الاحتقان في شعارات الحراك المدني المناهض للعنف ضد النساء

تمكين

تعدّ دراسة الشعارات مبحثا سوسيولوجيّا هامّا نظرا إلى كونها من مؤشرات الديناميّة الاجتماعيّة إذ هي تعبير عن توتر بين الموجود والمنشود وصياغة للتطلعات والغايات التي ترمي إليها الحركات الاجتماعيّة عموما.

ما هي اقتباسات العنف القائم على النوع الاجتماعي؟

ويقودنا البحث في الشعارات إلى النظر في الأثر الاجتماعي لسياقها أي سياق الحركات الاحتجاجية التي تعيد تشكيل فضاء الشارع العموميّ من خلال كيفيّة تموقع الفاعلين والفاعلات وانتظام حركتهم وحركتهنّ وبممارساتهم وممارساتهنّ الجسديّة التي تنتج إيقاعا عامّا جديدا، وتبعا لذلك يتغيّر موضع الآخر الذي يقف على هامش الطريق وتنشأ مراكز اهتمام جديدة مقابل تهميش ما كان مركزيّا. فالاحتجاج على اختلاف دوافعه وأهدافه يكون أثره أقوى بقدر نجاحه في تغيير إيقاع النشاط الحياتيّ اليوميّ أو إرباكه من جهة وبمدى قدرته على تبليغ رسالته وحجم مردوديّته من جهة أخرى. وسواء كانت تلك الرسائل سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو دينيّة.. فإنّها تشترك في التعبير عن شعور غضب عارم من استمرار الخضوع لسلطة السائد وعنفه، أو هي التعبير عن رفض الخضوع لمشهد الانسجام والتطابق الكاذبين والذي يوهم به ذاك السائد. والخروج من حالة الصمت إزاء السائد هي محاولة تموقع جديدة بفضل ما يمنحه الخطاب من سلطة لمنتجه، ويتجلّى ذاك التموقع صوتيّا عبر هتاف المتظاهرين وخطّيّا عبر الالواح واللافتات المرفوعة أي تلك الشعارات التي تتظافر مع الملفوظ الشفوي لتنتج معنى الحركة وتحدّد دوائر الصراع وأطرافه. على أنّ الشعار المكتوب الذي يطالعنا في كلّ التظاهرات الموثّقة بالصورة قد يخلق إيقاعا مختلفا إذ يتحوّل إلى مقروء صامت من المتابعين المباشرين أو غير المباشرين والذين يتواجدون على هامش الحراك فيملأ الفراغات التي يتركها إيقاع هتاف الحناجر وقد يحقّق ضربا آخر من التفاعل بالتركيز المزدوج على موضوع الاحتجاج والحضور الفيزيائيّ للمحتجّين.

شعارات العنف ضد المرأة

على أنّ العوامل الموجّهة للتفاعل متعدّدة، وفي السياق الاحتجاجي الذي توضع فيه علاقة الذوات المحتجة بالنظام العام للمجتمع محلّ تساؤل تلعب الهويّة الجندريّة للمجموعة المحتجّة  دورا هامّا في توجيه مسار العلاقة التفاعليّة بينها والآخرين خاصّة إذا كانت المطالب متّصلة بحقوق جندريّة وبعلاقات السلطة في المؤسّسات الاجتماعيّة. وفي هذا الصدد تتميّز حركات الاحتجاج النسويّة عن بقيّة أشكال الحراك المدنيّ بالنظر إلى التفوّق العددي للنساء فذلك ما يطرح إشكال علاقة النساء بالفضاء العامّ وما يعنيه من إرباك للمنوال الاجتماعيّ ومقاومة التهميش وتجسيد الحق في المواطنة. إضافة إلى ذلك تحيد الاحتجاجات بالجسد الأنثوي عن جملة الضوابط التي تقنّن  ظهوره وحركته ونشاطه وتخضعه للنظام الجسدي الخاصّ بنسق الجماعة المعيشيّ والمفهوميّ. ويعدّ هذا الانزياح أوّل أشكال التعبير عن رفض النظام المؤسّساتي قبل رفع الشعارات واللهج بها. ويتظافر هذا الانزياح مع تلك الملفوظات التظاهريّة من أجل صياغة نسق بديل تنخرط فيه تلك الجموع النسائيّة الثائرة مستدعية غيرها للالتحاق بها، فيجسّد الشعار معناه الايتمولوجي بما هو صيحة الحرب التي تعلن توحد الصفوف وتوحّد الهدف في اللسان الأعجمي وبما يدلّ عليه في اللسان العربي إذ هو عبارة يتعارف بها القوم في الحرب أو السفر. وفي هذا النطاق اخترنا أن ندرس خصائص هذا النسق البديل من خلال تحليل مجموعة من الشعارات المكتوبة التي رفعت في مظاهرات  متعدّدة تندّد بالعنف ضدّ النساء في تونس وصفاقس وذلك قبيل سنّ قانون 58 وبعده. ويحدونا في اختيار سياق الخطاب الاحتجاجيّ أي سياق استمرار جرائم العنف ضد المرأة بل تصاعد وتيرتها[1]  دافع النظر في وظيفة الحراك الاحتجاجي وأدواته وهو يضع  منظومة القوانين محلّ تساؤل بدءا من الفصل  46من الدستور الذي ينصّ على أن “تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة وصولا إلى القانون 58 الصادر سنة 2017 الذي يهدف إلى وضع التدابير الكفيلة بالقضاء على كلّ أشكال العنف ضد المرأة القائم على أساس التمييز بين الجنسين من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية وذلك باتباع مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكاله بالوقاية وتتبّع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية الضحايا والتعهد بهم”. فهل كانت تلك الشعارات مجرد تذكير بما سنته القوانين أم هي خطاب نضالي مخالف يفضح تواطؤ كافّة المؤسسات بما فيها القانونيّة مع أشكال التمييز ضد النساء؟ وهل يمكن الحديث عن احتقان الخطاب بما يعنيه الاحتقان من ثورة ضد كلّ الصيغ المؤسسة حتّى الثقافي والأكاديمي منها وكلّ ما هو نخبوي في السياسة والاقتصاد وفي الفكر والإعلام.”[2] على حدّ رأي عبد الله الغذامي.

2ـ في دلالات الخطاب الشعاراتي

لا يخفى عسر عمليّة الحصر لما رفع من شعارات العنف ضد المرأة خلال هذه السنوات الأخيرة وخاصّة منذ سنتين نظرا إلى اقتران تلك التحرّكات الاحتجاجيّة  بارتفاع مستوى العنف ضد المرأة  خاصة بعيد انطلاق عمليّة الحجر الصحي بسبب وباء الكورونا ولذلك اخترنا عيّنة منها وفق ما سلطت عليه عدسات الكاميرا الضوء وما احتلّ الصفوف الأولى لجموع المحتجين/ ات. وتجدر الإشارة إلى تنوّع  الفئات المتظاهرة في السنّ والانتماء الإيديولوجي والمستوى الفكري فقد جمعت الاحتجاجات الشباب بالكبار واليسار والراديكاليين بالليبراليين/ات والفنانين / ات بالسياسيين/ ات بالنشطين/ات في المجتمع المدني.. ومثل هذا التنوع يدلّ على أنّ ذاك الحراك لا يخضع لخدمة أجندا سياسيّة معيّنة رغم محاولة بعضهم/هنّ توظيف تلك المناسبات لتلميع الصورة السياسيّة. ولا ريب أنّ تلك الشعارات التي تندّد بمنظومة اجتماعيّة وسياسيّة وقانونيّة تكرّس التمييز والعنف لا يمكن إلا أن تكون متعالية عن مصالح الأحزاب وأهداف الأطياف السياسيّة. ويمتدّ التنوع إلى الفئات النسائيّة التي تشير إليها الشعارات: حضور المرأة أو النساء بشكل مطلق في إحالة إلى أن العنف ضدّ النساء لا يستثني أيّ امرأة، وقد عكست هيمنة ضمائر المتكلم الجمع والمفرد على الشعارات المرفوعة خطاب التوحيد والتضامن لنفي ادّعاءي أنّ العنف حادثة معزولة من جهة وأن حركات الاحتجاج من أخطر استراتيجيات الضرب للاستقرار الاجتماعي من جهة أخرى. ولمنح هذا الخطاب مدى تواصليّا أوسع كان الحرص على مراعاة المقدرة التواصلية بتوظيف اللغات الثلاث وكثافة استعمال اللهجة التونسيّة أي أنّها كانت جامعة بين التعدّد اللغوي والازدواج اللغوي إضافة إلى بساطة التعبير وعمق المعنى ممّا يؤكّد أنّها مطالب إنسانيّة لا صلة لها بمحدّدات الموقع والدور الاجتماعيين. 

ولئن التقت تلك الشعارات في الدعوة إلى نبذ العنف ضد النساء وتجريمه فإنّها قد أدّت وظائف خطابية مختلفة وذلك وفق الأطراف المستقبلة للخطاب:

ـ وظيفة التحريض: إذا كان الخطاب موجّها للنساء “كسر الصمت عن عنف الرجال/ حالة وعي نكنسو العنف ضد المرأة/ “العنف نقمة والسكات مضرة” و”لا عنف بعد اليوم”./ إلى القتيلة التي لم تصلنا أخبارها /  يزّي اتكلّم ما تسكتش و”علّي الصوت علي الصوت ضد الرجعي والمكبوت 2021/ التحرش والاغتصاب لا يمنّعك منو لا سفساري ولا حجاب/ break the silence on men violence rape teach men: وتتجلى في هذه الشعارات ثنائيّتا الصمت/ الصوت (الموت / الحياة) فالعنف يترعرع وينمو في الأوساط الصامتة أي تلك التي تعتبره من الخصوصيّات التي وجب السكوت عنها وهو ما يجعله ديدن علاقة الرجال بالنساء يمارس سرا وعلنا وفعليا ورمزيا ولذلك فإن الفعل الاحتجاجي يرمي إلى دعوة النساء للمقاومة واعتبار السكوت تواطؤا مع المجرم طمعا في القبول الاجتماعي أو هو انخداع بوهم الفضيلة ونموذج المرأة الصالحة المتخيل الذي يؤدي إلى الخوف من الوصم وإنكار الذات بل تتقمص بعض النساء دور جلادها لتمارس سلطة رقابية وعقابية على نفسها ومن حولها فتعتبر تفاقم العنف مآلا حتميا لتخلي النساء عن شتى أنواع الحجاب التي كانت تحفظ كرامتها. ولا ريب أنّ ضمني الخطاب يشير إلى محدوديّة حقوق النساء نظرا إلى أنّها لم تكن مصحوبة بحالة وعي نسوي عام بل كانت بإرادة سياسيّة لم تمس البنى الاجتماعيّة العميقة ولم تلحق أيّ تغيير بنظام الأنظمة أي النظام الأبوي القائم على السيادة الذكورية وعلى التمييز الممأسس للعنف.

ـ وظيفة الترهيب: ويتوجّه فيه الخطاب إلى الرجال المعتدين وهم لا ينتمون إلى فئة اجتماعيّة معينة بل تشمل المتعلمين من مختلف المستويات مثلما يحيل عليه الاستعمال المتنوّع للغات في نص الشعار:

ما تعنفنيش واسمعني زادة/ رجلتكم أشد فتكا على النساء من الوباءelle le quitte il la tue  / violeur tueur agresseur a ton tour d’avoir peur / لا قتل لا اغتصاب لا إفلات من العقاب2016/ Use your  brain violence against  women is insane/ to not rape

وتبدو الرسالة قائمة على محورين أساسيين: التجريم والإدانة أولا والتهديد بالقانون ثانيا وهو المستوى الظاهر من الخطاب الذي تنقلب فيه موازين القوة بين الرجال والنساء باستعمال أبنية لغوية دالة على الاستعلاء كالأمر والنهي إضافة إلى التقبيح بتشبيه “الرجلة بالوباء والعنف بالمرض، أما باطن الخطاب فموجه إلى النساء المعنفات لكسر حاجز الخوف من الطاغية والمقاومة من أجل الحق في الحرية والكرامة واللجوء إلى القانون عندما يقتضي الأمر ذلك. ومن هذا المنطلق قد يصير التشهير آلية ناجعة للردع مادام لا يحمل إدانة فقط بل ردّ إهانة لفاعل العنف أيضا وهو ما يمسّ بسمعته الاجتماعيّة ويهدّد مكانته ويجعله عرضة للنبذ، علاوة على أنّ إدراج هذه الآلية ضمن استراتيجيات الردع يساعد فئة كبيرة من النساء على التخلّص من التبعات النفسية للعنف كالشعور بالذنب عند متابعة الخصم قضائيّا أو القهر عند السكوت على المظلمة التي تعرضت إليها.

اقرأ أيضاً: المفهوم القرآني لتحرير المرأة

ـ وظيفة التنديد: وتبدو من خلال شعارات العنف ضد المرأة موجهة إلى رجال الدولة والقضاء: جرائم قتل بحق النساء”/”دولة مذنبة”، “عدالة متواطئة”/ صمت الدولة جريمة ضد النساء/ لا عنف لا قتل لا اغتصاب لا إفلات من العقاب/ النساء تتعنف كل يوم يا دولة طبق القانون/ féminicide état coupable justice complice أي جرائم قتل النساء الدولة متهمة والقضاء متواطئ/ لا وصاية لا فتوى لا استفتاء على حقوق النساء/”دولة مدنية واجب، ضد الرجعية واجب”2019 / نحبوا مساواة بالحق مش مساواة على الورق

يدين الخطاب في هذه العيّنة من الشعارات دوائر السلطة السياسيّة والقضائيّة متّهما إياها بالتهاون في تطبيق القانون ويتفق ذلك مع ما تؤكّده تقارير المنظمات والجمعيات المدنية من غياب الحزم القضائي إضافة إلى ضعف الآليات والدعم اللوجستي الضامنين لتنفيذه وتبعا لذلك يستمر العنف بل يتفاقم ليكون علامة على ضعف المنظومة القانونيّة. وتذكّر الشعارات بمفهوم مدنية الدولة التي تعني سيادة القانون وإقرار المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات، بينما يدلّ العنف على العجز عن تمثّل شروط المدنيّة وتواصل تنظيم التمييز بين الجنسين، فالمساواة غير مفعّلة والقوانين غير مطبّقة أو هي بطيئة الإجراء. وبذلك تضعنا الشعارات الموجهة لأجهزة الدولة أمام ثنائيّة ثقافة العنف / ثقافة المواطنة فمواجهة العنف لا تكون بسنّ القوانين أو الهياكل المخصصة لضحايا العنف فقط بل تقتضي أيضا العمل على استهداف منظومة القيم والصور المطبّعة مع العنف والمكرّسة للتمييز حتى يكون الحرص على تطبيق القانون أشدّ وحتى تتمسّك الضحية بالمتابعة القضائية مهما تعقد مسار إجراءاتها.

*وظيفة حجاجيّة: وتتجسّد من خلال شعارات تحاور بشكل خفي خطابات أخرى تتبناها المؤسسة الاجتماعيّة التقليديّة ومن بينها “ما نتولدوش نساء لكن نموت نساء” On ne nait pas femmes on en meurt ولا يخفى ارتداد جملة دي بوفوار On ne nait pas femmes on le devient والتي تؤكد على أن الاختلاف بين الجنسين لا يتعدّى البيولوجي وما عدا ذلك إنّما هو بناء ثقافي اجتماعي وبواسطة تقنية التحويل التي تدفع بالمعنى إلى أبعد مما هو وفق تعريف جيرار جينات يصير الموت في صيغة الشعار قدرا جندريّا أي أنّ القتل فعل ثقافي واجتماعي يمارس على كل النساء سواء كان فعليا أو رمزيا مما يجعل النوع قبرا للذات الأنثويّة ووفق ذلك تتماهى المحتجة مع الضحية وتصير صوتها الذي لم يسمع وهي ترفع شعارات من قبيل:

المساواة ما تقتلش العنف يقتل/2019/ لا للتمييز لا للتهميش بالكرامة حرة نعيش2021 / كرامة إنسانية المساواة مش مزيّة. ويسجّل حقل القيم الإنسانيّة حضوره بقوّة إذ تردد الشعارات مفاهيم الحرّيّة والمساواة والكرامة، وفي ذلك محاولة تحرير تلك المفاهيم من خطابات السلطة التي استنزفت المعنى بتوظيفه براغماتيا: مساواة بالحق مش مساواة على الورق/ مساواة مساواة للنساء والجهات، إنّها تعيد تلك المفاهيم إلى خانة المنشود مؤكدة أنّ استعمالاتها الراهنة تدخل في نطاق الاحتكار الخطابي الذي يفرغها من شحنتها القيميّة الإنسانية. فالعلاقات بين الجنسين في مجتمعنا لم تتمثل بعد أهمّية قيمة المساواة التي توشّي الدساتير وتتغنّى بها المنابر السياسية بل مازال الاعتقاد سائدا بأنها مهلكة للمجتمع ومفسدة ومعنى الكرامة ما برح مكسبا يمنحه المجتمع للذكور بينما تقتات المرأة من وهم التكريم التيولوجي والحال أن الكرامة قيمة قصوى يحظى بها كل إنسان لأنه كذلك أمّا الحرّيّة فمنعدمة مادامت المساواة والكرامة مفاهيم ضبابيّة أو هي طوباويّة. وقد يكون شعار” الكميونة لنقل البضائع لا لنقل النساء” الأكثر تمثيلا لغياب تلك القيم عن ثقافة المجتمع التونسي إذ يعرض صورة جريمة متكرّرة في حقّ المرأة الفلاحة باستلاب كرامتها وإنسانيّتها وهي تتماهى مع البضائع وتشيّأ ولكنّها تدرج في الرأي العام ضمن القدر الوجودي في تجاهل أو جهل بمعنى التمييز الاقتصادي الذي يشكّل هو الآخر أحد ضروب العنف اللامرئي.

وبالنظر إلى جملة هذه الوظائف يتبيّن لنا معنى الاحتقان الذي وسم خطاب الشعارات إذ عكست هذه العينة الصغيرة تلك الثورة الجارفة على ما هو مؤسّسي من الثقافي والاجتماعيّ إلى السياسي والقانوني. وبينت لنا أيضا مدى وعي تلك الحركات بالأبعاد اللامرئيّة لمصنع العنف، فليس الحراك الاحتجاجي مجرّد تعبير مناسبتي عن رفض وضع أو تذكير بحق مسلوب بل هو مسار اشتغال على فرض صوت القوى الاجتماعيّة المهيمن عليها والتي يتغذى من الهيمنة عليها العنف السلطوي. ويمكن اعتبار تلك الحمولة الدلالية المكثفة التي تحملها الخطابات الوجيزة دفعات منظمة من الغضب الشامل على تناقضات تلك الثوابت التي أدّت إلى استعباد النساء وعلى الجهات الرسميّة وحتى بعض الهياكل المتبنيّة لقضايا النساء وحقوقهنّ وما تدوين تلك الشعارات إلا تقييد لذاك الغضب وتثبيت له أوهي مأسسة خطاب غير مؤسّساتي.

3ـ الخاتمة

تقوم كلّ تلك الشعارات بفضح أشكال العنف الذي تمّ التطبيع معه ثقافيّا واجتماعيّا وتمتدّ عمليّة الفضح إلى مرتكزات النظام الاجتماعيّ المبنيّ على التمييز النوعي بدءا من الأدوار وصولا إلى المواقع. وتبعا لذلك فإنّ تلك الشعارات لم تتمثّل بعد ما يتّصل بالمرأة في حدّ ذاتها بل تقف عند خطّ مقاومة الهيمنة الذكوريّة بكافّة تمظهراتها ، وبمعنى آخر فإنّ أهداف الاحتجاجات لم تتجاوز المطالب النسويّة الكلاسيكيّة المتمثّلة في المساواة بين الجنسين وتجريم انتهاك كرامتها ولم تبلغ بشكل نهائي مستوى المطالبة بتحرير الأنثى من قدرها الاجتماعي المتمثّل في كونها امرأة وتحرير جندرها من قدره البيولوجي أي الأنوثة الناعمة الرقيقة اللطيفة رغم تطور الدراسات الجندريّة بتونس وزعزعتها للنسق الثقافي وتعريتها لشروخ النظام الثنائي التغايري الذي ترتكز عليه العلاقات الاجتماعية. وقد طرح فتحي المسكيني تساؤلات عديدة عن الزوج الفريد لغويّا (امرأة / نساء) ليكشف عن إحدى مناطق اللامفكّر فيه في حقل اللغة وقد توصّل إلى أنّ: “تحرير النساء هو معركة حقوقية وسياسية مع مجتمع الرجال وسلالم أخلاقهم وتاريخهم الاستبدادي ..في حين أنّ تحرّر جندر المرأة (النوع الاجتماعي أو الجندر) أو جندر الأنثى (الكائن الهووي المفرد والمستقل) هو مشكل ذاتي وما- بعد- نسويّ تمامًا. إنّه يخص طبيعة الجندر بما هي كذلك، كما هي مختفية في حُرمة الجسد ما- بعد-النسوي واستعمالات الرغبة الخاصة وحرية التعبير الفردي واختيار الشخصية الجندرية وسياسات الهوية”[3] ولذلك فإنّنا ما نزال عند مستوى مناهضة العنف ضد النساء وليس المرأة. ولا يعني ذلك اتهاما للحراك الاحتجاجي بالتقصير بل تنبيه إلى ضرورة فتح مسار معركته ضد العنف على كافة أشكاله واللامرئيّة منها قبل المرئيّة مع الوعي بتفاوت معدلاته وفق الوسط والطبقة والعرق والمستوى التعليمي فالعنف المسلط على الريفية غيره على الحضريّة وعلى المتعلمة غيره على الأمّيّة والفقيرة غيره على الميسورة وعلى البيضاء غيره على السوداء. ولأنّ الشعار يختزل مدارات الاحتجاج بفضح مصادر العنف وضحاياه فإنّ من عوامل نجاح وظيفته التفاعلية أن لا يسقط في التناقض بممارسة التمييز بدوره ضد ما يعدّ من الأقليات وهو ما شرعنا نشهد أثره في الاحتجاجات الأخيرة (2019ـ2021) حيث  رفعت شعارات تتصل بعنف مسلّط على الهويّات اللامعياريّة مثل “تسقط الترانسفوبيا2019 دولة هوموفوبيا 2021″وهو انفتاح يربك أكثر نظام المركزيّة الذكورية ويعصف ببنيانه التليد.

 المراجع:

[1] ـ في سنة  2012تشرين أجريت دراسة سوسيو نفسية على عينة من النساء تعد 4000 امرأة يتراوح سنّهنّ بين 18 سنة و64 عاما، وقد احتلّ  العنف المادي الجسدي المرتبة الأولى من بين أنواع العنف المسلطة على النساء بنسبة 31.7 بالمائة. يليه العنف النفسي (السب والتخويف والاحتقار والإيحاءات الجارحة وغيرها) بنسبة 28.9 بالمائة ثم العنف الجنسي بنسبة 15.7 بالمائة، بينما احتلّ العنف الاقتصادي المركز الأخير بنسبة 7.1 بالمائة. وفي سنة 2020 سجل مركز ” الأورومتوسطية” الحقوقي أكثر من 7000 بلاغا عن حالة عنف أسري وذلك باستعمال الرقم المجاني الذي أنشأته وزارة المرأة والأسرة

[2] ـ عبد الله الغذامي: الليبرالية الجديدة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2013، ص45
[3] ـ فتحي المسكيني – المرأة والنساء.. في ضوء دراسات الجندر أو العرب والبحث عن الأنثى المفقودة 10/11/2017
https://alantologia.com/blogs/3685/

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete