تكوين
(١)
عُرف في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية أن كثرة استعمال مفهوم ما لا يُفيد بالضرورة وضوح معناه أو الاتفاق حول مجالات استعماله، وهذا ما ينطبق على عدد كبير من المفاهيم التي تداولها الجماعات، فرغم ما شهدته مفاهيم مثل الجاهلية والحاكمية والشريعة والتجديد والاجتهاد من تضخم مفرط في لغة منظّري جماعات “التمايز بالإسلام عن المسلمين” إلا أنّ تلك الكلمات ما زالت تفتقد التحديد والتمايز؛ ويعتريها الكثير من الغموض والالتباس، فلا تخلو كتاباتهم من مخادعات دلالية نشأ عليها صغيرُهم، وهرم عليها كبيرهم، من مظاهرها منح بعض الألفاظ القرآنية والتراثية مدلولات متأخرة لم يعرفها العقل العربي الأول الذي نزل القرآن الكريم بلغته ومعبرا عن أفكاره، وقد نشروا تلك العدوى في المجتعات العربية والإسلامية.
وزاد الأمر سوءا تقديم منظّري جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين مفاهيمهم، وكأنها مطابقة لمراد الله، متجاهلين وجود منظر إسلامي يقوم بصكّ هذا المفهوم أو ذاك.. فتُلغى الجماعات المسافة بين ذات المنظّر المفكّرة والموضوع متمثلا في النص الديني، فمن أخطر إشكاليات منظري الجماعات تثبيتهم المعنى عند فهمهم، وترويجه في صورة الدين المنزل، فتكتسب مفاهيمهم إطلاقية وسلطة إلهية، في محاولة منهم لإثارة انفعالات وعواطف الشعوب؛ ليصطفّوا خلفهم، مسوّقين شعاراتهم الإسلامية، وكأنّها الحلّ السحريّ لمشكلات المسلم المعاصر الذي يعيش واقعا متخما بأزمات معقّدة يصعب على جماعات “التمايز بالإسلام على المسلمين” الخوض في تفاصيلها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
ومن مظاهر الاحتيال اللغوي في معجم الجماعات كلمة “التربية” التي تُردّدها كثيرا بمعنى يختلف تماما عن المعنى الصوفي الشائع، فالجماعات عندما تستخدم كلمة التربية، فإنما تُريد بها التربية التنظيمية بمعنى تعزيز انتماء الفرد إلى الجماعة؛ ليصبح تِرساً في ماكينة التنظيم، وليس التربية الروحية: صفاء وتزكية وتحلية بعد التخلية، فالكلمة نقلها مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، الذي بدأ صوفيا في الطريقة الحصافية، من التربية الروحية إلى التربية التنظيمية في كتابه رسالة التعاليم (أركان بيعة الأخ المجاهد)،([1]) ونقلتها عنه سائر الجماعات، فأصبحت تربية الأخ تكمن في إعداده فكريا ونفسيا؛ ليكون أداة صالحة في جسم الجماعة التي هي مرادف للدعوة الإسلامية فلا يقولون: التحديات التي تُواجه الجماعة، وإنما يقولون: التحديات التي تُواجه الدعوة، فالجماعة هي الإسلام، في قول حسن البنا: “وقد يقولون بعد هذا كله مازلتم غامضين فأجيبوهم: نحن الإسلام”.([2]) ولا عجب أن يُطالعك البنا بعنوان في رسالته إلى الشباب “دعوة الإسلام في القرن العشرين أو دعوة الإخوان المسلمين”.([3])
ومن مخادعات الجماعات الدلالية استعمالهم كلمة الأسر بدلا من كلمة السجن! فسجينهم ليس خارجا عن القانون، وإنما مجاهد أسير لدى الأعداء في معركة الدعوة الإسلامية! وكما أنّها ترى سجن أعضاء التنظيم أسْرا، فإنها ترى خروجهم عن قانون الدول جِهادا، وترى ما بينها وبين الحكومات ليس خلافا سياسيا ولا خلافا حول أفكار دينية وإنما صراع عقائدي بين فسطاط الإيمان والكفر؛ لذا لا تستخدم الجماعات غالبا كلمة “مصالحة”، وتستبدل به كلمة “هدنة” و”تسوية”؛ فكل فصيل أو جماعة يرى نفسه كيانا مستقلا منفصلا عن الدولة التي تُمثّل العدو الذي قد تُضطر الجماعة إلى التفاوض معه للوصول إلى هدنة وتسوية لإيقاف الحرب مؤقتا؛ لالتقاط الأنفاس، وتحرير الأسرى، وتطهير التنظيم (الدعوة بلغتهم) من الخبث لاسيما الانشقاقيين، ولا تتطرق إلى لفظ مصالحة، فكيف للحق أن يتصالح مع الباطل – من منظورهم- فالصراع ليس بين أفكار إنسانية، بل صراع وجودي بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، وبالتالي لا يجوز التفاوض مع الآخر الذي يمثل الباطل؛ لأن هذا تنازل عن الحق الذي يمثّلونه، وبناء عليه يتم نفي الآخر تماما، إما عن طريق القضاء عليه، أو من خلال إدخاله عنوة في دائرتهم التي تمثل دائرة الحق، وإن أجبرت الظروف بعض الفصائل على رفع شعارات الديمقراطية والمشاركة، فهذا من باب التقية لا أكثر، وحين يتمّ لهم التمكين، يضربون بها عرض الحائط.
ومن خداعهم الدلالي توظيفهم “أل” الاستغراقية في غير موضعها، فيُحذّرون من الدنيا ويُحقّرونها ويدعون إلى كراهيتها انطلاقاً من أخبار مسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من قبيل “الدنيا ملعونة ملعون من فيها” متجاهلين أنّه في مقابل الأخبار التي تُحذّر من الدنيا، وتلعنها تُوجد أخبار أخرى مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها “الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون”، فتوظيفهم الخاطئ للخبر أنتج فكراً متطرفاً يحرص دوما على هدم الدنيا، أو فكراً عاجزاً يستكين، ويتخلّف عن القيام بدوره في دفع المسيرة الإنسانية، والواقع أنّ التحذير النبوي ليس من الدنيا عامة بل من دنيا الإفساد، دنيا الأطماع، دنيا الركون والتّخلف، وهي على نقيض دنيا المحبة والتسامح، دنيا العمل والبناء التي جاء الوحي لحمايتها.
ومن الأخطاء الشائعة في ثقافتنا التي روّج لها منظّرو الجماعات قولهم: “لا اجتهاد مع النص” يُريدون بالنصّ كل آية القرآنية أو خبر نبوي، متجاهلين أن كلمة النص عند الفقهاء تختلف عن النص عند اللغويين، فبينما يتوسع اللغويون فيطلقون على كل بنية لغوية كاملة طالت أم قصرت حقيقة كانت أو مجاز كلمة “نص”، يحصر الفقهاء مدلول كلمة “النص” في قولهم: “لا اجتهاد مع النص” في النصوص الواضحة وضوحا بينا لا خلاف فيه مطلقا/ قطعية الدلالة، والنصوص بهذا المعنى عزيزة على حد قولهم، تتسم بالنّدرة، وفي مقابله يأتي الاحتمالي الدلالة، وهو الأكثر شيوعا في الأدلة الشرعية.
وستتناول الدراسة مفاهيم مثل الجاهلية، الحكم، التجديد، الشريعة، للتعرف على جذورها اللغوية الأولى، واستعمالاتها في القرآن الكريم والمرويات والكتب التراثية ومقارنتها باستعمالاتها المعاصرة في معجم جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين؛ لنكشف ما إذا كان ثمّة تباين بينها أم لا؟ في محاولة لتعرية مفاهيم الجماعات وإعادتها إلى سياقاتها الإنسانية النسبية المحتملة للصواب والخطأ، المتأثرة بالأفق التّاريخي، والنسق الثقافي للعصر الذي انتجت فيه، والكشف عن المزيد من أسباب ومظاهر الاحتيال الدلالي في معجم لغة الجماعات.
(٢)
تنطلق جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين في استعمالها لدال “الجاهلية” من المفهوم الذي صكّه سيد قطب، أحد أهم منظّري الجماعات في العصر الحديث، في وصفه المجتمعات المعاصرة بأنّها تعيش حالة من الجاهلية بما يستلزم على المسلم أن ينفصل عنها، وينعزل داخل الجماعة الممثلة دون غيرها للإسلام، فيقول: “لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقيديًا وشعوريًا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورًا كاملًا بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية”.([4])
ولا يستثنى قطب من تلك الحالة الانفصالية “المسجد”، فمساجد المسلمين لا تختلف عن معابد الجاهلية، فيقول: “يرشدنا الله إلى اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحسّ فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور.. اعتزال الجاهلية نتنها وفسادها وشرها ما أمكن في ذلك، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها”.([5])
فالجاهلية في لغة سيد قطب مفهوم تمايزي بين الجماعة ممثلة الإسلام الناطقة بمراد الرحمن والمجتمع ممثل الشيطان، مرسّخة لثنائية متضادة لا يُمكن أن يتعايش طرفاها، بقوله: “نقطة البدء الصحيحة في الطريق الصحيح هي أن تبين حركات البعث الإسلامي أن وجود الإسلام قد توقف، هذا طريق.. والطريق الآخر أن تظن هذه الحركات لحظة واحدة أن الإسلام قائم، وأن هؤلاء الذين يدَّعون الإسلام ويتسمَّون بأسماء المسلمين هم فعلا مسلمون. فإن سارت الحركات في الطريق الأول سارت على صراط الله وهداه، وإن سارت في الطريق الثاني فستسير وراء سراب كاذب تلوح لها فيه عمائم تحرِّف الكلم عن مواضعه، وتشتري بآيات الله ثمنا قليلا وترفع راية الإسلام على مساجد الضرار”.([6])
فما تقدّمه المجتمعات ليست أفكارا قابلة للصواب وإنّما هي جاهلية، وما تقدّمه الجماعات ليست أفكارا قابلة للخطأ، وإنما هي الإسلام، وهذه إحدى أخطر المغالطات المفهومية التي تروّجها الجماعات.
فإذا ما انتقلنا إلى مادة “جاهلية” في لغة العرب فسنجد أنّ المراد بها الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الأنفة والغضب والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبّر،([7]) وهذا يتعارض مع المفهوم الذي أسس له قطب وروّجته الجماعات، فالجاهلية في مجتمع العرب قبل الإسلام يُراد بها الخضوع لسلطة الانفعال، فالجاهلية في دلالتها اللغوية ليست من الجَهْل الذى هو ضد العلم بل من الجهل المضاد للحلم، فالجهْل تعبير عن الغضب، وليس أدلّ على ذلك من قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الخامسة:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين([8])
وبهذا المعنى جاءت كلمة “جاهلية” في أربعة مواضع من القرآن الكريم، هي مجمل المواضع التي اُستخدمت فيها الكلمة في القرآن الكريم، وبهذا المعنى جاءت كلمة جاهلين في قول الله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ” [الأنعام:٣٥]،
فالفكرة التي تروّجها “جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين” حول ضرورة الانفعال والغضب حمية للإسلام لا تُعبّر عن عمق إيمان بل عن حالة الجاهلية نفسها التي أتى الإسلام لطي صفحتها، فكلمة الجاهلية قبل أن تُستخدم للدلالة على فترة تاريخية محددة زمنا بعصر ما قبل الإسلام حملت دلالة أخرى ليست حكم العباد للعباد كما قال سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن”([9])، وردّد أبناء الجماعات، وإنما معناها التعصب والغضب، فالجاهلية خضوع لسلطة الانفعال، والاستسلام لقوة العاطفة دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق، ومن هنا يأتي التعصب، فغضب الجماعات ودعوتهم الجماهير للغضب هو الجاهلية بعينها التي تؤجج انفعالات تصنع مشكلات ولا تُقدم حلولا، فالعاصفة تستطيع أن تُدمّر سفينة لكنها لا تستطيع أن تحلّ عقدة خيط هكذا الغضب باسم الدين يدمر أوطانا لكنه يعجز عن تقديم حل لمشكلة من مشاكله المعقّدة.
(٢)
الحاكمية من الأفكار المؤسسة لوجود الجماعات قديما وحديثا، فخاضوا بدافع من الإيمان بها الكثير من المعارك، وقد عرّفها أحد أهم المرجعيات الفكرية للجماعات المعاصرة الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: “فكرة الحاكمية نادى بها في عصرنا إمامان من أئمة الدعوة والفكر، وهما: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر، رحمهما الله.، ومؤداها: أن الحكم لله تعالى، وليس لأحد من البشر، فالكون مملكته سبحانه، وليس لأحد فيها حكم دونه ولا معه”، ([10]) فقول الخوارج: “لا حكم إلا لله من منظور القرضاوي قولٌ صادق في نفسه، حقّ في ذاته، وإن أنكر عليهم رفضهم تحكيم البشر في النزاع.([11])
فـ “أخصّ خصائص الألوهية هي الحاكمية، فالذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها، فهم عبيده لا عبيد الله، وهم في دينه لا في دين الله.. إن هذه القضية هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة، إنها قضية الألوهية والعبودية، قضية الحرية والمساواة، قضية تحرير الإنسان، بل ميلاد الإنسان، من أجل هذا كلّه كانت قضية الكفر أو الإيمان، وقضية الجاهلية أو الإسلام.. لم يكن بد أن يكون “دين الله” هو الحكَم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله. وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين “دين الله” و”الحكم بما أنزل الله” لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنعه البشر لأنفسهم من مناهج، وشرائع، وأنظمة، وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية. وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمّن عداه. وهذا هو “الإسلام” بمعناه اللغوي: “الاستسلام”، وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان الإسلام لله والتجرد من ادعاء الألوهية معه؛ وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون. ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله. أو حتى شريعة الله نفسها بنصِّها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم؛ ولم يردوها لله؛ ولم يُطبّقوها باسم الله إذعانا لسلطانه، واعترافا بألوهيته؛ وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يُجرد العباد من حق السلطان والحاكمية”.([12])
وتحقيق مبدأ الحاكمية عند قطب يقتضي “إقامة مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد وردّه إلى الله وحده.. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. ولن يتمّ ذلك بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان.. ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولّى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم – هم رجال دين – كما كان الأمر في سلطان الكنيسة. ولا رجال ينطقون باسم الآلهة. كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة..” ([13]) وهذا ما أشار إليه أبو الأعلى المودودي بتركيب “الثيوقراطية الديمقراطية” أو “الحكومة الإلهية الديمقراطية”.([14])
تلك الأفكار المؤسسة للحاكمية في طرح الجماعات، تتهاوى وتظهر هشاشتها عندما نُسلّط عليها السؤال كآلية للتفكير، فنسأل: كيف يُمكن النقد والمراجعة لسلطة تنطلق من عبارة “الله يحكم”؟ كيف أحاسب الحكّام ومساعديهم ونحن ننطلق من أنهم لا يحكمون حقيقة، بل الله هو من يحكم؟ كيف أعترض على تشريع من الحاكم وهو وفق مبدأ الحاكمية مجتهد يكشف مراد الله للأمة بيانا وشرحا؟ أليس هذا التصوّر يعطى الفقيه (المجتهد في العلوم الشرعية) سلطة دينية ووصاية بوصفه المختص بالتوقيع نيابة عن الله على حدّ تعبير ابن القيم “الموقعون عن الله”؟ هل يُمكن للناس وفق هذا المفهوم أن تستغني عن وساطة رجال الدين بينهم وبين السلطة؟ ألا يرسخ هذا لنفوذ رجال الدين وعلماء الفقه؟ كيف نقيم مملكة الله بلا دينية؟ هل مملكة الله نقيض لمملكة الإنسان؟ هل يمكن أن يتحقق تصوّر مملكة الله دون وجود للإنسان؟ كيف نقاوم ظاهرة التكفير إذا كانت كل محاولة للتفكير والاجتهاد من غير علماء الشريعة هي منازعة لله في حاكميته؟ هل يستقيم في التطبيق تركيب مثل “الدولة الإسلامية هي ثيوقراطية ديمقراطية”؟ كيف يستقيم نفي الدينية عن الدولة وإثباتها في قولهم: الثيوقراطية الديمقراطية؟ وهل قدَّم الوحي تفاصيلًا تشريعية للدولة؟ أليس الإنسان من يصوغ أحكام وتشريعات الدولة المسكوت عنها في الوحي؟ وعندما تتعدّد آراء المجتهدين في فهم الأدلة الشرعية أي الاجتهادات سيُمثل حاكمية الله؟ وكيف تتحقق العدالة والمساواة والسلطة تُعاقب الإنسان على مخالفة قوانين ليس له حق في اختيارها أو تغييرها، فالفقيه وحده الكاشف لمراد الله من الإنسان؟ هل من الممكن أن يكون للعلوم غير الشرعية ودراسة الكون مكانة في دولة ترى الاجتهاد مقيدًا بالأدلة الشرعية ومحصورا في أهل الفقه (الاجتهاد الشرعي) ولا مكان لمعارف حقيقية خارج القرآن والسنة؟ كيف يظهر مراد الله من استخلاف الإنسان لتعمير الأرض؟ وكيف يتجلى تفضيل الله لبني آدم بالقدرة على التفكير؟ ما ميادين تشريعات الله؟ وما ميادين تفويض الله للإنسان؟ وهل كلّ التشريعات وحي الله المقدس أم أن هناك دائرة تخص قطعي الثبوت والدلالة “المعلوم من الدين بالضرورة” ودائرة الاحتمالي تخص الاجتهادات في محاولة فهم مراد الله؛ لنميز بذلك بين نصوص التشريع الإلهي حيث التسليم وتشريعات الفقيه حيث الاختيار؟؟
من جانب آخر إذا توقّفنا أمام آيات سورة المائدة “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”، “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”، “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” [الآيات:٤٧،٤٥،٤٤] التي استند إليها منظّرو الجماعات، فسنجد أنّه يكاد يكون من المقطوع به من السياق أن الآية الثانية تخص اليهود وحدهم؛ لأنها وردت متعلقة بالأحكام التي أنزلها الله في التوراة، وأن الآية الثالثة تخص أتباع المسيح؛ لأنها وردت في الأحكام التي أنزلها الله في الإنجيل، وتبقى الآية الأولى “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” موضع الجدل في فهم النص، فالحكم بالكفر قد يكون مقصودا به اليهود فتكون الآية جزءا من سياق حديث القرآن عن اليهود، وينطبق عليها قول الأصوليين من أن ما ورد في سياق القصص والأخبار لا يكون حكما شرعيا قطعي الدلالة، ويحتمل أن تكون موجهة للمسلمين على سبيل الالتفات والنص الوارد في صيغة الالتفات من الآية القرآنية هو قوله تعالى: “فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا”.
فالآيات تصور لنا موقفا يضع اليهود فيه النبي العربي موضع الاختبار والامتحان أي الفتنة كما تصور توجيهات القرآن الكريم للنبي عليه السلام في الكيفية التي يعالج فيها هذا الموقف، وتوجيهات القرآن الكريم للنبي تنصب على أنهم جاءوا للاحتكام إليه اختبارا له، وأن حكما بعينه يعرفونه عندهم هو الحكم الديني، فإن قال به صدقوه، وإن قال بغيره انصرفوا عنه، وذلك هو قول القرآن الكريم عنهم حين قالوا “إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا”، وهو قول القرآن الكريم أيضا للنبي –صلى الله عليه وسلم- “واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك”.
والآية صريحة في تخيير النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، وأنه لا خوف من الإعراض، وحين يحكم بينهم يكون من الواجب عليه أن يحكم بما أنزل الله إليه وليس بما أُنزل عليهم، ومقتضى هذا الحكم بشريعتنا نحن حين يحتكمون إلينا، فيما يقع بينهم من نزاع، وأن من حق كل طائفة من اليهود والنصارى أن تحكم بما أنزل الله عليها، فيحكم اليهود فيما بينهم من نزاعات بما أنزل الله في التوراة، ويحكم النصارى فيما بينهم من نزاعات بما أنزل الله في الإنجيل، وهذا معنى تعقيب الله بقوله: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”.
فكلمة “حكم” في آيات سورة المائدة لم تخرج عن دلالتها الشائعة في البيئة العربية الأولى، حيث ارتبطت بمعنى القضاء واﻟﻔﺼﻞ ﻓﻲ المنازﻋﺎت والخصوﻣﺎت، هذا المعنى الذي لَازَم الكلمة عند استخدام أي ﻣﺸﺘﻖ ﻣﻦ مشتقاتها ﻣﻨﺴﻮﺑﺎ إﻟﻰ الله في القرآن الكريم، فكلمة “حَكَم” في الآيات ليست بمعنى ساس وأدار، ولا يُراد بها السلطة والحكومة التي تتصرف في شئون الناس كما في الاستخدام المعاصر للكلمة، فالقرآن تحدث عن الحكم بينهم بما أنزل الله من تشريعات، وليس حكمهم بدولة أنزلها الله أي حدد شكلها، وأقرّ تفاصيلها كما يُروّج منظرو الجماعات؛ الذي تُوهم أفكارهم الجمهور أنهم بين خيارين كلام الله وكلام البشر، فمنطوق الجماعات بالقرآن هو كلام الله، وتأويل غيرهم هو تحكيم الرجال، فأبطلوا بهذا الفكر القوانين فهي كلام البشر، وجعلوا الله الحاكم الحقيقي للدولة وليس الإنسان، وأن من أوتي العلم الشرعي وحده هو المجتهد الذي يفسر مراد الله والمخالف كافر، وليس هذا الطرح وليد عصرنا بل يظهر مع كل إخفاق حضاري أو صراع سياسي منذ القرن الأول الهجري، وفي هذا السياق نُسب لعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ردا على قول الخوارج: “لا حكم إلا لله” أنه قال: “قولهم: “لا حكم إلاّ لله” … لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير”.([15])
فتتعارض مادة “حَكَم” في القرآن الكريم مع التداول المعاصر الذي تُروّج له الجماعات التي تستخدمها بمعنى ساس وأدار، فتُفيد في تداولهم السلطة والحكومة، وهذا ما لم تعرفه المعاجم التراثية التي لن تجد فيها إشارة إلى المدلول المعاصر الذي يُعرف الحكومة بإدارة شئون الدولة عسكريًا واقتصاديًا وتنظيم علاقة السلطة بالمجتمع وطرق مراقبته لها، فاستعمال الجماعات للكلمة لا يخلو من احتيال دلالي يتم فيها إسقاط مدلول حديث اكتسبه الدال “حكم” حديثا وإخفاء مدلولاته اللغوية القديمة المغايرة للمدلول المعاصر، ويُؤكّد ما ذهبنا إليه تمييزُ الصحابة الكرام بين دلالة الخلافة والحكم – كما جاء في الحديث الذي استشهد به صاحب لسان العرب،([16]) فأفادت الخلافة عندهم الإمارة، وأفاد الحكم عندهم القضاء.. فاستعمالات القرآن الكريم لمشتقات الدال “حكم” لم تخرج عن المدلول اللغوي التراثي للكلمة([17]) التي يمكننا إجماله في معاني القضاء والعلم ودقة الفهم، ومنها جاءت دلالة كلمة حكمة، وحكيم، واشتقاق كلمة حاكم من الفعل حكم؛ لتدل في أصل استعمالها على القاضي، وهو صاحب الحكمة أي القدرة على الفصل، ثم انتقلت إلى معنى جديد وهو من ينفذ أحكام القاضي، فسُمي الحاكم بعد ذلك بهذا الاسم؛ لأنه منوط به تطبيق أحكام القضاء، وقيل: اشتقت من الفعل أحكم بمعنى منع، وسمي الحاكم به؛ لأنه يمنع المظلوم من الظالم بتنفيذه للقضاء.
(٤)
من الشعارات التلفيقية التي تُروّج لها جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين شعار “تطبيق الشريعة”، الذي يستمدون منه مشروعية وجودهم، فيرون القانون الوضعي نقيضا للشريعة، وكأنّه خصم ينتقص من سلطة الدين في حياة الناس، فالشريعة كلمة ارتبطت في عقل ووجدان الصحويين والسلفيين بدولة الخلافة، بينما القانون كلمة ارتبط ظهورها بالمستعمر ونموذج الدولة القادمة من الغرب العدو الكافر؛ لذا تزدري الجماعات القانون الوضعي بشكل معلن أو غير معلن.
ومن الكتابات التأسيسية التي أصّلت فكرة التضاد بين الشريعة والقانون ما كتبها عبدالقادر عودة أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين، وتناقله منظرو الجماعات الإسلامية بنسبة العبارة إليه، أو نسبتها إلى أنفسهم، فيقول: “تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلٌّ من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر، وعجزهم، وضعفهم، وقلة حيلتهم، ومن ثمَّ كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة، أو وجدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان. أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله، وعظمته، وإحاطته بما كان وما هو كائن”.([18])
تبدو كلمات عودة من الوهلة الأولى رنانة مثيرة للعاطفة ومؤثرة تدفعك دفعا للانحياز الانفعالي إليها، لكننا في حاجة إلى تجاوز النظرة الأولية للتفكير في تلك العبارات في محاولة لاكتشاف مدى واقعية وعلمية تلك المقارنة، ونُعيد إخضاع العبارات للعقل بعيدا عن حالة الإطراء والإنشاء والاختزال، ونستخدم السؤال أداة للتفكير في مقارنة عودة، فبداية ما المراد بالشريعة هل الدين أم الأحكام العملية التفصيلية من الدين أم غير ذلك حتى يمكننا التعرف على نطاق التطبيق؟ وهل الشريعة في الفكر الإسلامي لها مفهوم واحد أم مفاهيم متعددة ومن أين أتى التعدد في المفاهيم؟ وإذا كان الخطاب القرآني استخدم مادة شريعة بأكثر من دلالة فمن يملك أن ينفى تلك التعددية؟ أليس من الواجب أن نحدّد عن الشريعة بأي مفهوم نتحدث؟ ثم من الذي سيحكم ويطبق الشريعة الإلهية الإنسان أم الله؟ من الذي سينقل الشريعة من مصدرها الإلهي “الوحي” للواقع ألا تنتقل عبر عملية استنباط وفهم إنساني يصيبه القصور والصواب والخطأ والاختلاف؟ هل نماذج تطبيق الشريعة التي قدمها المسلمون عبر تاريخ دولة الخلافة تطابق الوحي وتماثل مراد الله أم مقاربة ومحاولة لفهم مراد الله، فكثيرا ما تحدث منظرو الدولة الإسلامية عن إخفاقات لدولة الخلافة التاريخية في تحقيق معاني الإسلام؟ ما حجم كلمات الله في الشريعة مقارنة بحجم كلام المجتهدين في فهم كلام الله؟ هل تغيير آليات التقاضي وفصل التشريع عن القضاء في الدولة المدنية اعتداء وتعطيل للشريعة؟ ألا تأخذ الشريعة في محاولات تطبيقها وتجسيدها في واقع الإنسان صفة المطبِّق الإنسان الذي يعتريه النقص والتغير والتفاوت والانتقاء أحيانا وغيرها من الأوصاف التي انتقدوا بها القانون؟ وهل يستقيم مع روح الإسلام وعدل الله أن يُلزم الإنسان بتفاصيل تشريعية ثابتة في مجتمعات متغايرة وأزمنة متطورة؟ أليس العدل أن يترك الله للإنسان مساحات تشريعية واسعة يصنع فيها قوانينه الخاصة التي تختلف من مكان لآخر، والقابلة للمراجعة والتغيير والتحديث وفق واقعه ومستقبله القريب؟ أيستقيم أن تكون الغاية من التشريع إقامة عالم مثالي في دنيا الواقع أيُكلف الله الإنسان بإقامة مجتمع الملائكة في الأرض أم أن المجتمع الإنساني في سعيه المستمر إلى العدل والمساواة والحرية لن يصل إلى المثالية؟ وإذا كانت الشريعة من الثبات والإحاطة بالمستقبل في قضايا الدولة فلماذا تطوّرت واختلفت تفاصيلها ونظمها في تاريخ المسلمين؟ أليس من الأفضل النظر لشريعة الله لدولة الإنسان بوصفها مبادئ عامة؛ لتتمتع بالثبات والاستمرارية والإحاطة وحينها تكون المجتمعات والأزمنة المختلفة قادرة على الالتزام بها؟
ونتوقف أمام مادة الشريعة اللغوية في القرآن الكريم؛ لنتعرف على دلالتها اللغوية وما أكسبها القرآن الكريم من دلالة دينية، فإذا تتبعنا لفظ شَرَعَ ومشتقاته في القرآن الكريم سنجدها جاءت في خمسة مواضع، لم تخرج في ثلاثة منها عن الدلالة اللغوية بمعنى فتح لكم، وعرَّفكم، وأوضح وبيَّن وسنَّ، وظهر، والشريعة هي الطريق الواضح، ومورد الشاربة الماء، ومنه قول العرب: شرعت الإبل إذا وردت شريعة الماء، وسُمي مورد الماء بالشريعة؛ لوضوحه وظهوره لجميع الناس. ومنه قوله تعالى “إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرّعا” أي ظاهرة رافعة رؤوسها [الأعراف، الآية ١٦٣] وقوله تعالى “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون” [الجاثية، الآية ١٨] بمعنى الطريقة المستقيمة الواضحة.
واستعيرت شرع للدلالة على معنى اصطلاحي ديني جديد في موضعين من القرآن: الأول في قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً” [الشورى، الآية: ١٣] فاستدل دارسون بالآية على أن الشريعة الإسلامية هي الأصول التي حملها الوحي لجميع الأنبياء فتتساوى فيها الملل، وسميت بالشريعة لظهورها ووضوحها فلا يختلف عليها أحد ولا يصحّ فيها النّسخ كالإيما نبالله وملائكته ومتبه ورسله واليوم الآخر، فالشريعة بهذا المفهوم هي الدين بأصوله الاعتقادية.
الموضع الثاني في قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” [سورة المائدة، الآية٤٨] وبه استدل دارسون على أن الشريعة خاصة بالأحكام العملية التي يعتريها النسخ والتغيير، فالشريعة اسم للأحكام المختلفة بين الأنبياء.
وأصبح للشريعة في الثقافة الإسلامية مفهومان كل منهما له سند تحتمله دلالة الكلمة في القرآن الكريم: الأول بمعنى الدين “الأصول الثابتة” التي لا تختلف باختلاف الأنبياء، والثاني الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الأنبياء، وتنقسم إلى نطاقين: نطاق العبادات وهي الأحكام العملية لعلاقة الإنسان بالله تعالي مثل: الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وغيرها. ونطاق المعاملات وهي الأحكام العملية التي تنظم علاقة الإنسان بغير الله من الأفراد والمجتمعات والدول وسائر محيطه الكوني، فهناك أحكام عملية تتناول علاقة الإنسان مع أفراد أسرته، تُسمّى الأحكام الأسرية، وأحكام عملية تتناول علاقة المسلم بالسلطة والسلطان منها ما كتبه الإمام الماوردي تحت عنوان الأحكام السلطانية.
فالشريعة تُطلق على الأحكام العملية بنوعيها التعبدية والمعاملات التي استخلصها لنا علم الفقه الإسلامي حيث عمل الفقهاء المجتهدون على استنباط الأحكام العملية من الأدلة وفق أصول اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها، وحول المعاملات منها يكون التقاضي الذي لا يتناول البواطن الاعتقادية ولا علاقة الإنسان التعبدية بالله بل يقضي في ظواهر الناس في دوائر علاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع والبيئة التي يعيش فيها.
والشريعة فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره شهدت آراءًا وتعددية في أحكامها بل وفي أدوات استنباطها لتلك الأحكام بحيث يبدو افتراض منظري الدولة الإسلامية وجود تصور إلهي ثابت مجرّد غير صحيح. وأن فكرة عدم تدخل الإنسان في صياغة أحكام الشريعة غير دقيقة؛ لأنها في غالبها تدخل في استنباطها العقل الإنساني لفهم غير قطعي الدلالة من الوحي. وأن الاحتكام إلى الشريعة بوصفها أحكام للمجتهدين لا تُغنى عن سنّ القوانين؛ لأن أكثر تفاصيل الدولة لم تتناولها تشريعات المجتهدين في الفقه الإسلامي مما يدعو إلى ضرورة استحداث تشريعات.. وهذا ما يقرره أحد أبرز منظري دولة الخلافة الدكتور السنهوري بقوله: “علة أخرى أقرب إلى الصواب تفسر عزوف الفقهاء عن الخوض في أحكام الخلافة خشية التعرض لنظم الحكم الاستبدادية التي سادت العالم الإسلامي منذ الأمويين، وأيا كانت العلة فالذي لا جدال فيه أن شطر الفقه الإسلامي المتعلق بالقانون العام قد بقي في حالة طفولة بسبب هذا العزوف”.([19])
فما تُروّج له الجماعات من كون الدولة الإسلامية قائمة على الوحي، والدولة المعاصرة قائمة على القوانين الوضعية المستمدة من عقول البشر، والفرق بين الوحي وبين آراء البشر، كالفرق بين الخالق والمخلوق، لا تخلو من مغالطة، فالوسيلة في كلا النموذجين واحدة وهي عقول البشر، فالوحي لا ينطق، وإنما ينطق الفقهاء بفهم عقولهم للوحي، والخلل أن نجعل من اجتهاد الفقيه معادلا للوحي، وأن نجعل الدولة التي هي نتاج المخلوق نتاجا من الخالق؛ فنحن في كلا الحالتين أمام اجتهادات متغيرة ليس لها إطلاق وثبات الإلهي، تشريعات إنسانية غير منفصلة عن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان وخاضعة للظرف التاريخي الذي يتأثر به.
(٤)
تنطوى كل مخادعة دلالية تمارسها الجماعات على متوالية من الاحتيالات والاختلالات المفاهيمية، في حالة أقرب ما تكون بـ “تداعي الأفكار” إذ تتوالى المفاهيم المتشابهة في مجال التّصور والشعور متأثرة بحالة التوتر المستمر عند الجماعات وبعيدة عن العقلانية المتسائلة المفكّرة، فتتشكّل المفاهيم وفق أمنياتهم وبما يتسق مع انفعالاتهم، دون البحث في السياق الاجتماعي أو التتبع التاريخي لمدلولات الألفاظ.
فمفهوم الاجتهاد، وفق مفهوم الحاكمية، ليس مطلق الدعوة إلى إعمال العقل، وإنّما هو اجتهاد مقيَّد قبل أن يبدأ، على حد قول أبي الأعلى المودودي أحد الآباء المؤسسين لخطاب جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين: “استعمل البعض اصطلاح (الاجتهاد) خطأ في معنى حرية استخدام الرأي، بيد أن أيَّ إنسان يقف على نوعية القانون الإسلامي، هيهات أن يقع في خطأ القول بأن مثل هذا النظام القانوني يتَّسع لأيِّ نوع من الاجتهاد الحرِّ تماما، إذ يشكِّل القرآن والسنة نواة هذا النظام وأصله، ولابد لمَن يمارس التشريع: إما أن يتَّخذ هذا الأصل (الكتاب والسنة) أساسا للتشريع، أو أن يظلَّ داخل إطار تلك الحدود التي تتاح له فيها حرية إعمال رأيه. أما ما يحدث من اجتهاد بعد الاستغناء عن هذا الأصل، فهو ليس اجتهادا إسلاميًّا، ولا مكان له في نظام الإسلام القانوني.([20])
وكما أنّ الله هو مركز الدولة وليس الإنسان في منظور الجماعات، فاجتهاد الفقيه بوصفه المستبط لمراد الله هو مصدر المعرفة والقانون، فيتفاخر الدكتور القرضاوي بمغالطة يُنكرها الواقع التاريخي والعقل الإنساني حين يقول: “الدولة في الإسلام هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يجوز لها أن تدعى أنّ القانون تعبيرا عن إرادتها، كما يقال في جميع كتب القانون الوضعي القديم والحديث، ولن تجد في الإسلام كله حاكما واحدا أصدر قانونا في ظل الشريعة الإسلامية سواء كان حاكما عادلا أو مستبدا”.([21])
وهذا الطرح الاستعلائي الذي يجعل اجتهاد منظري الجماعات معادلا لمراد الله، وثابتا دينيا، تُفنّده اجتهاداتُهم نفسها غير الواعية بذاتها إلى حد كبير، فبدلا من أن تُقدّم اجتهادها كمقاربة لبعض جوانب “الحقيقة”، بالمعنى النسبي، الثقافي التاريخي، وبدلا من أن تنشغل باستنباط الجوهري والإنساني والمعرفي، وتعرية التاريخي (المرحلي) والعرقي والإيديولوجي في التراث الإسلامي والنص التشريعي، قدّمت خطابا منتجا للأيديولوجيا منغلقا لا يرى سوى نفسه، ولا يسمع سوى صوته زاعما أنّه الناطق الحصري بمراد الله، وكأنّه ليس اجتهادا إنسانيا ينبغي ألا يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة.
ويُمكننا من خلال الوقوف على جانب من فتاوى “جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين” حول الجهاد أن نرصد التناقض والمثالية الزائفة في بنية أفكارهم، ونسوق على ذلك مثالا، باجتهاد تنظيم الجهاد العالمي/ تنظيم القاعدة حول وجوب خوض حرب مفتوحة مع الجميع، فيقول أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة “نحن قوم نتقرّب إلى الله بعبادة القتال، فنؤمن أنه لا إصلاح إلا بالجهاد.. وألخص عقيدتنا في نقاط من كلام شيخ الإسلام عبد الله عزَّام ([22]): الجهاد ضرورة حتمية تلازم الإسلام كلما أردنا أن نبلّغه للناس، أو ننشره في ربوع العالمين؛ لأنه سيقف في وجهه العقبات الكبرى التي يقوم عليها كيان الجاهلية.. نخوض حربا مفتوحة مع العالم فساحة المعركة بين الإسلام والكفر لا يمكن أن تنحصر في قطر أو إقليم؛ لأن أعداء الإسلام يتحالفون ضده من كل مكان. فعلينا أن نُعدّ أنفسنا لمعركة تشمل العدو الداخلي المرتد والعدو الخارجي الصليبي اليهودي”. ([23])
فيرى الظواهري الدعوة الإسلامية دعوة استئصالية، فالإسلام تمكينه واستخلافه مرهون باستئصال ديانة الغرب؛ ليحلّ محلّها الإسلام، فكلّ جماعة ليست مدعوةً؛ لتبليغ دعوة الإسلام إلى الغرب فحسب بل إلى إخضاعه لرسالة الإسلام، فرسالتهم ليست دعوة تقف عند حدود الحكمة والموعظة الحسنة بل استرداد مُلك، واستعادة إمبراطورية قديمة يرونها جزءا من الدين، لا تختلف في ذلك لغة مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عن لغة الظواهري وعبدالله عزام، فيقول حسن البنا: “الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم، كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام، ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل، ولئن كان السنيور موسوليني رأى من حقه أن يعيد الإمبراطورية الرومانية، وما تكونت الإمبراطورية المزعومة قديما إلا على أساس المطامع والأهواء، فإن من حقنا أن نعيد مجد الإمبراطورية الإسلامية”.([24]) فاستشهد البنا بفاشية موسوليني كمبرر يُشرِّع لفاشية إخوانية إلا أنه استبدل بها كلمة إسلامية، فيُؤسِّس بمحاولات موسولينى استعادة الإمبراطورية الرومانية لمشروعية فكرته بضرورة استعادة الإمبراطورية الإسلامية من خلال تنظيم الإخوان المسلمين، فعسكروا الجماعة باسم الله والدفاع عن دينه، فهم أجناد الله في معركة الإسلام، فيتم ترسيخ معنى الجندية والتأكيد عليها دوما حتى العمل المسجدي عندهم هو ساحة جهاد يُجند فيها الأخ، وانتصاره أن يُحكم السيطرة على المسجد([25]). فالجماعة الثكنة العسكرية التي يُعد فيها العضو للجهاد على حد قول البنا: “عليك أن تعتبر نفسك دائما جنديا في الثكنة تنتظر الأمر”. ([26])
ويتكرر وصف الجندية كثيرا في خطاب البنا “استعدوا يا جنود.. خذوا هذه الأمة برفق وصفوا لها الدواء، فإذا الأمة أبت أوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضوا خبيثا فاقطعوه، استعدوا يا جنود فكثير من أبناء هذه الأمة في آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى”. ([27]) “أمر الله المسلمين أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا فبالسيف والسنان… والناس إذا ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم. ولهذا المعنى نفر المسلمون في أقطار الأرض فمن أسلم فهو أخوهم، ومن رفض الإسلام جالدوه وقاتلوه حتى يظهرهم الله عليه”. ([28])
“سيستخدم الإخوان القوة العملية حين لا يُجدي غيرها، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، سينذرون أولا وينتظرون، ثم يقدمون في عزة وكرامة ويتحملون كل نتائج استخدامهم القوة بكل رضا وارتياح”. ([29])
هذا النموذج من الاجتهاد تراه الجماعات حقًا مشروعًا، وفريضة دينية، متجاوزة حدود العمل الدعوي القائم على التبليغ الذي يقف عند حدود التعريف بالإسلام إلى العمل على إخضاع العالم لدولة المسلمين العظمي، فكرة الخلافة أو الدولة أو الإمبراطورية الإسلامية في مواجهة إمبراطوريات العصور القديمة، فتتعامل عقول الجماعات مع تاريخ المسلمين، وكأنه تاريخ صنعه الإسلام النَّصي المعصوم، وليس تاريخًا صنعه المسلمون بلا عصمة أو قداسة، متجاهلين أن التاريخ هو فعل إنساني في زمن ما، وتاريخ المسلمين ليس خيرا محضا كما يصور المجامل، ولا شراً محضاً كما يُصور المُتحامل بل تجربة إنسانية تصيب وتخطئ، وليس من الصواب فكرة الكُلّ المصمت عند حديثنا عن التاريخ بالإيجاب أو السلب؛ لذا نحتاج إلى التحول من الإخبار الوعظي بالتاريخ إلى دراسته ونقده..
فنظرة الجماعات المتعالية على الواقع تنطلق من نقطة خارج حدود عالمها المعاصر مرتدة إلى حلم الماضي، منفصلة عن مكونات الحاضر، ساعية الى مستقبل ليس في نقطة زمنية آتية بل في نقطة زمنية ماضية حيث كان صراع الإمبراطوريات، فتصطدم مع الخط الزمني الطبيعي للبناء والتطور، فالخط الزمني للفصائل لا يتجه إلى الأمام بل يرجع إلى الخلف، فالصدام من منظورهم واقع لا محالة، والاختلاف بينهم فقط في التوقيت ووسائل المواجهة، “ولا يسلم جميعهم من نزوح إلى المثالية من قبيل قول عبد الله عزام في كتابه التربية الجهادية والبناء: “الحركة الشعبية الجهادية – مع طول الطريق ومرارة المعاناة وضخامة التضحيات وفداحة الأرزاء – تصفي النفوس، فتعلو على واقع الأرض الهابط، وترتفع الاهتمامات عن الخصومات الصغيرة على دراهم، وعن الأغراض القريبة، سفاف المتاع، وتزول الأحقاد، وتصقل الأرواح، وتسير القافلة صعدًا من السفح الهابط إلى القمة السامقة بعيدا عن نتن الطين وصراع الغايات.” وتلك المثالية أبعد ما تكون عن واقعهم الداخلي المتأزم، المنقسم المتصارع.. فكل جماعة تلعن أختها وتكفّرها وتزدريها.. وليس تلك النزعة المثالية سمة فكر التنظيمات المتشددة فحسب، بل سمة للعقل المسلم المعاصر الحالم دوما بواقع مثالي؛ لذا عقمنا اجتماعيا، وتجمّدنا اجتهاديا؛ لأننا غير واقعيين نفتقد المنطق العملي”. ([30])
الجماعات السلفية
من جانب آخر رغم أنّ جماعات السلفية الجهادية تزعم ثبات موقفها الاجتهادي من الجهاد، إلا أنّه أخذ ثلاثة أحكام مختلفة عند أمير الجماعة الإسلامية الدكتور عمر عبد الرحمن الذي جعل حكم الله في الجهاد مرة واجبا مدافعا عن ذلك في قاعة المحكمة في قضية اغتيال السادات عام ١٩٨١ “أنا لا يرهبني السجن ولا الإعدام، ولا أفرح بالعفو أو البراءة، ولا أحزن حين يُحكم عليّ بالقتل، فهي شهادة في سبيل الله.. نعم (إن الحكم إلا للّه) إن الخوارج قالوها لرابع الخلفاء الراشدين، فإذا قيلت في العصر الأول فقائلوها خوارج، وإذا قيلت في هذا العصر فقائلوها يجاهدون”.([31])
وفي سنة ١٩٩٨ تمّ تعديل الحكم ليصبح الرئيس محمد أنور السادات شهيدا قُتل في فتنة؛ فالمقتول والقاتل شهداء في الجنة، ولم يعد الرئيس السادات الطاغية الكافر الخارج عن الإسلام، وأصدر الدكتور عمر عبد الرحمن بيانا شرعيا من سجنه في الولايات المتحدة الأمريكية بالتراجع عن جهاد الحكام، وتأييد مراجعات القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية التي أخذت تُؤصّل لحرمة دم الحكومات بعد أن كان دمهم مباحا، وكان عنوان البيان الشرعي الصادر عن الدكتور عمر عبد الرحمن “وقَفوا لله وأوْقَفوا لله”.
وفي أوائل يونيو سنة ٢٠٠٠م ألغى الدكتور عمر عبد الرحمن بيانه الشرعي عندما أصدر تصريحا من سجنه نقلته عنه محاميته “لين ستيوارت” ذكرت فيه أن الشيخ عمر يسحب تأييده لمبادرة وقف العنف ضد الحكومة المصرية؛ لأنها لم تسفر عن أية نتائج إيجابية، وأضافت ستيوارت على لسان عمر عبد الرحمن قوله: “إنه لم يحدث أي تقدم، فآلاف المعتقلين لا يزالون معتقلين. ([32])
فهل هم في المواقف الثلاثة بصدد أحكام شرعية أم آراء يُمليها الواقع السياسي عليهم! أيّ تلك المواقف الثلاثة حكم الجهاد الثابت الذي لا يتغير كما زعموا! هل الاجتهاد وليد موقف سياسي أم نص ديني! هل الإسلام يخوض معركة كما يرددون أم أنها معركة الجماعات في سعيها المسلح أو السياسي للوصول إلى السلطة السياسية!
وإذا انتقلنا إلى مثال آخر، وهو اجتهادات الدكتور يوسف القرضاوي أحد أهم المرجعيات الفقهية لجماعات الجناح الصحوي فسنجد أنّ فقيه الجماعة تلاعب بقواعد الاجتهاد بالاستدعاء الجزئي لصور من تجربة الدولة الحديثة بجذورها الغربية؛ ليدخلها في فقه الدولة الإسلامية بعد أن يُعيد صبغها وتوفيقها، فمفهوم الديمقراطية ظلّ لعقود لفظا سيئ السمعة؛ حتى تمّ قبوله عند الجانب الصحوي من منظري الدولة الإسلامية الذي يمثله القرضاوي، لكن ليس بمعنى السيادة للشعب، لكن بوصف الديمقراطية مرادفة للشورى، كذلك تطوّر الموقف من مشاركة المرأة في الحياة السياسية بالتصويت أو الترشيح، فتطوّر من المنع التام إلى الجواز على مرحلتين، فمنحها منظرو الدولة الإسلامية، الجناح الصحوي، وليس الجناح السلفي الجهادي، حقّ التصويت، وفي مرحلة تالية منحها حق الترشح.
فالدكتور القرضاوي كمنظر ومفتى جماعات الصحوة يُشير إلى بعض الأفكار فيقول هذا تصور الإسلام للدولة لا يجوز الاقتراب منها، وهذا اجتهاد فقهي يمكننا إعادة النظر فيه؛ فتبدو ثوابتهم أصناما من حلوى كلما دفعهم الواقع إلى أكل شيء منها أكلوه، وكأنه لم يكن من قبل مقدَّسًا لا يجوز الاقتراب منه، ولا يحتاج الأمر منه سوى أن يعمل فيه آلته من قواعد اجتهادية؛ ليحيله إلى صورة جديدة تتسع لمستجدات العصر، مما أوقعه في تناقض فجّ، فالقاعدة الفقهية نفسها يقرّها في موضع؛ ليثبت شرعية فكرة ما في تصوره للدولة الإسلامية، وينقض القاعدة نفسها مرة أخرى؛ لينفي الإسلامية عن فكرة تزعم جماعة إسلامية مخالفة له أنّها أصيلة في الدولة الإسلامية (الخلافة).
فمثلا القاعدة الفقهية: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب” قاعدة أقرّها القرضاوي، وانطلق منها في الردّ على المفرطين، من منظوره، الذين يقولون بأنّ الحاكمية التي في آية سورة المائدة “ومن لم يحكم بما أنزل لله” خاصة بمواقف احتكام اليهود إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينهم، فيرى أن اللفظ هنا عام ننظر إليه، ولا ننظر إلى السبب الذي نزلت من أجله الآيات، وشكّك في أسباب النزول، قائلا: “إن علماء الأصول بحثوا في قضية الأسباب الخاصة لنزول القرآن، أو ورود الحديث، والألفاظ العامة التي وردت بناء عليها، وحققوا: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. ولولا ذلك لعُطّلت أحكام كثيرة نزلت بسبب حوادث خاصة في عهد النبوة “وهذا إذا صحت أسباب النزول، وكثير منها غير صحيح”.([33]) فأقرّ الدكتور القرضاوي قاعدة عموم اللفظ؛ ليثبت بها عموم مفهوم الحاكمية وأصوليته في الدولة الإسلامية، فكلّ صور الاحتكام لغير الله كفر وفسق وظلم من منظوره.
ثم عاد ونقض القاعدة نفسها، وتراجع عنها في موضع آخر من الكتاب نفسه عندما استند إليها مَن وصفهم بالمغالين من الجماعات في فتواهم بمنع المرأة من التصويت في انتخابات المجلس النيابية، أو الترشح لعضويتها مستندين لعموم لفظ الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين بلغه أن الفرس ولّوا على ملكهم بنت كسرى بعد موته، قال: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.”، فرفض القرضاوي هنا الاستناد إلى قاعدة: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، وقال بضرورة النظر في الأسباب التي جاء فيها النصّ، بل اتهم من يتمسك بالقاعدة بأنه سلك مسلك الخوارج، قائلا: “صحيح أنّ أغلب الأصوليين قالوا: إنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكنّ هذا غير مجمع عليه، وقد ورد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما ضرورة رعاية أسباب النزول، وإلّا حدث التخبط في الفهم، ووقع سوء التفسير، كما تورط في ذلك الحرورية من جماعات الخوارج وأمثالهم، الذين أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين فعمموها على المؤمنين”.([34]) هكذا اتّهم القرضاوي مخالفيه بالتخبط رغم وقوعه فيه، فتبنى القاعدة الأصولية مرة، وتبنى نقيضها مرة أخرى.
أخيرا لمواجهة اجتهادات الجماعات نحن في حاجة إلى أنْ نُرسّخ في ثقافتنا اجتهادات من نوع آخر تُؤكّدُ أن المسلم يتعبد إلى الله بالفكرة، ويدعو الناس إليه بالكلمة، وأن من يقتلون باسم الله هم أبعد الناس عن الله، فالنفوس معصومة “ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”، وأنّ الشجاعة ليست في مواجهة الموت في ساحات القتال كما تُصوّر الجماعات المنحرفة لكنّها في مواجهة الحقيقة.. وحقيقة الجماعات بنسختيها الساعية للتمكين بحيلة السياسة أو بصراحة السلاح أنّها فشلت لأنها فقيرة فكريا، تعيش أزمات على جميع المستويات، لكنّها تنكر وتلجأ دوما إلى التبرير والمظلومية، يُقدّمون أنفسهم كحماة للدين الذي يتمايزن بامتلاك نسخته الصحيحة عن المسلمين، متجاهلين أنهم أصحاب اجتهاد فكري قابل للفشل، والمراجعة، والنقد، والتجاوز.
المراجع:
([1]) يُنظر: حسن البنا، رسالة التعاليم، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة ص٤٤،٢٢.
([2]) حسن البنا، مجلة النذير، مقال “من نحن، وماذا نريد؟”، ١٥ محرم ١٣٥٨م، ٧ مارس ١٩٣٩، السنة الثانية، العدد ٣.
([3]) حسن البنا، رسالة إلى الشباب، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ص٧.
([4]) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ج٤، ص٢٢١٢.
([5]) في ظلال القرآن، ج٣، ص١٨١٦.
([6]) سيد قطب. العدالة الاجتماعية. ص٢١٦. دار الشروق. القاهرة.
([7]) ابن منظور، (أبو الفضل) محمد بن مكرم بن علي، لسان العرب، ط دار صادر، بيروت، مادة الجيم، ج٧، ص١٢٩.
([8]) يُنظر: شرح المعلقات السبع للزوزني، ص٣٠٨، البيت الثالث والخمسين من أبيات المعلقة، دار الطلائع، القاهرة، الطبعة الأولى،٢٠١٥.
([9]) سيد قطب في تفسيره لآيات ٤٦:٤٤ من سورة المائدة يُعرّف الجاهلية بأنّها “حكم البشر للبشر؛ لأنها هي عبودية البشر للبشر… إما إسلام وإما جاهلية. إمّا إيمان وإمّا كفر. إمّا حكم لله وإمّا حكم الجاهلية”. في ظلال القرآن، ج٢، ص٩٠٥.
([10]) يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ص٦١.
([11]) يُنظر: من فقه الدولة في الإسلام، ص١٤١،١٤٠.
([12]) في ظلال القرآن، ج٦، ص ٨٢٩،٨٢٨
([13]) سيد قطب، معالم في الطريق، ص٧٩،٧٨، دار الشروق، الطبعة السادسة، القاهرة..
([14]) أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، ترجمة أحمد إدريس، مطابع المختار الإسلامي، الطبعة الثانية، ص١٧٤.
([15]) يُنظر: محمد خلف الله، مفاهيم قرآنية، عالم المعرفة، الكويت، يوليو ١٩٨٤م، العدد ٦٤، ص٢٩.
([16]) الحكم: مصدر قولك حكم بينهم يحكم أي قضى “الخلافة في قريش والحكم في الأنصار، خصهم بالحكم؛ لأن أكثر فقهاء الصحابة فيهم، مثل: معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم.. (لسان العرب ج١٢، ص١٤١).
([17]) يُنظر: مادة حكم في لسان العرب ج١٢. ص١٤٠ وأبو بكر محمد الرازي. مختار الصحاح. ج١. ص٦٢.
([18]) عبدالقادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، دار الكاتب العربي، بيروت ج١، ص٢٥:٢٣.
([19]) عبد الرازق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق د. توفيق الشاوي، د. نادية السنهوري، الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ٢٠٠٨م، ص٦٣.
([20]) الحكومة الإسلامية، ص١٧٥:١٧٣ بتصرف.
([21]) من فقه الدولة الإسلامية، ص٣٩.
([22]) عبدالله عزّام من المرجعيات المشتركة بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الجهاد.
([23]) عبدالباسط سلامه هيكل، الحب والحقد المقدس حوار الجد والحفيد عبدالوهاب عزام وأيمن الظواهري، دار روابط للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٩ ص٢٧٩،٢٧٨.
([24]) رسالة إلى الشباب، ص١٥،١٤.
([25]) ينظر: حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، دار الدعوة، القاهرة، الطبعة الأولى،١٤٢٢هـ -٢٠٠١م، ص٩١.
([26]) حسن البنا، رسالة التعاليم، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ص٣٠.
([27]) حسن البنا، رسالة نحو النور، ط دار النشر والتوزيع، القاهرة، ١٤١٧هـ – ١٩٩٧م، ص٣٠،٢٩.
([28]) حسن البنا، إلى أي شيء ندعو الناس من مجموعة الرسائل، ، دار الدعوة، القاهرة، ١٤١١هـ -١٩٩٠م، ص٣٩.
([30]) ينظر: عبدالباسط سلامه هيكل، باب الله.. الخطاب الديني بين شقي الرحى، نيوبوك، الطبعة الأولى، ٢٠١٧م، ص ٢٩٩:٢٧٧.
([31]) الحب والحقد المقدس حوار الجد والحفيد عبدالوهاب عزام وأيمن الظواهري، ص٣٢٠.
([32]) يُنظر السابق، ص٣٢١،٣٢٠.
([33]) من فقه الدولة في الإسلام، ص١٠٨.