الإنسان بين الدين والتديّن

قراءة في كتاب "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين".

تكوين

عندما يصبح اسم الإنسان عنواناً لمسار، وعلامة مفارقة تُرصَد في وسط الضوضاء، يكون العمر قد أثمر فعلاً وأفاض.

عندما يقترن الفكر بالعمل، تتوهّج النفس مشرقة أبهى ألوانها فترسل “إشاراتٍ وتنبيهاتٍ”  توقظ وعي الآخر من سباته العميق.

عندما تلوحُ في أفق المعنى محاولاتٌ جديدةٌ تُنبىء بقراءة مختلفة عما سبق، تُمطر السماء فيضاً من أمل على عقول أضناها العبث.

يبدو فعل الكتابة في وسط الحراك القائم على الساحة العربية الإسلامية أمراً غير ملح، والمستفيدون منه قلائل، لكن الإصرار على هذا الفعل عملٌ جبارٌ في حدّ ذاته، يقاوم اليأس ويدحض القنوط ليرفع النفس العاقلة الى مرتبة التأمل والتفكّر والابداع.

يشكّل كتاب “انقاذ النزعة الإنسانية في الدين” للدكتور عبد الجبار الرفاعي محطّة مشرقة في ظلمة التعصّب والغوغائية والكراهية التي تكبّل العقل وترمي به في متاهات مضنية. لم يكتفِ المؤلّف بالاحتجاج على ما يُرتكب من عنف باسم الدين. كما لم يرُق له التوقّف عند الدفاع عن الدين في وجه التيارات المادية والالحادية المتطرّفة. حطّ رحال قلمه عند الدفاع عن الدين ليحميه من الدين نفسه، من الفهم الخاطئ لمضمونه المشرق. حاول ان يشير الى مكامن الاشراق الانساني الراقي في التجربة الدينية، هذا الاشراق الذي يصدّ كل محاولة لالغاء الآخر، ويحرّم العنف، ولا يستعبد الانسان. المهمة انقاذية، والمبادرة جريئة، والخطاب ثوري انقلابي يستحق وقفة تحليل وتأمل.

تتكشّف في طيات الكتاب ملامح الفلتات الصوفية التي جذبت قلم المؤلّف وأخذته بعيداً حيث الاشياء لها وهجٌ آخر، والكلمات لها معانٍ تتجدّد بتجدّد قارئها. يبدو جلياً في الكتاب مدى غرق صاحبه في مياه المعنى الصوفي. انه ومنذ الصفحة الاولى يفتتح البحث بقطرات ترشح من معين ابن عربي: “واعلم ان الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله”. فكتاب الدكتور عبد الجبار لا يُقرأ فقط من عنوانه، انما ايضاً من العبارة التي صدّر بها الصفحة الاولى. قولٌ لابن عربي ملفتٌ فعلا في تقديمه الشفقة على الوضع الانساني، وما يعانيه من اضطهاد باسم الدين، وجعله هذه الشفقة أولوية يجب الانتباه اليها اكثر من “الغيرة في الله”. لماذا هذا الانقلاب في تظهير فهمٍ للدين مغايرٍ عما هو سائد وسط الحملات التكفيرية؟ لماذا جعل الانسان في المقام الاول؟ هل ما نشهده اليوم من انزلاقات نحو العنف المدمّر والقابض على انفاس الحياة هو فعلاً تديّنٌ يجب نشره واتباعه؟ هل هذا ما يبغيه الدين حقاً في دعوته السماوية؟

اسئلة قادت مسار الكاتب نحو شاطئ الانتروبولوجيا التي تظهّر عمق البعد الانساني في الدين، وجعلته يبحث عن تجارب صوفية وفلسفية وكلامية من أجل تدعيم خطاب الانسنة وتهميش الخطاب التكفيري والتدميري. هو الذي بات يرى في التديّن فعلاً مضاداً للدين. هو الذي أتعبته التجربة العراقية، وقطعت بوحشيتها انفاس البهجة في قلبه. هو المجبول بصراخ المعذّبين، والمتّـشح بأنات المتألّمين التي تتردّد اصداؤها في صوته. لقد تحوّل التديّن في نظره “الى اعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحّم كافة المكاسب التمدنية والحضارية والمعرفية للبشرية. انه سادية وجدانية ومعرفية، تتلذّذ بقتل الضحية واستباحتها، ومازوشية فظيعة تحتفل بتدمير النفس وهتكها”.( عبد الجبار الرفاعي، انقاذ النزعة الانسانية في الدين، بيروت، دار التنوير، ط2، ص198 )

ان من يقرأ بعمق فصول الكتاب كافة يجد ان الرابط الاساس في ما بينها يكمن في هذا القلق الملح من اجل محاربة اصحاب الايادي السود التي شوّهت ملامح التجربة الدينية الراقية بانسانيتها، عن طريق الفساد، والتطرّف، والتعصّب، والقتل المتبادل، وهدر الدماء البريئة … انه القلق على الحضارة والتمدّن والمعرفة وما أنتجته التجربة الانسانية عبر تطوّر التاريخ. يرى جيداً الكمّ الهائل من الدمار الذي سبّبه التطرّف في التديّن إن في بلده العراق أو في مختلف الاماكن التي ضربها اعصاره العاصف بالبشر. ينتقد القراءة الحرفية المغلقة للنصوص المقدسة مبرزاً مدى الأذى الذي تسبّبه على ارض الواقع السياسي والاجتماعي. انه أذى يضرب عمق التجربة الدينية عينها، ويكرّس الانغلاق على الذات، وينفي الآخر في دائرة التكفير. هذا الواقع المترردّي أسهم في نشوء جماعات تحتكر تمثيل الدين، وتهيمن على كيفية فهمه وعيشه في آن. يرى في ذلك عملية “انتهاك لإنسانية الانسان”، و”تزييف لأهداف الدين”، و”اهدار للقيم الروحية”. ان ما قامت به هذه الجماعات الدينية على صعيد فهم النص المقدّس ليس سوى ” قراءة حرفية مغلقة”، حصرت نفسها بالمدلول اللغوي “الساذج”، وأشاعت ” تفسيراً قمعياً للنصوص، تقبع خلفياته وقبلياته النفسية والثقافية في الصحراء والمحيط البدوي المغلق على العالم، كما وتحارب بلا هوادة القراءات التي تتخطّى المعنى السطحي، وتغور في الأعماق، مستلهمة المضامين الروحية الغنية في النص، ومستوحية رؤيته الرمزية المعنوية الجمالية، مثلما فعل المتصوفة والعرفاء والفلاسفة والاشراقيون، وغيرهم “.( عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص 199 )

ان هذا النهج في التعاطي مع النصوص المقدّسة أدّى الى حجب الوجه الحقيقي للدين الذي تجلّى لدى العديد من المستنيرين. يشدّد د.الرفاعي على ان رسالة الأديان ومقاصدها الكلية بعيدة كل البعد عن فحوى ما تقوم به الجماعات المتديّنة. فرسالة الأديان تكمن في  ” إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس “.

يقدّم المؤلف للطبعتين الاولى والثانية من كتابه بنصين يجدر بالقارئ التوقف عندهما لأنه يوضّح من خلالهما الاستراتيجية التي سيعتمدها في مقاربة موضوعه، كما انه يرسم الأهداف التي وضعها نصب عينيه عندما قرّر جمع نصوصه تحت عنوان: “انقاذ النزعة الانسانية في الدين”.

يمكننا تلخيص هذه الاسباب التي دفعته الى وضع هذا الكتاب بما يلي:

أولاً: تسجيل الاحتجاج على الواقع المأساوي للدين في المرحلة الراهنة.

ثانياً: نقد تزييف الدين من قبل الاسلاميين.

ثالثاً: الحرص على ابراز النزعة الانسانية في الدين والدفاع عنها.

أما الأهداف التي يبغي العمل عليها فهي التالية:

أولاً: الدعوة الى فهم آخر للدين يخالف الى حدّ بعيد فهم الجماعات المتدينة التي فرضت تصورها الخاص بالقوة، مبرّرة استخدام العنف الديني.

ثانياً: الحث على القيام بتأويل مختلف للنصوص الدينية، من خلال العبور من المنظومة المغلقة لفهمها التقليدي نحو قراءة شاملة تأخذ بالاعتبار نظامها الرمزي.

ثالثاً: تقديم تفسير لا يختزل الدين في اطار المدونة الفقهية وحدها.

رابعاً: اكتشاف وظيفة الدين الاصلية التي تكمن في انتاج معنى لحياة الكائن البشري.

خامساً: التشديد على النزعة الانسانية في الدين، والتوقف عند توضيح تصوره لهذه النزعة.

 

اما المنهج الذي اتبعه في بلوغ الهدف فيمكن تحديده بثلاث خطوات:

أولاً: الابتعاد عن القراءة التقليدية للنصوص المقدسة عن طريق توظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الانسانية لتأويل هذه النصوص في ضوء متطلبات العصر. نجده يستفيد بقوة هنا من مكتسبات الانتروبولوجيا الدينية ومنهجها الخاص في مقاربة الدين.

ثانياً: الحرص على عدم ترحيل الدين من حقله المعنوي القيمي الأخلاقي الى حقل آخر يسيطر فيه القانون على الروح، لكي لا يغدو الدين مجرّد ايديولوجية سياسية صراعية.

ثالثاً: الاهتمام بطرح الأسئلة أكثر من تثبيت الأجوبة النهائية، وفرضها على القارئ، وذلك في سبيل تنمية التفكير النقدي، وطرق باب المسكوت عنه والممنوع التفكير فيه، وعدم التوقف عن التحرّي واعادة النظر في المسلّمات، والابتعاد عن تكرار الشروح التي عّطلت برأيه التفكير الديني وسجنته في اطار الترسيمات التقليدية المغلقة . ان الاستفهام العميق في نظره يستوجب القلق المعرفي الذي يؤمّن للتفكير الشرط الضروري للابداع والديناميكية اللازمة للتطور.

يمكن اعتبار المنهج النقدي بمثابة العصب الرئيس الذي يسيّر خطوات الباحث في كتابه هذا. فالتفكير بالنسبة اليه هو النقد، “ونقد المعرفة الدينية مقدمة لكل نقد، ولا تنطلق عجلة الاصلاح الديني الا من خلال مراجعة وتقويم وغربلة الموروث، والجرأة في استبعاد كافة المفاهيم والمقولات والعناصر العميقة والمعطلة للتحديث والبناء والتنمية الشاملة”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص 13- 14)

 

ما الذي يقصده المؤلف بالنزعة الانسانية للدين؟

ان التحدّث عن النزعة الانسانية في الدين يحيلنا مباشرة الى محمد أركون الذي حاول في اكثر من موضع ان يبرز النزعة الانسية في الاسلام بخاصة في القرن الرابع الهجري، جيل مسكويه والتوحيدي وغيرهما، وذلك منذ أن أعدّ اطروحة الدكتوراه في السوربون، ونشرها في ما بعد تحت عنوان: نزعة الانسنة في الفكر العربي. كما نذكر أيضاً من مؤلفاته: “معارك من أجل الانسنة”، و”الاسلام والانسنة”، وغيرهما كثر حيث نجده يفصّل القول في نماذج انسية سطعت عبر التاريخ الاسلامي، ان في المناظرات، او المؤلفات، او الممارسات اليومية. نراه يركّز على العلاقة الوطيدة التي تربط بين زوايا ما يسمّيه بالمثلّث الانتروبولوجي: العنف، المقدّس، الحقيقة، لكي يفسّر ما يُرتكب من أعمال مدمّرة باسم الحقيقة الدينية عبر التاريخ، مستخدماً مناهج علوم الانسان والمجتمع، بخاصة الانتروبولوجيا الدينية، ومسلّطاً الضوء على مدى انفتاح بعض المفكرين على العقلانية والتسامح وقبول الاختلاف.

 

يحدّد الدكتور عبد الجبار الرفاعي مفهوم “الانسانية بالدين” في خمسة معانٍ، يمكن تلخيصها بما يلي:

المعنى الاول: الخلاص والتحرّر من “نسيان الانسان”، والاعتراف ببشريته ومكانته في الارض. من هنا ضرورة تصويب علاقة المؤمن بربه، وتحويلها من حال الرعب الى الابتهاج بالوصال مع معشوق جميل.

المعنى الثاني: عدم التنكيل بالجسد ومحاربة طبيعة غرائزه وقمعه على حساب الايديولوجيا والفهم المبسّط للتربية الروحية.

المعنى الثالث: الدعوة الى السلام واحترام كرامة الكائن البشري، والعمل على دراسة الاديان ومقارنتها للكشف عما هو مشترك وعن منابع السلام فيها.

المعنى الرابع: التحرّر من التفسيرات التعسّفية للنصوص ومن الصور النمطية للاله، وذلك عن طريق ثلاث خطوات منهجية:استلهام الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية عبر التاريخ، ومن ثم بناء الهيات عقلانية مستنيرة. ان هذا الامر سيؤدّي برأي المؤلف الى ترسيخ صورة رحمانية للاله تبرز صفاته الجمالية وأسمائه الحسنى ورحمته الواسعة.

المعنى الخامس: تحقيق المصالحة بين المتديّن ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه عن طريق متابعة منتجات العلوم والتكنولوجيا التي تتسارع خطواتها في تبديل العالم والمحيط. ان هذا من شأنه ان يحرّك العقل ويُخرجه من حال السكون والتلقّي، ويبدّل رؤية المتديّن للحياة والكون.

اذا اردنا ان نتوقف عند هذه المعاني الخمسة التي يقترحها المؤلّف لمفهوم “الانسانية في الدين”، يمكن ان تتكشف أمامنا عمق النزعة الانسانية التي تطبع عمق شخصه ونظرته للأمور. من البيّن انه غارقٌ في التأمّل الذي يرفع الانسان الى قيمة راقية في حدّ ذاتها. لا يقبل بتشويه هذه القيمة او المسّ بها على حساب ازدهار بعض الاديولوجيات التي تسخّر الدين لمصالحها الخاصة. انه يعمل من الزاوية الانتروبولوجيا الدينية، والمفكر النقدي المتمرّس بالعلوم الاسلامية،  لكي يحرّر صورتين بارزتين في الفكر الديني: تحرير صورة الله وصورة الانسان في آن معاً من التشويه الذي اصابهما. يشدّد على اهمية العقل في انتاج خطاب جديد ورؤية حديثة للعلاقة التي تربط بين الانسان وربه. يسعى من خلال التركيز على النزعة الانسانية في الدين الى تظهير صورة مغايرة تماماً لما تشهده الساحات العربية الاسلامية من بثّ على موجة التطرّف والتزمّت الاعمى الذي لا يفيد الدين بشيء، انما على العكس، فهو يقوم بتشويش رسالته السامية، وتشويه وجه الله فيه. لا ينتقد ما يحدث من زاوية المفكر الملحد، ولا من وجهة المادي المتطرّف، انما من زاوية المؤمن المتحرّر والمتذوّق لجمالية الدين وتسامي رسالته الراقية.

نجد المؤلّف يفرّغ قسطاً وافراً من النقد في وجه خطاب الاسلاميين متوقفاً عبر فصول الكتاب عند ابراز حجم الأذى الذي ألحقوه بالدين وبالفكر الديني. لقد عمل هذا الخطاب على “تلويث المجال الاجتماعي العام، وتهشيم مرتكزات العيش المشترك في مجتماعاتنا”، وتبرير استخدام “انماط همجية متوحشة من العنف الديني”. ينتقد المؤلّف في السياق عينه السلوك السياسي لهذه الجماعات بعد ان استلمت السلطة في بعض الدول لأنها اختزلت التنوّع الاثني والديني والمذهبي، واستخدمت الديمقراطية بشكل مصطنع لتحقيق اهداف خاصة لا أكثر، مع تجاهل الفلسفة الديمقراطية وما تتضمّنه من حريات وتداول سلمي للسطة. يعيد النظر في سلوكهم السياسي معتبراً اياه بمثابة اعادة احياء لقيم القبيلة وتشكيلاتها القديمة، وهم يعودون سنين الى الوراء مفرطين في استهلاك التاريخ.

الدين عبر مسارات التاريخ

يتحدّث المؤلف عن الالهيات الجديدة التي بإمكانها ان ترسم حدود المقدّس والدنيوي، وتكشف عن الاقنعة التي تستر ما هو دنيوي لكي تجعله مقدساً. وهي تشير ايضاً الى أن الانسان يحتاج الى المقدّس بشكل دائم، حتى ان الحياة “لا تطاق” من دون المقدس، كما أنها لا تطاق ايضاً عندما يبتلع المقدس كل ما هو دنيوي ويخلع عليه الوشاح الديني، حارماً العقل من تجلّي ابداعاته ومكاسبه في مجالات الحياة المتعدّدة.

ان من يقرأ كتاب الرفاعي يلمس عن قرب الهمّ الذي يشغل فكره. انه على مدى فصول الكتاب لا ينفكّ يبرز الوجه المشرق للدين خلافاً لما يظهّره الخطاب السلفي والممارسات الضيّقة لمن يتبنّى هذا الخطاب، كما ويبرز الحاجة الملحّة والمتزايدة اليوم أكثر من أي وقت مضى للفكر النقدي المنفتح على المعرفة وتجربة الآخر، في آن معاً. انه في تشديده على الوجوه النيرة التي أضاءت تاريخ الفكر الاسلامي بالفكر النقدي المتجدّد والمتحرّر من القيود الضيقة التي تسجن الفكر في إطار ايديولوجي ضيّق، يريد ان يلفت الانتباه الى ما يخالف مضمون الخطاب السلفي الطاغي اليوم، والذي يقتحم الشاشات ومختلف وسائل الاعلام بشكل واسع.

أردنا من خلال هذا البحث ان نسلّط الضوء على مفهوم الرفاعي الخاص بالدين والنزعة الانسانية فيه، اعتقاداً منا بأن في ذلك إضاءة على نموذج من الخطاب الاسلامي المعاصر المناهض للتقوقع والتعصّب وتكفير المختلف، والذي نحتاج اليه اليوم بقوة. من هنا اخترنا أن نتوقف عند فصلين من الكتاب هما: “الدين هو الذي يمنح الكائن البشري معنى لحياته وسلوكه”، و”الأخلاق والنزعة الإنسانية في الدين”، وذلك من باب الإضاءة على المفاصل النقدية الرئيسة في فكر الرفاعي.

 

الدين بحثٌ في أفق المعنى:

 

يتناول في الفصل الأول معنى المقدّس ويميّزه عن الدين كخطوة أولى، ثم يتوقف عند مفهوم الدين ودوره في حياة المؤمن كما في المجتمع من خلال حوار مع علي السومري نُشر في صحيفة الصباح العراقية. أما في الفصل الحادي عشر فنجده يبحث في مسألة التأليف في الاخلاق في الفكر العربي طارحاً علاقة الانسان بالتديّن ومفصلاً القول في  ضرورة “انقاذ النزعة الانسانية في الدين”.

يبدأ الفصل الأول بالبحث في مفهوم المقدّس، فيرى المؤلف انه يتسع لأكثر من معنى، بسبب ارتباطه بشبكة واسعة من العلاقات المفاهيمية، وبنظام من المراجع والأحكام القيمية. ويستعرض بالتالي مختلف المعاني التي يشير اليها هذا مفهوم، (مثل المتعالي، وما يرتبط بالدين،… ألخ)، وما يقابله من مفاهيم (مثل دنيوي، ومدنّس، عادي، ورجس،… ألخ). ثم يميّز بين المقدس والديني شارحاً أن مجال المقدس اوسع على صعيد التداول باعتباره مرتبطاً بطبيعة المجتمعات وحدوده فيها. يرى ان كل شيء يُمنح بُعداً قيمياً يتجاوز الوجود البشري، يمكن النظر اليه كمقدس على نحوٍ ما، لأن الانسان يصنع مقدّساته، وليست وليدة الصدفة. بمعنى آخر، “إن تكوين أي فكرة عن ما هو “مقدس” إنما يخضع لفهم الانسان ونظرته الى وجوده ووجود العالم الذي يحيا فيه. من هنا نجد ان أشكال المقدس وتمثلاته قد تتنوّع وتتعدّد لدى الانسان تبعاً لثقافته حتى انها تخرج عن المسألة الدينية التي تبدو للوهلة الاولى انها الميدان الحصري له فقط”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص17)

ان هذه النظرة للمقدس مشبعة بالانفتاح على عالَم الانتروبولوجيا الرحب، ومتحرّرة من الاطار المرسوم مسبقاً لهذا المفهوم لتغوص به في العمق. فالمقدس ليس محصوراً فقط بما يحدّده الدين، انما بات مرتبطاً بما يراه الانسان ايضاً. هنا تبدو جلية النزعة الانسانية التي توجه التحرّي المعرفي لدى الرفاعي. بيّن كم ان عمل الانسان وانهماماته الفكرية لها الأثر الكبير في تحديد المفاهيم، ومن بينها مفهوم المقدس.

يرى ان فضاء المقدس رحبٌ، مفتوحٌ على اللامتناهي، لا يمكن حصره بمجال ضيّق الافق، اذ أنه يرتبط بتنوّع الثقافات والمجتمعات والازمنة.” فكل شيء سواء كان انساناً أو كائناً آخر أو زماناً أو مكاناً، يمكن أن يغدو مقدساً في اطار مشروطية معينة. من خلال انتروبولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الدين، وعلم نفس الدين، والهرمنوطيقا، بوسعنا أن نتعرّف على تجلّيات المقدس وتعبيراته وطبقاته ونفوذه وعوالمه وجالاته”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص18)

يبدو هنا واضحاً كم أن هذه النظرة للمقدّس منفتحة وواسعة، تفسح المجال أمام المزيد من الغوص في أعماق التجربة البشرية وعدم حصرها ببعد واحد من دون سواه. ان في هذا النهج يتجلّى المنحى الانساني في الدين، وتسقط بالتالي مبررات استخدام العنف واستبعاد الآخر ورميه في دائرة الكفر والهرطقة، لمجرّد انه خالف الرؤية الاحادية للمقدّس. نلحظ ان المؤلف يتناول موضوع الفصل بين المقدس والمدنس من الناحية الانتروبولوجية، فنجد ان مقاربته موقعة بختم الانتروبولوجيا الدينية، وسوسيولوجيا الدين أكثر مما هي دينية بحتة. نجده يتحدث عن الدين وعن وظيفته في المجتمع من وجهة علوم الانسان والمجتمع، وفي ذلك دليل واضح على انفتاح فكر الرفاعي وسعة افقه.

يتوقّف المؤلّف عند دراسة معنى الدين انطلاقاً من وظائفه لكي يبحث في الحاجة اليه، إذ يعتبر ان الاشياء يمكن ان تُعرّف بوظائفها. يحدّد الرفاعي وظيفة الدين بعملية “انتاج المعنى”. الانسان بطبعه قلق يبحث في الماوراء عن معنى لما يحدث من حوله، لما يشاهده من ابداعات وما يعيشه من أحداث. فالدين ” يضيء ما هو مظلم في حياتنا، ويكشف عن الجمال في الأشياء، بل انه يقتصر على كشف جمال الأشياء…”.(عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص19)

ملفتٌ هذا التحديد لمهمّة الدين وربطها بالجمال، وكأن المؤلّف يغوص في عمق الانسان فيراه قلقاً يبحث عن الجمال، فإذا بالدين يقوم بالمهمّة ويؤدّي المطلوب. ان في هذه الوظيفة دعماً لحياة المؤمن لكي يتمكّن من تحمّل الصعاب، والصبر في أزمنة الشدّة. يستطيع المؤمن في نظره أن يرى جمال الاشياء فينظر اليها ” متناسقة مع عناصر الكون ونظامه، لترتسم معه لوحة مشرقة”. كذلك يعتبر ان نمط انتاج الدين هو نمط روحي، مرتبط بالمعنى، بتعبير آخر، يخلع الدين ” معنى لا يمكن أن تمنحه الوسائل والأدوات الأخرى التي يمتلكها الانسان، ويتنوّع هذا المعنى بحسب تنوّع الظروف والأحوال، واستعداد الأشخاص الروحي، ومستوى اطلاعهم على الفكر الديني، ووعيهم الحياتي وثقافتهم”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص19)

يربط هنا بشكل واضح بين وظيفة الدين ومستوى وعي الافراد وثقافتهم. بتعبير آخر، ان المعنى الذي يمكن للدين أن يضفيه الى حياة البشر يتعلّق بشكل مباشر برؤية هؤلا للوجود البشري، لحدود هذا الوجود وإمكاناته. من هنا يأتي دور الوعي البشري في انتاج المعنى وخلع القدسية على الاشياء. مرة أخرى تنجلي في هذا السياق النزعة الانسانية ليس للدين فحسب، انما النزعة الانسانية عند المؤلف عينه. انه يحاول أن يبرز بوضوح الدور البشري في عملية البحث عن المعنى، أي بتعبير آخر، انه يسلّط الضوء على المنحى الانساني في وظيفة الدين. هذا ما تركّز عليه أيضاً الانتوبولرجيا الدينية في سياق بحثها عن الحس الديني وتجلياته في المجتمعات البدائية عبر التاريخ.

 

لكن يبقى السؤال عن الحاجة الى المعنى؟ ما أصلها؟ وما هو دورها بالتحديد؟

يلحظ المؤلّف ان العديد من التيارات الفلسفية المعاصرة حصرت مهمّة الفلسفة بالبحث عن معنى الحياة والوجود والعالم. وفي المقابل نجد ان وظيفة الدين تكمن في انتاج المعنى، لذا نراه يعتبر ان هذه المهمّة من ” أخطر المهمّات في الحياة، وفي العالم الذي نعيش فيه”. ومن ثم يضيف قائلاً:” يقدّم الدين جهازَي تفسير وتأويل، وهو على ما يبدو النظام العلاماتي الوحيد الذي يولّد المعنى، ويقوم على تفسيره وتأويله. على عكس الأنظمة الأخرى التي تترك ” للمستسلم/ المتلقّي/ المستمع/ القارئ” حرية فهم المعنى، وتحليله، وتفسيره وتأويله”. كما أن الدين يخترق مجال الخيال، فيشكّله ويصوغه ويعيد تكوينه،(…). ويذهب بعض المفكرين الى أن معركة المستقبل يحسمها من يستطيع السيطرة على مجال الخيال”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص 21)

ان في هذا النص معانٍ تستوجب التوقف عندها. يقارن المؤلف هنا بين الدين الذي يولّد المعنى وباقي الأنظمة الأخرى التي تقوم بالوظيفة عينها. فالدين يقوم بتوليد المعنى من دون أن يترك الحرية للمتلقّي بأن يقوم بعملية التفسير والتأويل، انما يحصرها بنفسه على عكس الانظمة الأخرى المولّدة للمعنى، ويقوم بكل ذلك مستخدماً الرموز والطقوس كوسيلة فعّالة في هذا المجال. ويضيف أن الدين يتمكّن من اختراق الخيال فيعيد تشكّله وإنتاجه من جديد، أي يسيطر عليه بالكامل، فيصبح المؤمن راضخاً لمقولات الدين، وللمعاني التي يسبغها على الأشياء، من دون اي تساؤل او مراجعة موضوعية. ويشير المؤلف في هذا السياق الى غنى الدين بالرموز التي تخترق حياة المؤمن بتفاصيلها اليومية الدقيقة، مما يفيض على المؤمن سيلاً من المعاني لا ينضب.

(تابع ص22)

ان هذا الامر يدفع الكاتب الى التوقّف عند الأخلاق والنزعة الانسانية في الدين، باحثاً عما يمكن تسليط الضوء عليه من أجل إبراز مفهوم مختلف للتديّن، يركّز فيه على المحبة والرحمة والتراحم. من هنا يمكن أن ننتقل الى الفصل الحادي عشر من كتاب المؤلف.

 

التديّن والأخلاق:

ان من يتتبّع مسار الكتاب يعثر على بعض التكرار الذي يبرّره المؤلّف منذ المقدمة، كون المضمون هو عبارة عن مجموعة مقالات ودراسات ومقابلات سابقة أراد جمعها في صفحات تحمل عنواناً واحداً، لما في هذه النصوص من ترابط، يوحّدها همٌّ معرفيٌ رابضٌ على قلب الرفاعي وعقله. لذلك لن نقوم بعرض مختلف ما ورد في الفصل الحادي عشر من الكتاب، لأن فيه بعض التكرار لمفهوم الدين ووظيفته والحاجة اليه، والتركيز على أن الانسان كائن متديّن قلق يبحث بطبيعته عن معنى للأشياء والأحداث والكون… سنعمل في هذه الفقرة على إبراز الخط الذي يربط برأينا بين مختلف فصول الكتاب، محاولين استخراج الاهداف التي من أجلها وضع الرفاعي كتابه هذا.

من هنا يمكن أن نسأل لماذا كل هذا الكلام على الدين، وأهميته، والحاجة اليه، والاصرار على عدم التخلّي عنه؟

لماذا التركيز على ابراز النزعة الانسانية في الدين؟ ومن بعد التركيز عليها، يتمّ الكلام على إنقاذها. إنقاذها ممن تحديداً؟

ان ما سنقوم به تالياً ينحصر في الإجابة على هذه الأسئلة الثلاث، من خلال قراءتنا للفصل الحادي عشر.

تتضمّن فصول الكتاب بمجملها تركيزاً على اهمية الدين في المجتمع والتاريخ وعلى الحاجة الأنطولوجية اليه من اجل تسكين القلق المعرفي والوجودي الذي يضرب عمق الوعي البشري منذ أقدم العصور. اذا توقفنا عند الموضوع الذي اختاره عبد الجبار ليبدأ به فقرة: تدين ضدّ الدين، في الفصل الحادي عشر، يمكن أن تتكشّف لنا الحقيقة التالية: كون مفكرنا عراقياً، ينتمي الى معاناة هزّت ضمير البشرية في نهايات القرن السابق، وما زالت فصولها مشتعلة، تُلقي بحممها ملطِّخةً رقيّ التجربة الدينية وجمالها وطهارتها في هذا البلد العريق كما في بلدان أخرى مجاورة، كونه عراقياً اذا، قد جعله يعيش اختباراً مريراً ومدمّراً لكثير من الثوابت الراسخة في الذهن كما في القلب. كونه عراقياً مخضرماً، عايش واختبر عمق الألم وقساوة المعاناة، جعله يزجّ بنفسه في متاهات الأسئلة المقلقة، والموجعة التي تضع الانسان في مواجهة مع ما كان ينظر اليه على انه صواب او خطأ. كونه عراقياً يشهد كل يوم أحداثاً تخضّ الكيان وتقلبه رأساً على عقب، أجبره على ان يطرح السؤال حول حقيقة التديّن واستثمار الدين في السياسة، وانزال التجربة الروحية وإقحامها في الصراعات الضيقة المبنية على سياسات لا دخل لها بالماوراء، ولا بذلك العطش الذي ينهش أعماق الكائن البشري ليدفع به نحو ينابيع المطلق.

الحدث الجلل، مشهدٌ شبه يومي، يتكرّر بسيناريوهات مختلفة، انه هذه المرة، تفجير سيارتين مفخختين عند بوابة الجامعة المستنصرية في بغداد عام 2006. وناقل الخبر ليست وسائل الاعلام المتأهبة لتغطية شراسة البشر على الارض، انما هو شاهدٌ من أهل البيت، من طلبة المعرفة والعلم الذين انتفضوا في وجه الجهل والتعصّب والغوغائية، انه محمد حسين ابن المؤلف الذي صادف دخوله الى الجامعة لحظة الانفجار.

إن هذا الحدث، كما غير مما عاشته عائلة الرفاعي وغيرها من العراقيين، كان له الأثر الواضح في عمل الكاتب على تنقية صورة الدين من التديّن الأعمى والغارق في التقوقع والتعصّب ونفي الآخر والاطاحة به لمجرّد أنه تجرّأ وركب موجة الاختلاف أو الخروج عن الخطاب السائد. إن ” إنقاذ النزعة الانسانية في الدين” صرخة في وجه العنف، وصفعة على خدّ التطرّف، وتفجير لحجج الجماعات السلفية الواهية، ومحاولة إظهارها في المقلب الآخر من التجربة الدينية حيث لا رحمة ولا محبة ولا شفقة ولا أخلاق… لقد شوّه هؤلاء التديّن وحوّلوه الى بؤرة موبوءة بالعنف والتخلّف تبتلع البشر كما الحجر وتحوّل الابداع الفكري والحضاري الى مجرّد ركام. انه تدمير للذات وتلذّذ مرضي بما يحصل.

يستشهد المؤلّف في هذا السياق بالدكتور محمد طالبي معلناً : ” إن العنف هو الذي قتل الحضارة الإسلامية “. ويشدّد على تأكيد هذا الواقع من خلال قراءة تاريخية لما جرى ويجري في يوميّات شعوب عديدة. في صدد تحليله لخطاب الجماعات السلفية التي تبرّر العنف وتدعو إليه عن طريق غسل الأدمغة بمساحيق الوهم والتصورات الخيالية، يرى الرفاعي أن هناك علامة فارقة تميّز هذا الخطاب يمكن تحديدها بما يلي: التشديد على ” ضرورة تبنّي آراء السلف ومواقفهم بتمامها، وهروبها دائماً الى الماضي، وارتيابها من كل ما من شأنه أن يطلّ على المستقبل، أو يتعاطى مع الواقع بعقلانية نقدية مستنيرة، وسعيها المتواصل لتبجيل الذات، وعدم الكفّ عن امتداحها، واصطناع صورة رومنسية مثالية لها(…) فيما تصنع صورة للآخر ليست بريئة، يصبح فيها كل ما يمتّ اليه من معارف ورؤى ومفاهيم وقيم…وغير ذلك، رجساً مدنساً، تجب مناهضته(…) . وتفنّن هذه الجماعات في تجييش المهمّشين والمحرومين، وتتخذهم مادة لبناء ثقافة خاصة بالانتحار وتمجيد الموت، يكون أحد روافدها صورة الآخر المشوهة، التي تصير منبعاً لكراهيته، والغضب المتّقد عليه”. (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص200)

إن هذا النص يبرز بوضوح التناقض الذي يقوم عليه الخطاب السلفي، ومقدرته على التلاعب بوعي المحرومين والمستضعفين وغيرهم ممن زاغ بصرهم عن الحق والمنطق. ينصبّ جهد المؤلّف على دحض هذا الخطاب، ورأب الصدع الذي خلّفه في الوعي من خلال العمل على تظهير النزعة الانسانية في الدين بعامة والإسلام بخاصة. إنه أعلن حرباً شرسة ضدّ التطرّف والانغلاق، مواجهاً العنف بالنظر إلى مواضع الرحمة في الدين عن طريق مناقضة ما يسمّيه بـ “القراءة الفاشية للنصوص”، هذه القراءة التي تولّد جماعات تسير ملتحفة بأكفانها نحو مصيرها المحتوم. انه يدعو الى القيام بنهضة معرفية مهمة يمكن تلخيصها في الخطوات الآتية:

– مراجعة نقدية للتاريخ

– قراءة تحليلية للنصوص

– تقويم الموروث من منظور مختلف

– الابتعاد عن الرؤية الاحادية والذهنية المغلقة

– محاولة استيعاب القيم الانسانية المنفتحة

– الخروج من الالهيات التقليدية نحو بناء الهيات عقلية مستنيرة

– طرح تساؤلات جديدة تفضي الى التحرر من الصورة النمطية للاله

 

ان هذه الخطوات تشكّل بحد ذاتها مشروعاً فكرياً ذا مسار نقدي منفتح على المعرفة. انه يحمل في طياته رؤية تنويرية عقلانية مبنية على الانفتاح، والتحرّر من الافق الضيق، والخروج من سجون الماضي، والتوجّه نحو ثقافة الرحمة والاخلاق في التعاطي مع الآخر، ومع التعدد والاختلاف.

من هنا نجد مفكرنا يسلّط الضوء على التجربة الصوفية التي عرفها تاريخ الفكر الاسلامي. انها تجربة تستحق فعلا التوقف عندها ملياً في هذا الزمن تحديداً لما فيها من رقي في الاخلاق، وانفتاح في النظر الى الله والوجود والآخر. يستعرض في سياق هذا الفصل اسماء عدّة سطعت في سماء التصوف ليشير الى تجلّي النزعة الانسانية في الدين والتديّن، مطالباً بإنقاذها من الخطاب المدمّر المستفحل في كل مكان. ان ما يقوم به الرفاعي محاولة راقية لإنقاذ الدين من دون استخدام العنف، فينقض بذلك كل الحجج الواهية التي تدعو الى استباحة دم الآخرين وإراقته في سبيل تحصيل حقوق السماء.

ان توقفه عند ابن عربي، والبسطامي، ورابعة العدوية، وجلال الدين الرومي، وغيرهم هدفه وضع الاصبع ليس على الجرح انما على النزعة الانسانية في الدين التي من شأنها أن تلحم الجرح وتداوي آلامه المريرة. ان الاشارة الى المتصوفة لا تعني الالتزام بكل مبادئهم وسلوكياتهم، اذ ان انقاذ النزعة الانسانية في الدين تتطلب حالة متوازنة تؤسّس على الإنسجام بين متطلبات الجسد وتنمية الروح في آن معاً، وعلى نحو متصالح مع العالم. ان التناغم مع ايقاع الكون والغوص في الانتماء الى الوجود أمران ضروريان للمحافظة على النزعة الانسانية للدين. فالانسان في النهاية كائن طبيعي منخرط في العالم ومجبول من عناصره، من دون التغاضي عن بعده الوجودي كما الفكري والروحي.

 

يبدو انطلاقاً مما سبق مسارُ الرفاعي واضحاً في كتابه هذا: البداية مع الخطوة الاولى في تحديد مفهوم الدين، والنظر في الحاجة اليه من خلال التحدّث عن وظيفته، وابراز قيمته الانسانية الراقية، وذلك نقضاً ودحضاً لما خلّفه الخطاب السلفيّ من كوارث على الصعيد الاجتماعي كما السياسي والديني والمعنوي، لتأتي الخطوة التالية التي تكمن في التركيز على نماذج من الخطاب الصوفي والاخلاقي الذي أضاء التاريخ بإنتاجه، لكن تمّ تهميشه واستبعاده. الاستنتاج الاساس الذي يمكن الخروج به بعد قراءة الكتاب هو الدعوة الى بناء الهيات جديدة اكثر عقلانية، وانسانية، الهياتٍ متحرّرة من قيود “القراءة الفاشية” وما خلفته من ركام حولها.

 

نختم بهذه الخلاصة التي ينهي بها الكاتب الفصل الحادي عشر لما فيها من جدّية وغنى وعمق في كيفية التعاطي مع مسألة التديّن: ” إن السبيل للتخلّق بأخلاق الرحمن إنما يتحقّق عبر إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية، وتطهير التديّن من كافة أشكال الكراهية والإكراهات”.(عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص210)

 

يبقى لنا ان نعمل مع المؤلف في سبيل تعزيز أخلاقيات المحبة، وتدريب المشاعر على القيم النبيلة، والسعي وراء اكتشاف الطاقة الاجابية في العالم والتواصل معها. ولتحقيق كل هذا المشروع الفكري الراقي والنبيل علينا، على حدّ تعبير الرفاعي ” استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام ونحوها من الرحمن “.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete