الأصنام الذهنية: كيف يصنع الإنسان حقائقه؟

تكوين

الإنسان بين الغربة والاغتراب

قدر الإنسان الأكبر على هذه الأرض أنه يعيش بالأفق الذي تجود به عليه أفكاره، ثم بعد ذلك تتحول هذه الأفكار بفعل مؤامرة الزمان والمكان، والتحولات الذهنية التي تفرض عليه أنساقها إلى ثوابت أو مسلمات أو خطوط حمراء، أو حصون للتخلف والرجعية الفكرية، وحينما نتساءل ما هي هذه المساحات التي لا يجوز للإنسان الاقتراب منها، أو ملامسة ذكرها نجد بأن لا شيء في التاريخ الإنساني كان مجمعا عليه، إلى الحد الذي لا نرى فيه خلافا أو اختلافا. بل إن فكرة الإجماع تبدو فكرة طوباوية ومثالية تتجاوز حدود المعقول، ونحن نتحدث عن مفهوم الإنسان الذي يعني في دلالاته الواقعية، وتجلياته البشرية، كل معاني التنوع والاختلاف والتعدد. وربما هذا هو ما صاغه القرآن الكريم بعبارات جامعة حين قال:” وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[1]. أي أن المقصد الأساسي من هذا التنوع الإنساني، هو هذا الاختلاف الحاصل في الأفكار والمذاهب والرؤى، ما لم تتحول إلى إيديولوجيات محطمة لكل القيم والأخلاق الإنسانية. هكذا هو قدر الإنسان، أن الطبيعة البشرية تمنحه هذه الإمكانية، ولكن الطبيعة الفكرية تمنعه من ذلك، فتتحول الأفكار والمعتقدات والمذاهب والرؤى إلى أصنام وأوثان يعكف عليها الإنسان، فتمنعه من رؤية الأشياء خارج حدود الثقافة والموروث الذهني الذي نشأ فيه، وكأن هذا القدر ما يجعل من مسيرة الإنسان تتعطل في الكثير من مراحلها حينما يحن إلى التوحش، والبدائية، والعوالم السحرية التي قطع معها الإنسان منذ تفتقت لحظة وعيه الأولى بإنسانيته، متجاوزا بذلك باقي الكائنات التي يشترك معها في مجموعة من الخصائص البيولوجية والاجتماعية والنفسية.

وإذا كنا أمام كائن يصنع من أفكاره أصناما ذهنية، تستطيع أن تحول كل فكرة إلى صنم عابر للزمان والمكان، فإن هذه المسيرة لم تكن بالأمر اليسير على الإنسانية، كي تعبر من خلالها إلى عالم الإنسان بشقه العاقل، والمتجاوز لحدود غرائزيته. ففي كتابه رفقة الغرباء، يضعنا بول سيبرايت[2] أمام سؤال يختصر مسيرة الإنسان منذ ظهوره بشكل عاقل على وجه الأرض.

كيف روض الإنسان غرائز العنف؟

سؤال يثير فينا هذا الحنين للتعرف على البدايات الأولى لتشكل الظاهرة الإنسانية في بعدها العاقل، وكذلك يصلنا بجذورنا الممتدة في أعماق التاريخ، والتحولات الكبرى التي عرفتها الإنسانية في مختلف مراحل تطورها الفكري والذهني. هنا يمكننا أن نضع أنفسنا أمام مقارنة بسيطة مع أقرب الكائنات القريبة التي تقاسمنا خصائصنا النفسية والاجتماعية، ونقصد هنا الشامبانزي والقردة العليا. فنحن بوصفنا كائنات بشرية، نحن ميالون إلى العنف والقوة والتسلط كلما شعرنا بأننا بمعزل أو بعيدين أو في مأمن من العقوبة. كما نصير مُسالِمين وظرفاء جدًّا عندما لا يُجدي العنف نفعًا. هذا يعني أن الإنسان خلال رحلة طويلة من التحولات الإنسانية الكبرى، استطاع من خلال التعاون بطرُقٍ مختلفة ومُتزايدة، وبفضل ملكاته الفكرية والعقلية، أن يتجاوز فكرة العنف باعتباره الطريق الأوحد لحل نزاعاته المختلفة مع بني جنسه، ومع المحيط الذي يعيش فيه. بل طور أساليب أخرى أكثر غنى وثراء من الحل المتوحش في التعامل مع الآخر والمحيط. لعل أهمها تطويره للعلاقات الإنسانية، خاصة ما سماه بول سيبرايت بالثقة في الغرباء، وهي إمكانيات موصولة بتطوير منظومة القيم والدوافع كالوفاء بالاتفاقات التي لها أهمية كبيرة في تحديد التعاون المستقبلي. وقد تم كل هذا البناء الإنساني عن طريق أسلوبين اثنين: الأولً: هذه الميول نتجت عن تطوُّر الذكاء البشري. والثاني: جاء من خلال انتقاء ما يُطلَق عليه «التبادُلية الصارمة»، أي الرغبة الغريزية في معاملة الآخرين مثلما يُعاملونك.

 ما معنى أن يكون لك صنم؟

يعني بأن الإنسانية في شقها العاقل، هي إنسانية تشقى ببؤسها الفكري، ففي الوقت الذي يجب أن تكون الأفكار والعقائد والرؤى مجرد إمكانات لكائنات محدودة على جميع المستويات، فإن ذلك يتحول إلى أصنام يعجز أمامها الإنسان عن السؤال والتفكير والنظر، وهنا يختار الانزواء على الذات، والعبودية الطوعية في مسيرة مثيرة وغير مفهومة للكائن الوحيد الذي تمرد على حدود طبيعته، وبالتالي وحشيته. هنا تنبه ماركس إلى أن فكرة الصنم، هي فكرة إنسانية تأخذ أشكالا متعددة، فقد تكون عبارة عن مجموعة من الأحجار، كما قد تكون مجموعة من الأفكار، يرعاها الإنسان ويحضنها، ويقاتل من أجلها، فتصبح لها القدرة على مواصلة الحياة، لهذا قال:” عندما تطلب من شعب التخلّي عن الوهم حول وضعه(الاقتصادي/الاجتماعي/السياسي/الديني)، فإنّك تطلب منه التخلي عن وضع بحاجة لوهم “[3]. لذا فالكائن الإنساني من هذا المنظور الماركسي لا يملك واقعا حقيقيا، بل واقعا مؤسسا على الوهم، لأنّ واقعه هو شمس وهمية تدور حوله، ما دام لا يدور حول نفسه.

وإذا كان الكائن الإنساني في تاريخه المختلف يؤسس واقعه على الوهم والأوهام، فإن ذلك يعني أن هذا التاريخ هو تاريخ التطور النامي للإنسان، وفي نفس الوقت تاريخ الاغتراب المتزايد. وإذا كنا نتحدث عن الاغتراب أو الانخلاع فلا بد لنا من الإشارة إلى ما قاله إريك فروم[4] في هذا الصدد، من كون الاغتراب معناه أن الإنسان لا يمارس ذاته كقوة فعالة، في عملية فهمه للعالم، بل كون العالم ما زال مغربا بالنسبة للإنسان، كل الأشياء تقف فوقه وضده حتى برغم كونها مواضيع لخلقه. وإذا ما أمعنا النظر في المفهوم الكلي للاغتراب بحسب رؤية إيريك فروم السابقة، فسنجد بأن هذا المفهوم الكلي للاغتراب يتجسد بشكل واضح في مفهوم الوثنية أو الصنمية كما جسدتها الكتب المقدسة. إذ أن جوهر الوثنية التي تحدث عنها الأنبياء ليست هي أن يعبد الإنسان العديد من الآلهة بدل إله واحد، بل يتمثل في أن الأوثان هي من عمل الإنسان، إنها أشياء يقوم الإنسان بالركوع لها، وعبادتها، أي أنه يخلق أشياء، وبدل أن يتحكم فيها تتحكم فيه، وهو هنا يقوم بجعل نفسه شيئا، أو بتعبير أدق يقوم بتشييء نفسه. وبهذا يصبح الإنسان منخلعا من قواه الحية، والطاقات والإمكانات الممنوحة له بشكل طبيعي، ويكون متواصلا مع ذاته وفي طريقه خضوع غير مباشر للحياة المجمدة في شكل وثن.

لقد منحتنا الرؤية الماركسية أن نرى الوثنية في أبعادها وتمظهراتها المختلفة، فليست الأوثان كما عبرت عنها الميثولوجيات والفلسفات والأديان القديمة مجرد أحجار وأشجار ومنحوتات فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى الأفكار والعقائد والأشياء الذهنية. وحينما عبر العهد القديم عن الروح الميتة للوثن وفراغه بقوله:” العيون التي لهم لا ترى، والآذان التي لهم لا تسمع “، والقرآن الكريم عبر عن عجز الأصنام والأوثان عن النفع أو الضر بقوله:” قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ “[5]، فهذا كان يعني بأن الإنسان حينما ينقل قواه إلى الأوثان، يكون أفقر، وأعجز، وأضعف. لهذا فمفهوم الأوثان أكبر وأوسع من أن نحصره في أشياء مجسدة ومجسمة، فقد يكون تمثالا لإله كما عبرت عنه الفلسفات الإغريقية القديمة، وقد يكون دولة، أو شخصا، وقد يكون فكرة أو أدلوجة أو عقيدة وهو محور دراستنا. فالوثنية تبدل موضوعاتها، حيث لم تعد مقتصرة على الأشكال البدائية في التعاطي مع مسألة الأوثان، بل هي باختصار شديد عبادة الشيء الذي يعطيه الإنسان ويمنحه قواه الخلاقة والمبدعة، ويخضع له بدلا من ممارسة ذاته في فعل مبدع.

  • الأصنام الذهنية أو جنون الإيمان

إذا كان الإنسان من يصنع أصنامه وأوثانه، وإذا كانت هذه الأصنام تتجاوز ما هو متعارف عليه من المنحوتات والتصاميم المجسدة في التاريخ الإنساني، فإن هذا يؤكد مقولة نيتشه الشهيرة:” في العالم من الأصنام أكثر مما فيه من الحقائق “[6]، وهي دلالة كبيرة وخطيرة في الآن ذاته، تعلن بما لا مجال للشك فيه أن ليس هناك إمكانية أن يتجاوز الإنسان قدره الدائم، والأبدي في هذه الصناعة الذهنية، لهذا وصف نيتشه كتابه أفول الأصنام بالحرب، وهو يدرك تمام الإدراك أن الحاجة إلى الأصنام، كما هي الحاجة إلى إعلان الحرب عليها يحتاج أن نفكر بالمطرقة، لأن هناك أصنام متجذرة في تاريخ الإنسان قد استحال استئصالها، أو الاقتراب منها، مع أنها فارغة المحتوى، وعديمة المعنى فقط لأن الناس لا يصفونها بذلك، أو لا يعتبرونها كذلك. هنا يتأكد ما قاله مايكل تانر [7] بأن أكثر أعمال نيتشه حيوية وذكاءً وبهجة على الإطلاق هو كتابه «أفول الأصنام»، الذي حاكى فيه أوبرا فاجنر المشحونة بالهلاك «أفول الآلهة».

لكن المشكلة ليست في الأصنام في حد ذاتها، ولا أيضا في الصناعة التي أتقنها الكائن الإنساني بالرغم من المسار والطفرة العقلية التي صنعها خلال تاريخه الطويل، بل في أن هذه الأصنام حينما تترسخ في ذهن الإنسان، وتصبح جزءا من اغترابه أو غربته، تصير هي المعبِّر الأساسي على ما يسمى بجنون الإيمان، وهو ليس سوى ذلك اليقين الذي تختزنه الذاكرة الفردية والجمعية اتجاه ما تصنعه أيدينا أو عقولنا أو ثقافتنا في فترة من الفترات، بعد أن يتحول بفعل العوامل المختلفة إلى أشياء مقدسة، أي لا يمكن تجاوزها أو المساس بها، والاقتراب منها. هنا نتذكر ما ساقه جمال علي الحلاق[8] في معرض حديثه عن مسلمة الحنفي وهو يمهد بمقدمات لا بد منها تتساوق مع ما نحن بصدده، إذ أن صناعة الأصنام قد تجعلنا نتردد ونخاف من الاقتراب من الحقائق التاريخية المسكوت عنها، وهذا الخوف، وهذا التحريم الذي تقوم به الثقافة والعقل الجمعي المنشئ لها والصانع لمقدساتها، يجعل الأفراد والجماعات على حد سواء في دائرة من الاستنساخ الدائم لمقولات جاهزة، تحال بفعل الصمت والتجاوز إلى أصنام يصعب الفكاك منها، مع أن القرآن الكريم يؤكد في قوله تعالى:” ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين “[9]، متجاوزا بذلك كما يقول جمال علي الحلاق الأذنين، ولكن كيف تحولت كل ثقافتنا وموروثاتنا إلى أذن؟، أي إلى ثقافة سمعية تقدس المسموع والمروي بالرغم من أن القرآن الكريم تجاهلها. هناك ما يجعل هذا الكائن الإنساني مشدودا إلى العيش ضمن سياقات ثقافية روائية سمعية يصعب التأكد منها، كما أن هناك من يزرع الخوف أمام هذا الكائن كي لا يرى خارج ما تعارف عليه الناس في زمن ما، ومكان ما، كأن هناك من يريد أن يرى الإنسان بعين أخرى تتجاوز المحدود والمغلق والمستور، عين تتحسس الوجود والعالم وكأنه يولد معها، وليس عالما من الأسرار والخبايا والخفايا والتقديس والصنمية الذهنية والعقلية.

حينما نصنع الأصنام الذهنية ونعكف عليها، ونبقى أسرى لما نحيطها به من الهالة والتقديس، نكون حينذاك قد قدمنا أنفسنا ضحايا وقرابين لأفكارنا ووساوسنا وهلوساتنا، وهو كما مر معنا التجسيد العملي لمفهوم الاغتراب، إذ أن هذا المفهوم بلغة غير دينية كما يؤكد إيريك فروم،[10] يعادل مفهوم الخطيئة بلغة دينية أي تخلي الإنسان عن ذاته، وتخليه عن الله داخل ذاته. والأخطر في كل الأبعاد التي يتمظهر من خلالها مفهوم الصنمية والوثنية بالمنظور الذي تحدثنا عنه سابقا، هو ما يسميه برنار شوفييه[11] بجنون الإيمان، أي ذلك الجنون الذي تشعله فينا معتقداتنا، وأفكارنا، وما ورثناه من الرؤى والآراء حول الأشياء المحيطة بنا. هذا الجنون الصنمي هو ما يورث فينا التعصب والرغبة الجامحة في التغيير الراديكالي والسريع لكل العالم وكل التوجهات المناوئة أو المختلفة لأفهامنا. وحينما نعكف على هذا الجنون ونزداد يقينا بأننا لسنا أمام أصنام، تزداد الرغبة فينا إلى ممارسة التوحش والفعل التدميري ضد كل الأشياء بما في ذلك التدمير الذاتي، وهنا يتحول العنف إلى قاعدة اعتيادية سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة ما دام الصنم الذهني يغذي فينا هذا الوحش الكامن فينا. إنه جنون الجماعة المؤمنة بأصنامها وتمثلاتها الجمعية، وثقافتها المقدسة، حينما تصنع سياجات وحصون تقيها من السؤال والنقد والدراسة. وبما أننا أمام أصنام تصنع العنف وترعاه وتحضنه فكريا وشعبيا، فنحن هنا أمام خطر دائم، يخفت ويظهر بين الفينة والأخرى، ما دام وراء هذه الأفعال، وهذه الأصنام الذهنية أناس وهبوا أنفسهم لمبادئ ومعتقدات وأفكار، يناضلون من أجلها، ويعبرون عنها باعتبارها خلاصهم وخلاص الإنسانية جمعاء، بالرغم من أنهم يتسولون العنف في كل ممارساتهم التدميرية ضد الذات وضد الآخر والمحيط الذي يعيشون فيه. لا بد أن هناك شيئا ما يغذي هذا الجنوح إلى العنف والتطرف، ولا بد أن يكون هذا الشيء يشبه اقتران الإنسان بأصنامه وخضوعه لها، إذ التعصب أو جنون الإيمان ليس جنوحا عابرا، بل هو طريقة في التفكير، وطريقة في الفعل ممنهجتين، أن يعيش المرء عاكفا على جنونه وأصنامه الذهنية، لا يعني أن هذا الاعتكاف مجرد وسيلة فحسب، بل هو غاية وهدف أيضا.

إننا أمام حالة صنمية ذهنية تتجاوز المألوف، وتتحدّى العقل الإنساني، وتجعله أسير معتقداته وأفكاره، وتحوله إلى آلة في يد ما صنعه هذا العقل. هنا الاغتراب في أشد صوره بشاعة، وهنا الغربة عن الذات وعن الآخر، حينما يعجز الإنسان أن يتجاوز ما صنعته أوهامه، وأنماط تفكيره، وأساليب تكوينه الفكري والعقلي. صحيح أنّ المتعصب إنسان المقدّس بامتياز كما يرى برنار شوفييه[12]، لكنّه ليس أيّ إنسان ولا المقدّس أيّ مقدّس. فالإنسان هنا يهب نفسه وروحه في سبيل قضيته، كما أنّ المقدّس هنا يتقمّص المثال والمطلق، لدرجة أنّه يغطّي حتى ذلك المجال الذي يفترض أنْ يكون بعيدا عنه أيْ مجال المدنّس. وبالتالي نحن أمام حالة صنمية من نوع آخر، صنمية الأفكار، وصنمية الثقافة، وصنمية الاعتقاد الجمعي، وليست صنمية المنحوتات والتماثيل كما تعارف عليها الناس قديما وحديثا، وقد أشار إلى ذلك الطاهر بن عبد الجليل حين قال بأنّ الأصنام المقصودة في هذا السّياق هي:”  شيوع بعض الأوهام والأساطير والفِكَر المغلوطة التي لا تخضع للبحث العلمي والمنطق، يتعصّب لها الإنسان ويتحيّز، فتؤثّر في كلّ وجوه حياته الفكرية، فتقيّد عقله وتحدّده، وتقرّر علائقه وصلاته مع النّاس كمّاً وكيفاً، وتعمل على تقويتها واستمرارها حيناً، وعلى تقليصها وقطعها وبترها ورتقها حينا آخر “[13]. ويمكن حصرها كما أشار إلى ذلك داريوش شايغان في ثلاثة أنماط ذكرها فرانسيس بيكون[14]:

  • أصنام القبيلة: هي المعتقدات في ذهن الإنسان والكامنة في قوميته. ذلك أنّ أيّ إدراك نابع من الحواس والذّهن، هو إدراك منفصل عن قوالب الذّهن المسبقة ولا يتطابق أكيدا مع واقع الأشياء. وبالتّالي سيكون ذهن الإنسان أشبه بالمرايا غير المستوية التي تخلع خصائصها على الأشياء.
  • أصنام الكهف: هي تلك المعتقدات الخاصّة بالفرد، فالإنسان بصرف النّظر عن عصبياته وأخطائه الجماعية التي تتسرّب إليه عبر انشداده إلى قبيلة أو فئة معيّنة له عصبياته الفردية أيضا. إنّها عصبيات تُفسد النّور الطبيعي للعقل البشري عن طريق توظيف الميول الشّخصية والسّنن التّعليمية والمراجع التقليدية التي تلهم الإنسان.
  • أصنام السّوق: تنحتها معاشرة النّاس لبعضهم البعض، وعلاقاتهم في ما بينهم. لا سيما العلاقات الشّفوية المباشرة.
  • أصنام المسرح: عبارة عن النّظم الفلسفية الكبرى الموروثة عن الماضي، سواء كانت يونانية أو مدرسية، إنما هي ألعاب متنوّعة تتحرّك على مسرح التّاريخ.

 

  • الأصنام الذهنية والسطو على مدارات التاريخ

لم يُدَرْ التاريخ يوما بمعزل عن سيطرة الأصنام الذهنية، ففي نهاية المطاف هناك أفكار وراء تحريك التاريخ، وخلف توجهاته الكبرى، بدءا بالنشأة الأولى، وصولا إلى المراحل التي وصل إليها الإنسان المعاصر. لقد كان هيجل هو الذي أغنى مفهوم الاغتراب كما يؤكد إيريك فروم، حين اعتبر أن تاريخ الإنسان هو في الوقت نفسه تاريخ اغترابه. لأن بالنسبة لهيجل كما بالنسبة لماركس فإن مفهوم الاغتراب يرتكز على التمايز بين الجوهر والوجود، على حقيقة أن وجود الإنسان مغرب عن جوهره، وعلى أنه في الحقيقة ليس هو ما هو كامن في فيه، وإذا أردنا وضعها بشكل آخر، إنه ليس ما يجب أن يكونه، لذا يجب أن يكون ما هو باستطاعته أن يكون. هكذا هو التاريخ الإنساني المتلبس والملتبس بكل ما هو بشري، تاريخ من الغربة والاغتراب، ومن السلطة والتسلط، ومن التشويه والتضليل أكثر من الحقيقة والواقعية. ولأن تاريخنا مليء بالأصنام الذهنية، فقد غدت هذه الأصنام التاريخية سواء كانت مراحل تاريخية، أو أشخاصا، أو أحداثا أشياء مقدسة يطالها التحريم والتقديس. وكأي تاريخ مقدس، وثقافة محاطة بالكثير من التبجيل والمجاوزة للواقع، هناك الكثير من الزوايا التي يحرم على الإنسان الاقتراب منها، أو حتى التفكير في ملامستها. لأن زاوية التحريم التي تفرضها الأصنام الذهنية تكشف كما يقول جمال علي الحلاق[15] العمق الخفي لإنتاج الوعي، وبالتالي فإن الأسلوب المتبع في قراءة الرواية التاريخية، يقوم على إقصاء المراكز الفاعلة، وخلق بؤر واحدة، تشع إلى الجهات كلها. وكي نخرج من هذه الدائرة الصنمية التي يعاني منها التاريخ في بعده الإنساني عموما، وفي بعده العربي الإسلامي على وجه الخصوص لا بد من البحث والدراسة، وهنا يمكن أن نقترح ما أشار إليه جمال علي الحلاق وهو القراءة التاريخية من الداخل، أي الاقتراب من الفم الناطق بشكل أولي، ثم الانطلاق إلى الفم المقموع أو المسكوت عنه بتعبير آخر في المرحلة الموالية.

ولكن داخل هذه الأسوار المغلقة، والتاريخ المملوء بالأصنام الذهنية والفكرية والثقافية، هناك عقبات وأسئلة وفخاخ تنتظر كل من يريد أن يكشف عنها. لهذا لا بد من الحيطة والحذر. لأن الاقتراب من المساحات الملغومة ثقافيا يحفها الخوف، خوف من ملاحقة الحشود للباحث، وخوف من المتربصين والمترصدين للعثرات، وخوف من أن يتحول اغتراب الإنسان إلى غربة تطيل محنة الإنسان المثقف. هكذا هي محنة الإنسان المنفتح، وهكذا هو السبيل الذي يسلكه كل من يرغب في تحطيم الأصنام التي حولها التاريخ إلى أشياء يصعب الفكاك منها. وحده السؤال من يرصد ويتتبع ويحلل. ولكن قليلون هم من يبحثون في المساحات الضيقة، وفي الهوامش المهملة من التاريخ. وإذا كانت الجهود منصبة فقط على ما يكتب، فإن النتيجة الأساسية هي أن ما يكتب مليء بالكذب كما هو مليء بالأحداث والوقائع. وكلما ركز الباحث عن المناطق المعروفة والمكتوبة، كلما خان وظيفته ورسالته؛ واستقل من مهمته التنويرية، إذا لم ينبش في المساحات المهملة والمسكوت عنها. كأن الباحث حينما يركز على المناطق المضيئة، يريد أن يكرر نفسه ويستنسخ تاريخه المزور بشكل أبدي؛ ليحولنا معه إلى مجرد فائض لا معنى لنا على الإطلاق.

إن مؤدى هذا الكلام يعني أننا أمام تاريخ إنساني مليء بالحشد والتخطي والتجاوز والتضليل، وهي أساليب نابعة وصادرة من هذا التحنيط الفكري الذي نعيشه بفعل الصنمية الذهنية التي تخترق واقعنا وتاريخنا على حد سواء. وإذا أدركنا هذه الحقيقة من كوننا ضحايا لصنمية عاثت فسادا في مخيلاتنا وتمثلاتنا، لم نعد نخجل من القول بأن التاريخ الحقيقي هو ذلك التاريخ الذي لم يكتب، أو لم يرد له أن يكتب، ولكن ما زال هناك ما يشير إليه، أو يدل عليه، ويحتاج فقط من يحفر وينبش ويعري حاملا مطرقته وأدواته، مزودا بالكثير من الصبر على اختراق المستور والمطمور في ثقافتنا، عبر ثلاث استراتيجيات كبرى يتم بها تهريب التاريخ وأحداثه ضمنها، وهي:

  • التعمية: تتجلى هذه الممارسة بذكر الأخبار دون ذكر أصولها، فتبدو بلا تجذير، كما لو أنها نبتت في فراغ، كاستخدام أحدهم جملة من قبيل قال أحد الحكماء، أو قال أحدهم، أو عن بعض أهل العلم.
  • التضبيب: تتجلى هذه الممارسة بجعل الخبر أكثر انفتاحا، في القراءة والتأويل والفهم.
  • التجزيء: من خلال طرح جمل قصيرة وامضة سرعان ما تختفي في ظلمات الكتب الضخمة، لو أخذت على انفراد لما أنتجت معنى، يمكننا أن نؤسس عليه فهمنا، أو تأويلنا لحدث أو واقعة، أو قصة. لكنها في حالة تجميعها معا وإعادة تركيبها، فإنها تتحول في النهاية إلى آلية يمكن من خلالها الوصول أو الاقتراب من قراءة حادثة تاريخية معينة على أقل تقدير.

 

المصادر والمراجع:

[1] – سورة هود الآيتان 18 /19

[2] – بول، سيبرايت. رفقة الغرباء تاريخ طبيعي للحياة الاقتصادية. ترجمة رشا الدخاخني. مؤسسة هنداوي، ط1، 2020. ص: 93.

[3] – ماركس،كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf.  ص:1

[4] – إيريك، فروم. مفهوم الإنسان عند ماركس. محمد سيد رصاص. دار الحصاد للنشر والتوزيع،ط1،1998، ص:63.

[5] – سورة الأنبياء الآية 66.

[6] – نيتشه، فريديريك. أفول الأصنام. ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي. إفريقيا الشرق، ص: 7.

[7] – مايكل، تانر، نيتشه مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مروة عبد السلام. مؤسسة هنداوي،ط1،2015

[8] – الحلاق، علي جمال. مسلمة الحنفي قراءة في تاريخ محرم. منشورات الجمل، ط8،2008. ص: 5 .

[9] – سورة البلد الآية 9.

[10] – إيريك، فروم. المرجع السابق، ص: 66.

[11] – شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017. ص: 9.

[12] – شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017. ص: 12.

[13] – الطاهر، عبد الجليل. أصنام المجتمع بحث في التحيز والتعصب والنفاق الاجتماعي. بيروت. مكتبة التنوير،ط1، 2016. ص: 12.

[14] – داريوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. بيروت، دار الهادي، ط1، 2007. ص: 33.

[15] – جمال، علي الحلاق. المرجع السابق. ص: 12.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete