الأنسنة في الإسلام: كيف توصّل محمد أركون إلى تأكيدها؟ (الجزء الأوّل)

 تكوين

التوقّف عند درس الأنسنة وكيفية تجلّيها في الفكر الإسلامي أمرٌ شغل محمد أركون منذ بدايات مساره الأكاديمي. عمل بجهدٍ منقّباً في طياّت التراث من أجل الكشف عمّا يحتويه من نماذج تنويرية، معتمداً على مكتسبات علوم الإنسان واللغة والمجتمع. لم يهدف إلى تمجيد التراث ولا إلى تهميشه. حاول أن يسلك بحذرٍ لإظهار أسس الأنسنة في الإسلام انطلاقاً من درس فكر التوحيدي، ومسكويه، والعامري، والمعتزلة، وابن رشد وغيرهم. قام بتحقيب تاريخ الفكر العربي الإسلامي متوقّفاً عند الحقبة الكلاسيكية التي عرفت “طفرة معرفية” على حدّ تعبيره، وشهدت مناظراتٍ فكريةٍ قيّمة، أضفت طابعاً من الانفتاح المعرفيّ أفسح المجال من أجل تبلوُر عقلانية معيّنة.

يلفت الانتباه إلى أن الصراع الذي حصل بين العلوم النقلية، من جهة، والعلوم العقلية، من جهة أخرى، ما زال مستمراً حتى اليوم بين العقل الديني والعقل الفلسفي. يعتبر أركون أن المواجهة بين العقل الديني أو العقل اللاهوتي-الفقهي / والعقل الفلسفي قد بلغت “أوجها في الفترة الواقعة بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين فيما يخصّ الإسلام. وولّدت عندئذ أعمالاً فكرية وأدبية رائعة ترهص بالحداثة أو تمثّل ما كنت دعوتُه بالحداثة البدائية الأولية”.[1] ويؤكّد أنه في القرن العاشر تمكّن الموقف الفلسفي أن يحتلّ مساحة اجتماعية وسياسيّة واسعة تكفي لتطوير “تيارٍ إنسانيٍّ حقيقيّ” يقوم باستيعاب المرجعيّة الدينية من دون أن يضعها في المركز الأوّل، ومن دون أن يعترف لها بالأسبقية. ونتج عن ذلك ما قام به، على سبيل المثال، التوحيدي عندما حرّر “الدين من الطقوس والشعائر الشكلانية لكي يجعل منه محلاً للتعميق الروحي”. كما عندما ربط “الممارسة السياسيّة بالأخلاق المحسوسة للإنسان في المجتمع”.[2]

إن التوقّف عند دراسة الصراع بين هذين النمطين من التعقّل أمرٌ لا بدّ منه عند دراسة الفكر العربي الإسلامي، نظراً إلى ما كان له من أثرٍ واسعٍ على الصعيدين السياسيّ والثقافيّ، وما أدّى إليه من سجنٍ للفكر داخل ما يسمّيه محمد أركون بـ “السياجات الدوغمائية المغلقة”.

يرى أن موقع العقل الحديث، في أوروبا، كان يتمثّل خلال فترة طويلة في وضع الميتافيزيقا العقلانية-المركزية محلّ المركزية اللاهوتية الدوغمائية للعقل الديني. بتعبيرٍ آخر، لقد تمّ العملُ على إحلالِ العقلِ الوضعيّ العلمويّ المتطرّف مكان العقل اللاهوتيّ المسيحيّ الذي سبقه. أما على الصعيد الإسلامي، فقد تمّ التحضير لهذه العملية على شكل الصراع الذي وقع بين المنطق الأرسطي والفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة، من جهة، وبين “الاستثمار اللاهوتي-التشريعي-السياسي لمعطى الوحي من جهة أخرى. وهكذا حصل الصراع بين العلوم النقلية أو الدينية / وبين العلوم العقلية أو الدخيلة في العصر الكلاسيكي (وبخاصة في القرنين الثالث والرابع للهجرة)”.[3]

انطلاقاً ممّا تقدّم، يمكن التحدّث عن “المجال الفكري” الذي أسّسه المنخرطون في عملية التأليف في التراث العربي الإسلامي، مع الإشارة إلى القيود التي فُرضت على ما هو مسموح التفكير فيه. يلحظ أركون في هذا السياق وقوع انشقاقٍ فكريّ-اجتماعيّ-ايديولوجيّ في الوقت عينه، على المستوى التاريخي، بين العلوم الدينية أو النقلية، وبين العلوم العقلية أو الدخيلة، يعود إلى القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي. “لذا فإن تحديد مفهوم المجال الفكري يرتبط أيضاً بالتبادلات أو بالانقطاعات بين اختصاصين يُنتجان المعرفة ويتنافسان بحثاً عن الانسجام المنطقي ومناهج البحث وصلاحية الأحداث والحقائق والنقل النزيه للعلم، ولكنهما يختلفان حول استقلال العقل ومنزلته المعرفية”.[4]

من هنا سوف تتوقّف هذه الدراسة عند معالجة الأسئلة الآتية:

ما هي المنطلقات المنهجية عند محمد أركون؟ هل من تناقض بين الإسلام والتنوير؟ ما هي أبرز تجلّيات الأنسنة التي كشف عنها أركون في سياق درسه للفكر العربي الإسلامي؟ هل ما كشفه من “نزعة أنسية” يمكن البناء عليه في سبيل تحديث الفكر العربي الإسلامي المعاصر؟ وبالتالي، ما هي العوائق التي حالت وتحول بالنسبة إلى أركون دون المضي قُدُماً في التنوير؟ وإلى أي مدى كان للصراع الدائر بين العقل اللاهوتي والعقل الفلسفي أثرٌ في ما وصلت إليه الأمور اليوم؟

الأنسنة باعتبارها تنويراً:

قبل أن ندخل في كيفية معالجة محمد أركون إشكالية العلاقة بين الإسلام والتنوير، يمكن أن نتوقّف عند ما يعنيه التنوير بالنسبة إليه. فالتنوير يُفيد استقلاليةَ العقلِ واستخدامَه كوسيلةٍ للحصول على المعرفة، إنه يرى في العقلانية التي عرفها العصر الكلاسيكي نموذجاً من التنوير. كما يعني أيضاً النزعة الإنسيّة التي برزت في القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، والتي كرّس لها جهداً كبيراً من أجل إبراز معالِمها. كذلك نجد أركون يرى في الموقف العلماني ركناً أساساً للتنوير، باعتبار أن العلمنة هي “موقفٌ منفتحٌ للروح تجاه مشكلة المعرفة”. ثم إن العلمنة تحمل أيضاً معنى التنوير من حيث الفصل بين العامل الديني والعامل الزمني، أو بين السياسة والدين. والتنوير يتجلّى كذلك في الموقف النقدي، في المناظرات الفكرية التي كانت تحدث في بلاط الخليفة العباسي، في مناقشة الرأي الآخر وإعادة النظر في المسلّمات. والتنوير عند اركون يعني أيضاً الحداثة، واستخدام العقل بشكل أساس في البحث عن المعنى. من هنا نجده يصف المعتزلة بالـ”الحداثيين قبل الحداثة”. لذا سوف نسلّط الضوء على كيفية مقاربة أركون للعلاقة بين الإسلام والتنوير انطلاقاً من هذه المعاني الخمسة المذكورة أعلاه.

عندما درس محمد أركون أعلام الفلسفة في الإسلام تبيّن له أنهم أعلنوا، تقريباً جميعهم، استقلالية العقل كما فعل معظم الفلاسفة اليونان. لقد اكتفوا

“بعرض تعاليم النبي بصفتها حدوساً صحيحة، يمكن للحكيم (أو للفيلسوف) أن يتوصّل إليها عن طريق مسار منطقي عقلاني أكثر بطئاً وتعريجاً”.[5]

يعتبر أركون أنه في حال لم يكن بإمكاننا أن نتحدّث عن وجود فلسفةٍ إسلاميّةٍ بالمعنى الذي نتحدّث فيه عن فلسفةٍ مسيحيّةٍ كما صنّفها إتيان جيلسون، فإنه يمكننا أن نعتبر النزعة الإنسية الإسلامية بمثابة التجلّي العقلانيّ للفكر الإسلامي. ويشير إلى أنه يتحدّث “عن وجود هذه النزعة ضمن مقياس أن الفلاسفة المسلمين، وعلى أثرهم بعض المفكرين الأحرار والمستقلّين، راحوا يوكلون للعقلِ البشريِّ وحدَه مهمّة التخطيط للمراحل المنطقية التي تؤدّي إلى تلك الحقائق الكبرى التي تُقدّم بشكل عفوي لإيماننا عن طريق الوحي”.[6] يلحظ أن المفكرين المسلمين في القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري، وضعوا الإنسان في صلب اهتمامهم، فبحثوا في قدره ومصيره، في مكانته في الكون، في شرطه البيولوجي والروحي، وفي سلوكه المنسجم مع خصوصيّة رسالته. إن ما قام به المعتزلة من تفعيلٍ لدور العقل وإعطائه أولويةً معيّنة في مقاربة المسائل المطروحة، أدّى إلى فتح الطريق أمام التوحيدي ومسكويه وغيرهما.

    في الخطوات المنهجية:

إن المشروع الفلسفي كما يفهمه أركون

“يعني موقفاً للروح أمام مشكلة الكون والمعرفة. إنه موقفٌ مفتوحٌ على كلّ طارئ وجديد إلى أقصى الحدود، موقفٌُ لا ينغلق ولا ينحصرُ بأية تجربة تاريخية أو قوميّة أياً تكن عظمتُها وضخامتُها (…)”[7].

نلحظُ أنه لا ينحصر في منهجٍ واحدٍ، ولا في تفسيرٍ ضيّقٍ يدّعي أنه يستنفدُ الموضوع المدروس. لقد عمل حوالي أربعين عاماً على نقد التراث المعرفي الإسلامي. رفض أن يسجن نفسه داخل أُطره التقليدية، ومواقعه الثابتة، وتحديداته ومفاهيمه ورؤيته العامة للعالم والوجود. لقد حاول أن يزحزح هذا التراث عن مواقعه التقليدية لكي يفتح له آفاقاً جديدة، فيُخرجه بذلك من عزلته وانغلاقه العقيدي الذي طال زمنه.

من هنا فإننا نجده يحفر في طبقات التراث الإسلامي ليسبر أغواره، ويكشف عن المناطق التي بقيت مهمّشة، ومسكوتاً عنها، ومرمية في دائرة “اللا مفكر فيه”. توقّف عند من سمّاهم بـ “المفكّرين الثواني” الذين تمّ إهمالهم عمداً، مثل التوحيدي ومسكويه والعامري وغيرهم. درس المنحى العقلاني عند المعتزلة فتبيّن له أنهم “حداثيين قبل الحداثة”. شدّد على أهمية النقاشات والمناظرات التي كانت تحصل في بلاط الحاكم، فاعتبرها مجالاً واسعاً لتفتّح الروح النقدية، والنقاش الفكريّ الرصين. نظر إلى الحقبة الكلاسيكية التي بلغت أوجَها في القرن العاشر الميلادي، الرابع الهجري، باعتبارها المرحلة الذهبية التي شهدت طفرةً معرفيةً تجلّت فيها العقلانية بقوّة، ولا يمكنُ تجاهلُها. برهن كيف أن المعتزلة أسّسوا نوعاً من “العلمنة” التي تكمن في “موقفٍ منفتحٍ للروح أمام مشكل المعرفة”.

أراد أن يعيد من جديد دراسة الظاهرة الدينية بمختلف تجليّاتها عبر التاريخ. غاص في عمق التراث الديني الإسلامي، واطّلع على الطبقات المتراكمة عبر تاريخه الحافل بالأحداث والمحطّات البارزة. لقد رفض ان يُسقط المصطلحات الحديثة على التراث كما فعل بعض المستشرقين والنقّاد، إذ اعتبر أن في ذلك مغالطة تاريخية، وخطأً منهجياً لا يجوز الوقوعُ فيه. لم يكن هدفُه التوفيقَ بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، أو البحثَ عن أصلٍ لذاك في هذا، أو العكس. يكمن همُّه الأساس في بلورة مشروعٍ نقديّ، يشرّع الأفق أمام عقلٍ طال سجنُه في أطرٍ ضيّقة، وسياجاتٍ مغلقة، لا بل في حلقاتٍ مفرغة.

نجده يصرّ، وفي أكثر من مناسبة، على تطبيق قراءةٍ محرّرةٍ من الأطر العقيدية الجامدة، كما يحذّر في الوقت عينه، من الوقوع في صرامةِ الموضوعيّة العلميّة الحديثة التي تهمّش التجربة الدينية. إنه يريد فسحَ المجالِ أمام قراءةٍ حرّة، غير مؤطّرة، لمجمل التراث الديني، وبخاصة القرآن، حيث يمكنُ لكلّ إنسانٍ، مسلماً كان أم غير مسلم، أن يطلق العنان لقدرته الشخصيّة على ربط الأفكارِ والتصوّراتِ، ويختار بنفسه الركائز التي يودّ الانطلاق منها.

إن التوقف عند درس آلية اشتغال العقل الديني جعلت محمد أركون يكشف عن واقعٍ ملموسٍ يفيدُ بأن

“العقل الدوغمائي أغلق ما كان مفتوحاً ومنفتحاً وحوّل ما كان يمكنُ التفكيرُ فيه بل ويجبُ التفكير فيه إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ونتج عن ذلك تغلُّب ما لم يُفكَّر فيه أثناء قرونٍ طويلة على ما يجب التفكير والابداع فيه. وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن نزعة التقليد للمذاهب الأرثوذكسية وتكرارها قد تغلّبت على إعادة التقييم لجميع المذاهب الموروثة والمسلّمات التعسّفية التي أنبنت عليها”[8].

من هنا جاء تركيزُه على كشفِ كلّ ما من شأنه أن يتحكّم بنشاط العقل ويُعيقَ انفتاحَُه على المعرفة، بخاصة في زمن العولمة حيث لم يعد مسموحاً التقوقع داخلَ نموذجٍ واحدٍ من التجربة البشرية، بل بات ضرورياً اعتمادُ المنهجِ المقارن للأديان. لذلك فهو يريد أن ينخرط “في كلّ البحوث الابتكارية التي تؤدّي إلى فهمٍ صحيحٍ للوظائف الثقافيّة والنفسيّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي تقوم بها الأديان. ويمكننا أن نفهم بشكلٍ أفضل الدورَ الذي تلعبه في نشأة الحضارات وتوسّعها وانهيارها (أو تفكيكها)”[9]. لقد أعلن بوضوح عن هدفه الذي سعى إلى تحقيقه قائلاً: “هذا هو المشروع الذي أريد أن أقوم به بشكلٍ استباقيّ انطلاقاً من المثال الإسلاميّ. وقصدي أن أساهم في تهدئة العنف والقلق الهائل الذي يمزّق المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية بدون أن يكون أمامها منظورٌ حضاريٌّ محدّدٌ بوضوحٍ من أجل تجييشِ مجملِ الشعوب لتحقيقه”[10].

أولاً: في ضرورة اعتماد المنهج النقدي

إن التعمّق في دراسة فكر محمد أركون يكشف لنا عن مدى ثورته على انغلاق المفكرين داخل إيديولوجيا ضيّقة، لذلك لم يشأ هو بدوره أن يتقوقع داخل إطار منهج ضيّق وصارم. من هنا جاء مشروعه النقدي يحمل في طيّاته أكثر من قراءة، ويستوعب أكثر من منهج. إن تبنّي المنهج التعدّدي يُفصح عن رغبةٍ في الانفتاح على مختلف ما يُنتجه الفكر من معارف، ويعبّر عن اقتناعٍ عميقٍ لديه أنه ما من منهجٍ يمكنه أن يكشف لوحده الحقيقة بمختلف أبعادها. وما التزامُه بالتاريخية إلا عبارة عن وعيه بمحدوديةّ المناهج أمام ضخامة تراثٍ متراكمٍ منذ عدّة أجيال، تحتاج طبقاته إلى حفرٍ عميقٍ ومُضنٍ لا يتوقف أمام الصعوبات، ولا يوفّر وسيلةَ حفرٍ أو تفكيكٍ إلا ويستخدمها.

من هنا يكتسب منهج التفكيك أهمية كبرى عند أركون لأنه يرى أن تحرير الفكر الإسلامي لن يتمّ ما لم تُنفّذ عملية تفكيكٍ جذريّ لمختلف طبقاته. إنه يرفضُ بشدّة كلّ ما يعرقلُ أو يوقف ديناميكية الروح التي تعشقُ الخلق أو الاستكشاف أو التحرير. لقد تمّ تقديم صورةٍ مختلفةٍ عن حقيقة الماضي والدين والتراث، ترتكزُ على الخيال المحض، بدلاً من أن تُقدَّم الصورة التاريخية التي تعبّر عن الواقع المحسوس. إن

“هذه الصورة الخيالية أو الإيديولوجية المضخمّة هي التي تسيطر الآن على وعي ملايين العرب والمسلمين. (…) وبالتالي فإن أوّل خطوةٍ ينبغي اتخاذها هي تفكيك أوصال هذه الصورة الإيديولوجية/ وإحلال الصورة الواقعية التي تحترم الحقيقة التاريخية محلّها”[11].

لكي تتحقّق هذه الخطوة الهامّة في مسيرة الفكر العربي الإسلاميّ لا يمكن الاكتفاء بالمناهج المتعرَف عليها سابقاً، إنما من الأجدى التوجّه نحو تطبيق المناهج الحديثة التي طوّرتها علوم الإنسان والمجتمع، على مجمل التراث، أي على القرآن، والحديث، والسنّة، والسيرة النبوية، وسائر العلوم الإسلامية. هكذا يمكن أن تُفرَزُ العناصر التاريخية عن العناصر التبجيلية التضخيمية. إن هذا الصراع الجدلي المبدع الذي يدور بين رؤيتين مختلفتين للتاريخ، أيّ الرؤية الواقعية – التاريخية/ والرؤيا المثالية الموروثة، هو الذي سيقومُ بإنتاج رؤيةٍ جديدةٍ ومجدِّدة، وفق ما يعتقد أركون.

إقرأ أيضًا: السلطة والحقيقة: جدلية التداخل بين الروحي والزمني محمد أركون نموذجاً

يعتبر أنه “ليس هناك من خطاب أو منهج بريء”، لذلك كان من الضروري القيام بنقد كلّ خطابٍ من خلال اللجوء إلى “تعدّدية المناهج الفاحصة من أجل تجنّب أيّ اختزالٍ للمادة المدروسة”[12]. من هنا كان ضرورياً اعتمادُ المنهجِ السلبيّ من أجل إنجاز دراسةٍ ملحّة تبحثُ في اللامفكر فيه داخل الفكر الإسلامي. هذا ما سنتوقّف عنده لكي نبرز أهمّية الظواهر السلبية انطلاقاً من مسار محمد أركون النقديّ.

ثانياً: نحو دراسة الظواهر السلبية في التاريخ

يرى محمد أركون أنه عندما كتب التيارُ المنتصرُ التاريخ، رمى في دائرة اللامفكر فيه كلّ القوى المعارضة، والثقافةَ الشعبية، والتراثَ الشفهيّ، وحصرَ اهتمامَه بالسلطة الحاكمة، والثقافة العالمة، والتراث الكتابي. من هنا، ولكي نتوصّل إلى فهم التاريخ بكليّته، كان علينا الاهتمام بالأمور المحذوفة كما المثبتة، وبالأشياء السلبيّة كما الإيجابيّة. لذلك كان من المهمّ أن يتوقّف المنشغلون بدرس التراث عند كلّ ظواهر القطيعة أو الحذف أو النسيان، واعتبارها ظواهر محدّدة تحصل في التاريخ مثلما تحصل الظواهر الإيجابية التي تخصّ الاستمرارية والتواصلية والأحداث المهمّة والشخصيات الكبرى. يرى أركون في هذا السياق أن فترة الانحطاط تقدّمُ خيرَ مثالٍ على هذه الناحية،

“بمعنى أنها تمثّل أفضل فترة من أجل دراسة الظواهر السلبيّة في التاريخ ومن أجل بلورة مصطلحاتٍ من نوع: النسيان، القطيعة، التصفية، الحذف، المستحيل التفكير فيه، اللامفكر فيه، المسموح التفكير فيه، الإجباري التفكير فيه، الممنوع منعاً باتاً التفكير فيه”[13].

من هنا كان على المؤرّخ أن يعتني بهذه الموضوعات العامة التي لا يمكن له أن يفهم حركة التاريخ من دونها.

تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن أركون يفضّل استخدام مصطلح “التفاوت التاريخي” بدلاً من مصطلح الانحطاط، لأنه يصف هذه الفترة بشكلٍ أفضل، ويُجبر الباحث على المقارنة بين القوى الموجودة في جهتَيْ حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى المقارنة أيضاً بين الآليات التاريخية والأنظمة الاقتصادية والسياسية والقانونية والمعرفية في هذه المنطقة الحضارية. إن مختلف التحقيبات الزمنية التي استخدمها المؤرّخون، واعتمدتها الكتب المدرسية والجامعية كانت تخصّ فقط قطاع الثقافة المكتوبة أو التراث الكتابي. هذا القطاع من دون سواه، تركّزت عليه أنظار المؤرّخين في الماضي والحاضر، وهو الذي

“تهيمن عليه العصبية التضامنية الشغّالة بين أربع قوى هي: تشكيلة الدولة المركزية + الكتابة واللغة الفصحى + الثقافة العالمة أو الرسمية + الأرثوذكية الدينية”[14].

هكذا هُمّشت كلّ المناطق النائية من أرياف وجبال وعرة وبوادٍ شاسعة ثقافتها شفهية، يعيش أهلها على تناقل التراث بواسطة الذاكرة الشفهية عبر السنين العديدة، وأُلغيَ تاريخُها بالكامل.

إن دراسة الظواهر السلبيّة تعني تطبيقَ منهجٍ يبحثُ في كلّ ما يحذفه العقل “المؤسِّس والمؤسَّس على هيئة إطلاقيةٍ ونهائية” في مجال اهتمامِه، فيرميه في خانة البِدَع والضلال. كذلك يتعاطى هذا المنهج مع التاريخ ليس فقط من وجهة نظر التيار المنتصر والراسخ، إنما أيضاً من وجهة نظر الاتجاهات التي حُذفت واضطُهدت. إن “التاريخ العربي الإسلامي- وتاريخ أيّ أمة بشكل عام – هو جماعُ تيّاراته من سلطة ومعارضة”، كما أن “النضج العقليّ والفكريّ يفرُض علينا اليوم أن نستوعبَ كلّ تيارات تاريخنا لا أن نتعصّب لبعضها ونرفض البعض الآخر بشكلٍ مطلق”[15].

إقرأ أيضًا: جذور العقل السياسي والأخلاقي في الإسلام: قراءة محمد أركون لـنظرية القيم القرآنية

يمكن القول مع أركون إن الكتابة السلبية للتاريخ هي بمثابة “القراءة اللارسمية، قراءة الوجه الآخر من التاريخ”[16]. فالقراءة الرسمية تجعلُ التاريخَ خطاً متواصِلاً لا قطيعةَ فيه، ولا ثغرات. إنه تطوّر متتالٍ مشبعٌ بفكرة التقدّم الحضاريّ المستمرّ، وذلك برعاية السلالة أو السلطة الحاكمة. هذا الأمر ليس محصوراً بالمنطقة العربية وإنما يحدُث في الغرب أيضاً. “التاريخُ يكتبه الظافرون المنتصرون، وأما أصواتُ المهزومين فتضيعُ أصداؤها في ليلِ التاريخ العميق. ونحن نعلم مدى الأهميّة التي يوليها التاريخ الرسمي والقوميّ للأبطال التاريخيين والفاتحين الكبار، هؤلاء الأبطال الذين يملأون التاريخ، ويغذّون المتخيّل الجماعيّ للأمة وحتى لأطفالها الصغار منذ المدرسة الابتدائية. وهكذا يشحنون كتابة التاريخ بالحماسة والبطولة، ويقدّمون صورةً مستقيمةً خطيّةً عن التاريخ”[17].

إن هذا المنهج في كتابة التاريخ قد تعرّض لنقدٍ شديدٍ من قبل مدرسة الحوليّات الفرنسيّة[18] وممثّليها. هكذا لم يَعُد يُنظر إلى التاريخ كخطٍ مستقيمٍ، بل أصبح تعدّدياً معقّداً يتضمّن مختلف الخطوط والاتجاهات، من غير أن يُهمِل شيئاً. تجدرُ الإشارةُ هنا إلى تأثّر أركون بهذه الثورة المنهجية، وانخراطه في صفوف مناضليها، إذ نجده قد عمل على إيصالها إلى ساحة الفكر العربي الإسلامي، لكي تنكشف صورة التاريخ كما هي بكلّ أبعادها، ويتمّ التخلّص من الصورة الخطيّة المستقيمة التي كرّستها السلطة الرسمية والمؤرّخون التابعون لها. إن هذا العمل في نظره له أهمية كبرى لكي “تبدو الحقيقة التاريخيّة بكلّيتها وعلى حقيقتها. تبدو واضحةً ساطعةً كالشمس في عزّ النهار. ويبتدئ زمنُ التحريرِ الكبير”[19].

يمكن أن نستنتج ممّا تقدّم أن المؤرّخ النقدي الحديث إذا تخطّى مشكلة المستحيل التفكير فيه التي تمّ فرضُها في كلّ ثقافة، يُعطي بذلك حقّ الكلامِ لسائرِ الفئاتِ المغلوبِ على أمرها، ولكلّّ المفكرين الذين أُسكتت أقلامُهم، وأُحرقَت كتُبهم، وحَلّت عليهم لعنة السلطات الأرثوذكسية فمحتهم من الذاكرة الجماعية. من هنا، كان على المؤرّخ النقديّ، أن يُعيدَ تركيب المناخ العقلي لمختلفِ فتراتِ التاريخ العربيّ الإسلاميّ وذلك عن طريق الاهتمام بكلّ ما حذفه الفكرُ الرسميّ المسيطرُ، ورماه في دائرة المستحيلِ التفكير فيه.

يذكر اركون في هذا السياق، وعلى سبيل المثال، نظرية المعتزلة التي تقول بخلق القرآن، هذه النظرية، أصبح من المستحيل التفكير فيها مع الخليفة القادر الذي فرض عقيدته القادرية التي انتصرت في النهاية، معلنةً نظرية القرآن غير المخلوق. من هنا اعتبر أركون

“أن القراءة السلبيّة للتاريخ هي العملُ الإيجابيّ الوحيدُ الممكنُ اليوم”.[20]

نلحظ أن أركون يعي تماماً، في الوقت عينه، كلّ الصعوبات التي سوف تعترضُ قراءةً منفتحةً مثل تلك التي ينادي بها. إذ إن تراكمَ الزمنِ قد خلعَ رداءَ التقديس على ما حدث في التاريخ الأرضيّ، فأصبحت مثلاً نظريةُ القرآن غير المخلوق مشكلةً خارجَ التاريخ، واختفت اللحظةُ الأوّلية لتاريخيّتها.

 

المراجع:

[1] – محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1999، ص 308

[2] – محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة وتعليق هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 2001، ص 66

[3] – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998، ص 238

[4] – محمد أركون، الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي، ترجمة وتقديم د.محمود عزب، بيروت، دار الطليعة، 2010، ص 149

[5] – محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة، م.س. ص 97

[6] – محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة، م.س. ص 98

[7]  – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، ط1، 1990، . ص 114

[8]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الأولى، 1998، ص 7

[9]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 61

[10]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 61

[11]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 268

[12]  – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، 1986، ص 571

[13]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 94 – 95

[14]  – محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 96

[15] – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م.س. أنظر تعليق هاشم صالح ص 92

[16]  – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة. م.س. ص 174

[17]  – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 175

[18]  – “أسّس هذه المدرسة عام 1929 لوسيان فيفر، ومارك بلوك. لا يزال يتابعها اليوم فيرنان بروديل وكوكبة من كبار الحواريين وقد بلورت منهجية جديدة في علم التاريخ ودراسته. ويعود الفضل في تطبيق برنامجها الغني على الشرق الإسلامي إلى المؤرّخ كلود كاهين”. أسهمت مدرسة الحوليات  في تحرير أركون من النظرة الخطية المستقيمة للتاريخ. إنها تنتقد التوقّف فقط عند المنهجية اللفللوجية والتاريخوية والاكتفاء بتطبيقهما. إنها تلك النظرة التي يكمن همّها كلّه في البحث عن الأصول الماضية للأفكار الحاضرة، “فلا يمكن أن يأتي الحاضر بجديد”. إنها منهجية خطيّة مستقيمة ممتدّة من الماضي إلى الحاضر، تبحث في أصول الأفكار وبتأثيراتها عبر التاريخ. أركون، محمد. نزعة الأنسنة في الفكر العربي، م.س. ص 60

[19]  – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، .م.س. ص 175

[20]  – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 175

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete