تكوين

تواجه الأديان اليوم أزمة روحية لا تخلو من بعض الحدة في بعض الأحيان، حيث يفتقد خطابها الرسمي إلى القدرة على إقناع شباب اليوم، والذي لم تعد تستهويه الإيديولوجيات الخلاصية، لم تعد تستهويه السرديات الكبرى، لم تعد تستهويه مسألة حفظ الأقوال والقصص والإحالات عن ظهر قلب، بل بوسعه أن يستخرج أي معلومة يحتاجها من شاشة سحرية في جيبه، ثم يستعملها في الحال وينساها في الحال تبعا لمقتضيات الأحوال. شباب اليوم لا يتمسك بخياراته طويلا، بل قد يغير رموزه وأذواقه وأبطاله بين عشية وأخرى، وقد يتنقل بقدر عال من السلاسة بين مرجعيات هي في الأصل متضاربة، وهو لذلك يحتاج إلى آليات إقناع أكثر سلاسة ومرونة. لا يتوقف الأمر على بعض مظاهر التشبيب أو التأنيث كما فهم بعض “المجددين الصوريين”، بل يتعلق الأمر بالحاجة إلى مصالحة حقيقية بين الخطاب الديني والطبيعة البشرية. قديما قال علي بن أبي طالب، “إذا أردت أن تطاع فأمُر بما يستطاع”. والواقع أن الخطاب الديني الشائع عندنا يطالب الناس بما يناقض طبيعتهم البشرية، وهنا تكن أزمته الإقناعية. على أن التطرف الذي ينفجر بين الفينة والأخرى ويجرف شبابا في مقتبل العمر، لا يعني القدرة على الإقناع بأي حال، بل كل ما يعنيه هو القدرة على التهييج وإثارة الانفعالات الأشد شراسة، من قبيل الكراهية والحقد والغيرة والغضب، إلى غاية الاكتئاب الانتحاري.

إن كان إنسان القرن الواحد والعشرين لا يزال في حاجة إلى عزاء الأديان وسط كون يزداد غموضا كلما ازداد انكشافا، كما لو أن الأمور تتجه عكس سيرورة نزع السحر عن العالم التي سبق أن توقعها ماكس فيبر، إلاّ أنّ قدرة الأديان على البقاء في عصر الجينوم، الاستنساخ، تقنية النانو، الآلات فائقة الذكاء، استيطان الفضاء، الأكوان الموازية، واحتمالات وجود حياة أخرى أو حضارة أخرى داخل مجرتنا أو خارجها، ستكون رهينة بإعادة بناء خطاب ديني أكثر حكمة وتبصرا وذكاء، عوض التمسك بتصورات تحيل إلى عالم القدامة. مثلا، فإن إصرار الخطاب الديني الشائع على تصور أن الأرض توجد “تحت العالم”، وأن النجوم والكواكب توجد “فوق العالم”، تبعا لما كانت عليه تصورات العالم القديم، من شأنه أن يجعل الأديان اليوم تبدو مثل والدة طاعنة في السن، يرجو أبناؤها بركتها رغم عدم اقتناعهم بأي شيء مما تقول !

لذلك حين أقول، تعاني الأديان من أزمة متفاقمة، فواضح أن هذا القول لا يحمل أيّ نوع من الإساءة إلى الأديان، بل يمثل إقرارًا بأنّ الخطاب الديني ينبغي أن يدخل في مرحلة جديدة من التطوّر موازاة مع تطور الحياة. ذلك أن الأزمة ليست عائقا بل حافزا للتطور. فإذا كانت دعوى غاستون باشلار بأن تاريخ العلم هو تاريخ أزمات العلم، تمثل إقرارًا بالطابع الإيجابي للأزمة باعتبارها عاملًا للنمو والتطوّر، فكذلك الأزمات بالنسبة للأديان، إنها فرصة سانحة للخروج من حالة الجمود والتحجّر والدخول في مرحلة جديدة من النماء والارتقاء.

إذا كانت الأزمة هي ما يتيح إمكانية تطور الأديان لأجل مسايرة تطور الحياة، فإنّ الاستجابة لعنصر التطور الكامن في الأزمة يستدعي تحقّق شرطين أساسيين:

أوّلًا، إقرار قادة الرأي في العالم الإسلامي بوجود الأزمة.

ثانيًا، إقرار صناع القرار في العالم الإسلامي بالحاجة إلى الإصلاح.

المعضلة الأولى أن المجتمعات الإسلاميّة لا تُوفر الشرط الأوّل كما ينبغي، أو ليس بعد، فلا يزال الإنكار سيد الموقف، وهو إنكار قادم من جهتين متقابلتين، جهة من يظنّون أنّ الأزمات لا يمكن أن تصيب الأديان طالما تحرسها عين الله، وجهة من يرون أنّ الأديان مجرّد أوهام لا تزال باقية إلى الآن بسبب تفشي الظلم والجهل والحرمان، وأنّ الأزمات الكامنة في الأديان ليست سوى انعكاس للأزمات الواقعة في مستوى الأعيان، كما نّ حلولها الممكنة لن تتمّ إلّا على أرضية الواقع المادي للناس، وذلك بمعزل عما تقوله الأديان، أو يُقال باسم الأديان.

المعضلة الثانية أن الشرط الثاني بدوره غير متوفر، إذ ثمة اعتقاد شائع بأنّ الكلام عن الإصلاح الديني يتناقض مع الاعتقاد بأنّ الدين كامل مكتمل، وأنه مثل لوحة فنان كبير لا يمكنك إجراء أي تعديل دون تشويه اللوحة، يقابل هؤلاء أولئك الذين أنكروا قابلية الأديان للإصلاح، فجعلوها مثل الأنظمة الشمولية التي لا تصلُح إلا بانهيارها، وبالتالي فإنّ مآل الأديان أن تُهجر مثلما تُهجر الأبنية الآيلة إلى السقوط.

مطارحتي الأساسية في الموضوع تقوم على دعوى قد لا تكون جديدة بالتمام، لكنها لا تخلو من بعض الجدة في مستوى الصياغة والمضمون، مفادها أن تحديث الخطاب الديني سواء في الإسلام أو سائر الأديان، يمثل حاجة أمنية وضرورة تنموية لا غنى عنها، لا سيما في المجتمعات التي تنتشر فيها مظاهر التدين.

لأجل ذلك، بإمكاني أن أبسُط ثلاث ملاحظات أساسية حول الخطاب الديني الشائع في مجتمعاتنا:

الملاحظة الأولى، ذلك الخطاب الديني لا يزال متمسكا بجهاز مفاهيمي متحدر من عصر التوسعات الإمبراطورية، حيث تطغى المفاهيم الاحترابية على منوال، دار الحرب، الغنيمة، الجزية، أهل الذمة، العورة، لواء الإسلام، إلخ. وهو جهاز مفاهيمي لا يناسب عصر الدولة الوطنية، ولا يناسب متطلبات دولة المؤسسات والحق والقانون، لذلك طبيعي أن تغلب على المتخيل الديني حالة الانفصام التي تدفع بالبعض إلى التمادي في الغلو، إلى درجة الهجرة للقتال أو الإرهاب الانتحاري. صحيح أن ديانات أخرى عانت من المعضلة نفسها خلال عقود قريبة ماضية، لا يمكننا أن ننسى ذلك، إلا أن النقد مثل الصدقة في الأقربين أولى.

الملاحظة الثانية، ذلك الخطاب الديني يعمل على ترسيخ منظومة قيم تكرس سلوك الريع والتواكل واحتقار الإبداع والعمران انطلاقا من غرائز التوحش المدعومة بثقافة “محبة الموت”. “إننا قوم يحبون الموت”، هكذا كنا نصرخ ولا نزال. والنتيجة فشل في البناء. كما أن هناك نزوع إلى ربط الأرزاق بمشيئة الغيب بدل الجهد المبذول، وهو ما يمثل ألغاما ثقافية أمام كل المشاريع التنموية الممكنة.

الملاحظة الثالثة، ذلك الخطاب الديني يمثل تهديدا للسلم الأهلي من خلال إصراره على ترويج بعض المبادئ الفقهية التي تهدد العيش المشترك، من قبيل مبدأ الولاء والبراء، والذي معناه في معظم التأويلات الفقهية، أن يتبرأ المواطن المسلم من جاره أو زميله أو رفيقه غير المسلم، ولو بالقلب إذا عجز اللسان. غير أن البراء الكامن في القلب ينتهي عاجلا أم آجلا إلى أن يتكلم سواء باليد أو اللسان.

هنا يكمن الوجه الأساسي لمعضلة الأمن الروحي في معظم المجتمعات التي لم يخضع فيها الخطاب الديني للتحديث المنشود، أو ليس بعد.

لقد فشل رجال الدين في تحقيق السلام بين مختلف الأديان، وبين مختلف الطوائف والمذاهب والجماعات الدينية، وذلك رغم جهود الكثيرين منهم، ورغم فترات الهدنة التي كانت تطول أو تقصر تبعًا لقوة الدولة أو تبعا للمزاج العام، وهو فشل نابع مما سبق أن قاله جان جاك روسو في آخر كتابه الشهير، “في العقد الاجتماعي”، حين قال:

ليس سهلا أن يكون هناك سلام بين شخصين، يعتقد كل واحد منهما بأنّ الله ساخط على الآخر.

مجتمعات كثيرة عاشت عقودا طويلة من الهدنة، إلى أن نسيت الأحقاد الطائفية والمذهبية، إلا أن اللاوعي الجمعي لا يعرف النسيان، حيث ظلت الفتنة راقدة تحت الرماد الناعم، وظلت بعض المفاهيم والقيم التي يتداولها الناس باسم الدين كألغام موقوتة تنتظر ساعة الصفر، ساعة الانفجار.

ربما تكون الأديان اليوم جزء من المشكلة بفعل خطابها الشائع والذي تشكلت بنيته الأساسية داخل تصورات العصر الوسيط، عصر الحروب الدينية والغزوات القبلية والتوسعات الإمبراطورية، لكن الحكمة تقتضي أن نعمل على تحويل عناصر المشكلة نفسها إلى جزء من الحل، وهو ما يعني الحاجة إلى بناء خطاب ديني يساهم في تحقيق الأمن والتنمية والسلام.

هل هذا ممكن؟

أراهن على ذلك.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete