليست مبالغة أن يكون ابن رشد هو عنوانٌ لفترة زمنية كان فيها الإسلام في أوجِّ حضارته، وكانت المعارف والعلوم والفلسفة قد عرفت تقدمًا كبيرًا بالنسبة لمسلمي ذاك الزمان. لم يكن ابن رشد فقط هو ذلك الفيلسوف المسلم الذي جَسَّدَ العقلانية الإسلامية في أبهى صورها وتجلياتها، بل أيضًا هو ذلك الإنسان العالم الفيلسوف والأديب والطبيب الذي جَسَّدَ الموسوعية الفكرية والعلمية عند القدماء، حتى لا يعتقد البعضُ بأن العقلانية أو تياراتها المختلفة حكرًا فقط على المتقدمين من الناس، فلا بُدَّ أن نميزَ في هذا الأمرِ بين السلفية والتَسَلُّف، فالسَّلَفُ مدارسٌ متعددةٌ وفيهم من هو أعلمُ منا بكثير، أما التَسَلُّفُ فهو المشكلة التي ابتلي بها الفكر الديني الإسلامي، حتى أصبحنا غير قادرين على تجاوز ما صنعهُ وأنتجهُ القدماءُ باعتباره منتهى العلم والمعرفة، في حين أنَّ التراكم الإنساني، والمكتسبات البشرية لم تقف عند حقبة زمنية، أو أشخاص بعينهم أحالهم الزمان إلى مقولات عابرةٍ للحدود والعقل والفطرة الإنسانية.
إنَّ الوقوفَ عند ابن رشد هو وقوفٌ عند تاريخ من محنة رجل، اختار أن يكون التعقلُ والعقلانية سبيلًا لفهم الدين، وقد أُوذيَ بشكلٍ كبيرٍ، وحوربَ بسبب أفكاره وعاش النكبة الفكرية والاضطهاد الإنساني في أبشع صوره، خصوصًا ونحنُ سنتحدثُ عن نكبةٍ من نوع آخر؛ نكبةُ ابن رشد ميِّتًا، إذ أن المتعارفُ عليه في الأوساط الدوغمائية، والأيديولوجيات المغلقة أنَّ النكبة والاضطهاد الفكري ينتهي بموت المفكر والفيلسوف، وتغلق صفحة من صفحات التسلط الإنساني العابر للحدود، ولكن مع ابن رشد لم يكتف الخصوم باضطهاده حيًّا، بل واصلوا المسيرة إلى أبعد من ذلك، حينما تخلصوا من جثتهِ في اتجاه قرطبة، ووضعوا بديلا عنه وهو أبو العباس السبتي، بما تحمله هذه الشخصية المتصوفة من أبعاد رمزية سنكشفُ عن بعض جوانبها هذه المقالة. ولكن قبل أن نخوض تجربة هذه الرحلة المثيرة يمكننا أن نطرح التساؤل التالي:
لماذا ابن رشد؟
لا بُدَّ من التذكير بأنَّ ابن رشد هو علامةٌ فارقةٌ في تاريخ الفكر الإسلامي، ومهما بدا للمشتغلين بالحقل التراثي اليوم بأن ابن رشد هو عنوان لمرحلة قد انتهت، وبأنَّ الحاجة إليه لم تعد مُلحةً في واقع إسلامي ما يزالُ يُكرِّسُ كُلَّ القيم الرجعية والسلفية الأصولية، فعلى العكس من ذلك، فعند البحث في التراث أو لنقل بشكلٍ أدق في المراحل المستنيرة منهُ، يمكنُ أن يضيءَ لنا بعضُ العتمة في طريقة التعاطي المعاصر مع قضايانا، خصوصًا عند التيارات والتوجهات الأصولية، الرامية إلى إعادة إحياء التراث بطريقة جامدة يصعب الانفصالُ عنها، أو الانخراط دونها في كل ما تفرضهُ الضروراتُ الإنسانية أو المستجداتُ والمتغيراتُ والتحولاتُ المعاصرة. وإذا أعدنا السؤال لماذا ابن رشد من جديد؟ يمكننا أن نَتَلَمَّسَ الجواب التالي: ([1]) وهو أنَّ ابن رشد يتميزُ عن غيره من المفكرين والفلاسفة المسلمين بالمميزات التالية: أولًا، ابن رشد يُعدُّ من أبرز الفلاسفة العرب وأهم المفكرين في تاريخ الإسلام. ثانيًا، يُعتبرُ أيضًا من أعظم الحكماء في القرون الوسطى. وقد أسس مذهب الفكر الحر، مما أكسبهُ احترامًا كبيرًا في الأوساط الأوروبية، حيثُ وضعوهُ في مصاف الفلاسفة الذين يعارضون العقائد الدينية التقليدية، وقد خصصَ (ميخائيل أنجلو) لهُ مكانًا في عمله الفني الشهير، مشيرًا إليهِ بوصفه فيلسوفًا حر الفكر. و(دانتي) أيضًا لم يغفل ذكره في قصيدته، مما يُبرزُ تأثيرهُ العميق في الفلسفة. ثالثا، علاوةً على ذلك، تُعتبرً أصوله الأندلسية إضافةً قَيِّمَةً إلى تراثهِ الفكري. تتمتعُ الأندلس بتاريخٍ وآثار خاصًة تُميزها في سياق العالم، وتُظهرُ كيف يمكنُ أن تؤثر الخلفية الثقافية في تشكيل عقليةٍ تجمعُ بين النزعة الشرقية والإنجازات الغربية.
وُلد ابن رشد، المعروف في العالم الغربي باسم (أفيرويس)، عام 1126 في قرطبة، الأندلس، ويُعتبرُ من أعظم الفلاسفة والمفكرين في التاريخ الإسلامي. تَركَ أثرًا عميقًا في مجالات الفلسفة والطب والعلوم الطبيعية، حيثُ عُرفَ بمزجهِ بين المعرفة العقلانية والإيمان الديني. وتَتْبَع دراستهُ مسارًا غير تقليدي، ليتجاوز حدود الفلسفة ويدخل في مجالات الدين والطب والمجتمع.
إنَّ الظروف التي عاشَ فيها ابن رشد تُوحي بنشوئهِ في عائلةٍ عريقةٍ معروفةٍ بالعلم والموسوعية في المعرفة، خصوصًا أنَّ والدهُ كان قاضيًا في قرطبة، مما أتاح لهُ التعلم في بيئة مثقفة. أمَّا جدهُ فهو المعروف بابن رشد الجد، أو ابن رشد الأكبر، من مواليد قرطبة، ويُعتبرُ إحدى الشخصيات البارزة في زمانها، لما عُرفَ عنهُ في مجالي الفكر والثقافة الإسلامية في القرن الثاني عشر. عُرفَ بلقب “القاضي”، لشغلهِ منصب قاضي المدينة وكان له دورٌ كبيرٌ في تعزيز القيم العدلية والفقهية. كما أنَّ المناخ الثقافي في الأندلس أثَّرَ فيهِ، وأسهمَ في إغناء الفكر الإسلامي من خلال تشجيعه على دراسة الفلسفة والعلوم. الشيء الذي جعل عائلته تمتلك تقاليد علمية راسخة، وهو ما أسهم في تكوين ابن رشد حفيده ليصبح واحدًا من أعظم الفلاسفة في التاريخ العربي الإسلامي.
لم يكن ابن رشد الحفيد ذلك الفقيهُ التقليديُ بالصورة التي تَجلت في الفقهاء القدماء أو المعاصرين، بل إنه الفقيه الموسوعي العارف بالجزئيات والتفاصيل، على الرغم من أنهُ درسَ الفقه على يدِ كبار الفقهاء والعلماء في زمانه، كما تَعلمَ الطب والفلسفة وتأثرت كتاباته وشروحاته بالفلسفة والفلاسفة اليونانيين الكبار أمثال (أرسطو وأفلاطون). ثم انتقل إلى إشبيلية، وعُينَ فيها طبيبًا للسلطان المعتمد بن عباد، الذي كان يدعم العلوم والفنون، مما ساعد في ازدهار فكره.
نكبة ابن رشد أم نكبة العقل؟
حينما نستحضرُ التاريخ نجدهُ مليئًا بتجاربِ النكبات، وكل نكبة تدفعك لقراءة مثيلاتها، أي أن الأشخاص تتغير، كما تختلفُ الوقائع والأحداث، وتتعدد أسباب الأزمات والنكبات، ولكن النكبة دومًا هي نكبةُ العقل المسلم قديمًا وحديثًا، نكبةٌ لا تريد أن تتوقف ونحن أمام عقلٍ جمعيٍّ يطاردُ كل تفكيرٍ خارج الأنساق الجمعية المتعارف عليها. إذًا لم تكن نكبةُ ابن رشد نكبةً فقط لابن رشد الإنسان، فالتاريخ مليءٌ بالنماذج المماثلة، ولكنها نكبةُ العقل تتجدد في كل زمان ومكان، وبصيغٍ تُعبرِ عن نفسها بطرقٍ مختلفةٍ وفقَ الظروف والوقائع. إنها تجربةُ العقل المنفتحِ كما أشار إليها جمال علي الحلاق ([2]) وهو يقاربُ موضوعًا من المواضيع المثيرة في تاريخ الاجتماع البشري، أي كيف تطاردُ المجتمعات من لا يسايرُ خُطها، وما تعارفت عليه سياساتها؟ فالجنونُ ليس فقدانًا للعقل فقط، إنهُ أكثر من ذلك بكثير، حينما يصيرُ الأداة الوحيدة لقياس كل ما هو مألوف أو غير مألوف داخل منظوماتنا الثقافية، لهذا أنت مجنون ما دُمتَ لا تستقيم داخل خطاطة دينية أو سياسية مرسومة سلفًا. كل هذا لا يُهم، الأهمُّ هو ما قالهُ سعيد بنكراد ([3]) في ترجمته لكتاب “تاريخ الجنون” (لميشال فوكو)، وهو أنَّ الإنسان يحتاجُ إلى جنون الحب للحفاظ على النوع، ويحتاجُ إلى جنونِ الطموح لضمان سَيرٍ جَيدٍ لنظام سياسي، ويحتاج إلى جشعٍ لامعقولٍ من أجلِ إنتاجِ الثروات. وكأن هذه الحياة لا تعاشُ إلا إذا غَدت جنونًا.
تجربة ابن رشد يمكنُ قراءتها في هذا السياق من محنة العقلِ المنفتح، تلك المهمَّةُ الصعبةُ إن لم نقل المستحيلةُ في مجتمعات الانغلاق الثقافي. لا يشعرُ بصعوبتها إلا من خاضَ تجربة ومغامرة الانفتاح المُكسِّرِ لجنون الانغلاق والإيمان المطلق بالموروث والتَّقاليد، والانحياز التامُّ للمسبقات. لأنَّ المنفتح لا محيط له، تمامًا كالسَّهم المنطلق في الفضاء.
إنَّ فَهمَ التحديات التي يُواجهها العقلُ المتحررُ حين يتجاوزُ حدود المألوف ويتحدى الأفكار السائدة، يجب عليها أن تُفهم في إطار صراعٍ دائمٍ ومستدامٍ مع الواقع الاجتماعي. ولعلَّ الوسيلةُ الفضلى التي يمتلكها هذا العقل من أجل الانطلاق، نجدُ السؤال بوصفهِ خطوة أولى نحو الانفتاح. فهو المُعبرُ عن الرغبة في البحث عن أفقٍ جديدٍ، يتجاوزُ الحقائق التي ترسمها الجماعة وتدعمها الثقافة وحراسها. كما يمنحُ السؤال للعقل قدرةً على التميز والابتعاد عن الجمود الذي يقيدُ الإبداع ويخنقُ حيوية الفكر. إنه ما يمنح الإنسان فرصة العيش مع الآخرين دون الانصهار في قوالبهم الفكرية أو الانحراف خلف تقاليدهم الثقافية. يكفي أن تَطرحَ سؤالاً لتجد طريقك نحو تواصلٍ عميقٍ مع ذاتك، حيثُ تتجلى أمامك رؤيةٌ لا يمكنُ للعقل المغلق أن يدركها. وهنا، يتحررُ الإنسان بعقله المتفتح، ويستطيعُ التواصل مع الجميع دون أن تغلبه شعاراتهم أو تجرَّه إلى مركز ثقلهم الثقافي والفكري. ويقدم الكاتب (الحلاق) تحليلاً لتجربة العقل المنفتحِ، مستلهمًا أفكار (نيتشه) الذي رأى أنَّ الفردَ المنعزل يغوصُ في أعماق ذاته، ويستمدُ منها قوتهُ بشرط أن يكون هذا الانعزال تعبيرًا عن الامتلاء الذاتي. هذا التطابقُ العميقُ مع الذات يسمحُ للإنسان بأن يطرح نفسهُ كونهُ مشروعًا إنسانيًا يسعى نحو هدفٍ أسمى، باحثًا عن معنى وجوده وحضوره في العالم، في محاولة للتعبير عن قلقه الداخلي. وعندما تشعر هذه الذات بنفاد غايتها، أو أنَّ وظيفتها قد انتهت، تخرجُ عن السائد مرةً أخرى في حركة مستمرة بلا نهاية.
تتجسدُ هذه التجربة في أعمال العديد من العلماء والمفكرين الذين تحدوا الأنماط السائدة، مثل (الرصافي) في دراسته للشخصية المحمدية أو (دان براون) في استكشافه للرموز الدينية أو (حسين مردان) في تعليقه على نصوص “نشيد الإنشاد” المقدس. هذه الأمثلةُ وغيرها تعكسُ قلقَ العقل المنفتح من تكرار نفسه، حيث يرى في التكرار موتًا للذات واستسلامًا لنمطية مفروضة، فالذاتُ المنفتحة تخشى الانغماس في الآخرين وتخافُ من التحول إلى كِيانٍ عديم القيمة، وهي في صراعٍ دائمٍ مع النمطية والتقليدية. وفي تساؤل (الحلاق) حول تجربة (كافكا)، يقول: “هل شعر كافكا بالخوف من دخول ذاته باعتبارها فخًا؟ هل أدرك أن تجربته الشخصية قد تكون خطًأ؟ لماذا طلب حرق أوراقه؟”. ربما كان (كافكا) أقل شجاعة من (أبو حيان التوحيدي) الذي أحرق كتبهُ بنفسهِ. فإحراق كتاباتك يعني أنك تريدُ التخلص من الوقوع في فخ التعليم المتكرر، وكأنك تقول إن الحقيقة لا تأتي من الآخرين، بل من الذات، وهذا يختلفُ جذريًا عن إحراق الكتب الذي تَعرضَ لهُ بعضُ العلماء على يد آخرين، كما حدث مع (ابن رشد وطه حسين وجيوردانو برونو). ويرى (الحلاق) أنَّ الأفكار لا تحترقُ. فالحرقُ ليس سوى وسيلةً لشحن الطاقة الكامنة في الأفكار وتسريع إطلاقها. إن العقل المنفتحُ لا يمكن تقييده أو حصاره، لأن الأفكار بطبيعتها حرة ومنفلتة، خصوصًا عندما يكونُ حاملوها قادرين على استكشاف الممكن والتفاعل مع الواقع بوعي عميق وهدف واضح.
إنَّ التساؤل بهذه الصيغة: نكبة ابن رشد أم نكبة العقل؟ يُحيلنا إلى هذه الأزمة الإنسانية، فابن رشد الذي لقى حظوة حقيقية لدى أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كما يقول الجابري، هو نفسهُ الذي لاقى النكبة والأزمة مع ابنه يعقوب المنصور، فما الذي اختلف إذن؟ لا شيء فقط النظرة إلى العقل، والفكر والنظر. ابن رشد، المعروف الذي كان يُعتبرُ واحدًا من أبرز الفلاسفة في التاريخ الإسلامي والعالمي. بعلمه ومعرفته وشيوع فقهه، تَحولَ بسبب تغير الأحوال وسيادة الكهنوت الديني والسياسي، إلى شخصٍ غيرُ مرغوبٍ فيه مقموعٍ فكريًا، بسبب آرائه وكتاباته. ففي القرن الثاني عشر، شَهِدَ المجتمعُ الإسلاميُ صراعات شديدة بين الفلاسفة واللاهوتيين، أو صراعًا بين العقل والنقل بشكلٍ أدق. وكان من أبرز مظاهر هذا الصراع بروز تيارٍ قوي من المحافظين والتقليديين، الذين يرونَ أنَّ الفلسفة مجالٌ مُهددٌ للدين والعقيدة. ومعلومٌ أنَّ ابن رشد كان في صُلب هذا الواقع المأساوي، حيثُ كانت كتاباته تجنحُ إلى محاولة التوفيق بين الفلسفة والعقيدة الدينية أو بين العقل والإيمان. الشيءُ الذي تجلى بشكلٍ أوضحَ في عملهِ على تفسير أفكار أرسطو، مما ساعد على نقل الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، ومن ثمَّ إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن هذه الأعمال بدلًا من أن تكون موضع تقدير، ردَّ عليها بعضُ العلماء والدعاة بطريقة عنيفة.
إنَّ نكبةَ ابن رشد نكبةُ العقل المنفتح، نكبةُ إحراق الكتب وفقدان جزء كبير من تراث فكري إنساني. وهي العلامةُ على بداية انحسار الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي. ورُغمَ عودته إلى قرطبة، لم يستطع استعادة مكانته أو إحياء التراث الذي دُمِّرَ. وبعد وفاته استمر تأثير ابن رشد، لكن محنتهُ كانت درسًا قاسيًا لتبعات الصراع بين العقل والإيمان. على الرغم من التحديات التي واجهها ابن رشد ظلَّ إرثهُ حيويًا، وتأثيرهُ يمتد إلى الفلاسفة الأوروبيين في العصور الوسطى وعصر النهضة. وتحولت أفكارهُ إلى محور النقاشات الفلسفية في الغرب، مما يُبرز أهمية فكرهِ في العالم المعاصر.
نكبةُ ابن رشد ميّتًا: كيليطو قارئًا المشهد المأساوي ([4])Haut du formulaire
قبل أن نتحدث عن نكبة ابن رشد يَجدرُ بنا في هذا المقام أن نتحدث قليلًا عن عبد الفتاح كيليطو، وهو أحدُ النقاد والكتاب الكبار في الأدب العربي، خصوصًا في مجال الأدب العربي الكلاسيكي والنقد الحديث. تتميزُ أعمالهُ بتناولها موضوعات الأدب العربي الكلاسيكي بطرق حديثة وغير تقليدية، فيدمجُ بين التراث والحداثة بأسلوب تحليلي عميق يجمعُ بين النقد الأدبي والفلسفة والتاريخ. ويعدُ كتاب “لسان آدم“ من أبرز أعماله التي تميزت بأسلوبها العميق والمركب. وفيه يعالجُ ويَدرسُ (كيليطو) مسألة اللغة والهوية من خلال نظرة فلسفية وأدبية، مستندًا إلى قصة خلق الإنسان وأصل اللغة كما وردت في الكتب السماوية. كما يطرحُ فيه فكرة أن اللغة ليست فقط وسيلةً للتواصل، بل هي جزءٌ أساسيٌّ من الهوية الإنسانية. يفتحُ كتاب “لسان آدم” نقاشًا فلسفيًا عن اللغة الأولى التي تحدث بها الإنسان، هل هي لغة معينة أم مجموعة من اللغات؟ وكيف أثرت هذه اللغة الأولى في بناء الإنسان لهويته وتواصله مع الآخرين؟ ويشيرُ عنوانهُ إلى قصة النبي آدم، الذي وفقَ الرواية الدينية، كان أول من تحدث لغة معينة. ومن هنا ينطلق (كيليطو) للتأمل في مفاهيم مثل اللغة والهوية والتعددية اللغوية.Bas du formulaire
وخلال هذا الكتاب يُوردُ كيليطو نصَّا عنBas du formulaire
وخلال نصا سامعس (ترحيل ابن رشد)، يتحدثُ فيه عن حادثة ترحيل ابن رشد من مراكش إلى قرطبة سنة 1199م. والغرضُ هو معرفةُ خلفيات هذا الترحيل ودلالاته ورمزيته. ولكن قبل ذلك دعوني أسرد لكم هذا الترحيل انطلاقًا من الكتاب السابق.
يقول (كيليطو) بأنَّ الموكب “سارَ طوال أيام وأيام عبر الجبال والوديان حتى البحر المتوسط، ثم، بعد أن قطع المضيق، تابع سيره البطيء والشاق حتى عاصمة الأندلس. هناك دفنت جثة، جثة ابن رشد”. وهو دفن ثانٍ، لأن الإمام دفن شهورًا قبل ذلك في مراكش، هو الذي كان يتأرجح بخصوص حشر الأجساد”.
هذا الترحيلُ قد يُنظرُ إليه من زاويتين: الأولى، أنهُ تكريمٌ لهذا الرجل بإرجاعه ليُدفن في مسقط رأسه قرطبة. والأخرى، أنَّ جُثة ابن رشد لم يكن يُنظر إليها بوصفها منبعًا للكرامات والنعم، فلم يُحتفظ به في أرض الكرامات وطُرد من جنوب المتوسط وجِيءَ بجثةٍ أُخرى مكانهُ وهي شخصيةٌ معروفةٌ بالكرامات، إنها شخصيةُ (أبو العباس السبتي) صاحب كتاب (التَشَوف إلى رجال التصوف) وهو واحدٌ ممن يسمون في مراكش بالسبعة رجال.
فمن هو هذا الرجل الذي عَوَّضَ مكان ابن رشد؟
(أبو العباس السبتي) (524هـ/1130م – 601هـ/1204م)، من كبار العلماء المتصوفة في المغرب خلال القرن السادس الهجري. وُلد في مدينة سبتة، ومن هنا جاء لقبهُ “السبتي”، ثم انتقل لاحقًا إلى مدينة مراكش حيثُ عاشَ معظم حياته واشتهر فيها. يُعتبرُ السبتي من كبار الصوفية وأولياء الله الصالحين في المغرب، وقد أسسَ مدرسةً فكريةً صوفيةً قائمةً على مبادئ الخير والإحسان. نشأ (أبو العباس السبتي) في بيئة علمية ودينية، وبدأ بتعلُّم العلم على يد كبار العلماء في ذلك الوقت، لكنه كان ميالًا بشكل خاص إلى التصوف والزهد. ثم انتقل إلى (مراكش) في شبابه، حيث عاش حياة زاهدة وانقطع للتعبد والتأمل، حتى ذاع صيتهُ كأحد أولياء المدينة ورواد الفكر الصوفي. وقد كان (أبو العباس السبتي) يُعرفُ بحبِّهِ للفقراء والضعفاء، واشتُهرَ بمقولة: “الوجود ينفعلُ بالجُودِ“، أي أنَّ العطاء والإحسان هما السبيلُ لتحقيق الوجود الحقيقي والإحساسُ به. فاعتبرَ (السبتي) الإحسان شرطًا أساسيًا في حياة الإنسان الدينية والدنيوية.Haut du formulaireBas du formulaire
بالعودة إلى قضية الترحيل من جديد جثة ابن رشد في “مسيرتها نحو الشمال، جعلت على أحد جانبي الدابة، وتعادلها في الجانب الآخر مؤلفات الفيلسوف ذاتها”. وقد يقول قائلٌ هل هناك شاهدٌ على هذا الترحيل أم فقط هو من وحي التأريخ والمؤرخين. هنا تبرزُ لنا شخصيةٌ أخرى مهمةٌ في تاريخ التصوف الإسلامي، إنها شخصية (ابن عربي) (1165م – 1240م)، المعروف أيضًا باسم (محيي الدين بن عربي)، هو واحد من أعظم الفلاسفة والصوفيين في تاريخ الإسلام، وشخصية بارزة في الفكر الصوفي والفلسفي الإسلامي. وُلد في (مرسية)، وهي مدينة في الأندلس (إسبانيا اليوم)، ثم انتقل إلى (إشبيلية) حيث تلقى تعليمه. ويُعتبرُ من الشخصيات المثيرة للجدل بسبب فكره الصوفي العميق والفريد، الذي أثّر في الكثيرين عبر العصور. كما عُرف (ابن عربي) بتطويره مفهوم وحدة الوجود، وهي الفكرة التي تشير إلى أنَّ كل شيء في الوجود هو تعبيرٌ عن الله وأن الله يتجلى في كل شيء. يُعتبرُ هذا المفهوم جوهر فلسفته.Haut du formulaireBas du formulaire
إنَّ وجود شخصية (ابن عربي) داخل سياق ترحيل (ابن رشد) يُعتبرُ حدثًا مهمًّا، فقد كان شاهدًا على هذا الترحيل لأنهُ لو لم يكن شاهدًا لما تمَّ معرفة ذلك وما تحدث الناس عن قضية الترحيل لجثة ابن رشد ومؤلفاته وكتبه. يقول (كيليطو) نقلًا عن (ابن عربي) في كتابه الفتوحات المكية: “ولما جعل التابوت الذي عليه جسده (ابن رشد) على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جبير، كاتب السيد أبي سعيد (الأمير الموحدي)، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السراج، الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: “ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله _ يعني تواليفه!،- فقال ابن جبير: يا ولدي، نعم، ما نظرت! لا فض فوك! فقيدتها عندي موعظة وذكرى”.
دعنا نتأملُ في هذا المشهد الرهيب، وهو تأبينٌ يثيرُ العديد من التساؤلات والاستغراب. الأصدقاء الثلاثة الذين ذكروا وهم يراقبون هذا المشهد ومن بينهم (ابن عربي) يقفون مثل جوقة مأساة، يعلقون ببضع كلمات على حياة (ابن رشد) الحفيد، وينظرون إلى جثمانه يَمرُّ من أمامهم وقد عادلته الكتب. حياة حافلة بالأمجاد والإنجازات والأعمال قبل المحنة والنكبة، تقابلها أيضا حياة مليئة بالنفي والأوامر السلطانية بحرق كتب الفلسفة، وطَردُ العامةِ (لابن رشد) من مسجد قرطبة. وبمثل تلك الصورة البشعة يعادُ المشهد لكن هذه المرة مع (ابن رشد) وهو ميت.
محنةٌ من نوعٍ جديدٍ فبعد أن تَعَرَّضَ (ابن رشد) لكل أنواع الاضطهاد بسبب أفكاره ومواقفه وحكم الناس عليه. يصبحُ الآن المشهد أكثر خطورة وأكثرُ بشاعةً لأنه يتعلق بحدث الموت ومشهد الوفاة، فهو الآن يتقدمُ للمحاكمة بلا دفاعٍ أو صوتٍ، فقط جثةٌ هامدةٌ وتعادلها في الجانب الآخر مؤلفاته، وما أنجزه طيلة حياته من أعمال وكتب وأفكار.
يقول (كيليطو) مستغربًا هذا المشهد بأن ليس دون أهمية أن يكون أبو الحكم الناسخ هو من لاحظ غرابة المشهد، هو على الأقل من لفت انتباه أصحابه، في جملة جهة المعادلة، إلى حال توازن الجثة، حينما قال: هذا الإمام وهذه أعماله، عبارة حاسمة نهائية، لا سيما أنها صادرة عن شخصية اسمها أو بالأحرى كُنيتها أبو الحكم ذات دلالة إنه الحكم القاضي. أما (ابن جبير)، فقد حَيَّرتهُ وأربكتهُ شيئًا ما قالهُ (أبو الحكم) الناسخ، وكان ردة فعله، هو يا ولدي، نعم ما نظرت. جواب فيه الكثير من الأشياء المخبوءة، لأن هذا الرجل نفسهُ شارك في هجاء واضطهاد (ابن رشد)، ويكفي أن ننظر في هذين البيتين لنرى حجم الحقد والكيد:
الآن قد أيقن ابن رشد أن توالفه توالف
يا ظالمًا نفسه تأمل هل تجد اليوم من توالف
أما ابن عربي فاكتفى بتخليد هذا الحدث، على الأقل للتأمل والاعتبار.
المثيرُ أنَّ كل هؤلاء الثلاثة الذين حضروا مشهد الترحيل: (ابن جبير/أبو الحكم الناسخ/ابن عربي)، لم يدركوا بأن هذا المشهد، مشهدُ الترحيل كان لهُ امتدادات وتبعات ما يزال المشهد الحاضرُ يعانيها: إن المشهد يعني كما أكد (كيليطو) مجموعةً من الرمزيات نُجملها فيما يلي:
- رفض أرسطو
- ترحيل الفلسفة إلى اللاتينيين
- نهاية تاريخ أو نهاية حقبة ازدهار الفكر الفلسفي
- استمرار وتحول التفكير الفلسفي إلى أوروبا في باريس وبادوفا وأكسفورد.
إن هذا المشهد المثيرُ والرهيبُ يَختزلُ لنا مأساة إنسانية بكلِّ تجلياتها، لكن مع ذلك سنختمُ بمقولة (كيليطو) “جثة ابن رشد ستدفنُ في قرطبة، لكن الكتب ستتابع السفر. وهذا الأهم ستترجم إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية ووجودها سيطبعُ بقوة النقاش الفلسفي حتى القرن السادس عشر”.
المصادر والمراجع:
(([1]محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام، مؤسسة هنداوي،2014 .
([2] (جمال علي الحلاق. فنُّ الإصغاء للذات قراءةٌ في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013.
(([3]مقدمة سعيد بنكراد لكتاب ميشال فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. المركز الثقافي العربي، ط1،2006.
(([4] عبد الفتاح، كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، توبقال، ط1،2OO1..