تكوين
قتل الأب عند البدائيين بوصفه ثورة وضعت حداً للنظام الأبويّ
أدعوكم الآن للنزول من جبل الأولمب نحو سطح الأرض، أي من الأسطورة إلى الدين. قد نلاحظ خلال نزولنا هذا أن مرحلة التحوَّل من الأساطير السماوية إلى الأديان الأرضية لم تحدث دفعة واحدة وأن الأديان ليست متجانسة إلا بالصدفة. لقد تشكّلت الأديان عبر التاريخ والجغرافيا من عقائد وطقوس وعبادات غالباً ما كانت مختلفة بل ومتنافرة حد التناقض أحياناً مما جعلها – بسبب إدعاء كل دين كونيته وإطلاقه – تتصارع فيما بينها. ينطبق هذا أيضاً على الأديان الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام التي ورغم زعمها الإنتماء لنفس الأب أي الإيمان بنفس الرب الواحد، إلا أن تاريخها يكشف عن صراعات مستمرة فيما بينها وعن حربٍ طويلة مُعلنة أو صامتة، حامية أو حرباً باردة.
لكن قبل تناول الديانات التي تُسمى بالإبراهيمية التوحيدية، فإنني أريد التوقف قبلاً أمام ما اعتدنا على تسميته تبعاً لإميل دوركهايم ﺑ “الأشكال البدائية للحياة الدينية”. وبتحديد أكبر، فإني سأعمل في الصفحات القليلة القادمة على تحليل فكرة قتل الأب parricide التي عرضها فرويد في كتابه الطوطم والتابو كمثال عن هذه الأشكال البدائية للدين. في ذلك الكتاب الشهير نلتقي مرةً أخرى بالأسطورة، لكنها هذ المرة من وحي خيال فرويد الذي يصوغها برغبة تأصيل الحضارة والدين على نظريته في قتل الأب. في الجزء الخامس من الفصل الأخير والمعنون ﺑ “العودة الطفلية إلى الطوطمية”، يستدعي فرويد كتاب تشارلز داروين (دون أن يستشهد به) نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسي (1871) The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex الذي يُقدم فيه أب نظرية التطور فرضية تخيلية حول “الحالة البدائية للمجتمع”. يُلخِّص فرويد تلك الفرضية الداروينية على النحو التالي: “أبٌ عنيفٌ وغيورٌ يحتفظ لنفسه وحده بكل الإناث ويطرد أولاده بمجرد أن يكبروا…” [1]يشير فرويد إلى المرجعية التخيلية الافتراضية في فرضية داروين مؤكِّداً أن “تلك الحالة البدائية للمجتمع لم تُلاحظ أبداً في أي مكان” [2]. لكن ورغم طبيعتها الإفتراضية (وربما لقوة المخيلة التي تقوم عليها) فإن فرويد لا يرفضها بل، على العكس، يضيفها إلى فرضيته الخاصة – التخيلية بدورها – والتي يتصوّر فيها “وليمة طوطمية” في عيدٍ دينيّ لعشيرة بدائية آكلة لحوم بشر “تقتل خلالها بوحشية حيوانها الطوطمي وتستهلكه نيئاً بالكامل بدمه ولحمه وعظامه؛ بينما تزيّا أفراد العشيرة بطريقة جعلتهم يشبهون الطوطم الذي راحوا يقلدون أصواته وحركاته، كما لو أنهم كانوا يريدون التماهي معه.”
[3]يطوِّر فرويد في هذا المقطع فكرة أصيلة تتعلق ﺑ حقيقة أنهم، وبقتلهم لحيوانهم المُقدّس، يتماهى أفراد العشيرة بطوطمهم الذي ليس سوى ربهم. تتحقق تلك المماهاة بإعادة إنتاجهم للطوطم من خلال ملابسهم، وحركاتهم، وأصواتهم المحاكية له، لكن أيضاً وبخاصة، بإلتهامهم لجسده لكي يتقدّسوا من خلال امتصاصهم “الحياة المُقدسة التي كانت تجسدها ماهية الطوطم…” [4]
بعد ذلك يقترح فرويد تأويلاً جديداً سيكون له مكانة مركزية في نظرية التحليل النفسي يتعلق بعقدة الذنب التي اجتاحت أفراد العشيرة بعد وقت قصير من ارتكابهم لجريمتهم التي يصفها بكونها “انتهاك احتفاليّ لشيء ممنوع.” [5] هكذا إذن وبعد تلك الإثارة المجنونة التي رافقت الوليمة الطوطمية يحل مباشرة بعدها الندم مترافقاً مع ” حُزنٍ مُتفجِّر”. وكما نعرف، فإن عقدة الذنب تشغل حيزاً محورياً عند فرويد بخاصة وفي نظرية التحليل النفسيّ بعامة.
بعد عرض تصوره الخاص بالعشيرة البدائية التي قتلت وأكلت حيوانها المُقدّس، يدمج فرويد تصور دارون عن الأب البدائي الطارد لأبنائه والمحتكر لنساء القبيلة في تصوره الخاص بالوليمة الطوطمية مؤلفاً بذلك أسطورة جديدة يرويها لنا على النحو التالي: “اجتمع الأخوة المطرودين يوماً، وقتلوا الأب وأكلوه، مما وضع حدّاً لوجود القبيلة الأبوية.” [6]لنلاحظ في هذا المقام أن الأب الذي أكله أولاده يحل هنا مكان الحيوان الطوطميّ، المعادل للرب. هكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام شكلٍ من أشكال إعادة إنتاج أسطورة كرونوس التي قرأناها في ثيوغونيا. فمن جديد ها هم الأولاد المطرودون من قبل إبيهم المُقدّس والمتفرد بالسلطة المُطلقة يتوحدون ليقلبوا حُكمه ويستولوا على مكانته المُقدّسة. [7]
بيد أن هناك اختلافان اثنان على الأقل يبج الإنتابه لهما تميزان أسطورة فرويد عن تلك التي لهزيود. الإختلاف الأول، هو أن الأولاد في الطوطم والتابو يتمكنون من قتل الأب في حين بقيت آلهة الإغريق خالدة عصية على الموت. أما الإختلاف الثاني الذي أود الإشارة إليه يتلخّص في الاحتفاظ بالنظام الأبويّ في المثيولوجيا الإغريقية على عكس ذلك التغير الجذريّ للنظام الاجتماعيّ عند فرويد. لنتذكر أن انتقال السلطة بين آلهة الإغريق كان يحدث بالقوة والإكراه؛ حتى عندما تعلق الأمر بالإنتقال من عهد التيتان إلى عهد الكرونيدس فإن ذلك الانتقال ظل ضمن حدود النظام الأبوي. في حين أن قتل الأب كما نجده في الأسطورة التي صاغها فرويد يمثِّل حالة قطيعة بين الحالة البدائية للمجتمع وفجر الحضارة ما بعد البدائية وما بعد الأبوية. إن فرويد واضح حيال هذه النقطة فهو يؤكد بأنهم وبقتلهم لأبيهم فقد “وضع الأبناء حداً لوجود القبيلة الأبوية.” [8] أما بإلتهامهم لأبيهم، فقد “استولى كل واحد من الأولاد على جزء من قوته”[9] مما أدى إلى تجزئة السُّلطة المطلقة التي كانت خاصة بالأب، وبالتالي، إلى تمزّق مجتمعهم الأبوي القائم على كُلية السلطة الأبوية مما أدى إلى الإنتقال من مجتمع مغلق إلى مجتمع مفتوح لو استعرت هنا مصطلحات هنري بيرغسون في كتابه منبعا الأخلاق والدين (1932).
في الواقع ليس ذلك التحوّل من الحالة البدائية من عشيرة طوطمية إلى الحضارة عند فرويد مجرد قطيعة بين عالَمين أو بين نمطي حياة مختلفين إذ يمكن لنا أن نرى في ذلك التحوّل ثورة كاملة (يصفها فرويد بالتمرد) لناس اجتمعوا في ثورة ضد ربهم. إن مثل هذا الطرح عن ثورة في إيمان البدائيين تجد ما يسندها في نص فرويد الذي أراد التأكيد على حدوث تغير جذريّ وثوريّ جاء كنتيجة لعملية قتل الأب أو، بحسب مفرداته، “فقد ساعد كنقطة انطلاق للعديد من الأمور: كالتنظيمات الاجتماعية، والتقييدات الأخلاقية، و الأديان.” [10] وبصيغة أخرى، لقد أراد فرويد أن يؤسس على حدث “قتل الأب” الأصل لا لنشوء الحضارة أو المجتمعات المفتوحة فحسب، وإنما أيضاً وبخاصة أصلاً لنشوء الأديان.
الأب البدائي الناجي من ثورة أولاده
لكي أتمكن من مناقشة أهلية نظرية فرويد التي يكون قتل الأب وفقاً لها هو الأصل المؤسس للدين أو للأديان، فإن عليّ أن أمتحن أولاً مسألة موت الأب التي يُقدمها لنا في الطوطم والتابو بوصفها عقدة نفسية أولاً وحدثاً تاريخيّاً ثانياً.
وفقاً لفرويد إذن فقد نجح الأولاد في قتل أبيهم بنية الإستيلاء على سُلطته كزعيم مُقدّس وعلى إناث العشيرة اللواتي كن حِكراً له. لكنهم وتحت وطأة الشعور الكاسح بالذنب الذي عانوا منه بُعيد اقترافهم لجريمتهم تلك فقد أعرضوا جميعاً عن المساس بما كان للأب المقتول أو، بكلمات فرويد، ” لم يستطع أياً من الأبناء من تحقيق رغبته البدائية في أخذ مكان الأب.” [11]هكذا فقد أحالت عقدة الذنب جريمتهم عدماً أو بلا فائدة أو قيمة لأنها قد منعتهم عملياً من الحصول على ما كانوا يشتهونه عند الأب وهذا يعني بالمحصلة أنها منعتهم من قتل الأب. فيما يتعلق بآثار عقدة الذنب على الضمير واللاوعي فإن فرويد هو المعلِّم الأول في هذا المجال. حول هذه النقطة يحرِّر فرويد صفحتين مليلئتين بالمعاني اقتبسُ منهما المقاطع التالية: ” كانت تتناهب عصابة الأخوة المتمردين مشاعر متناقضة إزاء الأب […] فقد كانوا يكرهون الأب، الذي كان يعارض بعنف رغبتهم في السُلطة وحاجاتهم الجنسية، لكن وفي كرههم له كانوا يحبونه ويقدرونه. بعد تخلصهم منه وبعد إشفاء كرههم له وتماهيهم معه [بأكلهم له]، كان عليهم أن يستسلموا لتجليات عاطفية، ولحنان مبالغ فيه. لقد قاموا بذلك كنوع من التكفير؛ لقد كابدوا شعوراً بالذنب يختلط مع إحساس بالتكفير عاشوه بشكلٍ جماعي.” [12]هكذا فإن الإعجاب والحب الذي كان الأولاد يكنونه للأب قد اختلط مع كراهيتهم لهم وغيرتهم منه. يسمح كل ذلك مجتمعاً بإبراز الدافع الكامن وراء جريمتهم وبفهم سبب شعورهم بالذنب وحاجتهم المُلحة بعده للتكفير عنه.[13]
هي عقدة الذنب إذن من حالت دون موت الأب المقتول وجعلت هذا الحدث جريمة غير مكتملة. إنه إحساس الأولاد القتلة بالندم على قتلهم لأبيهم الذي حال دون موت الأب وأبقاه حيّاً من خلال استمرار قوانينه التي حافظ عليها الأبناء النادمون بحرص الأنبياء. يشرح لنا فرويد كيف أن الأمور لم تتغير عملياً بعد قتل الأب إذ يكتب: “إن ما كان الأب يمنعه في الماضي، بمجرد وجوده، سيحرّمه أبناؤه في الحاضر بموجب تلك ’الطاعة المتأخرة’ المتميزة لحالة نفسية صارت مألوفة لنا مع التحليل النفسي. لقد استنكروا فعلتهم من خلال امتناعهم عن قتل الطوطم، البديل عن الأب، ورفضوا جني ثمار أفعالهم بامتناعهم عن إقامة علاقات جنسية مع النساء اللاتي حرروهم. هكذا أنتج الشعور بالذنب عند الإبن الحِرمين الرئيسين للطوطمية اللذين، لهذا السبب، اختلطا بالرغبتين المقموعتين لعقد أوديب.” [14]
ولو دفعتُ كلام فرويد إلى أقصاه لقلتُ : إن قتل الأب في عشيرة البدائيين الذي جعل منه فرويد أصل الحضارة وأصل الدين لم يقع أصلاً وبأن الأب المقتول قد ازداد قوة بعد محاولة قتله الفاشلة التي أرادت عبثاً محيه من الوجود. لنقرأ فرويد حين يكتب هذا المقطع المهم: “لقد صار الميِّت أكثر قوّة مما كان عليه في كل حياته.” [15]ومعنى هذا الكلام أننا وبقتل الأب فإننا لا نتخلص منه كلياً أو بشكلٍ نهائيّ. إن الأب المقتول على يد أبنه أو أبنائه يعود دائماً، إنه الشبح الراجع، لكن على نحوٍ غير مرئيّ، وأكثر حضوراً وقوة وهمينة مما كان عليه في حياته. وعلى النقيض من عودة شبح الملك هاملت الذي يتجلى من الخارج، فإن الأب المقتول على يد ابنه يولد داخل ابنه القاتل. فبعد أن يقتله أبناؤه، يعيش الأب فيهم، داخل نفوسهم كجزء جوهريّ من حياتهم وليس كشيء خارجيّ غريب عنهم كما في هاملت. وبكلمات أخرى يصبح الإبن القاتل استمراراً لحياة الأب المقتول. يذوب أحدهما في الآخرأو بالأحرى هو الأب الذي ينحلُّ في الإبن فيتقمص هذا الأخير شخصية الأب، ويصبح عندها أباً حاملاً بأبيه ما أن يقتله. إنني أتحدث إذن وبوضوح عن الإبن الذي ينجب ويلد أباه.
عبثاً نحاول الإنهاء على الأب، لكن ما أن نفقده بقتله حتى نستعيده عبر الندم وعقدة الذنب. في خطابه “أحكامٌ مسبقة أمام القانون”، يُعلّق جاك دريدا على هذا المقطع من الطوطم والتابو لفرويد بالقول: “يفشل القتل هنا لأن الأب الميت يحتفظ فيه بقوةٍ أكبر.” [16] في خطابه ذاك يلاحظ أب التفكيك بأن الجريمة التي أرتكبها الأبناء بحق أبيهم كانت، وفق عباراته التي اقتبس منها التالي: “دون فائدة فهي لم تقتل أحداً في النهاية … [و] لم تضع حداً لأية سُلطة …..؛ [وإن] ذلك الحدث هو نوعٌ من اللاحدث، حدثٌ للاشيء، شبه حدث يستدعي ويلغي في آن علاقة السرد…؛ [وأن] قتل الأب ليس حدثاً بالمعنى الرائج للكلمة…. حدثٌ دون حدثٌ، حدثٌ محض حيث لا يحدث شيء.” [17]لكنني لا شأركه تماماً تلك القراة. فأنا إذ أوافقه عل تأويلاته المتعلقة بعدم قتل الأب وبأن تلك الجريمة ” لم تقتل أحداً في النهاية”، فإنني أخالفه القراءة والتأويل لما وجد أنه “حدثٌ دون حدث…حيث لم يحدث شي.” من الصحيح أن قوانين الأب المقتول قد بقيت معمولاً بها يصونها بحرص الأبناء القتلة النادمين، لكن النظام السياسيّ والاجتماعيّ قد تغير فبتقلهم الأب وضع الأبناء، كما يؤكّد فرويد، ” حدّاً لوجود القبيلة الأبوية“، وهو حدثٌ دشّن ولادة الحضارة وفق الطوطم والتابو. إذن هو ليس حدثٌ للاشيء كما يصفه دريدا بل حدثٌ يؤرّخ نهاية حقبة تاريخية وبداية حقبة أخرى. ومع ذلك فإن ذلك التغيير التاريخي الكبير الذي سبّبه قتل الأب لم يكن قطيعة كليّة حيث نجتث الماضي القريب من جذوره بالكامل. ولأوضِّح أكثر أضيف: بما أن الأب المقتول لم يمت كلياً، فإنه سيتسلل خفية إلى النظام الجديد وسيتسرب حياً وأكثر قوة مما كان عليه قبل قتله إلى العهد الجديد حيث سيحكم سِّراً من الكواليس على غفلةٍ من الجميع الذين ظنوا أنه لم يعد موجوداً. إن ما أريد قوله هنا بالعموم هو أن قتل الأب parricide عند البشر قد يقود عملياً إلى تغيير سياسيّ واجتماعي وأخلاقيّ وحضاريّ، الخ، لكن هذا التغيير لن يحصل دون الأب أو بغيابه كلياً وبغياب سلطته وهيمنته. وعليه فإنه لا يمكن لنا أبداً قتل الأب، لكننا نكبته فينا إذ نقتله. ومثلما يحمل الإبن جينات والده في خلاياه، فإنه يحتفظ بأبيه حيّاً فيه، في لاوعيه ما أن يقتله. لا يُقتل الأب إذن أبداً، إنه عصيٌّ على الردى بسيوف أبنائه الذين سيحيا بفضلهم أو بسببهم لا يهم بمجرد أن يريقوا دمه ليحيا خالداً مثله مثل الرب الخالد. نلاحظ في “الأشكال البدائية للحياة الدينية”، وهي ما يهمنا هنا، أن عبادة الأجداد تحتفظ بالآباء والأجداد الميتين على قيد الحياة وتتيح لهم بذلك أن يؤثروا في الواقع والحاضر، وفقاً لهذه المعتقدات. هكذا يسهر الموتى من خلال حياتهم موتى على حماية أبنائهم وأحفادهم على نحوٍ دائم. هكذا يختلط الموتى مع الأحياء كما في المثيولوجيا الإغريقية. فهنا أيضاً لا يموت الميتون لكنهم يظلون en sur-vie. وعليه ، فإن الأشباح، والأرواح، والأطياف تحيا وتفعل وتتدخل في عالم الأحياء وفق معتقدات البدائيين.
إقرأ أيضاً: استحالةُ قتلِ الأب (الجزء الأول)
من الواضح أن الفرضية التي أتقدم بها هنا تذهب في عكس اتجاه النظرية الفرويدية التي تُنظِّر إلى قتل الأب كفعل ثوريّ جذريّ أو كبداية جديدة لشيء جديد كلياً يقطع بالكامل مع الماضي. في حين أذهب أنا إلى أنه لا يمكن التخلص نهائياً من الأب بقتله. في أحسن الحالات نستطيع دفنه حياً فينا فنخبئه في أحشائنا أو نبتلعه حياً على طريقة كرونوس الذي ابتلع أبناءه أحياءً يرزقون. إني أريد إذن التأكيد على استحالة قتل الأب حتى عند البشر الفانين وأننا بقتلنا للأب لا نتخلص منه أبداً ولكننا نكبته. يمكن لنا بعد قتلنا له أن ندفن جسده، لكن لا يمكن لنا أبداً دفن روحه وقوانينه أو روح قوانينه، ليس على نحوٍ كليّ على كل حال. يمكن للأب أن يحيا دون جسد. بهذه الحالة هو يغير فقط معسكره وطبيعته فيخرج من عالم البشر الفانين ليلتحق بعالم الموتى الخالدين. وحدهم الموتى لا يموتون ولا يعرف الموت إليهم سبيلا.
وبالخلاصة فإني ألخِّص قراءتي بالنقطتين التاليتين: أولاً، يظل الأب حياً بعد قتله على يد أبنائه، و ثانياً، إذا ما أدى قتل الأب إلى غيابه لفترة من الزمن عن واجهة المسرح كبطل التراجيديا الأساسيّ فإنه لا يلبث أن يصبح مخرج العمل حيث قد لا ينتبه له أحد في مكانه اللامرئي.
محاولة الحداثة الأروبية قتل الأب الذي كان مُقدساً في الدين
إذا كانت الأمور على ما تصورتها فهل يمكن لنا مقارنة قتل الأب بالقدَر بالعنى الذي أعطاه الإغريق لهذا المفهوم؟ أي هل تكون استحالة التخلص نهائياً من الأب نوعاً من القدر المحتوم أو اللعنة التي لا مناص منها؟ يقدم لنا التاريخ إجابتين متناقضتين على هذ السؤال. تتعلق الأولى بالثورة ضد المكانة المقدسة التي كان يحظى بها الأب/الرب في الدين والتي قادتها الحداثة الأوربية. ففي الدين لا يُقتل الأب أبداً، وإنما يُقدّس كإله خالد. في الدين يأخذ الأب هيئة الرب كليّ القدرة أو ظله على الأرض متجسداً في البابا، أو الحاخام الأكبر، أو أمير المؤمنين أو حتى مجموعة أخرى من أصحاب السلطات الدينية في الهرميات الخاصة بكل دين. ولأن الأب يُقدّس ولا يُقتل في الأديان فإننا لن نعثر على قصة قتل أبٍ واحدة لا في الأساطير ولا في الأديان المسماة بالتوحيدية على سبيل المثال لا الحصر. فعلى الرغم من امتلائها بالقصص الدموية الحافلة بعمليات القتل وسفاح المحرمات والخيانات والمؤامرات وحب الغِلمان والصراعات على السُّلطة، الخ، فإن النصوص التي تُسمى بالمقدسة لا تعطينا مثالاً واحداً عن قصة فيها قتلٌ للأب. ونتيجة غياب مثل تلك القصص عن تلك النصوص الدينية فقد وجد فرويد نفسه على ما يبدو مُضطراً – لكي يؤسس نشوء الحضارة وميلاد الأديان على نظرية قتل الأب – إلى تأليف أسطورة تخيلية لا تاريخية ” لم تُلاحظ أبداً في أي مكان” هي أيضاً. وإذا لا يمكن تخيل فكرة قتل الأب في الأديان فلأنها قائمة أصلاً على فكرب الرب/الأب الذي يضمن وجودها واستمرارية كل دين. على خلاف فرويد إذن، أجدُ شخصياً أن كل الأديان تقوم على تقديس الأب كلي القدرة وليس على فعل قتل الأب كما نظّر له في الطوطم والتابو.
لكن إذا كان تثبيت وتعزيز وجود الأب في الأديان أمرٌ حاسم لا يمكن الإستغناء عنه لوجودها وحياتها فإن الأمر سار في الاتجاه المعاكس في الحداثة الأوروبية التي نعثر فيها على الإجابة الثانية والمقابلة لسؤالنا. فإذ تبقى أطروحة فرويد حول قتل الأب كأصل للحضارة افتراضاً نظرياً، بل وتخيلياً بالكامل، فإن تاريخ الحداثة الغربية يُقدم لنا فعل قتل الأب كحدث تاريخيّ واقعيّ. إذ يدّعي الإنسان الغربي الحديث أنه نجح في قتل آبائه، وآلهته وأنه استطاع القضاء على القوى الأسطورية والأبوية التي لطالما تلاعبت بالإنسان وألغت حريته كما رأينا في مسرحية الذباب لسارتر.
ومع ذلك يجب علي الاعتراض على هذه السردية الصحيحة نسبياً. فعلى الرغم من نجاح الإنسان الأوروبي من تغيير النظام الاجتماعي بقتله للأب، إلا أنه لم يقضِ عليه نهائياً وإنما كبته. وبكلمات أخرى، أقول: أن العشيرة الأبويةً قد انتهت وتغيرت في الحداثة التي أحدثت نقلة إلى عهدٍ جديد بقتلها لجميع شياطينها وآلهتها. لكنها لم تتخلص نهائياً من السلطة الدينية للأب التي قد تكون قد دخلت بعدها فقط في حالة صمت أو كمون لكنها لم تلفظ أنفاسها الأخيرة أبداً وإنما ظلت فاعلة حية قوية جداً على الساحة السياسية والجيوسياسية، للسياسات الداخلية أو الخارجية. إن شبح الدين المسيحي كأبٍ قتله ابنه، أي الإنسان الأوروبي الحديث يسكن أوروبا، بل كامل الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية بصمت، دون استعراض أحياناً وبوقاحة متغطرسة أحياناً أُخرى. لكن على العموم تتوارى قوة الأب المقتول وهيمنته الفاعلة بشكل كبير في السياسة الدولية خلف العديد من الأقنعة التي تأخذ أسماء عدة مثل: حقوق الإنسان، أو دمقرطة العالم، أو الدفاع عن قيم التنوير، ولكن أيضاً، وعلى نحوٍ مفارق، الدفاع العنيد عن العَلمانية. (سأعود مطولاً بفصل كامل لهذا الموضوع…)
المراجع:
[1] Sigmund Freud, Totem et Tabou – Interprétation par la psychanalyse de la vie sociale des peuples primitifs, Trad. Samuel Jankelevitch, Payot, 1976, p 162.
كما لو أن داروين بحديثه عن “الأب العنيف … الذي يطرد أولاده” الخ يعيد إنتاج أسطورة أورانوس أو أسطورة كرونوس، بل وربما جميع الآباء في النظام الأبويّ.
[2] Ibid.
[3] Ibid., p. 161.
[4] Ibid., p. 162.
[5] Ibid., p. 161.
[6] Ibid., p 162.
[7] يُضيف فرويد على حكايته التفصيل التالي: “من الجائز أن تقدماً جديداً للحضارة ـو اختراع سلاح جديد قد منحهم الشعور بتفوقهم.” ص. 163. بالمقارنة مع أسطورة كرونوس فإن المنجل “ذي الأسنان المشحوذة” الذي صنعته جيا سيكون هو المكافئ لهذا السلاح الجديد الذي منح أبناء ذلك الرب الشعود بتفوقهم عليه.
[8] Totem et Tabou, op.cit, p. 163.
[9] Ibid.
[10] Ibid.
[11] Ibid.
[12] Ibid., p. 164.
[13] في رواية الجريمة والعقاب لدوستويوفسكي كان الشعور بالذنب هو من عذّب راسكولنيكوف بعد قتله للمرابية العجوز. كان الشعور بالذنب هو العقاب الحقيقي له والذي سمّم حياته وليس السجن الذي، على العكس، أصبح خلاصه الوحيد فبه، بل بفضله فقط كان يمكن له أن يُكفّر عن ذنبه ويخفف من آلامه التي كانت تلتهم ضميره.
[14] Totem et Tabou, op.cit., p. 164-165.
[15] Ibid., p. 164.
[16] Jacques Derrida, “Préjugés devant la loi” in La faculté de juger – Colloque de Cerisy, Éditions Minuit, 1985, p. 116.
[17] Ibid., P. 116-117.