تكوين

” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” القرآن الكريم: سورة الحجرات، الآية 13

مقدمة

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثانية والسبعون التي عُقدت بتاريخ 08 كانون الأول/ديسمبر 2017، يوم السادس عشر أيار/ماي من كل سنة يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، مؤكدة أن يومًا كهذا هو السبيل لتعبئة جهود المجتمع الدولي لتعزيز قيم السلام والتسامح والتضامن بين الأفراد على اختلافاتهم العرقية والدينية والثقافية، ذلك أن “العيش معًا هو أن نتقبل اختلافاتنا وأن نتمتع بالقدرة على الاستماع للآخرين والتعرف عليهم واحترامهم”[1]، وقد سبق هذا الإعلان دعوات كثيرة من شخصيات مؤثرة ومنظمات حكومية وغير حكومية، منادية بحوار الثقافات والحضارات والأديان، كما عَقدت كثيرًا من المُلتقيات والندوات لدراسة ومناقشة هذه المسألة، ونشرت أعمال عديدة بخصوص هذا الموضوع الذي يعني الجميع دون استثناء، على غرار مشروع الأمل الذي أطلقه روجيه غارودي (1913-2012) في نهاية القرن الماضي، وتبني الأمم المتحدة لفكرة حوار الحضارات التي أعلنها الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، واعتماد عام 2001 عامًا لحوار الحضارات، وكذا مشروع تحالف الحضارات الذي دعا إليه الرئيس الإسباني الأسبق خوسيه لويس ثاباتيرو الذي التفَّت حوله شخصيات دولية بارزة من مختلف الثقافات وغير ذلك من المشاريع الفكرية الجادة في بحث مستقبل أفضل للعلاقة بين البشر على اختلاف تصوراتهم ومعتقداتهم، إلا أن هذه المقترحات والمشاريع لم تؤتِ أُكُلَها في الأغلب وبقيت نخبوية بعيدة عن آمال الشعوب والجماهير التي تعيش أوضاعًا تزداد بؤسًا كل يوم، وتزداد علاقاتها ببعضها البعض تباعدًا وصراعًا.

ففي مقابل الدعوات إلى الحوار والتسامح نرى في الواقع تنامي الصراعات والعنف والتمييز العنصري بسبب الدين والعرق واللغة والتوجه السياسي، لقد وصل الإنسان في العقود الأخيرة إلى قمة اللاإنسانية بتنامي العنف والجريمة المنظمة والحروب الطائفية والتدخلات العسكرية للدول الكبرى في مناطق مختلفة من العالم المُتخلف، أضف إلى ذلك مشكلات الفقر، الظلم، الفساد، إرادة الهيمنة التي تفعل أفاعيلها بالعمل على تغذية الصراعات وتعميق الخلافات متسترة تحت أغطية براقة: نشر الديمقراطية، حقوق الإنسان، حماية الأقليات إلخ.

فإلى أين يسير بنا هذا التصادم بين الثقافات والمجتمعات والدول وسوء التفاهم المتزايد بينها؟ هل سنشهد يومًا ما نهاية لهذه الصراعات التي تتعاظم أمام أعيننا في عالم أصبح قرية صغيرة -كما يقال- بفضل وسائل النقل والمعلوماتية والإعلام؟ فكأن تقارب المسافات المادية يؤدي إلى تزايد التباعد الفكري بين الناس سواء كانوا من بلدان مختلفة أو من البلد نفسها والثقافة والدين نفسهما. إن تجارب الاقتتال الدائر في بقاع عديدة من العالم، لاسيما العالم الإسلامي وما يترتب عنها من نتائج مدمرة، تدعونا إلى التفكير -ولو على سبيل الأمل- في سبل إقامة مستقبل أفضل للبشرية وتغيير مسارها من التدمير إلى التعمير ومن التصادم إلى التصالح، فكيف يمكننا جعل دواعي التقارب والتعايش أو العيش المشترك أكثر قوة من أسباب الفرقة والعداء، ما هي الخُطوات الضرورية لتعزيز السلام في مقابل النزاعات العنيفة في وقت أصبح فيه عددًا متزايدًا من الناس أقل شعورًا بالأمن، وقد غيرت الظروف الخارجية –قوى العولمة والهيمنة والتنافس على الأموال ومصادر الطاقة إلخ- مجرى حياتهم وبذلك باتوا أيضًا مُهيئين للعنف؟

أولًا، عوائق العيش معًا

في ظل الأوضاع العالمية الحالية خاصة ما تمر به منطقتنا، يبدو من غير المجدي الحديث عن فكرة العيش معًا، أو ما يدخل ضمن معناها كالتسامح أو احترام المختلف أو ما شابه ذلك، لأن العالم كله ليس على ما يُرام، العالم في أزمة، بل في أزمات مرعبة تُهدد الجنس البشري، وتُهدد السلام العالمي: الاستبداد، العنصرية، التعسف بقيم الفرد والمجتمع، استخدام العنف في التعاطي مع المشاكل السياسية والاقتصادية، إرادة الهيمنة التي تتعامل وفقها الدول الكبرى مع غيرها، ناهيك عن مشاكل التلوث البيئي، المخدرات، والتكنولوجيات المدمرة التي تظهر كل يوم، جميعها تُسهم في تكوين هذه الحقيقة المؤلمة والوضع المعقد.

وهي في مجملها حصاد ونتائج التحولات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي آل إليها المشروع الحداثي الغربي، بانحرافه عن القيم الكبرى التي وعد بها في عصر الأنوار، كالحرية والإنسانية والعقلانية وغيرها، نورد هذا الحكم بالنظر إلى هيمنة هذا المشروع الغربي على العالم مدة طويلة، وفرضه لقيمه بشتى الطرق المعلنة والمضمرة، مع التنبيه على أنه وعبر تاريخ البشرية، كانت هناك دومًا وفي كل المجتمعات، مظاهر للصراع والاضطهاد وعدم التسامح، يقول أمبرتو إيكو (1932-2016): “… وجدت دائما “مذاهب اللاتسامح” التي تنوعت أشكالها كثيرًا على مر العصور، وتباينت فيما بينها، ومنها اضطهاد الزنادقة ومطاردة الساحرات والدكتاتوريات الشمولية والأصولية الدينية (البروتستانتية أو الإسلامية أو اليهودية) ومعاداة السامية”[2]، وهذا يعني تعدد منابع العنف والصراع بين البشر وتجذرها في التاريخ البشري، ومن ثمَّ تعدد عوائق العيش الهادئ في سلام، وشمولها لمختلف المستويات السياسية والثقافية والدينية والفكرية، فهذه العوائق مبثوثة في كل المستويات: الفرد، القبيلة، المجتمع، الطائفة، الأيديولوجيا، الدولة، الأمة إلخ.

إقرأ أيضا: التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف

وإن كانت المجتمعات الغربية قد قطعت أشواطًا كبيرة في سبيل العيش المشترك وتحقيق الأمن في بلدانها والتسيير الهادئ وفي إطار القانون للخلافات التي تنشأ بين مواطنيها، عدا بعض الحالات الاستثنائية التي قد تَحدث هنا أو هناك وتنتهي في مدة وجيزة بالعودة إلى مقتضيات القانون، فمرد ذلك أن هذ المجتمعات قد استطاعت أن تصل إلى مستوى كبير من تجسيد المفاهيم التي نَظَّرت إليها الفلسفة السياسية الحديثة: المواطنة، الديمقراطية، دولة القانون، المجتمع المدني، العلمانية، العدالة إلخ.

أما إذا توجهنا شطر العالم العربي الإسلامي، فإننا نجد الأوضاع أكثر تعقيدًا من أي مكان في العالم، فالمنطقة العربية الإسلامية دائمة التوتر والاضطرابات العنيفة، خاصة مع بداية العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين، أين أصبحت كثير من البلدان العربية الإسلامية تعاني الاضطراب ومن ثمَّ الخوف (ليبيا، سوريا، اليمن، السودان، فلسطين)، من المؤكد أن أحد أهم أسباب هذا الوضع هو الصراع العربي الإسرائيلي، ومع ذلك لا يُمكن ربط كل ما يحدث من صراعات بالقضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي وحده، لأن المنطقة لم تشهد استقرارًا ولا أمنًا دائمين عبر تاريخها الطويل، كما أن كثيرًا من التوترات والصراعات ذات طابع طائفي أو عرقي موجودة داخل الدولة الواحدة.

تظهر أولى العقبات المُعيقة للعيش المشترك الهادئ في أثناء النقاشات البسيطة بين الأفراد في المقاهي  والبرامج الحوارية، حيث يستبد كل برأيه، وكثيرًا ما يتحول النقاش الهادئ إلى حرب شعواء لا تُبقي ولا تَذَرُ أي فرصة للتقارب، فيتحول المحاور إلى عدو لدود، يجب تعنيفه لرده إلى “جادة الصواب”، ومن ثمَّ يختفي كل إمكان للتعايش الآمن بين الأطراف المتصارعة، الوضع نفسه وبحدة أكبر نلاحظه في الصراع بين الطوائف في المجتمع الواحد، فكل طائفة ترى في عقيدتها “الطريق المستقيم” الذي ارتضاه الله للبشر، وكل خروج عنه هو خروج عن إرادة الله، فتشتغل ألة العنف ومحاربة “الطواغيت” دفاعًا عن طريق الله المستقيم، ويصبح الأمر أكثر عنفًا، ومن ثمَّ أكثر ابتعادًا عن إمكان التعايش الآمن، حينما يكون الخلاف في مستوى الدول، أين تشن الحروب الطاحنة التي يضيع فيها الإنسان البسيط، بسبب خلافات وصراعات لا علاقة له بها، ذلك أن الحروب كما يُقال “يُعلنها أناس يعرفون بعضهم البعض ولا يؤذون بعضهم البعض، في حين يشارك فيها أناس لا يعرفون بعضهم البعض ويؤذون بعضهم البعض”.

بالنظر إلى الواقع واستقراء ما يحدث فيه يمكن القول، أن أهم عائق هو غياب إرادة حقيقية لإقامة حوار إيجابي وفاعل، نتيجة عدم استقلال الأطراف المتحاورة في اتخاذ قراراتها، بفعل وجود قوى تستثمر في تغذية الخلافات، وتعمل لإبقاء الأمور على ما هي عليه، بل تسعى بطرق عديدة في تعميق التباعد والفرقة حتى تستمر في تحقيق مآربها المادية والاستراتيجية من هذه الوضعية.

العقبة الثانية التي تعترض سبيل نجاح هذا الطرح، هي الجهل بالآخر/الآخرين المكونين لأطراف الحوار، وهو نتاج تقوقع كل طرف داخل ما لديه، اعتقادًا منه بأن ما لديه يكفيه، دون الحاجة إلى غيره، وكل انفتاح على الآخرين يُهدد بصورة مباشرة خصوصياته وهُويته، والإنسان كما يقال عدو ما يجهل، ويترتب على الجهل بالآخر تبعات سلبية عدة: كعدم الثقة، الخوف، انتشار الأحكام المسبقة، التعصب، والتطرف إلخ، وكلها مواقف توظف في القضايا السياسية والصراع على السلطة أو الثروة، فتصبح مُنتجة للعنف في صوره ومظاهره المتعددة.

رغم هذا الوضع المعقد يبقى الأمل قائمًا، فأن “تُشعل شمعة أفضل من أن تواصل لعن الظلام”، فهذا كاتب كتاب “أعداء الحوار“، وهو مفكر ودبلوماسي إيطالي، الذي خبر الأوضاع في الواقع بدقة وعن تجربة ومعايشة عبر أسفاره الكثيرة ومهامه المتنوعة، يقول إن نقطة البدء في الاشتغال على هذا الموضوع “أتت له من التأكد غير الباعث على الاطمئنان بأن الطريق صعب جدًا، لا أقول طريق التآخي، ولكن الاحترام المتبادل بين أشخاص مختلفين، وكم يتطلب الأمر، أكثر من التلويح بمبادئ كبيرة، أن يُسهم كل منا بالقدر الضئيل الذي يقدر عليه، كي نقطع بعض الخُطوات الملموسة في هذا الاتجاه”[3].

ثانيا، مسارات في سبيل العيش معًا

ينبغي أن نُرسخ فكرة مهمة في الأذهان، وهي أن الوضعية الإشكالية التي نعيشها تخص الجميع وما يهم الجميع ينبغي أن يُشارك في صناعته الجميع، فالعالم لم ليس في حاجة إلى مزيدٍ من الصراعات والتنافس بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة بين مكوناته المختلفة فيما بينها (دول، حضارات، ثقافات، ديانات) بقدر ما هو في حاجة إلى تضافر الجهود لإعادة إنتاج وتفعيل القيم التي تجعل العالم يتسع لتجارب لا تستقر في تحددها ولا تتناهي في تنوعها، وهذا يعني أن الحلول ينبغي أن تكون جذرية، وتذهب إلى الأعماق، لأن كل إمكان لإقامة حوار أو تقارب لا بُد أن تكون مسبوقة بالتخلي عن العُدة الفكرية القديمة، وتجاوز اللغة المسلحة، لغة الإقصاء والنبذ والتهديد، يقول المفكر اللبناني علي حرب مُلخصُا ما يجب فعله من أجل حوار هادف وبناء: “يحتاج الحوار المنتج إلى تفكيك العقليات والمقولات والآليات التي تعمل لتلغيم مساعي التقارب والتضامن (…) والتفكيك يعني هنا، العمل النقدي على الذات والفكر، نسعى فيه إلى التحرر من ديكتاتورية الحقيقة المطلقة وإمبريالية المعنى الأحادي وإرهاب الأصل الثابت وخرافة الهُوية الصافية وبساطة الوَحْدة المتجانسة”[4].

في هذا النص يبدو أن القضية الأولى التي ينبغي الانطلاق منها في كل عملية تستهدف مستقبلًا آمنًا للبشرية، هي قضية ترتبط بالفرد، وبطريقة تفكيره وتعاطيه مع الواقع ومع الآخرين، بوصفها مفتوحة على الخير والشر، الإحسان والتعنيف، الاعتراف والحسد…، يقول أحد الباحثين: “في السعي نحو العيش المشترك يكون المنطلق هو رؤية النقيصة الموجودة في البشر (الطمع، التوسع، الحقد، الانانية، الاستثمار بالحقيقة، العدوان) والعمل لمعالجتها (…) عندما نعي هذه النقيصة التي تتركب منها العجينة البشرية وندرك أنها أصلية في الطبع الإنساني، يُمكن ساعتها أن نُباشر عملًا علاجيًا ووقائيا في الوقت نفسه، يضع الأسس المبدئية لبناء حصون السلام”[5]، وهو عمل لا تتحقق نتائجه بين عشية وضحاها، إنما هو اجتهاد دائم لتكريس قيم الخير وتغليبها على قيم الشر، عمل يقع جزءًا كبيرًا مهمًا منه على عاتق الدولة، بتدعيمها مفهوم المواطنة الحقيقية التي تضمن للفرد حقوقه وتلزمه بواجباته، كما أن المواطن في دولة القانون، يعرف جيدًا حدود حريته وحيز حركته ونشاطه ولا يتعداهما، لأنه يعلم عواقب ذلك، وكذا وترقية مفهوم المجتمع المدني الذي تساعد مؤسساته من طريق عملها وسيطًا بين القمة والقاعدة، على ضمان الإطار القانوني لكل أشكال الاختلاف أو المعارضة أو النقد بين المواطنين ومؤسسات الدولة·.

إقرأ أيضًا: التسامح المتبادل: هل هو شرط للتعددية؟

مرت الجزائر مع نهاية القرن العشرين بأزمة خطيرة كادت أن تعصف بالبلد وتدخله في أتون حرب أهلية، عشر سنوات من العنف والعنف المضاد، وغياب الأمن والاستقرار في البلد، خسائر بشرية فاقت مئتي ألف ضحية، وخسائر مادية تجاوزت 30 مليار دولار في تلك الفترة، صراع بين الإخوة الأعداء، تبادل لأوصاف التكفير والشيطنة بين أبناء الوطن الواحد… ولأنه لا مفر لأبناء البلد الواحد أن يعيشوا معًا، فقد ظهرت مبادرات في شكل حلول تدريجية لمعالجة الوضع، بداءة بقانون الرحمة الذي أصدره الرئيس الأسبق اليامين زروال·· في 25 جانفي/كانون الثاني 1995، ثم قانون الوئام المدني الذي أصدره الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة في 13 جويلية/تموز 1999 وقد نال موافقة الأغلبية الشعبية بعد عرضه للاستفتاء الشعبي في 16 ديسمبر/كانون الأول 1999، وأخيرًا قانون السلم والمصالحة الوطنية الذي أعلنه الرئيس بوتفليقة في 28 فيفري 2006، بعد موافقة أغلبية المواطنين على هذا القانون في استفتاء عام 2005، وكان الهدف الأساسي لهذا القانون، بما تضمنه من بنود (عفو، إخلاء مسؤولية، تعويضات مادية، رد حقوق مدنية) هو إنهاء الأزمة الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد، وعودة المواطنين إلى العيش معًا في أمن، وهو ما تحقق فعلًا، نسرد هنا بعض وقائع التجربة الجزائرية، لأنها تجربة طويلة ومريرة وبخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ومع ذلك تجُوِزَت هذه الأزمة حين توفرت الإرادة واقترحت الحلول والمسارات التي تسمح بهذا التجاوز، ونتيجة الآثار التي عانتها الجزائر جراء هذه الأزمة، ومعرفتها العميقة بالتأثيرات الكارثية للصراع وغياب الأمن في المجتمع، فقد كانت وراء مقترح الاحتفاء باليوم العالمي للعيش معًا الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2017.

يتحمل الفكر السائد في مجتمع معين مهما كانت سمته البارزة (دينية أو علمانية أو أية أيديولوجيا) حين يتصلب وينغلق على ذاته مسؤولية ما يطرأ على ذلك المجتمع من صراعات وعداء بين أفراده، فحين يرى أتباع ذلك الفكر أن طريقهم هو الطريق الوحيد الصحيح الذي يُحقق التنمية أو السعادة أو الخلاص البشر، ومن ثمَّ فكل الطرق الأخرى غير صحيحة ولا تؤدي إلى الغاية، وهو ما يفتح مجال ردود الفعل من الأطراف الأخرى، في شكل مقاومة أو تمرد أو عصيان إلخ، فمثلما تتحمل الحركات الدينية مسؤولية كثيرٍ من أعمال العنف التي تحدث في مجتمعاتنا، يتحمل الفكر العلماني هو الآخر بالدرجة نفسها مسؤولية اللجوء إلى العنف من معارضيه حين يصبح متطرفًا، فتتحول معه العلمانية “إلى دين جديد” وطريق أوحد للمعنى، وتكون نتيجة ذلك ازدراء الأديان والانتقاص من الرموز والممارسات الدينية والتضييق على المتدينين مما يفتح المجال لردود فعل هؤلاء التي قد تصل إلى درجة اللجوء إلى العنف، وهو رد فعل طبيعي بالنظر إلى تطرف الفعل.

هناك ضرورة ملحة وإمكان متاح إذا توفرت الإرادة الكافية، للتعايش أو العيش معًا مع إمكان بقاء كل فرقة أو مِلَّةٍ محتفظة بآرائها الخاصة، وبإدراكها الخاص للحقيقة، شريطة اقتناعها أنها ليست أكثر من مقاربة واحدة ضمن مقاربات عديدة ممكنة، من منطلق الاعتراف بإمكان تَكَثُّر الأفهام الدينية، يقول أحد الباحثين: “الأديان المختلفة هي وجوه متفاوتة للتجربة الدينية ظهر كل واحد منها في مقطع خاص من تاريخ البشر ووجد كل منها معتقداته العقلية داخل فضاء فكري مختلف”[6]، وعليه ينبغي النظر إلى البحث في مسألة التعددية الدينية لا على أنه بحث لتعيين الحق والباطل، ولا بحثًا كلاميًا لإثبات أحقية دين معين في احتكار الحقيقة، بقدر ما ينبغي النظر إليه على أنه بحث يهدف إلى خلق تعايش آمن وتفاعل إيجابي بين الأشخاص على اختلاف معتقداتهم وتصوراتهم بتدعيم القيم والمصالح المشتركة.

يجب دومًا أن نفتح نافذة على الآخر، ونتأمل آراءه التي تختلف مع آرائنا، ونكون دومًا مستعدين لمراجعة آرائنا وإعادة رسم تصوراتنا، لأنها مقاربات ممكنة فقط، وقد تكون مقارباتنا خاطئة، كما قد يكون الآخر على حق، لذلك يقترح محمد شوقي الزين أن يكون الشعار الأمثل للعيش المشترك هو: “يمكن أن يكون الآخر على حق“، ويُضيف: “التعايش هو دائما الاشتراك في قيم مبدئية، إنسانية في جوهرها تتعدى حدود “الأنا الضيقة” نحو “الأنا الأخرى” المُنعكسة في مرآة الآخر، فهو إذن عيش مشترك تلتئم فيه ذوات بالقناعة الراسخة أنها تقتسم قيمة واحدة مبدئية على الأقل هي القيمة الإنسانية”[7].

خاتمة

إننا أمام إشكالية معقدة، ولكن طرحها ضروري في الوقت نفسه، لذا لا بُد من تراكم الاقتراحات والرؤى والحلول، وتوفر إرادة تطبيقها، والصبر عليها حتى تنعكس نتائجها على أرض الواقع مستقبلًا، فإذا ضاق بنا الحاضر ولم يستجب لطموحاتنا، يبقى أملنا في المستقبل الذي قد يتسع ويستجيب لها. قد يكون من الصعب تغيير مسار البشرية من الصدام والصراع إلى التعايش والتواصل، ولكن أول الغيث قطرة -كما يُقال- والبداءة تكون من ضرورة رفض واستنكار كل عنف ضد البشر سواء كان باسم نشر الديمقراطية أو حماية الأقليات، أو كان باسم الله أو باسم الدين! إذ لا يوجد سبب أو سلطة سياسية أو دينية تستطيع تبرير هذا الفعل الشنيع، ولا بُد أن نحتج ضد كل ممارسة للعنف على الأشخاص بسبب انتمائهم الديني، وضد كل مسٍّ بحرياتهم الدينية وبحقوقهم الإنسانية، حتى نتمكن من بلوغ المرحلة التي تتعايش فيها كل المعتقدات دون أن ترغب إحداها في القضاء على الأخرى أو السيطرة عليها، يُلخص علي حرب المنهج الملائم للحوار الفاعل في ضرورة تبني الفكر التركيبي الذي يُسهم في الانفتاح على الواقع بتعقيده، ويسمح بالاعتراف بحرية الآخر وحقه في الاختلاف، واعتماد الفكر التواصلي الذي يُمكن التخلي عن عقلية الفصل الحاسم والثنائيات الخانقة والتعامل مع الآخر لا بوصفه ضدًا، بل شريكًا نستفيد منه ونفيده، ونغير بعضنا البعض بصورة متبادلة نحو الأحسن.[8] ومعنى ذلك أنه لا بُد من الإيمان بالاختلاف وحق الآخر في التميز، والحقيقة أن الاختلاف يجد مبرره حتى في النصوص المقدسة، فلو شاء الله لجعلنا أمة واحدة، ولكنها سنة الله في خلقه.

إن إقرار حق الآخرين في الاختلاف ينبغي أن يتدعم بتجنب إثارة المسائل الخلافية التي لا طائل من بحثها، عدا أنها تخلق التوتر وتُنتج العداء، وقد أثبتت التجارب فشل كل اللقاءات والندوات التي عُقدت سواء بشأن حوار الأديان أو التقريب بينها، وحتى بخصوص التقريب ين المذاهب داخل الدين الواحد، هذه اللقاءات التي قد يسود أشغالها جو ودي وتبادل للابتسامات والمجاملات السطحية، ولكن بعد اختتامها يعود كل طرف إلى معسكره دون أن يتغير تفكيره تجاه الآخر قيد أُنْمُلة كما يُقال، وفي المقابل ينبغي التركيز في المسائل الحياتية المشتركة وتدعيمها لتكوين قاعدة أساسية لترقية الحوار وتفعيله في التقريب بين المواقف المختلفة، فالإنساني المشترك ينبغي أن يكون أرضية لتطوير الحوار بين الأطراف على اختلافها، وهذا بتحويل موضوع الحوار من العقائد إلى شؤون الحياة ومقتضيات العيش المشترك، بلغة أخرى؛ ينبغي تطوير الحوار الحياتي بدلًا من الحوار العقائدي.

إن نجاح الحوار وتقارب المواقف، لتوفير إمكان العيش المشترك الآمن في ظل التعدد والاختلاف في الرؤى والمعتقدات، يمكن أن يتم من طريق تحول الحوار من النخبة إلى الجماهير، وهذا التحول يقتضي تدعيم الفكر النقدي الذي يمارسه “المفكرون على التخوم” بتعبير حسن حنفي (1935-2021) وهم المفكرين الذين يملكون معرفة موضوعية جيدة بخصوصيات كل طرف من الأطراف المختلفة، والذين يُمكن عدهم وسطاء بين الحضارات أو الديانات أو الثقافات، ويُمكن لوساطتهم الفكرية أن تُسهم في تغيير الرؤى وزحزحة المواقف وتقديم صورة موضوعية تعرف كل طرف بحقيقة الطرف الثاني، مما يُساعد على ردم هوة التباعد بين الأطراف، ويُقلل درجة الخوف من الآخر، ومن ثم فتح آفاق العيش المشترك.

الإحالات:

[1] الموقع الإلكتروني لمنظمة الأمم المتحدة.

[2]  مايكل أنجلو ياكوبوتشي: أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره، ت: عبد الفتاح حسن، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2010، تقديم أمبرتو إيكو، ص 16.

[3]  المرجع نفسه، ص 25.

[4] علي حرب: حوار الثقافات والخروج من المأزق: تمرس في سياسة معرفية جديدة – حوار- (المنطلق الجديد، العدد 03، بيروت،

[5]  محمد شوقي الزين (وآخ): ثقافة العيش المشترك(أعمال مؤتمر)، الجزائر: منشورات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، 2018، ص 06.

  • لأكثر تفاصيل حول القيم الإنسانية المقتضيات السياسية للعيش معا، انظر مقالنا المنشور على موقع تكوين بعنوان: الأنسنة أفقا للتعايش الآمن من خلال أعمال محمد أركون.
  • · حكم الرئيس اليمين زروال الجزائر في الفترة بين 1994-1999، كرئيس للدولة أولا ثم رئيسا للجهورية، نظم انتخابات رئاسية مسبقة دون أن يترشح فيها، وخلفه عبد العزيز بوتفليقة من عام 1999 إلى عام 2019.

[6]  علي ربانب كلبايكاني: التعددية الدينية: كثرة في مقابل وحدة أم كثرة في الوحدة؟ (المنطلق الجديد، العدد 03، بيروت، 2001) ص 186

[7] محمد شوقي الزين: مرجع سابق، ص 11.

[8] علي حرب: مرجع سابق.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete