الأهداف الثلاثة للفلسفة الموجهة إلى الناس

 تكوين

الحاكم من يحكم غيره والحكيم من يحكم نفسه، وإذا كان يَحسنُ بمن يتولَّى أمور الحكم أن يكون حكيمًا أو يمتلك على الأقل قدرًا من الحكمة، فلأنّ الفاشل في تدبير شؤون نفسه فاشل في تدبير شؤون غيره.

حاليًا سواء بالنظر إلى حاجيات التحوّل الديمقراطي، أو تحديات الانتقال الرقمي، لا يكفي أن تقتصر الحكمة على الحاكم، بل المطلوب تعميم شرط الحكمة على المواطنين بوصفهم شركاء في صناعة القرار كما يُفترض. هنا تكمن إحدى الوظائف الأساسية للفلسفة الموجهة إلى الناس.

غايات الفلسفة

لذلك أفترض وجود ثلاث غايات أساسية للفلسفة الموجهة إلى الناس: مقاومة الانخداع، مقاومة التوحش، مقاومة الجشع.

أولًا، مقاومة الانخداع

في الوقت الذي يوفّر فيه الذكاء الاصطناعي للناس جميعًا إمكان تجميع ملايين المعلومات وتحليلها في ثوانٍ معدودة ما يُتيح تعميم المعرفة، فإنّه يسمح في المقابل بالتزييف العميق للحقائق! لا يمكننا ادعاء أي نوع من الخلاص في العودة إلى رائحة الورق ما دامت عقارب الساعة لا تدور إلى الخلف، إلّا أنّنا نحتاج إلى مقاومة القابلية للانخداع، وذلك بالتمرّن على إعمال العقل النقدي في مساءلة الأحكام المُسبقة، المواقف الجاهزة، الانطباعات الصادرة عن انفعالات الخوف والحقد والغضب، بل في عصر منتديات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، أصبحت تنمية الحس النقدي أكثر إلحاحًا من أجل تحصين المواطنين من مفعول الأخبار الزائفة، الأحكام الجاهزة، الآراء المضللة.

إذا كان الذكاء الاصطناعي قد بدأ يتجاوز الذكاء البشري في معظم العمليات الذهنية، وربما يكتسب نوعًا من الأحاسيس، إلّا أنّ أقصى ما يفعله هو إتقان إعادة تنظيم المعرفة التي أنتجتها عقول بشرية تواجه الشرط الدراماتيكي للوجود الإنساني، والمُتمثل في النقص والألم والفقد والملل والموت، ومن ثم ينتابها ذلك الاندفاع البرومثيوسي نحو التفكير في اللامفكر فيه، والحرص على استجلاب الفرضيات الأكثر غرابة من تخوم المحال، والإصرار على الذهاب إلى حيث لم يذهب الآخرون، لذلك يُمثل الذكاء الاصطناعي مساعدًا خارقَ الذكاء للذكاء البشري، إلّا أنّ التعويل الكلي عليه قد يجعل عقولنا تتكاسل وتتقاعس عن العمل، علمًا بأنّ العضو الذي لا يعمل يموت، وفي النهاية قد تصير المعرفة إعادة تنظيم للمعارف التي بلغها آخر جيل من الدماغ البشري فحسب، لأجل تفادي هذا المآل ينبغي العمل بكل الوسائل الممكنة لترسيخ شغف المعرفة وإرادة الحقيقة داخل وجدان المواطنين كافة. علمًا بأن إرادة المعرفة لها وجه أخلاقي كذلك. يُقال الإنسان عدو ما يجهل، لذلك صحيح أن الجهل الثقافي يكرس ثقافة الكراهية، إضافة إلى ذلك ذهب الإبيقوريون إلى أن معظم أشكال الخوف ناجمة عن الجهل، لأننا نخاف أكثر من العوالم التي لا نعرفها، نخاف أكثر من المغارات والبحار والبراري التي لا نعرفها، نخاف كذلك من البشر الذين لا نعرفهم، ومن هذا الخوف تتولد كل أشكال العنف والتعصب والانحطاط. هذا ما يُفسر المقولة السقراطية القديمة، تنبع الفضيلة من المعرفة وتنبع الرذيلة من الجهل. إننا لا نُعادي الآخر إلّا بقدر ما نخاف منه، ولا نخاف منه إلا بقدر ما نجهله، لذلك فإنّ المعرفة المتبادلة بين مختلف الثقافات والديانات والطوائف والحضارات، هي الخُطوة الحاسمة نحو السلام، سواء في المستوى الإقليمي أو على الصعيد الدولي.

ثانيًا، مقاومة التوحش

يقول سبينوزا لا نولد مواطنين لكننا نصير كذلك، كيف نصير كذلك؟ نصير مواطنين عن طريق السيطرة على ما يسميه سبينوزا بالانفعالات الحزينة، أو ما يسميه نيتشه بغرائز الانحطاط، أو ما يسميه فرويد بدوافع الموت، أو ما يمكننا تسميته بالأبعاد الحيوانية للإنسان التي تضرب بجذورها في الدماغ الزواحفي. التحكم في الأبعاد الحيوانية ينعكس إيجابًا على قدرة المواطنين في التدبير المشترك للعيش المشترك في كل الظروف. إن أحد الكتب المرجعية للدواعش يحمل عنوان “إدارة التوحش“، وهدفه أن يُبشر المجاهدين بمرحلة تسبق عودة الخلافة وتتسم بالفوضى والفتن والدماء، ما يعني أن عودة التوحش لدى بعضهم هي مرحلة ضرورية حتى يحكم المسلمون العالم ! هكذا نحتاج أيضًا إلى تحديث الخطاب الديني لا سيما بالنظر إلى قوة تأثيره في الأذهان داخل عالمنا الإسلامي. غير أن الرهان على تحديث الخطاب الديني ليس نقاشَ حجج ضدّ حجج، سواء أكانت حججا عقلية أم نصية، بل هو رهان على المشاعر الإيجابية للإنسان، فلا يمكن تغيير الفهم السائد للدين إلّا بتغيير المشاعر السائدة، فالمؤمن غير القادر على الفرح سيفهم دينه فهمًا حزينًا، والمؤمن الخائف من المصير والقدر والمآل سيفهم دينه فهمًا مخيفًا وهكذا دواليك. حين يتعلق الأمر بالدين فإن الجهد الأساسي لتحديث الخطاب الديني ينبغي أن ينصب على إصلاح الوجدان. وإنها مهمة بالغة الأهمية، بوصفها إحدى الوظائف الأساسية للفلسفة الموجهة إلى الناس.

إقرأ أيضا: محاولة تأمّل فلسفيّ في مفهوم الموت

شعوبنا في واقع الحال تندرج ضمن الشعوب التي تغلب عليها المشاعر، وهذا ليس بالأمر السلبي، فقد أسهمت قوة المشاعر في الثراء العاطفي لمقامات الموسيقى العربية، ورهافة حس الإنتاج الصوفي، إلا أن المشاعر قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، قد تكون إيجابية مثل المحبة التي أنتجت لنا أجمل أدبيات العشق في تاريخ الإسلام، وقد تكون سلبية مثل الكراهية التي أنتجت لنا أسوأ الفتاوى الدموية. على الرغم من أن طغيان المشاعر السلبية هو منبع الفتن في كل زمان ومكان، ما يفسر كيف تنقلب مطالب الناس بالحرية والعدالة إلى فوضى وفتن.

أن يشعر الإنسان بالحزن، الغضب، الكراهية، الخوف. فإننا لا يمكننا أن ننكر بأن هذه المشاعر قد تمثل في بعض الأحيان مطلبًا أخلاقيًا، وإلّا فمن ذا الذي لا يشعر بالغضب والكراهية وهو يرى آثار الظلم والعدوان في كثير من بقاع العالم؟! من ذا الذي لا يتملكه الخوف من حرب نووية محتملة؟! من ذا الذي لا يشعر بالحزن وهو يرى قبور المجازر الجماعية تُكتشف هنا أو هناك؟ ! هنا تكون المشاعر السلبية مشروعة، لكن المعضلة هي حين تتغول إلى حد إضعاف القدرة على التفكير، القدرة على الحياة، القدرة على العيش المشترك. لم يُخلق الحزن كي يدوم، وكذلك الغضب والخوف والكراهية جميعها انفعالات لها وظائف مؤقتة ينبغي أن يعقبها التدبير العقلاني للسؤال، ما العمل؟

إن كان سبينوزا يُصرح بأننا لا نولد مواطنين، بل نتعلم ذلك، فلأن التحكم في الانفعالات السلبية الذي هو الأساس الوجداني للمواطنة الجيدة، يندرج ضمن المهارات التي نكتسبها عن طريق التربية، مؤسسات التنشئة الاجتماعية، مختلف وسائل الإعلام.

ثالثًا، مقاومة الجشع

نعيش في مرحلة تاريخية تُهمين فيها قيم السوق والاستهلاك الجماهيري المفرط، ما يمثل سببًا لشقاء كثيرين، وتورطهم في البحث عن سبل الثراء السريع، لذلك يُنتظر من الفلسفة الموجهة إلى الناس أن تسهم في المقاومة الإيجابية من طريق العمل لتمكين المواطنين من التحكم في رغباتهم، بعيدًا كل البعد عن كل أشكال الصراخ الشعبوي التي سرعان ما تتحول إلى مطالب بالريع بلغة ثورية، ومن ثم نفهم كيف تعيد معظم الثورات إنتاج الجشع، كما لو أنها لم تكن محكومة بمقاومة الجشع والريع بقدر ما كانت محكومة بمشاعر الغيرة والحسد، على أن مساعدة الناس على التخلص من الجشع الاستهلاكي هو الجُهد الثوري الحقيقي لمقاومة آليات اقتصادية وسياسية تصنع كل يوم رغبات وهمية تستدرج العطشى مثل السراب.

يُفترض أن تساعد الفلسفة الشعبية المواطنين في إخضاع رغباتهم للعقل النقدي قصد التمرن على التمييز بين الرغبات النافعة والرغبات الضارة، بين الرغبات الحقيقية والرغبات الوهمية، وقصد التمكن من لجم الجشع الاستهلاكي الذي يدمر المصلحة العامة، يدمر الأخلاق، يدمر الصحة، يدمر العيش المشترك.

لذلك فإحدى الوظائف الأكثر نبلًا للفلسفة الموجهة إلى الناس هي استعادة الشغف بالأشياء البسيطة، استعادة القدرة على نسج العلاقات البسيطة، استعادة القدرة على الاستمتاع بالمعطيات البسيطة، وفي النهاية القدرة على العودة إلى الحياة البسيطة.

إجمالًا، للفلسفة الموجهة إلى الناس دور أساسي في تربية الأمم ونهضة المجتمعات، إنه جُهد هادئ في كل الأحوال، يفتقد إلى عناصر الإثارة، لكنه الجُهد الأكثر ثوريّة في التاريخ.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete