تكوين
مقدمة
وسط ما يعيشُه الإنسانُ المعاصرُ من مآزق وقلقٍ وصراعاتٍ تولّد الإحساسَ بالخوف الشديد، يزدادُ الاصطفافُ ضمن جماعاتٍ ترفعُ من حدّة خطابها لتحفيز المُنضوين في صفوفها على الاستنفار، وتحريضهم على مواجهة الآخر المختلف.
ترتفع الأصوات التي تدعو أصحابَ الرأي الواحدِ لكي يتّحدوا في مواجهة المخاطر، وتضخيمِ صورةِ من يرون فيه العدو الشرس الذي يرغبُ في إلغائهم. تنافسٌ وتناحرٌ على امتلاك الحقّ والسيطرةِ الكاملةِ على الوعي، ونشرِ الرؤيةِ الأصح، والهدفُ إخضاعُ أكبرُ عددٍ من أولئك الآخرين المرميين في دائرة التخوين .
تضجّ الشاشاتُ الإعلاميةُ في بثّ موجاتِ الحقدِ وإشعال النعراتِ وتعميقِ الهوّة بين المتشابه والمختلف، بين الهنا والهناك، بين الأنا والآخر. حدودٌ تُرسم، وجدرانٌ تُرفع، وسياجاتٌ شائكةٌ تمتدّ حتى تصل إلى حدّ الفصل بين الإنسان وأقرب الذين يُحيطون به. وكأن عصرَ التشظّي قد فرض شروطه على أوسع نطاق، وأصبح من الصعب القيام بصدّه أو حتى مقاومته.
نلحظ أنه يتمّ تعميم ظاهرة العنف في سبيل تحقيق المزيد من القهر أو التغلّب أو السيطرة على من هم يُصنّفون بالأضعف. إنهم الأقلّ قدرةً على الصمود في وجه ما يجتاحُهم من أعاصير تبدّد وجودَهم، أو في أفضل الأحوال، تقلبُه رأساً على عقب. المُلفت أن ظاهرة العنف أصبحت ظاهرةً شبه عادية، لا بل شبه مقبولة، وما على المتضرّر منها إلا أن يتأقلم معها بطريقة أو بأخرى، فيتقبّلها، ويتعايش معها على الرغم منه. أوجه الضعف اليوم باتت تظهر بقوة في من ليس لديهم القدرة على الصمود، ثقافياً، وهويّاتياً، واجتماعياً، أمام مدّ المخاطر التي تهدّد الإنسان في عيشِه اليومي بحدٍّ أدنى من الكرامة وعزّة النفس.
ما الذي يمكن فعلُه وسط كل هذه التحدّيات المصيرية؟ هل للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع من دورٍ في مقاربة موقف الإنسان القلق تجاه ما يحيط به من موجات فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية تهدّد كيانه الداخلي، وتجعله فريسة للقلق والتقوقع والانعزال؟ ما الذي يجعل الإنسان يُقدِم، انطلاقاً من وعيه بحجم القوة التي بين يديه، على اقتحام خصوصيّة الآخر، فيعمل على تقليصها أو تشويهها أو تدميرها؟
الصراع من أجل الاعتراف
شاع في الفلسفة الاجتماعية تصوّرٌ حول مفهوم “الصراع من أجل الاعتراف” يحيلُ إلى الصراعات على الهوية والاختلاف الثقافي في المجتمع الواحد أو بين المجتمعات. يشير أوليفيي فوارول إلى أهمية هذا الموضوع والتوقّف عنده من أجل “فهم الدور المتزايد لمطالب الاعتراف المرتبطة بالهوية والإدماج الرمزي والقانوني لفاعلين، فرديين أو جماعيين، محرومين من الاعتراف“.[1] في السياق عينه، يلفت فوارول الانتباه إلى أن مسألة الاعتراف حاضرة في عمقِ عددٍ كبيرٍ من النزاعات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، وهي تتخطّى التصوّر المقيّد السائد. من هنا، فهو يرى أن “حصر الصاعات من أجل الاعتراف في مجالٍ واحدٍ، رمزيّ أو هوياتي، إنما يُجانب الرهانات الاجتماعية والنظرية التي يثيرها هذا المفهوم“.[2] من هنا يأتي اقتراحه بالقيام بمقاربة شاملة لما يسمّيه بـ “دوافع الفعل الجماعي“، كما لـ “التجارب الأخلاقية” التي تشكّل منطلقاً لهذا الفعل الجماعي. كذلك يشير فوارول إلى إنه تمّ استخدام عبارة “الصراع من أجل الاعتراف” خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي في وسط معارك الأقليات ومعاناتها في العالم الأنجلوسكسوني، بسبب شعورها بتهديد هوّياتها الثقافية وممارستها الاجتماعية. فالأقليّة تشعر عميقاً باختلافها ثقافياً عن الأكثرية المحيطة بها، وهي تخشى أن تصل إلى فقدان الهوية أو تنامي الاضطهاد لمجرد الاختلاف. لذا، تبدأ الأقلية بالعمل على حشد الطاقة من أجل الدفاع عمّا تخشى زواله، أو إذابته في المحيط الأوسع. فقدان الهوية الثقافية بات أمراً يهدّد ليس فقط الأقليات في المجتمعات الأجلوسكسونية، إنما يضع دائرة أوسع من الثقافات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة في دائرة الخطر. يستشهد فوارول بما قاله تشارلز تايلور بأن
“الصراع من أجل الاعتراف شاهدٌ على الدور الجوهري للانتماء الجماعي في التكوين الفردي والجماعي، وعلى ضرورة حمايته من التهديدات التي تستهدفه”.[3]
إن الكلام على الاعتراف بالآخر، وبخاصة الاعتراف بالأقليات الثقافية، أصبح أكثر إلحاحاً مع انتشار العولمة وبسطِ شروطِها على المجتمعات المعاصرة. إن العودة إلى تصوّر الذات تصوّراً أنانياً مرتبطاً بالفرد باعتباره ذرّة مستقلّة في المجتمع، وقائمة بذاتها، أصبح مهدّداً لأنه لا يستطيع تأمين المعالجةِ الكافيةِ للقلقِ الناتجِ عن الشعور بالاضطهاد وتهديدِ الهوية الثقافية. لذلك تأتي أهميّةُ الدفاع عن مبدأ الاختلاف بالنسبة إلى تايلور عن طريق المطالبةِ بالحقوق الجماعية، وليس فقط، كما حصل في المجتمعات الليبرالية، عن طريق السعي إلى تأمين الحقوق الفردية. انطلاقاً ممّا تقدّم، يستنتج فوارول أن
“الذوات الاجتماعية الحاملة للصراع من أجل الاعتراف ستكون في المقام الأوّل هي الأقليّات الإثنيّة أو الثقافية أو اللغوية التي تطالب بالاعتراف باختلافها باسم مبدأ التعدّدية – والذي لا يقلّ رفضه عن شكلٍ من أشكال الظلم حسب تايلور”.[4]
من هنا تتضّح الصورة الكامنة وراء الصراعات داخل المجتمعات التعدّدية، إذ يصبح الاعتراف بالآخر ككائنٍ متميّزٍ ومختلفٍ هو الهدفُ الأساسُ لدى كلّ طرفٍ، بمعزلٍ عن حجمه، وقوّته، وفاعليّته. فالصراع سيبقى مضطرماً، والعنف مشتعلاً في تجلّياته المختلفة، طالما أن هناك منتصراً ما لا يعترف بالآخر، حتى ولو كان أكثر ضعفاً منه، أو أقلّ شأناً بالنسبة إليه. لكن يبقى السؤال:
- من هو هذا الشخص البشري في العمق؟
- وماهي مقوّمات فرادته؟
- وهل هذه الفرادة تحول دون تقبّله للآخر المختلف وإيجاد سبيلٍ محدّدٍ للتواصل معه من دون اللجوء إلى العنف، أو الإقصاء، أو الإجبار على التشبّه به؟
يرى كارل ياسبرس أنه في “وسط هذه العتمة التي تحيط بالإنسان، يجد هذا الأخير الإرادة الكافية لقيادة حياته حسب ما تقتضيه الفلسفة”. فهو يعتبر أن التساؤل الفلسفي، قد يدفع الإنسان في اتجاه البحث عن المعنى، فيطرح السؤال تلو الآخر: “من أنا؟ ما الذي ينقصني؟ ما الذي يتعيّنن عليّ فعله؟“.[5] وفي سياق البحث عما يجب فعله يشير كارل ياسبرس إلى نمطٍ من السلوكِ الفلسفيّ بإمكان الإنسانِ أن يقوم به من أجل أن يتمكّن من فهمِ الحياة فهماً عميقاً. يشدّد على أن السلوك الفلسفيّ يتحقّق من خلال طريقتين مختلفتين: “طريقة التأمّل المنعزل، يتعلّق الأمر بالخشوع في مختلف تجلّياته. وطريقة التواصل مع الناس، من خلال التفاهم المتبادل، حول الفعل المتّفق عليه، أو تبادل الكلام، أو الصمت المشترك“. ويؤكّد في هذا السياق على أنه “من الضروري أن يكون لنا نحن البشر، كلّ يوم بعض اللحظات المخصّصة للخشوع العميق”.[6]
إقرأ أيضا: سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية: الجزء الأول
من هنا، وبعد تتبّع ما تقدّم، نجد الإنسانَ المعاصر يقف أمام تحدٍّ يوميٍّ يكمُنُ في مواجهة ما يُعيقُه للقيام بفعل التفكيرِ والتأمّلُِ والتحليلِ والحفرِ عميقاً. إن هذه الأفعال تتطلّب إرادةً في تحقيقها، ورغبةً عارمةً في القيام بها، لأن المعوّقات كثيرة ومتنوّعة، تختلفُ بين ظرفٍ وآخر. هذا الإنسان أصبح مجبراً على النهوض بنفسه، وتحمّل مسؤولية إيجاد الأجوبة على أسئلته المقلقة، مهما كان الجدُ مضنياً. لم يعد بإمكانه انتظار الإجاباتِ الجاهزةِ والمعلّبةِ لكي يتبنّاها ويشفي غليلَه في خطوةٍ واحدة. يُجيب إيمانويل كانط عن السؤال الشهير الذي تعمّد طرحه: “ماذا تعني الأنوار؟” من زاوية نقدية على النحوِ الآتي: “إنها خروجُ الإنسانِ عن حالةِ قصورِه، ذلك القصورُ الذي يكونُ الإنسانُ ذاتُه مسؤولاً عنه. وأنا أعني بالقصور عجزَ الإنسانِ عن استخدام فهمه دون توجيهِ الآخرين، كما أقولُ بأن الإنسانَ ذاتَه هو المسؤول عن ذلك القصور لأن السبب فيه لا يعودُ إلى عيبٍ في الفهم، وإنما يرجعُ إلى غيابِ القدرةِ على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهمِ دون قيادةِ الآخرين”.[7]
اشتغال الفرد على نفسه
واضحٌ هنا التشديد على اشتغال الفرد على نفسه، وتحمّل مسؤولية تأمين المعرفة والخروج من الجهل، بعيداً عن الكسل والخوف، مما يجعل الطريق صعباً وشائكاً. إنسانُ الحداثةِ يتمّ التعاطي معه كفردٍ بلغ سنّ الرشد والنضوج، إنه مسؤولٌ عن تنشئتِه المعرفيّة. إذ أصبح من واجبه هو العمل على إيجاد الإجابة المناسبة على الأسئلة التي تواجه وعيَه يومياً. إنسانُ الحداثةِ مدعوٌّ إلى تحمّل مسؤوليةِ قيادةِ فكرِه، ممّا سينعكسُ مباشرة على قيادة حياته، بما فيها من عثراتٍ ومشاكل وتحدّياتٍ مقلقة. فالمواجهات اليومية ليست فرديةً فحسب إنما تنعكسُ على الجماعة التي تختبرُ الظروفَ عينَها، والصراعات نفسَها.
عطفاً على ما تقدّم، نجد جان بول سارتر يصرّح بأنه:
“ليس الإنسان شيئاً آخرسوى مشروعِه، إنه لا يوجد إلا من حيث أنه قادرٌ على تحقيق ذاته، إنه ليس شيئاً آخر سوى مجموعِ أفعالِه، ليس شيئاً آخر سوى حياته”.[8]
فهو بالتالي صاحب مشروعٍٍ، يتحمّل مسؤولية ذاتِه، ويسعى إلى تحقيق وجودِه وفردانيّتِه من خلال هذا لمشروع بالتحديد. لذلك، يمكن أن نتوقّف هنا عند هذه الملاحظة التي قد تفيدنا في مقاربة الاختلاف، ومسألة الاعتراف بالآخر. فكلّ إنسانٍ له الحق في حمل مشروعِه الخاص، والعملِ على تحقيقِه، من دون إلغاء الآخر، أو التحكّم بإرادته، ولا بالخيارات المتعلّقة بهذا المشروع. هذه النظرة الوجودية التي تركّز على الأنسنة باعتبارها مشروعاً حرّاً يخصّ كلّ فردٍ في المجتمع، من شأنها أن تفتَح أفقَ التعدّدية، وقبولِ الاختلاف، والاعترافِ بالآخر. هذه المقاربة قد تنمّي نزعةَ التوقِ نحو الأبعد، نحو المزيد من التحرّر مما هو ضيّقٌ ومحدودٌ وصارم، لكي تفتح الإنسان على احتمال مشاريع أخرى مؤجّلة يمكن أن يجدَها تتحقّق لدى الآخر الذي تمكّن من التعرّف على إمكاناته، واستغلال طاقاته، وترجمةِ رغباتِه الدفينةِ ونقلها إلى حيّز الوجود. فالإنسان في العالم هو المحور، والاشتغال على الذات هي المهمّة الصعبة المطلوبة. والتعاطي مع الأقليات في المجتمع، من هذه الوجهة، لا يعود أمراً منغمساً بالعنف أو منحصراً بالإقصاء، إنما يصبح أكثر انفتاحاً على تجارب إنسانية أخرى، لها شروطُها، وظروفُها، وحيثياتُها المختلفة، لكنّها تبقى مرتبطةً بشكلٍ وثيقٍ بالإنسان.
إقرأ أيضا: التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف
في سياق أخر، يرى كارل غوستاف يونغ خلال بحثه في “الشخص بين التفرّد والفردانية” أن
“الفرد الإنساني، باعتباره وحدةً حيّةً، مكوّنٌ من جماعةٍ ومن مجموعةٍ من العوامل الكونية، فإنه في كليّته كائنٌ جمعيٌّ، دون أن يكون هناك أيّ تعارضٍ مع الحياة الجماعية”.[9]
فالتركيز على الخصوصيّة الفردية لأي كائن سوف يؤدّي إلى التناقض مع ما سبق أن ذكره يونغ باعتباره أساس الكائن الحي. لكنه في الوقت عينه يعتبر أن العوامل الكونية تظهر من خلال الأشكال الفردية. ويشيرُ إلى أنه
“ليس للتفرّد غاية أخرى غير تحرير الذات، من الأغلفة الزائفة للقناع من جهة، ومن القوة الإيحائية للصور اللاواعية”.[10]
العلاقة بين الفرد والجماعة
إن جدلية العلاقة بين الفرد والجماعة كان لها الأثر العميق في علم النفس كما في علم الاجتماع، وهي تدلّنا على عمق التوتر القائم بين الطرفين. كذلك كانت قد طُرحت في الفلسفة من منظور الخاص والعام، وما بينهما من تداخلٍ وتوتر. فالانطلاق من الخاص من أجل فهم العام ومقاربته على حقيقته يختلف عن الانطلاق من العام من أجل فهمٍ موضوعيّ للخاص، انطلاقاً من شروطه ومكوّناته. لذا كان التمييز بين العام والخاص خطوة مهمّة من أجل تجنّب خلطِ المفاهيمِ وتقديم مقاربات تشوّه الأمور. يرى ألكسي كاريل في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” أن
“التفرّد طبعٌ أساسيّ في الإنسان. لا يكمن فقط في بعض الجوانب المتعلّقة بالجسد وبالروح. إنه يؤثّر على وجودنا ككل. إنه يشكّل حدثاً فريداً داخل تاريخ العالم. فمن جهة يتجلّى هذا التفرّد في المجموع المكوّن من طرف العضوية والوعي. ومن جهة أخرى، إنه يترك بصمته على كلّ عنصر من هذا المجموع، علماً بأنه يبقى غير قابلٍ للتجزيء”.[11]
على الصعيد الإسلامي، يرى محمد عزيز لحبابي ضرورة استخلاص عناصر جديدة من تطوّر الفكر الإسلامي، وذلك بهدف التمكّن من مواجهة الوضعيات المستجدّة المحيطة بالمجتمعات العربية الإسلامية، إذ لم يعد مناسباً أن تبقى متابعة الحياة الدينية والثقافية وفق الإيقاع المعهود، وهو “إيقاع بطيء“، حسب تعبيره. هناك تحدّيات يجبُ القيامُ بمواجهتها، والعملُ على التسلّحِ بفكرٍ واقعيٍّ، ورؤىً جديدة، من خلال الالتزام بالمشاكل الأرضية، والعودة إلى حيّز العالم الواقعي لمعالجة مشاكله، والاشتغال من داخله. يقول لحبابي:
“لقد كنا ننطلق من الله، من أجل الوصول إلى معرفة العالم، ولقد آن الأوان كي ننطلق من العالم من أجل الوصول إلى الله، بمعيّة أشباهنا. فنشهد على وجود الله عوض التأمّل فيه؛ علينا أن نخرج من ذاتنا لكي نتصرّفَ ونعثرَ من جديدٍ على ذاتنا باعتبارها فاعلةً داخلَ العالم؛ علينا أن نعملَ على تحقيقِ الإنسانِ في كلّ الأبعاد، علينا أن نجدّد إضفاء القيمة على الشغل”.[12]
يبدو واضحاً الهمُّ الإنسانيُّ لدى لحبابي، والرغبةُ في العمل على تحسينِ الشرطِ البشريِّ داخلَ المجتمع. واضحٌ أيضاً التعاطي مع الآخر من خلال عبارة “بمعيّة أشباهنا”، إنها الرؤيةُ الإنسانيةُ العميقة التي لا تتوقّف عند الحواجز الفاصلة، طائفياً أو دينياً أو عرقياً، أو غير ذلك. هناك توقٌ إلى النهوضِ بالإنسان في المجتمعات العربية الإسلامية من أجل أن يتمّ تحصيلُ نمطٍ جديدٍ من الوعي، أقلّ إقصاءًأ وعنفاً، وتهجّماً. فيتحقّق بالنسبة إليه “نوعٌ من التوافق بين السماء الخالدة والمطلقة، والأرض المتغيّرة والنسبية“. كذلك يركّز لحبابي على درس أبرز أسباب التفرقة والتباين عندما يحثّ على إعادة “التفكير في المذاهب من أجل تحصيل نوعٍ جديدٍ من الوعي”، أكثر انفتاحاً، وأنسنة. يجزم قائلاً:
“إن عملاً يجمع بين التنقية الروحيّة والسلوك أصبح شيئاً يفرض نفسه حالياً”.[13]
الخاتمة
في ختام هذا المقال، نودّ أن نشير إلى أن مسألة الاختلاف مطروحة بقوّة في مجتمعاتنا المعاصرة، أكنا في المشرق العربي، أم في مغربه، في شرق ضفّة المتوسط أو في غربها، أو كنا في أيٍّ من المجتمعات التعدّدية. لن نتمكّن من حلّ النزاعات، والتخفيف من التوترات ما دام العام لا يكترث بالخاص، والفرد لا تهمّه الجماعة، والأكثرية لا تعترف بالأقليّة، والأقليّة متوترة تزداد تعصّباً من أجل الدفاع عن نفسها.
أردنا من خلال الفقراتِ السابقةِ لفتَ الانتباهِ إلى تعقيدِ الإشكاليةِ المطروحة، وإلى اختلاف الوجهات في النظر إليها، إن من ناحية علوم الإنسان أو المجتمع أو الفلسفة. ما يهمّنا، أن يبقى الأفقُ متّسعاً لاستيعابِ الفرادةِ والاختلاف، وأن نسعى في مقاربة الأوضاع المتوترة داخل مجتمعاتنا بانفتاحٍ وتقبّلٍ لمن سبق وأقصيناه في دائرة الخصم أو الأقلّ شأناً أو الأقرب إلى الضلال منه إلى الحقيقة.
ما يهمّنا يكمن في أن تبقى الرغبة في الحفرِ عميقاً مستعرةً، حتى نصلَ إلى هذا الكيانِ الإنسانيّ الذي يتماهى إلى حدّ بعيدٍ مع كيان الآخر انطلاقاً من نزعةِ كلٍّ منهما نحو الفرادةِ والتميّزِ وتحقيقِ ما يصبو إليه من مشاريع متعلّقة بطاقاته الدفينة، التي لا يعلمُ بها أحدٌ سواه.
المراجع:
[1] – أوليفيي فوارول، صراعات من أجل الاعتراف، ترجمة حميد توالي وسعيد بلعضيش، مراكش، مؤسّسة أفاق، ط1 2024، ص 19.
[2] – أوليفيي فوارول، صراعات من أجل الاعتراف، م.س. ص 19.
[3] – أوليفيي فوارول، صراعات من أجل الاعتراف، م.س. ص 20.
[4] – أوليفيي فوارول، صراعات من أجل الاعتراف، م.س. ص 20.
[5]– أنظر: كارل ياسبرس، ضرورة الفلسفة بالنسبة للشخص، في كتاب “الشخص”، إعداد وترجمة محمد الهلالي وعزيز لزرق، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ص 71.
[6] – أنظر: كارل ياسبرس، ضرورة الفلسفة بالنسبة إلى الشخص، م.س. ص 72.
[7] – أنظر: إيمانويل كانط، ما هو عصر الأنوار؟، في كتاب “الحداثة الفلسفية”، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2009، ص 200.
[8] – أنظر جان بول سارتر، الشخص ومعضلة الحرية، في كتاب الشخص، م.س. ص 67.
[9] – أنظر: كارل غوستاف يونغ، الشخص بين التفرّد والفردانية، ضمن كتاب “الشخص”، إعداد وترجمة محمد الهلالي وعزيز لزرق، الدار البيضاء، دار توبقال، ط1 2010، ص 27.
[10] – أنظر: كارل غوستاف يونغ، الشخص بين التفرّد والفردانية، م.س. ص 27.
[11] – أنظر ألكسي كاريل، الكائن الإنساني والفرد، في كتاب “الشخص”، م.س. ص 29.
[12] – أنظر: محمد عزيز لحبابي، الشخصانية الإسلامية، في كتاب “الشخص”، م.س. ص 88-89
[13] – أنظر: محمد عزيز لحبابي، الشخصانية الإسلامية، في كتاب “الشخص”، م.س. ص 88.