تكوين
لماذا الحَذَر؟…
إذا تأملنا عنوان المقال قيد الدراسة :” احْذَروا أنْ يَقتُلكُمْ صنمْ “[1]، نكتشف بداية حجم التحذير النيتشوي الذي تختزنه مقولة صغيرة، أو شذرة من شذرات التعبير الفلسفي الممزوج بجمالية اللغة والتعبير. إنه نيتشه المتجاوز لزمانه ومكانه، والعابر للحدود حينما يطلق صرخته الوجودية في وجه كل المشاريع الشمولية، والإيديولوجيات المميتة بنبرة التحذير، وقد نتساءل لم التحذير من الصنم وقد غدت الإنسانية اليوم أكثر وعيا، وأقل إقبالا على تقديس الأصنام والتماثيل، فينطلق الجواب النيتشوي مقوما سقم هذا الاعتقاد البدائي، والتصور المتساهل مع مفهوم الأصنام كما استقرت عليه فلسفة نيتشه، حيث يرى بأن الحذر كل الحذر مما تصنعه أيدينا وأفكارنا وعقولنا، ويحال بفعل العوامل المؤثرة في الفكر والثقافة إلى ثوابت ومسلمات معرفية يصعب تجاوزها. وحين تتحول الفكرة إلى ثابت من الثوابت، أو مسلمة من المسلمات، تصبح لغما قابلا للانفجار، وهنا تصدق مقولة نيتشه:” احذروا أن يقتلكم صنم ”
حينما نستحضر نيتشه داخل الحقل الفلسفي الحديث، يمكننا الجزم بأنه علامة فارقة، وتحول كبير في مسار الفلسفة من حيث حجم التأثير الذي أحدثه في تركيبة الفلسفة، وكذا الإقبال الكبير عليها من حيث الاهتمام بفلسفته، وعناصرها الصادمة والمؤثرة في جملة التفكير الإنساني. لقد كان نيتشه بالفعل ذلك الرجل المثير في مساره الإنساني، كما كانت فلسفته الممزوجة بالكثير من الأدب وروعة التعبير والأسلوب، دالة على شخصية فريدة من الفلاسفة المؤثرين، الذين امتد تأثيرهم حتى حدود اللحظة المعاصرة. فلا يمكن أن تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، إلا وصادفتك فلسفة نيتشه كإحدى الفلسفات العابرة للحدود، والمتجاوزة بحق للجدل الطبيعي. إنه شخصية مثيرة بالفعل وحياته مملوءة بالمتناقضات بين العقل والجنون، وبين السلامة الجسدية، والمرض، وبين القوة والضعف، وبين المأساة والسعادة الإنسانية. كل هذه المتناقضات جعلت من نيتشه الفيلسوف والإنسان، الذي اختار أن يفكك كل شيء بما في ذلك فلسفته، فهو الشيء ونقيضه في الآن نفسه، حتى لقبت فلسفته ب “فلسفة المطرقة”، وهو تعبير يلخص كل شيء، أي أنه يشير إلى المنهج الذي يتعامل به الباحث الأركيولوجي مع حفرياته وأشيائه، ينبش، ويحفر، ويكشف، ويضيء على كل جانب من جوانب الفكر والأشياء والجمادات. إنها المطرقة التي يستعين بها الباحث في الكشف والهدم، في الإضاءة والتعتيم، في الاستيعاب والتجاوز في آن واحد. ولولا هذه المطرقة الفكرية لغدت كل الأشياء التي تحكم عالمنا من القيم والمعتقدات الراسخة في المجتمع، خاصة تلك المرتبطة بالسرديات الكبرى والمطلقة، والأفكار والإيديولوجيات الشمولية، والفلسفات التقليدية قيودا وأصناما تحول دون تطور الإنسان، والمجتمع، والثقافة والحضارة. وهنا قد أطلق نيتشه صرخته في وجه هذا الوجود المأساوي، والحياة الإنسانية المتجاوزة لشروط إنسانيتها:
احذروا أن يقتلكم صنم:
لم يحدث أن عرف فيلسوف أو مفكر حديث من الشهرة ما عرفه فريدريك نيتشه، وحينما نتحدث هنا عن الشهرة فليس المقصود تحديدا، هو وقوع الإجماع عليها أو حتى الاتفاق الجزئي على عناصرها وأفكارها، بل على العكس من ذلك فشهرتها جاءت من التناقضات التي حملتها وبشرت بها، وهذه هي المفارقة. فنيتشه مشهور من خلال هذا الكم الهائل من الشروحات والاهتمام والنقد من المؤيدين والمعارضين لفلسفته ونظرته الفكرية للإنسان والحياة والأفكار. ولكن عموما يبقى نيتشه علامة فلسفية كبرى صعبة التكرر، إن لم نقل مستحيلة العودة من جديد بمبادئها، ومعتقداتها، وقوة تأثيرها في المحبين والكارهين على حد سواء. وقبل أن نفكك عناصر قولته المشهورة:” احذروا أن يقتلكم صنم “، أو بتعبير أدق قبل أن نقف عند تداعيات صرخته الفلسفية يجدر بنا أن نقف عند محطات مهمة من حياته:
-
فمن هو نيتشه؟[2]
إنه الفيلسوف والشاعر والناقد الثقافي الألماني، وُلد في 15 أكتوبر 1844 في بلدة روكن بالقرب من لايبزيغ. في محيط عائلي مسيحي بروتستانتي، حيث كان والده قسًا، مما أثر على تكوينه الفكري والديني. نشأ يتيما، فقد توفي والده عندما كان في الخامسة من عمره، مما أثر بشكل كبير على شخصيته ونظرته إلى العالم، والإنسان، والكون. عُرف نيتشه بذكائه منذ الصغر، والتحق بمدرسة داخلية متميزة، حيث تلقى تعليمًا متميزًا في الأدب والفلسفة. انتقل لاحقًا إلى جامعة بون ثم جامعة لايبزيغ، حيث درس الفلسفة وعلم اللغة. وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1869. وعُين نيتشه أستاذًا للأدب الكلاسيكي في جامعة بازل، حيث واصل التدريس لمدة 10 سنوات. على الرغم من نجاحه الأكاديمي، كانت حياته الشخصية مملوءة بالتحديات، فقد عانى من مشكلات صحية مزمنة، بما في ذلك الصداع النصفي والاكتئاب، مما أثر على إنتاجه الفكري ونمط حياته. في عام 1879، اضطر نيتشه إلى الاستقالة من منصبه الأكاديمي بسبب مشاكله الصحية، مما دفعه إلى الانغماس في الكتابة والبحث بشكل كامل. وخلال السنوات التالية، نشر العديد من الأعمال التي ساهمت في تشكيل الفلسفة الحديثة، مثل “هكذا تكلم زرادشت” و”جينالوجيا الأخلاق”.
كانت علاقاته الاجتماعية معقدة بالقدر الذي كانت به تعقيدات أفكاره، خاصة وأنه كان متأثرا في بداية حياته بالموسيقار والفيلسوف الكبير فاجنر. ومع ذلك، فقد تأثرت هذه العلاقة بسبب اختلافات فلسفية، مما زاد من تفاقم الأزمة النفسية لنيتشه، وهو الموتور والمتوتر في علاقته العائلية، خاصة مع والدته وأخته، بعد تدهور حالته الصحية والنفسية. واقع مرير سيفضي بنيتشه إلى عيش تجربة نفسية مريرة ستنعكس على وضعه الصحي. ففي عام 1889، تعرض نيتشه لانهيار عصبي حاد، أدى إلى إدخاله مستشفى للأمراض العقلية. وبعد هذه الفترة، تم وضعه تحت رعاية والدته ثم في رعاية أخته، حيث استمر في العيش في حالة من الضعف العقلي والجسدي حتى وفاته في 25 أغسطس 1900.
هذا جانب من رحلة نيتشه الحياتية القاسية، من وسط مسيحي بروتستانتي إلى متمرد عن المسيحية ومتجاهل لها، ومن موسيقار ومحب للموسيقى، إلى مستشفيات الجنون والانهيارات العصبية. كأن الفيلسوف لم يستطع أن يأخذ من فلسفته سوى هذه النهايات الصعبة. حياة مليئة بالتحديات والصعاب، كشف عنها كل من كتب عن نيتشه، أو كشف جانبا من حياته، فقد أشار مايكل تانر[3]، وهو الذي كتب عن شخصية نيتشه مقدمة قصيرة جدا يجمع شتات فكر هذا الفيلسوف، ويضيء على جوانب ملهمة في حياته من ناحية، وجوانب متناقضة في مساره من ناحية أخرى. يقول تانر أن نيتشه هو الشخصية الوحيدة التي حاول كل الناس أن يبرروا بها افكارهم. حيث إن كلًّا من اللاسلطويين، وأنصار الحركة النسائية، والنازيين، وأعضاء الطوائف الدينية، والاشتراكيين، والماركسيين، والنباتيين، والفنانين الطليعيين، ومؤيدي التربية البدنية، وأنصار السياسة المحافظة، كل هؤلاء وجدوا في فلسفة نيتشه مصدرا للإلهام، كما تؤكد العديد من الدراسات التي اشتغلت على الموضوع، حيث يقول البعض بأن لا توجد شخصية ألمانية ثقافية أو فنية خلال السنوات التسعين الماضية لم تعترف بتأثيره، بدايةً من توماس مان، مرورًا بيونج، ووصولًا إلى هايدجر. هذا هو الواقع التاريخي لفلسفة نيتشه النقدية، وهذا هو التفكير بالمطرقة الذي أبدعه فيلسوف ألمانيا الأكثر شهرة وجدلا في التاريخ الفلسفي القديم والحديث. رغم أنه قد مرت فتراتٌ توارت فيها فلسفة نيتشه، خاصة في العالم الغربي، الذي اعتبره مصدرَ إلهام للنزعة العسكرية الألمانية؛ والفاشيات والشموليات التي دمرت العالم في عشرينيات القرن الماضي.
لم يكن هذا هو البعد الوحيد المتحكم في فلسفة نيتشه، فرغم أن العالم الغربي والكثير من الباحثين والمفكرين والسياسيين، حاولوا أن يدّعوا وصلا بها، أو يبرروا من خلالها عنفهم أو سلطويتهم، حتى أن فلسفة نيتشه أصبحت في وقت من الأوقات فلسفة تعبر عن أحط مستوًى لها في إنجلترا والولايات المتحدة. إلا أن هذا الأمر لم يمنع البعض من الباحثين كما أشار تانر نفسه أن يقدموا نيتشه بصورة مختلفة، وربما مغايرة لما تعارف عليه الناس، حيث قدَّم كاوفمان نيتشه في صورة الفيلسوف الذي كان مفكرًا تقليديًّا أكثر منه مصدر إلهام للَّاسلطويين والنباتيين وغيرهم. بل ودافع في هذه الصورة النيتشوية على أن نيتشه كان رجلًا صاحب منطق، بل وكان عقلانيًّا أيضًا. كأن كاوفمان من خلال صناعة هذا البروفايل الجديد لنيتشه، يحاول أن يبعد عنه التهمة التي التصقت به من كونه المنظر الأول للفكر النازي في مطلع القرن العشرين، وكذلك لكل الحركات والتوجهات غير العقلانية التي ادَّعت أنه مثلها الأعلى. وأصبح من الصعب، بناءً على هذه الصورة السلبية في المخيال الأوروبي، معرفة السبب الذي أثار كل هذه الإشكاليات والاتهامات حول فلسفته. من هنا أصبحت دراسة فلسفة تأخذ أبعادا أكاديمية وبحثية صرفية، توضح علاقته بمن سبقه من الفلاسفة كسبينوزا وكانط وهيجل، ورواد الفكر الفلسفي الأوروبي، وأصبحت دراسة كاوفمان لنيتشه، منطلقا لدراسة أبحاثه وأفكاره عن الموضوعية وطبيعة الحقِّ، وغيرها من الموضوعات المعروفة في تصور نيتشه للإنسان، والحياة، والطبيعة والكون.
-
مفهوم الأصنام في فلسفة نيتشه
قبل أن نتحدث عن مفهوم الأصنام عند نيتشه، والمقصود بها، حري بنا أن نتحدث بشكل موجز عن الأصنام كما ترسخت في الذهنية الإنسانية، فقد عرف هذا المفهوم “الأصنام” تطورات كبيرة، وكان يشير بداية إلى التماثيل والرموز التي يصنعها البشر ويعكفون عليها بالعبادة والتقديس. كما كانت تعتبر وسيلة تتجسد من خلالها ما يعتقده الناس قوى إلهية، أو قوى فوق طبيعية، لها قدرات تتجاوز حدود البشرية، وتساعد في تلبية احتياجات المؤمنين بها، فتجلب لهم النفع والمسرة، وتدفع عنهم، المفاسد والضرر.
هكذا تجسدت الأصنام في الحضارات القديمة، المصريون القدماء صنعوا تماثيل وأصناما لآلهتهم مثل آمون، وإيزيس، وأوزيريس، ووضعوها في المعابد والمزارات. كما اعتبروها وسائل اتصال مباشرة مع القوى الإلهية، واهتموا بتزيينها وصيانتها وإقامة الطقوس لها. وفي الحضارة البابلية والسومرية، اعتبر سكان بلاد ما بين النهرين الأصنام كرموز حية للآلهة مثل مردوخ وإنانا. وكانت الأصنام توضع في المعابد كرمز للحماية والقوة، وجلب الرخاء للمدن. وفي الحضارة الإغريقية والرومانية، صنع الإغريق والرومان تماثيل تجسد آلهتهم، مثل زيوس وأبولو وأثينا، وكانت هذه الأصنام تُعامل بكثير من التبجيل، وتعتبر تجسيدًا للإله الذي تصوروه. وبنى اليونانيون المعابد حول هذه الأصنام، حيث تُقدَّم القرابين والهدايا طلبًا للبركة. وفي الثقافة الهندوسية، كانت الأصنام ولا تزال تُعتبر أدوات تجسد للآلهة، يتم تبجيلها بآلهة مثل فيشنو وشيفا وغانشا، وتُعامَل كأنها كائنات حية، يتم الاعتناء بها وتقديم الطعام والماء لها يوميًا.
هذا جزء من المعتقدات التي سادت لعصور طويلة، وفي حضارات مختلفة، فقد تختلف الأشكال والطقوس، ولكن المؤدى واحد، وهو تقديس الإنسان لهذه المظاهر، وربط علاقات معها قائمة على التبجيل والخوف والاحترام، وهو ما أشار إليه روجيه كايواه[4] في كتابه “الإنسان والمقدس“ (L’Homme et le Sacré)، الذي قارب فيه مفهوم المقدس وعلاقته بالآلهة، كما ركز على الطقوس والرموز التي جسدت القوى المقدسة عبر الحضارات المختلفة، واهتم بتحليل الدور الذي يمثله المقدس والألوهة في حياة المجتمعات البشرية، والحضارات القديمة.
شكل كتاب روجيه كايواه دليلا لهذه العلاقة الإنسانية المتداخلة بين ما هو بشري، وبين ما هو مقدس. حيث نظر إلى هذه العلاقة من خلال تعريف “المقدس” بأنه ذلك الشيء المتجاوز للحياة اليومية والعالم المادي، والخارق للعادة وقوانين الطبيعة الاعتيادية، والمليء بالقوة والغموض، والخوف والاحترام. لقد شكل هذا المفهوم الذي طرحه كايواه في سياق العلاقة بين الإنسان والمقدس، فهماً أعمق لطبيعة الدور الذي يلعبه المقدس في حياة الإنسان، فهو مصدر للحياة والطاقة، ومنبع التأثير في حياة الناس بطرق تتخطى الفهم العادي. وهذه الأشياء، من وجهة نظره، تضع الإنسان في مواجهة مع “الأسرار الكونية” التي تجعله يختبر مشاعر التوقير والخشية. وبما أننا نتحدث عن الأصنام في الثقافات القديمة، فإن روجيه كايواه يرى أن الآلهة على مر الحقب التاريخية شكلت ومثلت التجسيد الرمزي للمقدس، وأن الإنسان منذ لحظات تدينه الأولى اعتبر قوى الطبيعة والعوالم الخارقة أشياء مقدسة، زودته بالمعنى داخل كون يرى فيه البعض تناغما وانسجاما، ويرى فيه البعض الآخر فوضى وانعدام النظام. هكذا كان كتاب “الإنسان والمقدس”، تفسيرا لمفهوم المقدس، أو إشارة إلى العلاقة التي تربط بين مفهوم المقدس، والإنسان، من خلال عرضه لثنائية المقدس والآلهة، واعتبارهما عناصر أساسية شكلت الوعي البشري، وزودته بمعانٍ تتجاوز المعاني المعهودة والمتعارف عليها.
وإذا كان روجيه كايواه قد ركز على ثنائية الإنسان والمقدس، في قراءة التطور البشري في علاقته بالمقدس، وبالأصنام التي عكف عليها، فإن فرانسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش في القرن السادس عشر، قدّم مفهوم “الأصنام”[5] في فلسفته كجزء من مشروعه لإعادة بناء المعرفة وتطوير المنهج العلمي. فهو يرى بأن الأصنام ليست فقط كما تمثلها البعض، خاصة في العالم الإسلامي كالإمام هشام بن محمد بن السائب الكلبي، المعروف بالكلبي (توفي 204 هـ / 819 م)، الذي ألف كتابه الشهير “كتاب الأصنام[6]“، حول معتقدات العرب قبل الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بعبادتها والعكوف عليها. وقد تضمن أسماء الأصنام وأصولها، حيث يذكر أسماء أشهر الأصنام التي عبدها العرب، مثل “هُبَل”، و”اللات”، والعزى”، و”مناة”، ويشرح أصولها وكيفية وصولها إلى شبه الجزيرة العربية. كما يروي بعض القصص والأساطير التي كانت مرتبطة بهذه الأصنام، ويحدد أماكن تواجدها والأماكن التي كانت تُعبد فيها، ويصف الطقوس والعبادات التي كان العرب يؤدونها للأصنام، مثل تقديم القرابين والنذور، وكذلك الاحتفالات الخاصة بكل صنم. ناهيك عن كيفية مواجهة الإسلام لهذه المعتقدات، وكيف أزال النبي محمد ﷺ عبادة الأصنام وأمر بتحطيمها.Bas du formulaire
مفهوم الأصنام
كما قلنا سابقا إذا كان مفهوم الأصنام قد تم تمثله في العديد من الكتابات على أنها أشياء محسوسة كما أشار ابن الكلبي، فإن فرانسيس بيكون كان يراها بأنها تتجاوز هذا المعنى الحسي، حيث إنها تشير إلى أنواع من التحيزات والأخطاء التي تؤثر على تفكير الإنسان، وتمنعه من الوصول إلى المعرفة الحقيقية. وفي كتابه “الأورغانون الجديد” (Novum Organum)، حدد أربعة أنواع من الأصنام التي يجب التغلب عليها للوصول إلى المعرفة العلمية الدقيقة. يمكن تلخيصها فيما يلي:
– أصنام القبيلة Idols of the Tribe: تشير إلى الأخطاء التي تنبع من الطبيعة الإنسانية نفسها. يعتقد بيكون أن العقل البشري يميل إلى التحيز وتفسير الأمور وفقًا لتصوراته الخاصة ورغباته، مما يؤدي إلى فهم غير موضوعي للحقائق. هذا النوع من الأصنام يعبر عن ميل البشر للتعميم ورؤية الأنماط، حتى عندما لا تكون هناك علاقة حقيقية.
– أصنام الكهف Idols of the Cave: تتعلق بالتأثيرات الفردية التي تؤثر على تفكير الشخص، مثل تربيته وتجربته وميوله الشخصية. يرى بيكون أن كل شخص يعيش في “كهف” خاص به، حيث تتأثر أفكاره وتصوراته بالعوامل الشخصية التي قد تشوه فهمه للعالم.
– أصنام السوق Idoles of the Marketplace: ترتبط باستخدام اللغة وطريقة تواصل الناس مع بعضهم البعض. يرى بيكون أن اللغة تساهم في تشويه الحقائق لأن الكلمات قد تكون مبهمة أو غير دقيقة، مما يؤدي إلى سوء الفهم ونقل الأفكار الخاطئة. هذا النوع من الأصنام ينشأ من التداول اليومي للغة وتفسيراتها.
– أصنام المسرح Idols of the Theater: تشير إلى الأخطاء الناتجة عن العقائد والنظريات الفلسفية والدينية التي يتبعها الناس بشكل أعمى. هذه الأصنام تعبر عن التحيزات التي تنشأ بسبب الإيمان بأنظمة فكرية ثابتة أو مذاهب فلسفية قد تكون غير صحيحة أو مبنية على افتراضات خاطئة.
نيتشه وأفول الأصنام
وفي السياق النيتشوي تغدو كل المفاهيم مقلوبة، بحيث أنها تشير في بعض الأحيان إلى نقائضها. خاصة أن نيتشه يعي جيدا بأن فلسفته لا تمشي إلا بالمطرقة، ولا تستقيم إلا بالحفر المعرفي. وإذا كانت الأصنام كما تشكلت في المخيال الجماعي الإنساني محصورة فيما هو مادي، فإن نيتشه يراها تشير إلى المعتقدات، القيم، والمفاهيم التي يتم تقديسها، أو المجاوزة بها حدود الحس البشري.
-
مفهوم الأصنام الفكرية:
يقصد نيتشه بمفهوم “الأصنام الفكرية”، مجموعة الأشياء والأفكار التي تقدسها الأفراد والمجتمعات والحضارات. فتشمل الجوانب الأخلاقية والدينية والسياسية التي تعيش في كنفها المجتمعات، مع أنها بالأساس نتاج تاريخي وثقافي، وليست حقائق مطلقة. يعتقد نيتشه أن هذه الأفكار يجب أن تُشكك وتُختبر بدلاً من قبولها كأمر مسلم به. ولنقد هذه المسلمات الثقافية، يقترح نيتشه مقاربة تاريخية ترمي إلى الكشف عن جوانب التطور التاريخي لهذه الأصنام، والحفر على أصولها الثقافية والتاريخية، على سبيل المثال، يتناول نيتشه كيفية تطور الأخلاق من خلال الصراعات بين القوي والضعيف، وكيف أن القيم الأخلاقية التي نعتبرها طبيعية اليوم قد تكون مستمدة من سياقات تاريخية معينة.
لم يكن نيتشه يتعامل مع القيم كحقائق مطلقة، أو كقيم متجاوزة لحدود ما هو بشري، كما تعارف عليها الناس، ولا أنها جزء أصيل من الطبيعة البشرية. بل على العكس من ذلك، فهو يراها منتوجا بشريا خالصا، له سياقات تشكله التاريخي والثقافي. أي أننا في التفكير النقدي لطبيعة هذه القيم، نتحول إلى “عبيد” لهذه الأفكار، بدلًا من أن نكون أحرارًا في تشكيل قيمنا الخاصة. لذا، فإن النقد الذي يقدمه نيتشه للأصنام الفكرية هو دعوة للأفراد للتفكير في كيفية بناء هذه القيم، والحرص على عدم تحولها بفعل الزمن، وظاهرة التقديس الثقافي إلى أصنام فكرية، يمكنها أن تؤثر بشكل سلبي على مسارات الحياة الإنسانية للأفراد والمجتمعات. فعندما يغيب تقييم الأفكار خارج الإطار النقدي، يصبح الإنسان ضحية لمعايير وتوقعات ملزمة ومقيدة لحريته، في حين أنها لا تعكس إرادته الفردية أو تجاربه الحياتية. فنيتشه يعتبر أن التمسك بالأصنام الفكرية يمكن أن يؤدي إلى العجز عن التعبير عن الذات الحقيقية والتطور الشخصي.
إقرأ أيضاً: الأصنام الذهنية: كيف يصنع الإنسان حقائقه؟
إن القيمة الإنسانية لفكرة نيتشه ليست فقط في إرجاع القيم إلى أصولها البشرية، وبالتالي خضوعها لصيرورة الإنسان، بل في التحفيز والتحريض على ممارسة الفعل النقدي في حدوده القصوى، حيث يجب على الإنسان أن يفعل هذه الخاصية والميزة الإنسانية كلما دعت الحاجة لذلك بما في ذلك القيم والمعتقدات التي تشكل حياة الإنسان، أو توجه سلوكه وأنماط تفكيره. كأن نيتشه من خلال هذا الفعل يشجع على الخروج من “الكهف” الفكري، الذي يصنعه الإنسان لنفسه، فيبحث له عن مصادر جديدة للمعرفة والفهم والحقيقة الإنسانية النسبية. وبالتالي يصبح الفرد قادرًا على تحديد الأصنام الفكرية التي تحكم حياته وتحديها. مثل المفاهيم المرتبطة بالخير والشر، وكذلك المبادئ الأخلاقية التي تُعتبر قاعدة لا تقبل النقاش. هذه الأصنام تُعزز من خلال التعاليم الدينية أو القيم الاجتماعية السائدة، أو السلطة السياسية، مما يجعل الأفراد يقبلونها بشكل مطلق دون أن تكون لهم القدرة على الخروج من جوانبها السلبية. وهذا يتطلب نوعا من الشجاعة الفكرية، إذ أن تجاوز الأصنام ليس عملية سهلة، بل هي أمر محفوف بالمخاطر، والعواقب التي قد تنجم عن تحدي المعتقدات السائدة، والبحث عن قيم جديدة، وأنماط مختلفة لفهم الذات والمحيط والعالم، مما يؤدي إلى تحقيق نمو شخصي وفكري.
هكذا ففكرة الأصنام عند نيتشه تدعو إلى إعادة تقييم القيم والمعتقدات التي تُعتبر تقليدية أو مسلَّم بها، وفقا لمعايير إنسانية ونسبية، لا ترتفع بها إلى حدود ما فوق الطبيعة. بل القيم هي كل هذا المنتوج البشري الذي تفرزه الثقافة والحضارة الإنسانية في زمان ومكان معينين. وبالنقد يُمكن للأفراد تحقيق وعي أعمق بأنفسهم وبعالمهم، وتحرير أنفسهم من القيود التي تفرضها عليهم هذه الأفكار، عبر تفعيل التفكير النقدي الذي لا يعني فقط التحطيم، بل أيضا إعادة البناء، وهو ما يمثل جوهر الفلسفة النيتشوية.
- النقد الديني: ترتكز فلسفة نيتشه في أبعادها المختلفة على النقد الديني، أو بتعبير أدق على نقد المقدس، وهو ما جعلها مثيرة للجدل في جميع الأوساط الدينية، فالدين بالنسبة لنيتشه، خاصة الدين الشمولي الذي يمتلك كل الحقيقة، هو أحد تجليات مفهوم الأصنام، التي تعيق تقدم الإنسانية وتمنع الأفراد من تحقيق إمكاناتهم الحقيقية. وحينما نسأله عن هذا الموقف السلبي من الدين يجيبنا ويؤكد لنا أن الدين يدعو ويؤسس لقيم الطاعة والخضوع، مما يُثبّط الروح الإبداعية ويقيد الأفراد بمعتقدات وأفكار ثابتة. وكأن نيتشه يعتبر أن هذه القيود تعرقل النمو الشخصي وتمنع الأفراد من تحقيق ذواتهم الحقيقية.
ولعل أهم المفاهيم التي شكلت جدلا كبيرا داخل الفلسفة النيتشوية نجد، فكرة “موت الإله” (Dieu est mort). التي كانت تشير بالنسبة إليه، إلى أن القيم والمعتقدات الدينية التقليدية التي كانت تُعطي للحياة معنىً قد فقدت قوتها وتأثيرها في العالم المعاصر. يُظهر هذا المفهوم كيف أن التصورات القديمة عن الإله والقيم المرتبطة به لم تعد تتماشى مع التطورات الفكرية والعلمية الجديدة. هذا “الموت” ليس فقط دينيًا بل يعني أيضًا موت القيم المطلقة التي كانت تُعززها الديانات.
ولأن فكرة موت الإله فكرة مثيرة للجدل، يمكننا التذكير في هذا المقام ببعض النقد الذي تعرضت إليه، من طرف مجموعة من المفكرين والدارسين. إذا كان كانط قد أوضح بأن فكر الأنوار والتنوير، قد حاول إسقاط كل المؤثرات والوسائط والأغلال التي كبلت العقل الإنساني، فإن الحاجة إليه تبدو ملحة إذا امتلكنا الجرأة اللازمة لتحريك المياه الثقافية الراكدة، وامتلكنا أيضا هذه الروح الكنطية التي ترغب في تحرير الكائن الإنسان أكثر من تقييده. إننا بحاجة إلى هذه الروح والزيادة في ضياء هذا التفكير الأنواري، لأننا أمام هذا الجمود والتكلس الفكري لم تعد لنا القدرة حتى على طرح السؤال، لأن طرحه في سياق أصولي منغلق يعني التشهير والتضليل والاتهام بالباطل بالإلحاد ومعاداة الدين. هنا لا بد من التمييز بين مستويين: الإلحاد بوصفه نفيا للألوهة، وبين نقد الفكر الديني باعتباره آلية من آليات النقد والتصحيح والاستيعاب والتجاوز، وحتى أشد الملحدين العالميين وأكثرهم شهرة اليوم لم تعد فكرة نفي الإله مغرية لهم بالشكل الذي كانت عليه في بدايات القرن العشرين، حينما انتشرت الإيديولوجيات الشيوعية والمادية داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وإذا أخذنا على سبيل المثال ميشال أونفراي[7] وكيف قارب فكرة الألوهة، فسنجده يتحدث على أن الإله ما زال يتنفس الصعداء، وما زال له حضور كبير بالرغم من كل الإيديولوجيات النافية له، لهذا اعتبر بأن فكرة موت الإله التي جاء بها فريديريك نيتشه هي لعبة أنطولوجية، وهي جزء لا يتجزأ من جوهر القرن العشرين، الذي كان يرى الموت في كل مكان، موت الفن، والفلسفة، الميتافزيقا، والرواية، والسياسة، وغير ذلك. كما أنه أعلن على أن فكرة موت الإله، بقدر ما كانت مرعدة ومخيفة في سياق مؤمن بوجود الله، إلا أنها كانت خاطئة، لقد كان هذا الموت الذي اقترحه نيتشه تزميرا في أبواق كما يقول أونفراي، وإعلانات مسرحية مبهرجة، فمن رأى الجثة ما عدا نيتشه؟ ولم يثبت ذلك.
أما سبونفيل[8] وهو أحد المفكرين الفرنسيين الذين لا يخفون إلحادهم فيؤكد بأن المقولة المشهورة لنيتشه والتي قال فيها: لقد مات الإله ونحن من قتلناه، تبين أن نيتشه نفسه القائل بها يدرك تماما أنها فاقدة للمعنى على المستوى الواقعي. إذ أنه حتى في الحالة التي اعتقد فيها نيتشه بأن الله غير موجود، فهو خالد بسبب عدم الوجود. فماذا يعني كل الكلام السابق حسب سبونفيل؟. إنه التمييز بين إيمان النّاس اليوم عن إيمان سابقيهم بالله، أي جعل مسألة الإيمان بالله شأناً خاصاً، وليس شأناً جماعيا. فقد يكون المدرِّس مؤمنا، لكن ما عاد بوسعه أنْ يتوسّل بهذا الإيمان كضمانة لسلطته المعرفية. وقد يكون مدير الشّركة مؤمنا، ولكن ما عاد بمقدوره التوسّل بإيمانه في بسط سلطته على مرؤوسيه. وقد يكون السياسي مؤمنا، لكنّه لا يستطيع أنْ يتوسّل بإيمانه من أجل إضفاء الشّرعية على برنامجه السّياسي والانتخابي. و حتى مارسيل سير وهو يتتبع الجذر اللغوي لكلمة دين يصل إلى نقطة مفصلية يمكنها أن تكون انطلاقة حقيقية للتمييز بين الدين وغيره، فمصدر الدين يأتي من الكلمة اللاتينية religio ومنها اشتقت كلمة religion الذي يجد مصدره في الفعل religare الذي يعني ربط. وبهذا المعنى يصبح الدين ذلك الرابط الذي يربط الناس بعضهم البعض بروابط الأخوة والفكر والعقيدة، وهذا أمر بديهي. ولكن المثير في هذا التتبع اللغوي هو أن الدين بهذا المعنى لا يصير عكس الإلحاد، بل هو نقيض عدم الارتباط، أي الهمل أو الإهمال.
إذا كان كبار الملحدين في العالم المعاصر لم تعد تغريهم فكرة نفي وجود الله، ولا فكرة موت الإله النتشوية، واعتبروها جزءا من لعبة أنطولوجية شغلت العالم في بدايات القرن العشرين، فكيف يوصف بها غيرهم ممن لم ولا يتبنوا هذا الطرح العقدي والفكري؟. إن الخطأ ناتج بالأساس عن عدم الإدراك والتمييز بين الإلحاد ونقد التفكير الديني، أو بين الدين والتدين، أو بين المطلق والنسبي في المنظومة الدينية. ولقد أشار عبد الجواد ياسين[9] إلى هذا المعطى وهو يدرس هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين مجالين متداخلين إلى الحد الذي يصعب فيه الانفصال، إذ أن تراكم منظومات من الأفكار والرؤى والأفهام حول النص الديني، وبامتداد التاريخ التوحيدي كانت مفردات من الثقافة، التي أفرزها التدين بأشكاله المتعددة، تنضم إلى منطوق الدين في ذاته، أي البنية الملزمة ذات الطبيعة المطلقة، ومن خلال هذا التداخل تسربت عقائد ومصالح سياسية وأهواء بشرية واندمجت لتصير جزءا لا يتجزأ من بنية الدين نفسه. وهكذا أدى التدين إلى تضخيم الدين، بحيث صار ما هو اجتماعي ملتبسا بطبيعة الدين، وبالتالي اصطبغ بطابع القداسة المطلقة.
إذن يُشكك نيتشه في مفهوم الأخلاق الدينية ويعتبرها نسبية وخاضعة للصيرورة والتحولات الاجتماعية والاقتصادية الإنسانية. حيث إن القيم الأخلاقية التي تفرضها الأديان غالبًا ما تتعارض مع الغرائز الإنسانية الطبيعية. وبالتالي هناك سعي حثيث من الفكر الديني والمذاهب العقائدية الشمولية إلى إدانة الرغبات الطبيعية مثل القوة، الحماس، والشغف، والترويج لقيم مثل التواضع والضعف. مما يعوق النمو البشري، ويُجبَر الأفراد على التخلي عن رغباتهم الحقيقية لصالح معايير خارجية. ومن هذا المنظور النيتشوي يتحول الدين إلى أداة للسيطرة على الأفراد والمجتمعات، بدل أن يكون دافعا وموجها نحو التحرر والانعتاق. لهذا نرى بأن الدين غالبا ما يُستغل من قبل القوى السياسية والاجتماعية لتحقيق أهدافها الخاصة، مما يجعله موظفا وخاضعا لاستراتيجيات الهيمنة والاستقطاب، بدلاً من أن يكون الدين مصدرًا للحرية والإلهام.
وإذا كان الدين من هذا المنظور يدعو ويكرس الضعف والغلبة والتواضع، فإن نتيجة النقد النيتشوي للدين، هي الدعوة إلى إنشاء قيم جديدة تتجاوز القيم الدينية التقليدية، وتنبني على قوة الفرد وإرادته، بدلاً من ضعفه وهزيمته. قيم تستوحي من فكرة “الإنسان الأعلى” (Übermensch) كرمز لهذا التوجه الجديد، حيث يُعتبر الفرد مسؤولًا عن تشكيل قيمه الخاصة وتجاوز القيود التي يفرضها الدين. إنها القيم التي تشجع على التفكير النقدي والتأمل الفكري، وإعادة النظر في الأفكار والمعتقدات الدينية، إذا كانت تدعو إلى الهزيمة والجمود والتكلس الفكري. ومن خلال هذا النقد، يُمكن للأفراد أن يتحرروا من القيود المفروضة بقوة الإكراه والإجبار الثقافي، ويبدؤوا مسيرة استكشاف إمكاناتهم الإبداعية الحقيقية. هكذا تشير هذه الفكرة النتشوية إلى أن النقد الديني ليس بالضرورة هجوما على الدين نفسه، بل هي دعوة لتفكيك المعتقدات التقليدية التي تُقيّد الأفراد وتمنعهم من تحقيق إمكاناتهم الحقيقية. فمن خلال هذا الكشف النقدي والفكري، يشجع نيتشه على التفكير النقدي واستكشاف قيم جديدة مبنية على القوة الفردية والإبداع.
Haut du formulaire
Bas du formulaire
- مفهوم الإرادة القوية: من المفاهيم المركزية في فلسفة نيتشه نجد الإرادة القوية، حيث يرتبط هذا المفهوم بفكرة القدرة على تحقيق الذات وتجاوز العقبات. إنها بالنسبة لنيتشه مثل الدافع الأساسي الذي يُمكّن الفرد من تجاوز التحديات والصعوبات، ويدفع به إلى التفاعل مع الذات والمحيط والعالم المشكل للمفاهيم بشكل أفضل، بدلاً من أن يكون مجرد متلقٍ سلبي. فالنيات القوية ليست مجرد رغبات سطحية، بل هي تعبير عن عمق النفس الإنسانية. وبالتالي فالإرادة كلما كانت قوية كلما استطاعت أن تحرر العمل الفردي، والعقل الإنساني، في سبيل تحقيق أهدافه وغاياته، وامتلاك القدرة على مواجهة التحديات وتحويل العقبات إلى فرص للنمو الشخصي.
لا يمكن أن يخلق الإنسان قيمه الخاصة، ولا أن يحقق وجوده الذاتي، والفردي في غياب الإرادة القوية. حيث يعتبر نيتشه الأفراد الذين يمتلكون إرادة قوية هم الأقدر دون غيرهم على خلق قيمهم وأهدافهم الخاصة. إنهم “سادة” بالتعبير النيتشوي على أنفسهم، وعلى العالم من حولهم. فوحدهم من يستطيعون تشكيل قيمهم الفردية والذاتية وفق رغباتهم وميولاتهم الشخصية بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية، أو ضغط الأعراف الاجتماعية والإكراهات الثقافية. من هنا تغدو الإرادة القوية أو إرادة القوة، وسيلة لتكسير هيمنة القيم التقليدية، والقوى الارتكاسية داخل المجتمع، والمفاهيم السائدة التي تحد من حرية الفرد. فالإرادة القوية هي أداة للتميز والتفرد، حيث يُمكن للأفراد تجاوز المثبطات والعوائق الثقافية التي يخلقها المجتمع أو السلطة أو الثقافة، فيتحرر بذلك العنصر البشري، وينطلق نحو تحقيق آفاقه الشخصية، وإنجازاته الإبداعية، تاركا بصمة وأثرا واضحا عن منجزه الفردي في هذا العالم، ممتلكا الشجاعة الكافية لمواجهة الخسائر والفشل، والسير قدما نحو التطور المستمر.
هكذا يمثل مفهوم الإرادة القوية عنصرًا محوريًا في فلسفة نيتشه، حيث يُعتبر دافعًا أساسيًا لتحقيق الذات والتجاوز. فمن خلال الإرادة القوية، يُمكن للأفراد أن يُعيدوا تشكيل هويتهم ويواجهوا التحديات التي تعترض طريقهم. يدعو نيتشه الأفراد إلى أن يكونوا أسيادًا على مصائرهم، مُشددًا على أهمية القوة الداخلية والقدرة على الابتكار في تشكيل الحياة.
-
الفلسفة السلبية:
الفلسفة السلبية في تفكير نيتشه تتعلق برؤية العالم من خلال عدسة نقدية للمعايير والقيم السائدة، حيث تعتبر هذه الفلسفة قادرة على توجيه الأفراد نحو فهم أعمق لأنفسهم ولوجودهم. إنها ليست مجرد دعوة إلى الرفض أو الهدم، بل هي طريقة لفهم ما يُفترض أن يكون مقبولًا وكيف يمكن للأفراد أن يتجاوزوا هذه التوقعات. تعتبر السلبية، في سياق فلسفة نيتشه، بمثابة موقف نقدي ضد القيم والأفكار السائدة. حيث يتم التشجيع على التساؤل عن الحقائق والأخلاقيات المطلقة. هذا النقد يتضمن مساءلة العادات الاجتماعية والدينية والأخلاقية، بهدف كشف الأسس الهشة التي تُبنى عليها تلك القيم.
وإذا لاحظنا بشكل جيد، فسنجد فلسفة السلبية ترتبط بفكرة إرادة القوة، حيث يتطلب تبني الموقف السلبي الشجاعة والتصميم، وامتلاك القوة الكافية لمواجهة الأسس الفكرية التي تُحكم سيطرتها على الناس، وتجعلهم خاضعين لصيرورتها. وبالتالي فالقدرة على قبول السلبية كجزء من الحياة تُعزز من الإرادة الفردية وتسمح بالتجاوز عن القيود المفروضة. كأن السلبية بهذا المعنى تخرج من كونها حالة من الإحباط أو التراجع، إلى وسيلة للتحرر والانعتاق من القيود والعبودية. فبإدراك الحدود التي تُفرض على الفرد من خلال القيم التقليدية، يصبح بإمكانه تجاوز تلك القيود واستكشاف إمكانياته الخاصة.
هذا المعنى يمكن أن يؤدي إلى إعادة بناء الذات بشكل مستقل عن المعايير الاجتماعية الجامدة، والقيم الثقافية المتكلسة. ففلسفة نيتشه تعتبر السلبية أيضًا رفضًا للمثالية، ورؤية العالم بمنظار يتجاوز شروط الوجود البشري. إذ أن السعي نحو الكمال أو الأهداف المثالية غالبًا ما يؤدي إلى الإحباط، والشعور المضاعف بالنقص، حيث يصعب تحقيق هذه المعايير بشكل كامل. وبدلاً من ذلك، يدعو نيتشه استيعاب كل مظاهر النقص البشري كجزء من التجربة الإنسانية، مما يسمح بفهم أعمق للطبيعة البشرية. ومن ثمة فالسلبية في هذا الإطار تنسجم مع التجربة الإنسانية بكل عيوبها ونواقصها. ولا يمكن أن نفهم السلبية في هذا المقام على أنه ركون للاستسلام والخنوع، بل هي دعوة لتقبل الواقع كما هو، مما يمكن الأفراد من اكتشاف معنى أعمق للحياة. ومن خلال الاعتراف بالألم والمعاناة، يمكن للأفراد أن يجدوا طريقهم إلى فهم الذات وتحقيق النمو الشخصي.
انطلاقا من مفهوم الأصنام في فلسفة نيتشه يبدو بأنه يتجاوز المعنى الحسي، وبالتالي نفهم تحذيره وصرخته الكبيرة:” احذروا أن يقتلكم صنم ” على أنها دعوة للتفكير النقدي وتجاوز القيم والمعتقدات التقليدية التي تعيق نمو الفرد. من خلال هذا المفهوم، يتحرر الأفراد من كل القيود والأغلال الثقافية والفكرية، ويسعوا إلى استكشاف هويتهم الحقيقية وتطوير قيمهم وتجاربهم الشخصية. وهنا تغدو هذه الصرخة دعوة لتحرير إمكانات الفرد، وإرادته، وإبداعاته، مما يجعل من مفهوم الأصنام أداة قوية لفهم كيف يمكن للفرد أن يتجاوز القيود الاجتماعية والدينية لتحقيق النماء الشخصي والفكري.
المراجع:
[1] – نيتشه، فريدريك. هذا هو الإنسان.ترجمة مجاهد عبد المنعم. هلا للنشر والتوزيع، ط1،2011 .
[2] – يمكن الاطلاع على سيرة مختصرة لحياة نيتشه، في كتاب: لورانس جين، وكيتي شين. أقدم لك نيتشه. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. دار الكتب المصرية، 2002 . ص: 8.
[3] – مايكل، تانر. نيتشه مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مروة عبد السلام. هنداوي،ط1،2015. ص: 9.
[4] – كايواه، روجيه, الإنسان والمقدس. ترجمة سميرة ريشا. المنظمة العربية للترجمة. ط1، 2010.
[5] – فرانسيس، بيكون. الأورغانون الجديد إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة. ترجمة عادل مصطفى. مؤسسة هنداوي،ط1،2018.
[6] – أبي المنذر، الكلبي. كتاب الأصنام. تحقيق أحمد زكي باشا. المطبعة الأميرية، القاهرة.
[7] – ميشال، أونفراي. نفي اللاهوت. ترجمة مبارك العروسي. منشورات الجمل. ط1،2012. ص: 27.
[8] – سبونيفيل، أندريه كونت. الرأسمالية هل هي أخلاقية؟ ترجمة بسام جرار. بيروت، دار الساقي، ط1، 2005 , ص: 34 .
[9] – ياسين، عبد الجواد. الدين، والتدين التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي، ط2، 2014، ص: 5.