تكوين
الأنسنة المهمّشة:
انطلاقاً من الانهمام بالكتابة السلبية للتاريخ، يمكن أن نفهم مدى اعتناء محمد أركون واهتمامه بإلقاء الضوء على الزوايا المخفيّة في التراث، وإبراز مفكّرين لم يمثّلوا السلطة الرسمية، ولم يُنصَفوا في ما بعد، نقصد هنا كل من مسكويه والتوحيدي. إن هذين المفكرين كانا قد غذّيا نـزعة الأنسنة (Humanisme) التي تبلورت في القرن الرابع الهجري، والتي ارتكزت بشكلٍ رئيس على النـزعة العقلانية. هذا ما حاول أن يثبته في أطروحة الدكتوراه التي قدّمها بعنوان: “نزعة الأنسنة في الفكر العربي – جيل مسكويه والتوحيدي”[1]. لقد اعتبر أنه من الخطأ أن ينظر الباحث إلى العباقرة أو القمم في التاريخ فقط. يريد أن يهتمّ بلُحمة التاريخ العريض ككل. اشتغل بدقّة لكي يبيّن دور الكاتب “الثانوي”، ويبرز مكانته في تكوين أي ثقافة ونشرها. من هنا نلحظ ثورته على تاريخ الأفكار التقليدي الذي لا يهتمّ إلا بالقمّم والشخصيّات الكبرى، ويهمّش المفكرين الذين تمّ إغفالهم عن قصد أمثال التوحيدي.
أبو حيّان التوحيدي
يشير أركون إلى أنه عندما اكتشف التوحيدي ازداد تقديره ” لأهمية التواصل الشفاهي في إثراء توجّه الأنسنة الذي يرتسم في فورية المواجهة بين وجهات نظر متعدّدة، يدعمها مستمعون حاضرون”.[2] التوحيدي حالة تنويرية مميّزة، لم يتمّ تسليط الضوء على فكره كما يجب، لذا جاء انهمامه به من باب إظهار ما هو مخفي، وما ينتمي إلى دائرة الـ”لا مفكر فيه”، والمنسي في التراث.
اعتبر أركون أن التوحيدي قد أبرز “بوضوح الأهداف الجوهرية لكل حالة أنسنة، مثل البحث المستمرّ عن المعنى، لا في حدود تلفّظه المجازي الاعتباطي الذي شجبه بشدّة (أنظر: مثالب الوزيرين) بل في مستوى مجسّداته النفسية والتاريخية المحسوسة. فهو يعلم أن روح المعنى وحيويّته أمران متناسبان طردياً مع تضاد الوعي وتقابله لدى الأفراد”.[3] يلفت أركون الانتباه إلى ما حاول أن يبرزه التوحيدي في كتابيه “المقابسات” و”الإمتاع والمؤانسة” من أجواء نقاش، وفسحة فكرية تظهر التضاد والاختلاف في عملية “نحت المعنى”. إنه يركّز على ما أنجزه التوحيدي بخاصة في مجال إظهار الأنسنة في الفكر العربي السائد في زمنه. يلحظ أنه سجّل “قضية المرور من الإنجاز الشفاهي إلى العبارة المكتوبة المعبّرة بقلم لاذع، مفحِم وفصيح، حاد وعنيف، مما يمكّننا من الأخذ بناصية سمة أخرى فيصليّة ومؤسّسة لحالة الأنسنة؛ إذ ينبغي للتلفّظ المكتوب للخطاب الأنسني أن يحترم شيئين في الوقت نفسه، هما الهدف المشترك بين كل المتكلّمين المنخرطين في النقاش، ثم المسار الاستدلالي الشخصي لكلّ واحدٍ منهم”.[4] إن عملية تدوين ما كان يجري في المناقشات والمناظرات نقل الحالة الفكرية من المستوى الشفهي إلى المستوى الكتابي، الأمر الذي أبرز المناخ المنفتح الذي كان سائداً، مما يجعل الدارس على بيّنة من الرهانات الواقعية، ومن مسار المحاججة، والنتيجة التي توصّلت اليها. هذا الأمر يسمح بوضع النتائج النهائية للنقاش تحت مجهر النقد والتقويم. من هنا يعتبر أركون أن ما تركه لنا التوحيدي جاء ليغذّي وينشّط حالة الأنسنة الضرورية في تحقيق التواصل البشري.
إقرأ أيضًا: الأنسنة أفقا للتعايش الآمن من خلال أعمال محمد أركون
يشير أركون إلى أن الأنسنة الإسلامية واقعٌ، وهو يريد أن يخوض معركة الدفاع عنه وتظهير أبرز معالمه. هناك، بالنسبة إليه، مشروعيّة تاريخيّة يمكنه الاستناد إليها من أجل التحدّث عن أنسنة عربية في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. “ففي بغداد وأصفهان وشيراز ودمشق والقاهرة والقيروان والمهدية وفاس وقرطبة كان كل المثقفين والكتاب ورجال العلم يستخدمون اللغة لنشر فكرٍ ومعرفةٍ يتجاوزان بشكلٍ واسع حدود ما أطلق عليه اسم “العلوم الدينية” التي ينظَر إليها في مقابل العلوم الدنيوية المسمّاة عقلانية، أو بالتعبير الإسلامي التقليدي، العلوم النقلية الدينية” في مقابل “العلوم العقلية” التي يسمّيها المعارضون “العلوم الدخيلة”. فانتشار الأدب والمعارف الدنيوية يتأكّد من خلال ترابط عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، (…)”.[5] إن أجواء القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، أدّت إلى تقدّمٍ ملحوظٍ في الفلسفة والعلوم اليونانية التي كسبت جمهوراً واسعاً توزّع في مجال الأدب. هذا ما قد أسماه أركون بـ”الأدب الفلسفي”، وهو عبارة عن “ولادة فاعلٍ إنسانيٍّ همّه الاستقلال”، كما يعبّر عن “بصيرة حرّة داخل ممارسة المسؤوليّات الأخلاقيّة والمدنيّة والفكريّة”.
يذكر أركون بعضاً من الأسماء التي أسهمت في تعزيز نزعة الأنسنة لاحظاً أن أصحابها كانوا من المسيحيين واليهود بالإضافة إلى المسلمين، وأبرزهم التوحيدي ومسكويه. إن ما أنجزه هذان المفكران يُعتبر بمثابة النموذج الذي يحُتذى، لأنهما يبرزان بدقّة ووضوح اهتمامات الجيل الذي جاء بين الفارابي وابن سينا، كما يبيّنان أفكار هذا الجيل وأهدافه. “لقد أعلن التوحيدي بوضوح مقولته الشهيرة “إن الإنسان أُشكل عليه الإنسان”، وهي المقولة التي جعلت كلّ ما لديه متمركزاً حول الإنسان: كتاباته، وتمرّده الفكري، ونقده القاطع، وذلك من دون أن يتخلّى عن بعده الروحي. ومن أجل ذلك كان التوحيدي يريد تعطيل الشعائر الدينية من أجل خلق فضاءٍ مناسبٍ للتعميق الروحي”.[6]
توقّف أركون مليّاً عند كتاب التوحيدي ومسكويه “الهوامل والشوامل” الذي هو عبارة عن أسئلة (هوامل) وأجوبة (شوامل) موزّعة على 175 مسألة تنقل أجواء المجادلات بين العلماء التي كانت تجري في مجالس المحسنين أو الأمراء خلال القرن الرابع الهجري. برهن كيف أن النزعة الإنسيّة تظهر من خلال التعاليم والدروس والعِبر التي يتضمّنها الكتاب. كما أنه ربط بين فكر المعتزلة وما قدّمه التوحيدي في كتابه، لافتاً الانتباه إلى أن مذهب المعتزلة “قدّم للتوحيدي ليس العقيدة الإيمانية بالدرجة الأولى، وإنما منهجاً وإطاراً مطابقاً للتعبير عن الإحساس بمأساة الوجود أو الحياة”.[7] كذلك بيّن أركون أن الاعتماد على العقلنة بنحوٍ مطلق من دون حدود يؤدّي إلى شعورٍ بالعبث، وهو يُترجمُ بذلك الإحساس بنوعٍ من القطيعة الكبرى بين العقل والواقع، أو بين العلم والسرّ الخفيّ. إن أجواء القرن العاشر الميلادي ظهر فيها نوعٌ من تسامي “بؤس الإنسان في مواجهة ذاته ومواجهة الطبيعة إلى نوعٍٍ من مناجاة الألوهة والتضرّع لها”[8]، لذا كان من السّهل أن ينتقل المفكّر من التمحيص العقلاني إلى نشيد الحب الصوفي. من هنا يمكن فهم الحالة التي مرّ بها التوحيدي، وعبّر عنها في “الهوامل”، والتي تُظهر الكثير من التقلّبات والتناقضات، بين التمرّد والاستسلام، بين النزاهة والنمنمة، بين المثالية والمادية.
رأى أركون أن التوحيدي شارك في “أعلى المناقشات الفلسفية لزمنه، وعرف في الوقت نفسه تلك الحالة المهينة التي يعاقب بها المجتمع الشخصيّات الفكريّة الأكثر جرأة. ويبدو أنه نجح في ذلك الغوص المخصّب في أعماق الازدواجية الأساسية للإنسان، هذه الازدواجية التي بنى عليها الفلاسفة أنتروبولوجيتهم، أي رؤاهم للإنسان (…)”.[9]
يشير أركون في هذا السياق إلى أن التوحيدي كان يعمل على تحقيق خمسة أمور:
- أولاً: ربط العمل السياسيّ بالأخلاق الإنسانيّة المعمول بها في المجتمع.
- ثانياً: إغناء خطابة أرسطو بعلمَي البيان والنحو.
- ثالثاً: استثمار الكتابة التاريخية لتوضيح الحوارات اللاهوتية والفقهية.
- رابعاً: استدعاء كلّ المواد الدراسيّة والمعارف الموجودة التي تمّت مراقبتها بدقّة.
- خامساً: الكشف عن أسرار الإنسان والعالم والتاريخ.
إن العمل على تحقيق هذه الأهداف، من شأنه بالنسبة إلى أركون، أن يوسّع آفاق العقل، ويفسح المجال للبحث عمّا هو جميل، وحقيقيّ، وعادل، كما من شأنه أن يُسهم في قبول كلّ التقاليد الثقافيّة في المدن التي يسكنها أشخاصٌ من طوائف مختلفة.
واضحٌ في ما تقدّم المنحى العقلاني التنويري الذي برز من خلال ما تركه التوحيدي، وفي جهده الفكري الذي تمحور حول البعد الإنسي وما يتعلّق به من إشكاليات. يمكن أن نلحظ انطلاقاً مما سبق الهمّ المعرفي الذي واكب أركون خلال قيامه بدرس التراث العربي الإسلامي. كان يعمل على مقاربة الجانب المهمّش سعياً وراء ما يمكن العثور عليه وهو يفيد في إعادة النظر من جديد وتسليط الضوء على ماضٍ عبر، وطويت صفحاته على عجل. أصرّ على نبش النماذج المرمية في النسيان لكي يضعها أمام الأسئلة النقدية الهادفة، ويمهّد بذلك لتوسيع الأفق تجنّب التقوقع والاكتفاء بما تمّ تقديمه من السلطات المعرفية السابقة. لقد ركّز في البحث عن الأنسنة والتنوير طارحاً أمام الدارسين مقاربته النقدية، علّه ينجح في استنهاض السؤال عن الحداثة وكيفية الدخول في العالمية من زاوية مختلفة.
ابن مسكويه:
يشير أركون إلى أن مسكويه كان بمثابة صدى لأفكار التوحيدي وكفيلاً “لحيرته ومحاوراته، إذ إنه يعكس الصفاء والتربية الدؤوبة، والرؤية المتأنية المتّزنة للحكيم الفيلسوف الناهل من الثقافة الإيرانية الأعرق، والمنفتح على تاريخٍ “كونيّ” لثقافاتٍ وشعوبٍ مختلفة، كما كانت معروفة في زمنها، وقد غمرتها القوّة التأويليّة للمادة والميتافيزيقا وللأخلاق والمنطق الأرسطي”.[10]
فصّل أركون القول في فكر مسكويه وفي شخصيّته ودرسهما من خلال العصر الذي عاش فيه، مبرزاً أثره فيهما، وذلك في كتابه “نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي”. خلُص إلى القول إن مسكويه عاش حياة مستهترة في شبابه، حاول أن يتقرّب من كبار القوم في حينه، ونجح في ذلك. كما عمل على تحسين طباعه الشخصيّة.
لحظ أركون أن هناك نوعاً من السعي المنهجيّ إلى ردم الهوّة بين الأقوال النظرية، والتعاليم الأخلاقية، من جهة، وبين السلوك اليومي للفيلسوف، من جهة أخرى. هناك أيضاً إشارة إلى التناقض بين الحياة الليلة للقضاة، وبين الحياة الوظيفية المتشدّدة في النهار. هناك تساؤل جوهري يدور حول “وجود علاقة أو انعدام العلاقة بين الدعوة إلى مكارم الأخلاق نظرياً وبين تجسيدها عملياً في السلوك اليومي المحسوس”.[11] إن هذا التناقض ولّد الألم في نفس عددٍ من الفلاسفة ممّا جعلهم يتّجهون نحو التصوف، بعد أن عانوا في البيئة التي ينتمون إليها.
إقرأ أيضًا: محمد أركون والنقد المزدوج
إن التوقّف عند هذه الأمور بالنسبة إلى أركون، أمرٌ يُظهر مدى الانهمام بالإنسان وبقضاياه، انطلاقاً من المقاربة العقلية التي تجعل من الإنسان إشكالية يدور حولها الفكر، في القرن العاشر الميلادي. يشير أركون إلى أن مسكويه أصرّ على أن يُشهر علناً “اعتناقه النهائي والكلّي للحكمة وإدارة ظهره للعالم وملذاته”، وكأنه يبغي أن يعتذر أمام الجميع عن حياة الطيش السابقة. ويستنتج أن “المربّي الأخلاقي لا يهدف فقط إلى نجاته وفوزه في الدار الآخرة عن طريق الالتزام “بقاعدة” كبرى تتوافر فيها كلّ الشروط من أجل التوصّل إلى السعادة الكاملة. وإنما كان يهدف أيضاً إلى أن يجرّ إلى صفّه كلّ أولئك الذين تلقّوا تدريباً أولياً على كيفية اتّباع “السيرة الفلسفية”.”[12]
لقد بدا واضحاً أن مسكويه كان لديه همّاً فعلياً في “إصلاح الآخرين” من خلال تعاليمه الشفهية والكتابية. الّف كتابين في هذا المجال هما: “تهذيب الأخلاق” و”الحكمة الخالدة”، بالإضافة إلى كتاب ٍثالث يحمل عنوان “رسائل فلسفية”، بالإضافة إلى كتابه “تجارب الأمم”. استنتج أركون، بعد أن حاول أن يكتب السيرة الذاتية لمسكويه، أن حضوره الفاعل يمتدّ بين عامي 340 و400 هجري. إنه كان، طيلة هذه الفترة من عمره، بمثابة “المنشّط والشاهد على جيلين فلسفيين: الجيل الذي انتهى مع يحيى بن عدي عام (364)، والجيل الذي ابتدأ مع ابن سينا (المولود عام 370). إن هذين التاريخين ثمينان جداً بالنسبة لتاريخ الفلسفة (أي الفلسفة العربية الإسلامية)، وذلك لأنهما يتيحان لنا أن نعيد النظر في بعض الآراء والنظريات الشائعة والخاطئة بسبب تركيز الاهتمام حتى الآن فقط على الفلاسفة العرب المترجمين إلى اللاتينية وإهمال ما عداهم”.[13]
من هنا، يمكن أن نفهم، انطلاقاً من تطبيق المنهج السلبي في قراءة التاريخ، نقد أركون لمنهج المستشرقين الذين لم يهتمّوا إلا بالثقافة العربية الإسلامية الرسمية والعالِمة والمكتوبة. إذ إنهم لم يتوقّفوا إلا عند فترات الذروة أو العصر الذهبي، ولم يدرسوا إلا المؤلّفين المشهورين الذين كرّسهم التراث، فأهملوا بذلك كلّ الثقافة الشعبية الشفهية، وسائر المؤلّفين غير الرسميين. هذا ما يحذفه المنهج الفللوجي من اهتمامه ويُقصيه عن حقل عمله. لكن في الوقت عينه رأى أنه لا بدّ من المرور بهذا المنهج كخطوة أولى من أجل دراسة التراث علمياً.
لفت أركون النظر، في سياق درسه لنص مسكويه، إلى موقع الإنسان العاقل في فكر مسكويه ومسؤوليته عن اختيار أفعاله. إنه “لا يتحدّث عن الله ولا عن الخلق إذ يتعرّض لمسألة الفعل البشري. فالإنسان العاقل والمستقلّ هو وحده المسؤول عن أعماله. إنه وحده المسؤول عن تحديد الأسباب والنتائج والانعكاسات الحالية أو المقبلة المترتّبة على أعماله”.[14] أشار في هذا السياق إلى أن مسكويه سيعود ويعطي البعد الالهي دوراً حاسماً في مصير الإنسان، لكن هذا لا يلغي قيمة ما تفضّل به بخصوص دور العقل البشري. كذلك أراد أركون أن يلفت الانتباه إلى أنه لا يريد أن يظلم القدامى ويحاكمهم على معايير لم تكن سائدة ومعروفة في عصرهم. لقد حاول “تحاشي الإسقاط أو المغالطة التاريخية”.[15]
نلحظ أن أركون قد استنتج، بعد أن درس بعمق مجمل ما تركه مسكويه من مؤلّفات، أن هناك موقفاً فلسفياً يتجلّى من خلال الاعتماد على العقل في سبيل التوصّل الى الحقيقة، وهو مضاد للموقف الإيماني الذي يعتنق العقائد الإيمانية التي وردت في النص الديني، على نحوٍ عفويّ، من دون تساؤل. الأمر الذي أسهم في تعزيز التوتر بين نمطين من التفكير: الأوّل، يعتمد على العقل، والثاني، على الإيمان. بحث أركون، انطلاقاً ممّا تقدّم، في مدى استيعاب مسكويه لفكر أرسطو العقلاني، وفي كيفية العمل على تعديله لكي يتوافق مع الموقف الإيماني. رأى أن مسكويه حرص على التنبيه الدائم في كتبه إلى القواعد الرئيسة التي يجب توفّرها من أجل الوصول الى الحقيقة. كما اعتبر أن “الهوامل والشوامل”، هو الكتاب الأكثر إشارة إلى هذا الأمر. أشار إلى أن “الموقف الفلسفي لمسكويه كما نستخلصه من كتبه يتمثّل في ثلاثة أشياء: منهجيّة معيّنة، وفضولٌ معرفيٌّ لا حدود له، وسلوكٌ أخلاقيّ محدّد تماماً”.[16]
المعتزلة:
شدّد محمد أركون على ضرورة إعادة الاتصال مع الفكر الإسلامي بحقيقته التاريخية خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى. إذ شهدت هذه المرحلة التاريخية الهامّة حركةً من المثقفين عُرفت بالمعتزلة، وهي كلمة تعني حرفيّاً: “أولئك الذين وضعوا أنفسهم جانباً واعتزلوا بمحض إرادتهم للتأمّل والتفكير. أما الأرثوذكسية فقد استغلّت التسمية وحرّفتها من معناها الأصلي فأصبحت تعني المعزولين أو المفترقين عن الأمة، وذلك من أجل تسفيههم والحطّ من قدرتهم”[17].
يعتبر أركون أن المرحلة الوحيدة التي انتصر فيها العقلانيون في تاريخ الإسلام، وشكّلوا إيديولوجيا النظام، كانت حين تبنّى الخليفة المأمون عقيدة المعتزلة على نحوٍ رسمي. لقد عمل على محاربة الحنابلة خصوم المعتزلة، فدخل في الصراع من موقع رسمي مسؤول مقرّباً إليه أهل العدل والتوحيد، ومبعداً عنه أهل التقليد والنقل. لكن لم تدم هذه الفترة طويلاً، إذ إنه مع مجيء الخليفة القادر عاد النظام السنّي ليقف بحزمٍ في وجه الأخطار التي سبّبها المعتزلة والإسماعيلية، وحتى الاشعرية التي تعرّضت بدورها لنقدٍ كثيرٍ من قبل الحنابلة. لقد أسفرت سياسة القادر هذه عن نتائج حاسمة على صعيد إغلاق الفكر وتجميد النقاش العقيدي في الدين الإسلامي، بشكلٍ تعسّفي.
يشير أركون إلى أن العلمنة كانت موجودة خلال فترة حكم المأمون أكثر ممّا هي اليوم في معظم الدول العربية والإسلامية، لأن الأسئلة التي تجرّأ المعتزلة على طرحها حول القرآن وخلقه، لا يمكن ان تُعالج اليوم في الأوساط الثقافية العربية أو الإسلامية، وهذا ما كان مستحيلاً التفكير فيه قبلاً. كانت مرجعيتهم الثقافية في ذلك تتمثّل بالوحي الإسلامي والفكر الإغريقي الذي دخل إلى الساحة الفكرية بقوة منذ القرن الثاني الهجري. إن مجرّد اعتراف المعتزلة بأن القرآن مخلوق يشكّل موقفاً قريباً من الحداثة على الرغم من البعد الزمني عنها. إن هذا الموقف تجاه ظاهرة الوحي “يفتح حقلاً معرفياً جديداً قادراً على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءاً من القرن الثالث عشر، لولا معارضته الأرثوذكسية الظافرة في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وخصوصاً على يد الخليفة القادر”[18].
إقرأ أيضًا: المعتزلة والعقل النقدي
يلحظ أركون في هذا المجال أن اعتبار القرآن مخلوقاً يشكّل موقفاً حديثاً وجريئاً يُدخل البعدين الثقافي واللغوي في طرح المشكلة. ويشير إلى أن هذين البعدين هما من صنع البشر أدخلهما المعتزلة عندما بذلوا الجهد من أجل استملاك رسالة الوحي، مما يدّل على اعترافٍ صريحٍ وواضحٍ بقيمة العقل ودوره في عملية الاستملاك هذه. هنا يبـرز المنحى العلماني عند المعتزلة إذ إن حركتهم الفكرية ارتبطت بشكلٍ مباشرٍ “بالأطر الاجتماعية للمعرفة وليس بالإسلام كدين. بمعنى أن التطوّر الاقتصادي والاجتماعي للمراكز الحضرية الكبرى قد تحكّم مباشرة بانتشار العلوم العقلانية المؤدّية لعلمنة الفكر والوجود أو حصرها أو اضمحلالها”[19]. لكن هذا الموقف الذي اتخذه المعتزلة بشأن القرآن المخلوق لم يعرف الاستمرارية كخط لاهوتي في الإسلام، فتمّ حسم الأمور من قبل الإسلام الأرثوذكسي الاشعري، وذلك لأسباب سياسية وإيديولوجيّة وتاريخيّة.
إن القرآن مكتوبٌ بلغةٍ بشرية هي اللغة العربية بالنسبة إلى المعتزلة، والخلق عندهم قد تمّ على مستويَيْن: المستوى الأوّل هو المستوى الآلهي المتعالي، أما المستوى الثاني فهو التاريخي البشري. المعتزلة يقولون بأن القرآن كان قد تجسّد في لغة بشرية وحروف عربية، وبالتالي، يجب أن نستخدم كلّ مصادر فقه اللغة العربية وإدراك أسرارها البيانية من أجل فهمه وتفسير معانيه والتوصّل إلى المقاصد الإلهية المعبَّر عنها “في نصٍ قيل بلغة بشرية”. من هنا جاءت إشارة أركون إلى أهمية نظرية خلق القرآن التي من شأنها أن تؤثّر في تفسيره أو تأويله.
يرى المعتزلة أن القرآن ليس مثل الله أزلياً، فهو مخلوق في لحظةٍ محدّدةٍ من قبله تعالى، وبإرادة منه. إن الله وحده الكائن الأزلي والسرمدي، والقرآن مخلوقٌ في لحظةٍ من التاريخ. أما بالنسبة إلى الموقف السنّي الأرثوذكسي، فإن القرآن ليس مخلوقاً، إنما وجد منذ الأزل مثل الله. ولا يجوز بالتالي الفصل بين الله وكلامه لأنهما متزامنان.
وضع الحنابلة، في المقابل، القرآن خارج إطار ما هو بشريّ وتاريخيّ، إذ يجب أن يتلقّاه المؤمنون كما أُنزل، من دون طرح أي سؤال حول كيفية فهمه أو تفسيره، لأنه ليس بحاجة إلى تفسير أو تأويل. لكن يلحظ أركون هنا أن علماء الدين عملوا على تفسير القرآن وتأويله منذ البداية، وذلك على الرغم من إيمانهم بأزليته، كانوا يفسّرونه ويؤوّلونه وفق متطلّبات عصرهم وظروفهم، وما كان متوفّراً لديهم من إمكانيات علميّة وأدوات فكرية.
لقد برهن محمد أركون على وجود بذور للعلمنة في القرون الهجرية الأربعة الأولى، وذكر في هذا المجال أيضاً، بالإضافة إلى المعتزلة وطرحهم لمشكلة القرآن المخلوق، محنة ابن حنبل التي تعرّض لها في أيام المأمون تحديداً. سبب هذه المحنة، أن الخليفة المأمون أراد أن يفرض ما جاء به المعتزلة حول القرآن المخلوق ويجعله عقيدة رسمية للدولة الإسلامية. أجبر جميع الموظفين على الأخذ بهذه العقيدة تحت ضغط التهديد بفقدان الوظيفة. أحد الذين رفضوا القول بأن القرآن مخلوق كان ابن حنبل الذي أُدخل إلى السجن، واعتُبر كزعيمٍ للمعارضة الجماهرية التي وقفت في وجه السلطة الحاكمة، ورفعت الشعار التالي:”لا شيء صادر عن الله مخلوق، والقرآن من الله…”.
يحلّل أركون هذه الحادثة إذ يرى فيها، وعلى خلاف الآخرين، نوعاً من الفصل بين الروحي والزمني أو الديني والدنيوي. اعتبر أن المذهب الحنبلي قد أسهم أكثر من غيره في حثّ الإسلام السنّي على عدم الخلط بين هذين العاملين. يقول في هذا المجال: “في الواقع، إن ابن حنبل إذ رفض إطاعة أمر الخليفة في إحدى مسائل العقيدة قد ثبّت صلاحيات الخليفة التي ينبغي ألا تتعدّاها. فموقف ابن حنبل يعني عملياً ما يلي: الخليفة لا يُطاع إلا فيما يخصّ السلطات الخاصة بجهاز الدولة. أما العقائد الدينية المحصّنة فهي من اختصاص ومسؤولية الأمة المستنيرة التي يقودها علماء مستقلّون عن السلطة ومعترف بهم من قبل الجمهور العام على هذا النحو. ومن واجب الخليفة حماية القانون الديني والسهر على تطبيقه، ولكن لا يحقّ له أن يحدّد مضامنيه أو يفرضها”[20].
نلحظ هنا أن هذه القراءة لمحنة ابن حنبل مختلفة عمّا سواها، وهي تحاول أن تبرهن على أهمية هذا الإنسان الذي كان وفياً لمبادئه، على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها. لقد نادى بالفصل بين العامل الروحي والعامل الزمني وبقي منسجماً في تصرّفاته العملية مع موقفه النظري. هنا تكمن أهمية ما لحظه أركون في هذا السياق، وتركيزه على نموذج يشير إلى حقيقة حصول هذا التمييز بين الروحي والزمني في التاريخ الإسلامي. كذلك، وفي الإطار عينه، يُظهر أركون أهمية اعتبار ابن حنبل أن عصيان الخليفة في أمور العقيدة أمرٌ جائزٌ، لكنه مرفوضٌ في المسائل المتعلّقة بالنظام السياسيّ وبالأمور الدنيويّة. إن هذا المبدأ الذي وضعه ابن حنبل لم يدم طويلاً فقد خضع العلماء الدينيون في ما بعد للسلطة السياسية، وتمّ الخلط على أرض الواقع بين الذروتين الدينية والسياسية بعد أن كان ابن حنبل قد حدّد الفصل بينهما نظرياً وعملياً، حسب ما برهن أركون.
هكذا توهّم المسلمون أن الحاكم، خليفة كان أم سلطاناً أم غير ذلك، يتمتّع بالفعل بمشروعية دينيّة يجب الخضوع لها. عزّز ذلك الوهم تدهور الأمن بدءاً من القرن الخامس الهجري، حيث كانت المجتمعات تتعرّض للتهديد الخارجي إن من الترك أو المغول، أو الصليبيين، مما دفع الناس إلى القبول بالحاكم وبكيفية حكمه على الرغم من كلّ مساوئه. فخضع بذلك العلماء الدينيون كما المسلمون بعامة لسلطة الحاكم. إذ إن الخطر قريب، والأمن مهدّد، فلا تجوز المعارضة.
نودّ أّن نتوقف هنا عند ملاحظة هامة أبداها أركون في سياق بحثه في محنة ابن حنبل، إذ أشار إلى أن مبدأ الفصل ما بين الذروة المتعالية للسيادة الروحية والذروة البشرية للسلطة السياسية الذي رسّخه ابن حنبل، قد حافظ عليه الشعب في وعيه الجماعي، وبقي حيّاً. نجده يؤكّد في هذا المجال على أن الشعب المسلم كان مغيّباً دائماً منذ سلطة الأمويين وحتى اليوم. هناك قطيعة دائمة بين الدولة ورعاياها، نتج عنها عدم الثقة واللامبالاة تجاه الحكم المتمثّل بالدولة المركزية، وكانت في بعض الأحيان نوعاً من الرفض الجذري للحكم.
يعود أركون تاريخياً إلى الوراء إلى عام 661 لكي يشير إلى أن شكلاً من العلمنة البدائية قد راح يظهر منذ ذلك الحين. فبعد ثلاثين سنة من وفاة النبي تمكّن معاوية – الذي ينتمي تاريخياً إلى عائلة بني سفيان المنافسة لعائلة النبي بني هاشم – من الاستيلاء على السلطة بالقوّة والدماء، فجعل مركزها في دمشق عندما قام بتصفية أنصار علي بن أبي طالب دموياً. لقد استلم معاوية السلطة عن طريق الانقلاب الدموي وليس حسب القانون والشريعة، لكن الخلفاء الأمويين راحوا في ما بعد يُضفون على أعماله طابع الشرعية والقداسة والتعالي. قام رجال الدين بمساعدة معاوية وأسهموا مليّاً في إضفاء القداسة على إنجازاته.
أشار أركون إلى أنه انتشرت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري الثقافة العلمية والفلسفية التي نُقلت عن الإغريق، أو استُلهمت منهم، وتوسّعت، مما أضفى أبعاداً استثنائية على المناخ الإسلامي. إن دراسة هذه الفترة تشير إلى “ظهور علائم على العلمنة الجنينيّة (أو البدائية). من أبرز هذه العلائم إضعاف هيبة الخلافة من قبل الأمراء البويهيين، ثم ازدياد أهمية الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكرّرة والحاصلة بين الطوائف، والمذاهب، والعقائد، والتراثات العرقية-الثقافية”[21].
اعتبر أركون أن تحجيم الخلافة من قبل البويهيين وتهميشها يعني البدء بالتقدّم نحو علمنةِ مؤسّسةِ السلطة العليا، بخاصة أن الخلافة كانت لها رمزانية دينية عالية، ورهبة قوية. كما اعتبر أن نمو العقل الفلسفي على حساب العقل الديني الأرثوذكسي يشير أيضاً إلى علمنة الفكر في الساحة العربية-الإسلامية خلال القرن الرابع الهجري. لقد انبثقت في هذه الفترة الزمنية ظاهرة الأنسيّة العربية (L’humanisme arabe)[22]، والفكر العقلاني الذي صحبها داخل المجتمعات التي فُرضت فيها تعاليم الدين الإسلامي واللغة العربية كتعاليم العالم المتحضّر ولغته.
خاتمة:
هكذا نجد من خلال الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها، أن الإسلام بحدّ ذاته لا يرفض التنوير بعامة، والعلمنة بخاصة، بل على العكس، لقد شهدت المجتمعات الإسلامية أحداثاً ومواقف تشير إلى مقدّمات يمكن البناء عليها من أجل تأسيس العلمنة، وتعزيز الحركة الأنسيّة العربية التي عرفها القرن الرابع الهجري. لقد أصرّ أركون في كلّ مرّة كان يطرح فيها إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلمنة، على أن الإسلام كدين ليس مغلقاً في وجه العلمنة، لكن هناك عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية عديدة اجتمعت لكي تُسهم في إفشال كلّ المحاولات التي شهدها تاريخ الفكر العربي الإسلامي من أجل تحقيق العلمنة وتطوير الفلسفة الأنسيّة المبنيّة على النـزعة العقليّة.
إن الدولة، منذ بداية الخلافة الأموية هي مجرّد بنية سياسيّة انغمست في محيطٍ إيديولوجي، وسَعَت إلى الهيمنة على الرؤيا الدينية. كذلك فعل العباسيون في ما بعد إذ “كانت الثقافة الدنيوية والمؤسّسات السياسية وتقاليد البلاط والحياة الاقتصادية متأثرة بالتراث الساساني الإيراني والفكر الإغريقي والتقاليد والعادات الحية الناشطة دائماً في الشرق الأوسط القديم، أكثر ممّا كانت متأثّرة بتعاليم القرآن والنبي الدينية المحضة”[23]. تجدر الإشارة هنا إلى أن المجتمعات الإسلامية شهدت حركة علمنةٍ للفكر والثقافة والحياة اليوميّة لا يمكن التغاضي عنها، إلى درجة أن العلماء الدينيين قد استسلموا لها، ونهلوا من ملّذاتها. الصوفيّون وحدهم وقفوا في وجه العلمنة ورفضوا الملّذات، وأدانوا المادية التي غرق فيها المجتمع والفكر، كما تأسّفوا على العصر الافتتاحي الأوّل حيث كان الدين والزهد صادقين[24].
يستنتج أركون، انطلاقاً من القراءة التاريخية التي قام بها “أن الدولة قد علمنت الدين باستخدامها له كأداة لتبرير سلطتها وخلع المشروعية عليها، أكثر مما لجأت إلى حمايته طبقاً لما ينصّ عليه قَسَم الطاعة (أو البيعة). لقد راحت تتلاعب به كيفما تشاء لمصلحتها. هذا التطوّر الذي طرأ جعل الفقهاء يلحّون على أهمية وجود الدولة والسلطة المرتكزة على القانون الديني أكثر ممّا ألحّوا على الخلافة التي بقيت صيغة مثالية لهذه الدولة، صيغة اختفت بالفعل”[25].
لقد برهن أركون من خلال درسه لمحنة ابن حنبل أن موقف الفقهاء كان يشير إلى بُعد الدولة عن تطبيق الشريعة والعدالة الاجتماعية. كما أبرز من خلال تشدّد الخليفة المأمون في إثبات نظرية خلق القرآن على أن الأنظمة الحاكمة كانت تعتمد في كثير من الأحيان على القمع والعنف. فالحكم، على صعيد الممارسة التاريخية، لم يكن دائماً مخلصاً لمبادئ الدين الإسلامي، إذ شهد نوعاً من الفصل بين العاملين الروحي/والزمني.
نشير ختاماً إلى أن أركون أراد من خلال اشتغاله على التراث، وتسليط الضوء على نماذج التنوير، والأنسنة، والعلمنة التي وجدها فيه، أن يحاول إطلاق سراح العقل العربي الإسلامي لكي يعود فيأخذ دوره الريادي في مسيرة الحضارة العالمية. استخدم المنهج النقدي في سبيل بناء أسسٍ متينةٍ للعقل لعلّه يتمكّن من مواكبة التطوّر البشري، والإسهام في دفعه قُدُماً نحو الأفضل. إنه باختصار كان يهدف إلى إعادة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ومنع محاولة إقفاله من جديد.
لكنه في الوقت عينه، كان يعي أن جرأة المعتزلة بالإضافة إلى المناخ المنفتح الذي كان سائداً في أيامهم، أمران غير متوفّرين اليوم، وذلك منذ أن تمّ إغلاق مجال النقاش والمناظرة والتفكير المنفتح منذ عشرة قرون. نجده يصرّح بوضوح أن “ما كان ممكناً التفكير فيه في القرن التاسع أو العاشر الميلادي أصبح مستحيلاً التفكير فيه في أواخر القرن العشرين! (…) إن الوضع السياسي الحالي يجعل مستحيلاً ليس فقط إعادة فتح تلك المناقشة التي أثارها المعتزلة حول خلق القرآن، وإنما كل تفكير لاهوتي بشكل عام”[26].
قد نجد في هذا الجهد الذي بذله محمد أركون من أجل إبراز مكامن التنوير والأنسنة في التراث العربي الإسلامي محاولةً للبرهنة على أن الفكر العربي الإسلامي المعاصر بإمكانه أن يستعيد دوره، إن أراد ذلك، وهو سوف يجد في ما سبق أن قام به كبارٌ رحلوا، على صعيد الإنتاج المعرفي الرصين العابق بالأنسنة والساعي إلى المزيد من التعقّل والتفكّر والتنوير، محفزاً قويّاً ليس من المفيد التغاضي عنه، وتهميشه، ورميه في دائرة المؤجّل.
المراجع:
[1] – صدرت الأطروحة في العربية، انظر: أركون، محمد. نـزعة الأنسنة في الفكر العربي .م.س.
[2] – أركون، محمد. الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي، م.س. ص21
[3] – أركون، محمد. م.س. ص 22
[4] – أركون، محمد. م.س. ص 22
[5] – أركون، محمد. م.س. ص 36
[6] – أركون، محمد. الأنسنة والإسلام، م.س. ص 38-39
[7] – أركون، محمد. معارك من أجل الأنسنة، م.س. ص 103
[8] – أركون، محمد. معارك من أجل الأنسنة، م.س. ص 103
[9] – أركون، محمد. معارك من أجل الأنسنة، م.س. ص 104
[10] – أركون، محمد. الأنسنة والإسلام، م.س. ص 39
[11] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 136
[12] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 177
[13] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 186
[14] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 361
[15] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 363
[16] – أركون، محمد. نزعة الأنسنة، م.س. ص 350
[17] – أركون، محمد. العلمنة والدين، الإسلام المسيحية الغرب، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1990، ص 60
[18] – أركون، محمد. العلمنة والدين، م.س. ص 61
[19] – أركون، محمد. م.س. ص 61
[20] – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 50
[21] – أركون، محمد. نـزعة الأنسنة في الفكر العربي، م.س. ص 47
[22] – عندما كان أركون يتحدّث عن الأنسيّة العربية كان يحصر نفسه داخل الدائرة اللغوية والثقافية العربية. ويقصد “بهذه الدائرة هنا تلك الأوساط الاجتماعية التي تمثّل فيها اللغة العربية المكتوبة لغة التعبير السائدة”. وهو لا يريد ان يستبعد أحداً من الذين أنتجوا باللغة العربية، لذلك نجده يدمج “في الأنسية العربية جميع اليهود والمسيحيين الذي يعرفون القراءة والكتابة ويتقنون اللغة العربية إبّان العصر الكلاسيكي وعصر النهضة. “بالتالي فالتيار الإنساني والفلسفي العربي يشمل إنتاج كل المثقفين أو المفكــرين الذيـن كتبـوا وعبـّروا عـن مشــاعـرهـم باللغـة العربية سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين أم يهوداً”. أنظر: أركون، محمد. نزعة الأنسنة في الفكر العربي، م.س. ص 16 – 17
[23] – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 56
[24] – يحيلنا أركون في هذا المجال إلى كتاب “قوت القلوب” حيث يعرض فيه أبو طالب المكي شكواه من الوضع القائم. انظر: أركون، محمد. م.س. ص 56
[25] – أركون، محمد. م.س. ص 57
[26] – أركون، محمد. م.س. ص 186