تكوين
-1-
في نهاية الستينيات من القرن الماضي حيث كانت العلمانية تبدو مسلمةً نهائيةً في الفكر الغربي، عاد كارل شميت إلى استحضار مفهوم اللاهوت السياسي إلى قاموس النقاش الدائر بشأن الديمقراطية والدولة الحديثة، كان شميت -المفكر القانوني الألماني المؤيد للنازية- هو أول من استخدم المصطلح ووظفهُ في نقد النظرية الليبرالية والترويج الصريح للحكم المطلق، وذلك في كتابه الذي أصدره عام 1922 بعنوان “اللاهوت السياسي: أربعة فصول في علم الاجتماع حول مفهوم السيادة”، وكتابه الذي أصدره عام 1927 بعنوان “مفهوم السياسي” وهو نصه النظري الرئيس الذي انتصر فيه لفكرة السيادة الشمولية للدولة تحت قيادة حاكم كارزمي مطلق السلطة.
في سنة 1970 نشر شميت الجزء الثاني من كتاب اللاهوت السياسي، ليدافع من جديد عن فرضيته الأساسية وهي أن “مفاهيم النظرية الحديثة للدولة مفاهيم لاهوتية معلمنة”. وفيه أطلق شميت حملةً مضادةً لما أسماه “أسطورة إنهاء كل لاهوت سياسي”، التي طرحها المفكر اللاهوتي “الكاثوليكي” إريك بيترسون في دراسته المعروفة “التوحيد بوصفه مشكلةً سياسيةً: إسهام في تاريخ اللاهوت السياسي في عهد الإمبراطورية الرومانية”، والتي حاول من طريقها أن يُبرهن على “استحالة اللاهوت السياسي” في المسيحية وفقًا لقانون الإيمان النيقاوي، وأنه انتهى انتهاءً حاسمًا عقب زوال الحكم الروماني. (انظر Erik Peterson, Monotheism as a political problem: A Contribution to the History of Political Theology in the Roman Empire. Theological Tractates, Stanford University Press, English Translation 2011, p 68 – 105).
لم يكتب شميت مباشرة عن الإسلام السياسي الذي لم يكن قد فرض نفسه بعد على المناقشات الغربية في مطلع القرن الماضي وحتى نهاية الستينيات، ظلت أبحاث شميت تصدر في إطار المشاغل الألمانية الناجمة عن تداعيات الحرب الأولى وأداء جمهورية فايمر، وهي في مُجملها أبحاث “قانونية” تدور حول نظرية الدولة ومبدأ السيادة، ومع ذلك يبدو الطرح الذي يقدمه شميت وثيق الصلة بالمشكل السياسي الإسلامي من ناحيتين:
1- من طريق السياق المسيحي الأوروبي ينخرط شميت في علاقة السياسة بالدين “التوحيدي” عمومًا، وهو مدخل إجرائي يتسع للإسلام السياسي بتجلياته الإشكالية المعاصرة.
2- موضوعيًا يتقاطع شرح شميت مع التأصيل النظري للإسلام السياسي، الذي يُنكر مبدأ الفصل بين الدين والدولة من جهة، ويتبنى مفهومًا شُموليًا مطلقًا للسلطة/السيادة من جهة أخرى.
تُناقش هذه المقالة طرح شميت بشقيه: موقفه من مشروعية اللاهوت السياسي، وموقفه من مشروعية السلطة المطلقة، بغرض الوقوف على نقطة التقاطع بينه والطرح الأصولي الإسلامي من هاتين الجهتين، وبوصفه نقدًا “عصريًّا” للحداثة الليبرالية، هل يُقدم طرح شميت دعمًا إضافيًا للإسلام السياسي في مواجهة التيارات العلمانية المحلية، التي لا تزال تتبنى مقولات “التنوير” الغربي الكلاسيكية؟
-2-
“اللاهوت السياسي” و “مفهوم السياسي”
يُصنف شميت أطروحته في الكتابين بوصفها أبحاثًا في “النظرية القانونية” المنفتحة على علم الاجتماع، فهو لا ينخرط تمامًا في جدل كريستولوجي لاهوتي رغم أن طرحه يظهر لنا طوال الوقت من طريق الاشتباك مع مفكرين لاهوتيين وخصوصًا إريك بيترسون، ويتبنى شميت وجهة النظر الشائعة في الفكر القانوني الألماني في مرحلة ما بعد الحرب، والتي تُلاحظ وجود تشابه بُنيوي بين مادة اللاهوت ومادة التشريع، وتُقر بدور فاعلٍ للكنيسة الكاثوليكية في تطوير القانون في أثناء العصر الروماني الطويل ومنه إلى الدولة الحديثة.
بالطبع لا يُمكن فهم وتقييم أعمال شميت بمعزل عن السياق الاجتماعي (الثقافي والسياسي) العام في ألمانيا، عقب الحرب العالمية الأولى، أعني تصاعد التوجهات القومية والشمولية المتطرفة التي كرسها وصول النازيون إلى السلطة.
باستدعائه لمفهوم اللاهوت السياسي لا يهدف شميت إلى إلغاء العلمنة واستعادة نموذج الدولة الدينية الذي عرفته العصور الوسطى، بل إلى التذكير بالأصل اللاهوتي لمفاهيم الدولة الحديثة والقول بنفي التناقض بين هذه الدولة ومبدأ الدين، خلافًا لمقولات التنوير الأوروبي التقليدية، التي يُروج لها “الملحدون والفوضويون والمفكرون الوضعيين” (اللاهوت السياسي، الترجمة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، بيروت 2018، مقدمة الكتاب الثاني).
عمليًا يُوظف شميت اللاهوت السياسي في شرح مفهوم السيادة القانوني، فهو يبني هذا المفهوم على فكرة “القرارية” Decisionism” ” بوصفها جوهرَ السلطة (بمعنى أن الأهمية لفعل “القرار” في ذاته أكثر من مضمونه، بغرض إبراز القيمة الإجرائية لفكرة الحسم وتحديد صاحب القرار)، وهي الفكرة التي تصب بدورها في دعم النظام المُطلق الذي فرض نفسه في ألمانيا بوصفه ردَّ فعلٍ لنتائج الحرب والفوضى السياسية المصاحبة لجمهورية فايمر، والآن كشفت عن ضعفٍ واضحٍ في بنية الدولة والنظام الليبرالي.
وَفق شميت أفسدت الليبرالية الفعل السياسي وأدَّت إلى تَمْييع مفاهيم الدولة، بسبب تَقَيُّدها مُقدمًا بدوجما الشرعية القانونية التي تقوم على الفردية التعددية، وتنزع الزَّخَمَ من فكرة الهُوية القومية. لقد جُرِّدت المفاهيم السياسية من قوتها وحِدَّتها المطلوبة، فبعد أن نجحت الدولة الأوروبية الحديثة “في بسط السلام داخلها واستبعاد مفهوم العداء من جوفها، أصبح من غير الممكن أن يكون فيها سمة سياسية، بل شرطة فحسب”.
وكي تستعيد الدولة زَخَمَ السياسة يلزم العودة إلى أصولها المُستمدة من مقولات اللاهوت الأولية: سُلطة الإله المطلقة، صراع الخير والشر، نفي الآخر، العدو، فجوهر السياسة الفعلي هو الخصومة والمعيار الذي يُميز مفهوم “السياسي” هو تحديد العدو من الصديق داخليًا وخارجيًا، وهو ما يقتضي العودة إلى مفهوم الشر وإلى الفعل السياسي. “فإثبات السياسي في نهاية المطاف ليس شيئًا آخر غير إثبات الأخلاق… يُصبح صراع الخير والشر مرادفًا للصراع بين السلم والحرب، ويأخذُ التقابل الديني بين الله والشيطان، صيغةً سياسيةً في التقابل بين الصديق والعدو”. في عبارة موجزة: مبدأ الحصرية التوحيدي يوافقُ مفهوم السياسة كما طرحه شميت.
-3-
مبدئيًا يعترض شميت على فكرة الفصل بين ما هو سياسي زمني وما هو ديني روحي، فهذا الفصل لا يقتضيه قانون الإيمان المسيحي النيقاوي كما يَدعي إريك بيترسون، كما أنه لم يعد ممكنًا في مستوى الواقع خصوصًا في السياق الاجتماعي المعاصر، حيث تبرز إشكالية جديدة في علاقة الدولة/الكنيسة/المجتمع، “التعاليم الأوغسطينية عن المملكتين/المدينتين المختلفتين (مدينة الله والمدينة الدنيوية)، وكذلك “المأسَسَة” الموروثة من القرون الوسطى وحركة الإصلاح لم يعد لها محل، “فلم تعد هاتان المملكتان موضوعتين يمكن التمييز بينهما بوضوح، سواء من حيث الماهية أو المادة” يشرح شميت:
“حتى الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و1918، كانت الهياكل المؤسساتية الموروثة التي أُعيد ترميمها داخل مؤتمر فينا في عامي 1914 و1915 ما تزال سارية المفعول على الأقل ظاهريًا. كان يمكن للمرء أن يتمسك بروايات خيالية عن انفصال أنقى وأنظف بين الدين والسياسة حتى في ليبرالية القرن التاسع عشر، إذ إن الدين كان إما مسألةً تخص الكنيسة، وإما ببساطة مسألة شخصية، في حين كانت السياسة مسألةً تخص الدولة، وكلتا المسألتان بقيتا متميزتان على الرغم من الخلافات التي لم تنقطع بشأن الصلاحيات طالما أن المنظمات والسطات كان باستطاعتها أن تظهر على الرأي العام وتنشط بفاعلية بوصفها متمايزة بوضوح بأحكام أرضية مقبولة ويمكن تحديدها. وطالما كانت هذه هي الحال، كان من الممكن تعريف الدين بأنه متعلق بالكنيسة، والسياسة بأنها متعلقة بالدولة. جاءت لحظة الانقلاب وانهارت واجهة المفاهيم الموروثة عندما فقدت الدولة احتكار السياسة وجاءت قوى سياسية مناضلة وفاعلة لتنازعها ذلك الاحتكار، ولا سيما عندما تحولت الطبقة الثورية، البروليتاريا الصناعية إلى العنصر الجديد والفاعل في السياسة” (اللاهوت السياسي، السابق، ص 92).
-4-
يتحدثُ شميت هنا عن انقلاب في المفاهيم السياسية الموروثة من تاريخ أوروبا الروماني وأدبيات الإصلاح البروتستانتي، والتي حافظت على “التمايز” المؤسساتي الواضح بين الكنيسة والدولة، الآن –كما يقتبس شميت من مقال لـ “فولفجانج بوكينفورده” عام 1968 “لم يعد السياسي موضوعًا يُمكن تحديده، بل بالأحرى وصفًا لدرجة شدة الترابط أو التفكك، وهو الذي يستطيع أن يستمد مواده وفق الوضع ومعطيات العلاقات في المجتمع من كل حقول المعرفة. ومن ثم لا يُمكن للمرء الهرب من السياسة من طريق التراجع إلى موضوعية محايدة، أو إلى القانون الطبيعي ما قبل السياسي، أو إلى رسالة الخلاص المسيحية وحسب”.
سَبَبُ الانقلاب وفق شميت هو ظهور قوى سياسية جديدة صارت تُزاحم الدولة على احتكار السياسة، وهي وضعية تُشير إلى المؤشرات الماركسية التي حولت البروليتاريا الصناعية إلى قوة ثورية فاعلة في مواجهة الدولة.
لكن السؤال -لديَّ- هو: هل صحيح أن الدولة فقدت احتكار السياسة بفعل هذه المؤثرات وظهور هذه القوى؟
تاريخيًا وطوال الوقت لم ينقطع وجود قوى سياسية تنازع الدولة/الحاكم بشأن أهداف السلطة وحجمها وآليات تنفيذها، لقد كان ثمة على الدوام أشكال متعددة من الأجسام السياسية التي تُقابل الدولة أو تجاورها، سواء كانت تيارات خارجة عن السلطة أو كيانات فاعلة داخل المجتمع تُوضع في اعتبار القرار السياسي، كل ما تغير هو صور هذه الأجسام وطريقة اشتغالها التي تعكس طبيعة التطور الاجتماعي، (يُمكن الإشارة مثلًا إلى القوى المتصارعة على السلطة، وإلى موجات الاحتجاج الداخلية في الإمبراطورية الرومانية، وكذلك إلى حركات الخروج المذهبية الطائفية على الحاكم وحركات الانشقاق على الدولة المركزية في السياق الإسلامي، كما يمكن المقابلة بين هذه القوى البروليتارية الصناعية وأشكال من الثورات ذات الدوافع الاقتصادية والإثنية المباشرة بامتداد المراحل القديمة والوسطى والحديثة).
وتاريخيًّا وطوال الوقت -أيضًا- لم يَنقطع التداخل بين السياسي والديني والاقتصادي والثقافي بحكم طبيعة الاجتماع ذاتها، يحتوي الواقع على هذه المعطيات ويجمع بينها ويَنتج عن ذلك نوعًا من التشوش في مستوى الوعي النظري)، ومع ذلك ظَلَّ التمييز مُمكنًا بين صلاحيات السلطة السياسية التي تملكها الدولة، وصلاحيات السلطة المعنوية التي يُمثلها الكهنوت في المجال العام (سلطة التشريع والتنفيذ الجبري).
هذا التمييز ظل عُرضة للغموض والتشوش طوال العصور الوسطى المسيحية، بسبب تغول الكنيسة المُتفاقم في المجال العام وتراجع الأمير الزمني أمام الكهنوت، لكنه عاد فصار “واضحًا وضروريًا” في ظل التحولات الحداثية التي أَجبرت الكهنوت على التخلي عن مزاحمة الدولة في المجال العام، ثمة تداخل مفهوم بين السياسي والديني بسبب الطابع الشمولي لكل منهما، لكن الخط الفاصل بينهما يظهر بطريقة واضحة كلما أرادت السياسة ذلك.
-5-
في الجزء الثاني من كتاب اللاهوت السياسي يُقدم شميت طرحه من طريق الاشتباك مع اثنين من المفكرين الألمان، كلاهما معارضٌ للشمولية: الأول لاهوتي بروتستانتي متحول إلى الكاثوليكية هو إريك بيترسون، والثاني واحدٌ من كبار الحُقوقيين المُهتمين بالنظرية القانونية وفكرة السيادة هو هانز كلسن.
شميت مقابل بيترسون
يُعارض شميت بأثر رجعي رُؤية بيترسون التي طرحها عام 1935 في دراسته بشأن التوحيد بوصفه مشكلةً سياسيةً، والتي ترى أن “اللاهوت نشاطٌ مسيحيٌّ نوعيٌّ خاصٌّ، مقابل النشاط السياسي الدنيوي ومنفصل عنه”، “كانت أطروحة بيترسون هي أن انتصار عقيدة التثليث في نيقية على هرطقة آريوس (التي تنزل بمرتبة الابن عن الآب) جَنَّبَ المسيحية الخضوع لأي لاهوت سياسي، بأن جعل فرضيته الأيدولوجية مستحيلة” (انظر Theological Tractates, Ibid, vvix, Introduction).
وفق بيترسون: التوحيد النيقاوي الذي يُعطي للابن جوهر الآب الإلهي، يُؤكد أن مملكة المسيح ليست من هذا العالم، بل هي مملكة سماوية تنكفئُ على المطالب الروحية التي يُلبيها اللاهوت بمعزل عن المطالب السياسية الدنيوية التي تُلبيها الدولة، وذلك خلافًا للآريوسية التي تربط المسيح بالمعنى البشري وتجعل اللاهوت السياسي ممكنًا، وهي الرؤية التي ثبتها القديس أوغسطين بحديثه عن المدينتين المتقابلتين مدينة الله والمدينة الدنيوية التي تُمثلها روما.
يُجادل شميت بالقول إن “كنيسة المسيح ليست حقًا من هذا العالم وتاريخه، لكنها في هذا العالم”، وفي هذا العالم هناك علوم سياسية لاهوتية كثيرة، لأنه من ناحية ثمة أديان مختلفة كثيرة ومن ناحية أخرى تُوجد أنواع وأساليب مختلفة كثيرة للقيام بالعمل السياسي، اللاهوت وفق شميت علم فهو “ليس نظير الدين أو المعتقد أو رعشة الخشوع. يُريد اللاهوت أن يكون وأن يبقى علمًا، طالما أن مفهومًا علميًا مختلفًا تمامًا (يقصد الفكر النظري الليبرالي الحديث) لا يملك القدرة على أن يهوى بالدين ولاهوته إلى حضيض نمطه من الدنيوية” (اللاهوت السياسي، السابق، الكتاب الثاني، ص 148 و149).
هذا الاحتجاج -لديَّ- هو تلاعبٌ فيلولوجي وتحصيل حاصل، لأن كل شيء في هذا العالم أي داخل الاجتماع، وكونه عِلمًا لا يُغير من الطبيعة الروحية للاهوت، التي تسعى في أهداف وتعمل بآليات مغايرة لأهداف وآليات السياسة، وفي الواقع لا يبدو طرح شميت في نهاية الستينيات أكثر من محاولة لتبرير موقفه السياسي المُؤيد للنازية والحكم المطلق، ولموقفه القانوني الذي يَستخف بفكره سيادة القانون، يقوم اللاهوت التوحيدي على مبدأ “الحصرية” التي تنفي الآخر وتصنع عدوًا بالضرورة، وهو ما يلتقي مع طرح شميت لمفهوم “السياسي” الذي يقوم على تحديد العدو، ولمفهوم السيادة الذي يُشرعن الاستثناء ويُقِرُّ بسلطة القائد الأوحد.
-6-
شميت مقابل كلسن
ضمن تيار واسع من المفكرين الألمان بعد الحرب وانهيار جمهورية فايمر، كان شاغل شميت –بوصفه قانونيًّا مُسيسًا- هو هاجس الدولة القوية، وفي هذا السياق يظهر التناقض النظري بينه وبين هانز كلسن بخصوص مسألة الشرعية والسيادة، يُدافع شميت عن دولة سيادية قوية تنهل من فكرة “المشروعية الكاريزمية” التي طرحها ماكس فيبر، وتجعل الدولة تدور في فلك الزعيم (الفوهرر) الذي يملك حق التقرير من دون تقيد بسلطة القانون المعيارية المجردة التي يُؤيدها كلسن.
لدى كلسن تستند الشرعية في الدولة الحديثة إلى المرجعية القانونية؛ القانون المجرد هو السلطة المشروعة التي يجب أن تحكم كي تمنع قيام سلطة شخصية مطلقة، “يجب أن تكون الدولة تشريعية بحتة، فهي ليست مجرد حقيقة ما، أو مكونًا متخيلًا إلى جانب النظام التشريعي أو خارجه، فالدولة ليست إلا النظام القانوني بذاته” (انظر اللاهوت السياسي، السابق، الكتاب الأول ص 35).
يعتقد شميت أن هذه الفكرة مثالية والواقع أن الحاكم الكاريزمي هو من يصنع القرار: “الحاكم السيادي هو الذي يُقرر في الحالات الاستثنائية”، والهدف وَفق شميت هو وضع نظرية سياسية غير مُقولبة، أي ليست خاضعة للقالب القانوني المفترض للدولة الليبرالية، تُشرعن هذه النظرية حالة “الاستثناء” من أجل الحفاظ على مصالح الدولة/المجتمع، يرى شميت أن الليبرالية أفسدت الفعل السياسي وأفقدته فاعليته المطلوبة بسبب تقييده مُقدمًا بفكرة سيادة القانون، ومن طريق الفردانية القانونية قضت على فكرة الهُوية القومية وجماعية الشعب، دولة السيادة الشعبية لا يجب بالضرورة أن تخضع دائمًا لقوانين معيارية مُحددة سلفًا، فهي تَحُدُّ من تصرفها السياسي.
القانون يُمثله حاكم قائد كاريزمي يُقرر الأمور ويثق به الشعب، ويمكن له تقليص بعض الحريات الفردية، وأن يفرض حالات استثنائية للحد من الفوضى التي تُحدثها الليبرالية، هذه السلطة الديناميكية تشبه بوجه من الوجوه سُلطة الإله وتُؤدي دور الدين، فكما أسهم الدين سابقًا في إصلاح الناس إصلاحًا استثنائيًّا من طريق وضع الضوابط على تصرفاتهم، يُمكن لنظام السيادة الشعبية الدكتاتوري أن يُؤدي الدور نفسه.
يستعيد شميت من اللاهوت مفاهيم الإله القدير، والخير مقابل الشر، وصراع الحق والباطل، يقوم الحقل السياسي على فكرة الصراع التي تُشير إلى أن الإنسان المعاصر بالذات شرير بطبعه، وذلك في مقابل فكرة “الأنسنة” وافتراض الطابع السلمي الذي يعود إلى التعددية والقبول بواقعة الاختلاف، وهي الأفكار التي تستند إليها الليبرالية السياسية، ويتوافق هذا الطرح مع المعيار الذي اعتمده شميت لمفهوم السياسي (معيار العدو/ الصديق) الذي يقتضي إعادة إدخال مفهوم الشر والصراع إلى قلب الفعل السياسي.
موضوعيًّا يتقاطع مفهوم السياسي لدى شميت مع الرؤية التي تُقدمها الأصولية الإسلامية، تحديد العدو من الصديق يعني اتخاذ موقف حَدَّي حيال “آخر” ما يلزم تعيينه، وهو بعينه لازم من لوازم الطرح التوحيدي الذي يقوم على الحصرية، أي نفي وجود الآخر ومشروعيته بوصفه باطلًا يُقابل الحق المطلق، والذي يقوم أيضًا على شرعنة العنف واستخدامه في عملية النفي، العنف بدرجاته التي تصل إلى قرار الحرب، وهو القرار السياسي الأوضح للدولة.
ومع ذلك سوف يُحاول شميت شرعنة فكرة الاستثناء من داخل أسس النظرية القانونية، فالاستثناء لا يُمثل الاضطراب والفوضى كما يعتقد كلسن، بل عَملية انتقالية من كيان سياسي هش إلى نموذج سياسي قوي من طريق سيادة قرار الزعيم، حقُّ الزعيم يَتبَرُرُ بضرورة الحفاظ على وجود الشعب، يشرح شميت “ولأن الاستثناء يختلف تمامًا عن الفوضى والبلبلة، سوف يبقى النظام بالمعنى التشريعي، حتى لو لم يستمر بشكله العادي” (ص 58).
وفق شميت يُمكن للاستثناء أن يُمثل مبدأً، فوظيفة الدولة ليست فقط تطبيق القانون، بل رعاية مصالح المجتمع، وهي أعم من المحافظة على القانون.
-7-
بين شميت وهوبز
حضور هوبز في طرح شميت مُؤكد، وبقليل من المجاز يُمكن الحديث عن هذا الطرح بوصفه نسخة معاصرة من نظرية هوبز السياسية في القرن السابع عشر، هذا واضح تمامًا في النقطتين الأساسيتين:
- عدم فصل السلطة الزمنية عن الروحية:
فهذا الفصل لدى هوبز هو أحد أسباب انحلال الدول، وهو لدى شميت يُؤدي إلى تَمْييع المفاهيم السياسية وإضعاف قوة الدولة، في سياقه الثقافي في القرن السابع عشر، كان مفهوم هوبز لعدم فصل السلطتين يعني الآتي: الملك هو رئيس الكنيسة، الكنيسة يجب أن تعتمد على الحكومة المدنية، المُشرع هو الذي يُحدد ما هو ديني وما هو سياسي. لم يُصرح هوبز رغم هجومه على الكنيسة الكاثوليكية، باستبعاد الدين لصالح علمانية خالصه، وبدوره كان شميت في سياقه الثقافي في القرن العشرين، يعني بفاعلية اللاهوت السياسي، استحضار مفاهيم اللاهوت لإعادة الزخم إلى قوة الدولة، ولم يهدف إلى استعادة النموذج القديم لازدواجية السلطة ونفي العلمنة.
- عدم خضوع الملك للقوانين المدنية:
هذا المصطلح –بتعبير هوبز في “الليفياثان” مفهوم ضروري لمصلحة الدولة- “لا يخضع الملك لأي سلطة، وحقه في العقاب لا يأتيه من أي تصور للعدالة، ولكن لأنه يحتفظ بالحرية التي كانت للناس في حالة الطبيعة، حيث لم يكن إنسان يلام لإصابته الآخر بأذى” (انظر شرح برتراند راسل لـ “الليفياثان”، في “تاريخ الفلسفة الغربية، الترجمة العربية، دار التنوير، الجزء الثالث، ص 61 – 72).
من أُسس نظرية هوبز الدفاع عن فكرة أن سلطة الدولة يجب أن تكون مطلقة، وهو ما يظهر في طرح شميت لمفهومه عن الاستثناء، التي تَعفي الحاكم من سلطة القانون المسبقة، كي يكون قادرًا على حماية الدولة ومواكبة الوقائع الطارئة، فكرة سيادة القانون الليبرالية تُضعف من قوة السلطة وتؤدي إلى الاضطراب والفوضى، (حساسية العقدة الألمانية التي خلقها دستور فايمر بعد الحرب، والتي أفضت إلى ظهور الفاشية النازية وسيطرة الزعيم الفوهرر).
السلطة المطلقة للدولة هي أهم ما في نظرية هوبز، كانت هذه الفكرة موجهة بالأساس لتقليص سلطة الكنيسة، وقد نجحت في تحقيق هذا الغرض في المناطق البروتستانتية بمساعدة حركة الإصلاح التي أيَّدت السلطة العلمانية، وكما لاحظ برتراند راسل “يختتم هوبز القسم الثاني من الليفياثان بأمل أن يقرأ الكتاب ملكٌ ويجعل من نفسه حاكمًا مطلقًا وهل أمل أقل وهما من أمل أفلاطون في أن يتحول ملك ما إلى فيلسوف”، وفق هوبز يُمكن تحقيق هذا الأمل بالتعليم، وهذا سهل لأن الناس يمكن أن يتعلموا ما يعارض العقل مثل اعتقادهم المسيحي بتحول خبز القربان وخمره إلى جسد ودم المسيح” يجب أن يكون ثمة اتساق في العبادة من حيث كون الدين هو ما يقضي به الملك” (انظر راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، جزء 3، السابق، ص 69).
كان الخوف من الفوضى هو الهاجس الأول لدى هوبز قبل الخوف من الاستبداد، وهو بعينه بالإضافة إلى ضعف الدولة كان هاجس شميت وقطاع كبير من النخبة الألمانية بعد الحرب وفشل دستور فايمر.
-8-
هل ثمة مستقبل للاهوت السياسي؟
حتى نهاية الستينيات كان شميت يُحاور مفكرين لاهوتيين… أي كان اللاهوتيون لا يزالون في المشهد الفكري السياسي في الغرب.
كيف نقرأ هذا في ظل الفكرة السائدة عن الستينيات بوصفها عصر التبريد الأقصى للدين واكتساح العلمانية والتيارات القومية والوطنية.
إلى أي مدى يبدو إلحاح شميت على استدعاء اللاهوت السياسي غريبًا؟
وهو يشير إلى مقولة “انتهاء اللاهوت السياسي” ويصفها بالأسطورة والخرافة العلمية، هل كان يبدو مبالغًا (ضد رؤية هابرماس/ كارل بوبر)؟
هل كنا نحن واهمين ونحن نرى التراجع الصريح للكنيسة وانسحابها من المجال العام، بل وهزيمتها الكاملة سياسيًا أمام التيار الحداثي الجارف؟
من طريق شميت تشتغلُ فكرة اللاهوت السياسي بتناغم تامٍ مع الفكر الشمولي والنظام المطلق، وبتناقض تامٍ مع مبدأ سيادة القانون وهيمنته على الحاكم، أي تقييد سلطة الدولة بقواعد معيارية مسبقة وثابتة.
كيف نناقش الفكرة المبدئية؟
بالطبع يمكن الحديث عن الواقع التاريخي للدولة الذي لا يزال عليه مواجهة البقايا الموروثة من سلطة اللاهوت على الوعي والتفكير السياسي.
ولكن ماذا عن السؤال الطبيعي عن الأصول النظرية للدين التوحيدي (الحصرية/الإطلاقية المُؤَبَّدة) وهي تتناقض مع طبيعة الاجتماع السياسي التي صارت أكثر وعيًا بنفسها داخل العالم بفعل تطورات الحداثة.
هل يمكن إنكار التحول في بنيات الوعي المعاصر بفعل التطور الاقتصادي والتقني والعقلي وتداعياته الفادحة في الروح والشعور الأخلاقي؟
هل يمكن التقليل من أهمية التحول من ثقافة الاجتماع الجمعية التي سادت طوال العصور القديمة والوسطى وهي عصور الهيمنة الدينية، إلى ثقافة التعددية الفردانية التي استدعت الليبرالية السياسية؟
(الليبرالية لم تخلق الفردانية التعددية، بل العكس)
هل يعني تأثر المفاهيم السياسية للدولة بتراث اللاهوت السياسي، والناجم عن بقائه التاريخي المتواصل لدهور ممتدة طوال عصر الهيمنة الدينية، يعني أن السياسة هي من خلق اللاهوت وأن الدولة لاحقة على اللاهوت وناتجة عنه؟ أم أننا نعلم من التاريخ أنه كان ثمة على الدوام اجتماع سياسي خام غير خاضع لهيمنة دينية، (الاجتماع السياسي اليوناني والاجتماع السياسي الروماني قبل العصر المسيحي).
وفي الشرق الأدنى القديم حيث تجاور الدين مع الدولة وتوحد الملك مع الإله، ورغم حضور الكهنوت ظلت معادلة السلطة تميل إلى صالح الملك، وظل الكهنوت عمومًا يعمل تحت الدولة.
عند بداية العصر المسيحي كانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث أقرت بها النصوص الكتابية البكر (على لسان المسيح وفي تعاليم بولس).
طوال القرون الثلاثة الأولى ورغم تَكَوُّن الكنيسة بوصفها قوة واقع لم تطرح نفسها بمنطق اللاهوت السياسي، بل بمنطق السلطة الروحية الموازية والمجاورة للسلطة الزمنية، وهو المنطق الذي سوف يطرحه أوغسطين في حديثه عن المدينتين المتمايزتين.
منطق اللاهوت السياسي سوف يبدأ في الظهور بعد تحول الإمبراطورية إلى الدين الجديد، وظهور (ملك مسيحي) ينتمي بنفسه إلى المدينتين اللاهوت والسلطة السياسية، لم يكن مجرد وجود ملك مسيحي كافيًا لفرض اللاهوت السياسي، بل احتاج فرض اللاهوت السياسي إلى تجاوز الكنيسة لصلاحياتها وانغماسها في ممارسة جزء من السلطة.
مع ذلك وبحكم طبيعة الاجتماع السياسي وغريزة الدولة صار الملك/الحاكم الزمني ينفصل من جديد عن إلزامات الكنيسة، وظهرت إشكاليات التنازع والصراع التي تنجم عن ازدواجية السلطة وهي الإشكاليات التي كشفت بامتداد العصور الوسطى عن التناقض الطبيعي بين أهداف الدين وخصائصه الحصرية المطلقة وأهداف الدولة وأغراضها التعددية المتطورة، والتي انتهت بالعقل الغربي إلى أفكار التنوير المتطرفة التي صارت تُوجه النقد إلى فكرة الدين في ذاته، وأجبرت الكنيسة على التراجع والاعتراف بالعلمانية المبكرة التي أقرتها النصوص وتعاليم أوغسطين.