تكوين
“لو كان الاقتصاد علمًا بحق، لتحولنا نحن البشر إلى محض روبوتات”
المؤرخ الاقتصادي الأمريكي روبرت هيلبرونر
مقدمة
الاقتصاد، ذاك البريء الذي بدأت حكايته بوصفه وسيلة لمساعدة الإنسان على العيش، وكانت غايته تحقيق سعادة الإنسان وهنائه، سرعان ما تحول من وسيلة إلى غاية في ذاتها، بل وسُخِّر الإنسان ليكون جزءًا من تروسه العاملة. وهكذا تحوَّلت المعادلة إلى سعي محموم نحو الربح المطلق، وتحول الإنسان إلى أجير يرهن عمره وحياته في مقابل حاجاته الأساسية الأولى، تلك التي كان يحصل عليها ببساطة وبحرية كبيرة في بداية الأمر.
فمنذ أن وُجد الإنسان في الأرض وهو محاط بموارد طبيعية تضمن بقاءه، إلا أنه سرعان ما أدرك محدودية هذه الموارد، فعمل على إدارتها ووضع قواعد تنظم هذه الإدارة بالتعاون مع الآخرين. وحين ظهر الاقتصاد بمعناه الفطري البسيط، كان يُعنى بإدارة الموارد واقتسامها بين الناس، سعيًا في تحقيق العدالة والمساواة. وكانت ممارسته بسيطة يفهمها ويقدر عليها أي فرد، لكن مع مرور الوقت تطوّر هذا المفهوم إلى ما نعرفه اليوم بـ “علم الاقتصاد” الذي يَعني إدارة موارد المجتمعات وثرواتها، وتحقيق العدالة والرفاهية، والتحكّم في المواد الخام، وتنظيم العمل، وتوزيع الثروات.
وهنا لم يعد هذا العلم في متناول الجميع، بل أصبح حكرًا على قلة من المتخصصين؛ الاقتصاديين.
في كتابه “فلسفة الاقتصاد: مختارات” (1984)، يُحلل دانييل هاوسمان([1]) Daniel M. Hausman (1947-…) نشأة “علم الاقتصاد”، وما أثاره من جدل فكري منذ القرن الثامن عشر، بل وحتى في ذروة ازدهاره في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
فقد قدّم الكتاب مجموعة مختارة من أبرز النصوص التي تناولت فلسفة الاقتصاد، بدءًا من الكلاسيكيات المؤسسة، وصولًا إلى التيارات المعاصرة ومناظراتها الحيّة، مُسلطًا الضوء على الصراع بين المدارس الاقتصادية المختلفة: من الكلاسيكية إلى الكينزية والنمساوية وصولًا إلى الماركسية. في محاولة لإيجاد جوهرًا بنيويًا مشتركًا يجمع بين الاتجاهات الاقتصادية المتعددة.
إلا أنه لاحظ أنه وعلى الرغم من أن “علم الاقتصاد” يقوم على مسلّمات تبدو بدهية، ويُبنى عليها نماذج رياضية ومعادلات رقمية محكمة، إلا أن لغة الأرقام التي يعتمدها كثيرًا ما تتضارب مع الواقع، ولا تعكس تعقد التجربة الإنسانية أو تعقيدات التطبيق الفعلي، فنجد أن بعض السياسات أو الحلول الاقتصادية تبدو من منظور لغة الأرقام واعدة ومثالية، لكنها عند التطبيق تُنتج واقعًا مغايرًا تمامًا، إن هذا واقع نعيشه جميعًا، وليس في حاجة إلى التنظير لإثباته، فآثار التدهور الاقتصادي باتت جلية ومؤلمة للجميع. ومع ذلك حينما تُعرض خطط الإصلاح الاقتصادي والمشاريع الاقتصادية الكبرى باستخدام الأرقام والرياضيات، يبدو لنا المشهد واعدًا للغاية. إلى أن نصل إلى مرحلة التنفيذ الفعلي، حتى نصطدم بنتائج مربكة جدًا، وهنا يتردّد في الذهن المثل المصري العفوي: “أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب.”
لهذا يوضّح هاوسمان أن صفة “العلم” التي أُضيفت إلى الاقتصاد منحته مكانة وهيبة في الوعي العام، ليس لكونه مجالًا معرفيًا، وإنما كونه سلطة اجتماعية. فقد أكسبته هذه الصفة احترامًا واسعًا، ووهبَ من يعملون في مجاله شهرةً ونفوذًا، بل ورفع من أجور مستشاريه ومحلّليه، وجعل مسألته عسيرة، لكن هل هو فعلًا علم بالمعنى الدقيق للكلمة؟
يعتقد هاوسمان أن إضفاء صفة العلمية نفسها كانت أحد الأسباب لتعقداته المتزايدة، إذ جعله ذلك ينأى شيئًا فشيئًا عن الإدراك العام، حتى بات حكرًا على المتخصصين، واستُبعد الإنسان العادي من فهم آلياته أو مساءلة مسلّماته، فهو “علم” والعلم له رجاله. وقد خلق هذا توترًا وفوضى كبيرين عاشهما الإنسان شرقًا وغربًا، إذ يستمع إلى المسؤولين الاقتصاديين وهم يعرضون خططهم الاقتصادية الواعدة، وسط رهبة الأرقام العلمية الدقيقة والنتائج الباهرة، إلا أنه في النهاية لا يحصد سوى خيبة الأمل، ورغم بؤسه لا يجرؤ حتى على المناقشة، فهو ليس متخصصًا، والتبعات الاقتصادية تتطلب قدرًا كبيرًا من الفهم والتحليل. وهكذا بات يشعر بتناقض داخلي يملأ وجدانه، لكنه لا يملك الجرأة على العصيان، إذ يصدر لنا “علم الاقتصاد” صورة المتماسك الحكيم الذي يستند إلى الرياضيات ولغة الأرقام الدقيقة، في حين نظل نحن كقطط تموء خلف جدارٍ صلب لا يُسمع لصوتها صدى.
ورغم هذا الغموض فإن “فلسفة الاقتصاد” تفتح أفقًا واسعًا للنقاش، إذ تعيد مساءلة الأسس، وتطرح تساؤلات عميقة بشأن الغايات، وتُقرّب الاقتصاد من الفهم الإنساني، وليس هذا فحسب، وإنما تُعيد إليه طابعه الأخلاقي الذي فُقد تحت ركام الأرقام والنماذج المجردة.
لذا سنحاول في هذا المقال -وانطلاقًا من تحليلات هاوسمان– زعزعة الهالة العلمية التي أحاطت بـ “علم الاقتصاد”، وتفكيك البنية “العلمية الصلبة” التي يزعمها، لا رغبة في النيل منه، بل لإعادة النظر في مسلّماته وموقعه من التجربة الإنسانية، حتى نُبرز أهمية ربط الاقتصاد بالأخلاق والفلسفة السياسية، علّنا نُزيح ولو قليلاً سطوة الأرقام والمعادلات، لتتجلّى الصفات البشرية التي غُيّبت طويلًا خلف جدران النماذج المجردة.
1- نتائج سريعة من مقدمات غير موثوقة
يستحضر هاوسمان مقولة توماس لوف بيكوك Thomas Love Peacock (1785–1866) الروائي البريطاني الساخر، في روايته “قلعة كروتشيت” Crotchet Castle (1831)، التي قدم فيها بأسلوب ساخر، حوارات بين شخصيات تُمثّل أطيافًا فكرية متنوعة، من علماء واقتصاديين إلى فلاسفة ورجال دين، مما يعكس جدلية الصراع بين هذه التيارات داخل سياقٍ أدبي ساخر، ثم ينتقد بيكوك التفكير النظري التجريدي والادعاءات الزائفة للعلماء والحماقات الكامنة وراء بعض النظريات الاقتصادية والاجتماعية في عصره، فيقول ساخرًا من الأسس التي يعتمد عليها الاقتصاديون وينطلقون منها بثقة ودعم كبيرين: “مقدمات منطقية وُضعت دون أدلة كافية، ورغم غياب الأدلة، استُخلصت منها نتائج منطقية تُلزم عنها، لذا لا بُد وأن تكون هذه النتائج خاطئة بالضرورة.”([2]) وجد هاوسمان في هذه العبارة وصفًا دقيقًا لما يُمارسه كثيرٌ من الاقتصاديين، إذ ينطلقون من مقدمات وافتراضات يُعاملونها بوصفها مسلّمات لا تحتاج إلى نقاش أو برهان، ثم يبنون عليها نتائج ومعادلات رياضية دقيقة في ظاهرها، لكنها قد تكون هشة في جوهرها، بسبب هشاشة الأساس الذي قامت عليه.
وهنا، تكمن الإشكالية التي تتلخص في غياب المساءلة عن تلك الافتراضات الأولى، وعن السبب الذي جعلها تُعتمد كونها “بدهيات” فوق الشك. ولعل في هذا التهاون الفلسفي بداءة الخيط الذي أدى إلى القطيعة المتزايدة بين الاقتصاد والواقع، وبين النماذج الذهنية وما يعيشه الإنسان فعليًا في مجتمعه اليومي.
في الواقع كثيرًا ما تتضارب المصلحة الاقتصادية مع مصلحة الإنسان، ففي الوقت الذي يُقال فيه إن الاقتصاد يزدهر وتتعاظم فيه أرباح رأس المال، نجد أن الوضع الإنساني يتردّى، فتزداد البطالة وتندر فرص العمل ويتدنى مستوى المعيشة.
هذه التناقضات الصارخة تكشف عن خللٍ بنيوي مُقيم: فكيف يُعقل أن يزدهر الاقتصاد، في الوقت الذي يعاني فيه الإنسان؟ لذا لا بُد أن نُعيد طرح السؤال الجوهري: ما طبيعة هذا “الازدهار”؟ ولمصلحة من يعمل؟ وإذا كنا نعيش في عصر من التقدّم التِقْني غير المسبوق، ونمتلك مفاتيح المعرفة لكل شيء تقريبًا، فلماذا يواصل الاقتصاد البيئي Environmental Economics إطلاق إنذاراته عن خرابٍ محتمل واختلالٍ في التوازن وانهيارٍ في النظام البيئي؟ كل هذه التناقضات تُشير إلى خلل في الأساس النظري، وإلى عطبٍ في الافتراضات التي بُنيت عليها النماذج الاقتصادية المعاصرة.
فتلك المعادلات الرياضية المعقّدة التي تُنتج أرقامًا تدير بها المؤسسات حياتنا اليومية، ما هي إلا انعكاس لتصوّرات أولية، كثيرٌ منها — كما يؤكد هاوسمان — قُبلت دون دليل كافٍ، ثم بُنيت عليها نتائج منطقية إلى درجة أنها لا بُد أن تكون خاطئة في أصلها.
وهنا يتجلّى دور الفلسفة بوصفها الأداة النقدية القادرة على مساءلة تلك الافتراضات وتفكيكها وإعادة النظر فيها من منظور أخلاقي وإنساني.
2- مساءلة فلسفية للمفاهيم الاقتصادية
يرى هاوسمان أن “علم الاقتصاد” ظل موضع جدل منهجي منذ نشأته، بل وحتى في ذروة ازدهاره، فرغم انطلاقه من مسلّمات تبدو في ظاهرها بدهية، مثل: “الأفراد قادرون على ترتيب البدائل وفقًا للأفضلية”، أو “الأفراد يختارون ما يفضّلونه أكثر”، إلا أن هناك مقدمات أخرى تُعتمد في النماذج الاقتصادية تُعد أقرب إلى التبسيط الشديد منها إلى الواقع، مثل: “السلع قابلة للتقسيم إلى ما لا نهاية”، أو “الأفراد يمتلكون معلومات كاملة عن السوق”([3])
هذه التبسيطات — رغم ما تضفيه من تماسك رياضي للنظرية — تُفرغ الاقتصاد من صلته بالعالم الحقيقي، وتُحيله في كثير من الأحيان إلى بناء نظري معقّد، لكنه مجرّد، يبتعد عن وصف الواقع الإنساني بكل ما فيه من تناقضات وحدود وعدم يقين.
كل هذا دفع الفلاسفة وعلماء الاجتماع، بل وحتى الناس العاديون إلى التساؤل بفضول متزايد عن طبيعة الاقتصاد بوصفه تخصصًا فكريًا، وعن مدى مصداقية ادعاءاته. فيبدو أن الاقتصاد في كثير من صوره، يقول شيئًا ويفعل نقيضه… وهنا تظهر الحاجة إلى “فلسفة الاقتصاد” بوصفها أداة لفهم هذا التناقض وكشف زيف المسلّمات حين تُفرَغ من مضمونها الإنساني.
تنطلق هذه الفلسفة من المبادئ الأساسية التي تجعل الإنسان ومصلحته في قلب العملية الاقتصادية، لا محض تابع لقيم السوق أو لرأس المال، وذلك لأن نشأة الاقتصاد في أصلها، لم تكن مدفوعة برغبة في تنامي رأس المال المطلق، بل جاءت لتنظيم حياة الإنسان، وتوفير سبل راحته وهنائه، وضمان الحد المعقول من الاستقرار والكرامة في معيشته. لكن بمرور الوقت انحرفت الغاية، وتحوّلت الوسيلة إلى هدف، فانقلب الميزان.
وانطلاقًا مما سبق يرى هاوسمان أنه كي نفهم الاقتصاد فهمًا جيدًا، فالأمر لا يتطلب أدوات رياضية ونماذج حسابية دقيقة فحسب، وإنما أيضًا وبجدية مساءلة فلسفية عميقة بشأن المفاهيم والأسس التي يُبنى عليها هذا العلم، ومدى واقعيته ومصداقية طروحاته.
تهتم فلسفة الاقتصاد Philosophy of Economics بمناقشة المفاهيم الأساسية المرتبطة بالاقتصاد، مثل: العدالة وتوزيع الثروة والحرية. وتسعى في ربط الاقتصاد بالفلسفة السياسية والأخلاق، خصوصًا في تحليل آلياته وتأثيره في المجتمع. ومن طريق فلسفة الاقتصاد يمكننا مراجعة المفاهيم الأساسية والمنهجيات والافتراضات والأهداف التي يقوم عليها “علم الاقتصاد”، ثم التطرق إلى التساؤلات الأخلاقية والسياسية المرتبطة بالنشاط الاقتصادي الحالي. ففلسفة الاقتصاد لا تقتصر على تحليل النظريات الاقتصادية فحسب، وإنما تتعامل مع الأسئلة الفلسفية التي تثيرها هذه النظريات، والانعكاسات التي تتركها على واقعنا المَعِيش، مثل: ما هي طبيعة الثروة؟ وما هي حدود الثراء؟ ودور الدولة في تنظيمه؟ كيف نفهم العقلانية في القرارات الاقتصادية؟ وما هو العدل في توزيع الموارد؟
هذه التساؤلات ليست جديدة، بل قديمة قدم الفلسفة ذاتها، فقد تناولها الفلاسفة الكبار منذ العصور القديمة. ففي محاورة “الجمهورية“، ناقش أفلاطون موضوع “الملكية الخاصة” فقد رفض فكرة تملك طبقة الحكام، مُحذّرًا من أن هذا التملك قد يولّد لديهم رغبة محمومة لحب التملك في المطلق وتنمي لديهم شعور المصلحة الشخصية التي تُثير أهواءهم، وتدفعهم إلى نسيان الهدف الأساسي، وهو إدارة الموارد وتنمية الدولة.
على النقيض من ذلك نجد أرسطو الذي قبِل بفكرة الملكية الخاصة، مبررًا ذلك بما نقوله نحن إن “لكل مجتهد نصيب“. وفي رأيه يجب أن يحصل من يعمل ويخطط على ثمرة أعماله، ويتملك ما يشاء، ما دام هو من ثمار عمله، وليس من حقنا فرض الوصاية على أحد.([4])
ويبدو أن أفلاطون كان يرى في رغبة التملك قوة مدمّرة تحوّل الإنسان إلى أداة لجمع الأموال، وهو جمع لا يتوقف ولا ينتهي، بل يجعل الإنسان يلهث باستمرار وراء المزيد. ربما كان أفلاطون قد فطن إلى هذه الآلية النفسية التي تتحوّل فيها الرغبة في التملك إلى مفسدة لروح الإنسان وضميره. وإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر، نجد أن هذه الحكمة ما تزال سارية على عديدٍ من الطبقات الاقتصادية التي تملك رأس المال والسيطرة على الموارد، فنجد قلة من الأفراد في عالمنا المعاصر يهيمنون على الثروات، وأغلبهم مجنونون بجمع المال ومضاعفته، لا يعيرون أي اهتمام للعدالة أو رفاهية البشر الآخرين، بل يظل منطق الربح المحموم هو المعيار الوحيد لكل عملهم.
ولعلنا نرى في هذا الميل المحموم نحو المال فسادًا رُوحيًا يطال الإنسان في جوهره، ويجعل أهدافه بعيدة عن الإنسانية. فمن هنا تبرز الضرورات الإنسانية لإعادة التفكير في هذا النظام الذي يشوّه طموحات الإنسان، بدلًا من أن يُنميها.
وما تزال الأسئلة تتصاعد وتتجدد وتتفرع إلى تفصيلات جديدة، فنحن اليوم نواجه تساؤلات معاصرة تناقش الوضع الراهن الذي لا يخفى على أحد مدى السوء الذي طال الجميع وطال الكوكب نفسه. ففي توقيت كتابة هذا المقال صدرت عن الرئيس الأمريكي قرارات اقتصادية هزّت العالم شرقًا وغربًا، حتى وصفها بعض الاقتصاديين بأنها تشبه ‘الحرب العالمية الثالثة’ التي تُعيد تكوين القوى الاقتصادية العالمية من منظور رجل واحد فقط، ولمصلحة واحدة مزعومة. لقد تجاوز الأمر حدود التدابير الاقتصادية وآثارها الاجتماعية، ليُهدد الوضع الإنساني برمّته.
3- أسئلة معاصرة
نمت الأسئلة المعاصرة وتصاعدت حتى باتت تعيد طرح أفكارها الأولى حول مفاهيم العدالة والحرية. فقد أصبح من الضروري إعادة تعريف العدالة، ومراجعة أسباب عدم المساواة في الأجور، واختلاف البنية المؤسِّسة للعمل، كما أصبحت التساؤلات بشأن المعايير الأخلاقية لسياسات الضرائب والرعاية الاجتماعية أكثر إلحاحًا، إلى جانب الأسئلة البيئية مثل: كيف نُقيِّم التكاليف البيئية للنمو الاقتصادي؟
ولا تقف المسألة عند هذا الحد، بل تظهر تساؤلات جديدة تفرضها طبيعة المرحلة، مثل: ماذا عن الاقتصاد الرقمي الذي يعيد خلق قواعد اللعبة؟ وما هي القاعدة الأساسية أو الافتراضات التي يمكن عدها بدهية بحق؟ ما الغاية الحقيقية من النشاط الاقتصادي؟ هل هي زيادة النمو أم تحقيق السعادة الإنسانية؟ كيف نُوازن بين الكفاءة والعدالة بين مصلحة الإنسان ومصلحة الطبيعة؟ حتى بات السؤال المطروح اليوم: هل نُراهن على بقاء النظام الاقتصادي أم بقاء الكوكب؟ وهل هناك أمل في بناء اقتصاد يعمل في ضوء قيمنا الأخلاقية والاجتماعية؟
يقدّم المؤرخ الاقتصادي الأمريكي روبرت هيلبرونر Robert L. Heilbroner (1919-2005)، مدخلاً سلسًا لفهم تطوّر الفكر الاقتصادي في التاريخ، ويوضح كيف تكونت الأفكار الاقتصادية التي تحكم عالمنا اليوم، كما يستعرض حياة أبرز الفلاسفة الاقتصاديين وأفكارهم الذين صاغوا نظريات غيّرت العالم، بدءًا من آدم سميث وحتى جون مينارد كينز. ومن طريق تتبّع مراحل نشأة الأفكار الاقتصادية ونموّها، يمكننا أن نضع أيدينا على مكامن الخلل. ففي كتابه “فلاسفة دنيويون: حيوات وأزمنة وأفكار أعظم المفكرين الاقتصاديين” (1953)، يركّز هيلبرونر على سِيَر مفكّري الاقتصاد العظام وأفكارهم في سياقاتهم التاريخية، مع شرحٍ لكيفية ارتباط نظرياتهم بالتحديات الاجتماعية والسياسية لعصورهم.
كما يُبرز من طريق ذلك أن كل نظرية جديدة لا تنشأ من فراغ، بل يؤثر فيها السياق الذي تنشأ فيه، وهو ما يسهم بوضوح في فهم أعمق للمسار الذي سلكه الاقتصاد حتى يومنا هذا.
قدّم هيلبرونر تحليلات تربط بين التاريخ والفكر الاقتصادي، موضحًا كيف وُلدت النظريات الاقتصادية لتكون ردود فعل على أزمات محددة، ويُبرز على سبيل المثال السياق التاريخي والفكري لكتاب “رأس المال” لكارل ماركس، الذي انتقد فيه النظام الرأسمالي وتنبأ بانهياره، متناولًا تأثير الصراع الطبقي في تكوين التاريخ الاقتصادي. وكذلك “الكساد الكبير” The Great Depression الذي بدأ في الولايات المتحدة حين انهار سوق الأسهم في أكتوبر من عام (1929)، فيما عُرف بـ”الثلاثاء الأسود“، وبالطبع أثّر ذلك في العالم بأسره بفضل الترابط الاقتصادي الدولي -وهو ما يعاود الكرّة الآن أيضًا- لذا يربط هيلبرونر بوضوح بين الأفكار الاقتصادية والتحولات الاجتماعية والسياسية، مؤكدًا أن الاقتصاد ليس علمًا مجردًا، بل هو نتاج لتفاعل الإنسان مع الموارد والقيم والنظم الأخلاقية.
أما عن البُعد الأخلاقي الذي تناوله الكتاب، فقد أبرز هيلبرونر أسئلة جوهرية بخصوص العدالة وتوزيع الثروة، مشيرًا إلى أن الفلاسفة الاقتصاديين لطالما سعوا في الإجابة عن السؤال المحوري: “كيف نعيش معًا في نظام اقتصادي عادل؟([5])
4- الاقتصاد بين جوهره التفسيري ووهم الحرية
يقترح هيلبرونر أنه من الأفضل أن نعود إلى البداءات، لنُذكّر أنفسنا بـ”ماهية الاقتصاد” في جوهره. فمن الضروري التأكيد أن الاقتصاد ليس نقاشًا بشأن الأرقام أو التوقعات أو البيانات الحكومية التي تشكّل محتوى الأخبار الاقتصادية اليومية فحسب. “إنما الاقتصاد في جوهره، نظامًا تفسيريًا، يسعى في إلقاء الضوء على كيفية عمل هذا الكيان الاجتماعي المعقّد الذي نُطلق عليه اسم “الاقتصاد” — ومن ثم مساعدتنا على فهم مشكلاته وآفاقه”([6])
كما يُبرَّر هيلبرونر الاستخدام المفرط للرياضيات في الاقتصاد المعاصر بطبيعة العصر المتسارعة، وبالكمّ الهائل من المعلومات التي يتعيّن على الاقتصاد التعامل معها، مما يجعل من الرياضيات قاعدة يُمكنه الاستناد إليها بثقة. فليس استخدام الرياضيات المتزايد هو التحوّل الحاسم في اقتصاد اليوم، بل إن الأرقام باتت حاضرة بقوة في أي نظام اجتماعي يقوم على التكنولوجيا الحديثة، إذ إن جميع الأنظمة الصناعية تُنتج وتستهلك كميات ضخمة من البيانات الكمية، وهو أمر لم يكن من المتخيَّل حدوثه قبل ظهور الإنتاج السريع والتواصل الفوري. لقد أصبحت اقتصادات اليوم أكثر ترابطًا وتداخلاً، ما جعل من الإحصاء والرياضيات جزءًا لا يتجزأ من صُلب الاقتصاد الحديث.
من الغريب أن هيلبرونر، في الفصل الأخير من كتابه والمعنون “”The End of the Worldly Philosophy” يحلل الأنظمة الأولية لما نسمّيه “الاقتصاد الفطري“، ليصل إلى نتيجة مفادها أن هذه الممارسات لا يمكن عدها “اقتصادًا” بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنها كانت قائمة على التبادل المباشر للسلع أو تُمارَس بتوجيه من سلطة مركزية، كفرعون الذي أمر ببناء الأهرامات أو زعيم القبيلة الذي يوجّه الجماعة. لقد كان النظام الاقتصادي حينها يُدار وفق نموذج يُطلق عليه هيلبرونر نموذج القيادة (Command system)، فتصدر الأوامر من الأعلى ويُنفذها الآخرون دون اختيار حر.
بينما الاقتصاد بشكله الفعلي، بدأ فقط عند زوال هذه القيادة المباشرة، وظهور نسق جديد يُدار عبر آليات السوق الحرة، يُجمع فيه المال والتجارة بحرية، وهو ما مهّد لظهور الرأسمالية الحديثة، التي تقوم على افتراضات ثابتة منذ نشأتها، أبرزها: حرية السوق وحق رجل المال في تعيين العمال وفق شروطه الخاصة، على أن يكون العامل “حرًا” في القبول أو الرفض، دون إجبار أو تعنيف مباشر كما كان الحال مع بناة الأهرامات أو تحت سلطة الإقطاعيين. “فهم لا يملكون حقّ تجنيد القوة العاملة بالعنف، ولا القدرة على معاقبة العمال المقصّرين بالعنف الجسدي”([7])
لكن يا له من تفسير عجيب حقًا! فواقع الحال يُظهر أن قوة رأس المال قد وُضِعت في يد قلّة متحكمة، تُحدّد الشروط وتفرضها بطريقة تُضيّق مساحة الفعل والاختيار، فتفرغ “الحرية” من معناها الحقيقي. بل إن هذه السلطة قد تكون أكثر قسوة من سلطة القيادة القديمة، ففي حين كانت القيادة التقليدية –رغم تسلطها غالبًا– تسعى أحيانًا في تحقيق مصلحة الجماعة ككل، فإن النظام الرأسمالي الحديث يعيد توزيع المنافع لصالح قلة تملك وتحتكر، دون أي حساب للمجتمع الذي يدَّعي الاقتصاد خدمته.
5- نزع صفة العلمية عن الاقتصاد
طرح هيلبرونر إشكالية في منتهى الخطورة، فهو يميل إلى عدم وصف الاقتصاد “بالعلم”، مُبررًا ذلك بإن الاقتصاد لا يمكن مقارنته بالعلوم الفيزيائية الدقيقة مثلًا، لأنه يتعامل مع قوى الطبيعة البشرية المتغيرة باستمرار والدقيقة أيضًا “فنحن نتحدث عن قوانين الفيزياء أو الكيمياء بوصفها تصف سلوك الإلكترونات أو الميزونات التي يدرسها العلماء، لكن هناك هوّة لا يمكن جسرها بين سلوك هذه العناصر الطبيعية وسلوك البشر الذين يُمثلون موضوع الدراسة في العلوم الاجتماعية… لا يمكن فهم السلوك البشري دون مفهوم “الإرادة الحرة” — تلك القدرة غير القابلة للتنبؤ على تغيير آرائنا حتى اللحظة الأخيرة.”([8])
لذا يرى هيلبرونر أن الخُطوة الأولى لمجابهة الاقتصاد تتمثل في نزع صفة العلمية التي تمنح الفرصة لمساءلة مسلماته وبناءاته وقوانينه المختلفة، فصفة العلم أكسبت الاقتصاد هيبة واسعة وشيدت بيننا وبينه ألف جدار، والآن ولمصلحة الجميع بمن فيهم الاقتصاد ذاته، ينبغي تفكيك هذه المنظومة ومساءلتها.
وفي اعتقادنا أن الخطورة لا تتمثل فقط في صفة “العلمية” كما أوضح هيلبرونر، وإنما الخطورة الحقيقة والأشد فتكا، تتمثل في أن الاقتصاد الرأسمالي يبدو لنا الآن -ومن استقراء الواقع وتحليل الوقائع- يعي جيدًا أن العقبة التي يجب إزالتها للتحكم في مقتضيات السوق هي “الإرادة الحرة”، تلك الإرادة المتمثلة في هذا “الإنسان” الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته مثل العلوم الطبيعية.
يدرك الاقتصاد الرأسمالي تمامًا أن طبيعته المرتبطة بالسلوك البشري تجعله أبعد ما يكون عن أن يُوصَف بأنه علمٌ بالمعنى الدقيق للكلمة. ولذلك فإن ما يسعى إليه — وقد نجح في تحقيقه فعلًا — هو عكس ما اعتقده هيلبرونر بأنه غير ممكن، وهو أن يصبح الاقتصاد علمًا بالمعنى الكامل. يقول هيلبرونر: ‘لو كان الاقتصاد علمًا بحق، لتحوّلنا نحن البشر إلى محض روبوتات، لا نملك حرية اختيار كيفية استجابتنا لارتفاع الأسعار، تمامًا كما لا يستطيع جسيم حديدي اختيار استجابته لقوة المغناطيس”([9](.
إلا أن ما نشهده اليوم من ممارسات الاقتصاد الرأسمالي يُجسّد هذا النمط بجلاء، إذ بات يفرض سطوته على الوعي البشري، موجّهًا اهتمام الناس نحو ما يخدم مصالحه، عبر أدوات شتى: كالإعلام الذي يُساق للتأثير في الرأي العام بشأن قضايا محددة أو عبر الإعلانات التي تُسلَّط على ما يُراد الترويج له، فضلًا عن وسائل أخرى، بعضها ظاهر للعيان وبعضها يعمل في الخفاء. فإن كان ما نراه من تجاوزات يكشف هذا القدر من العبث، فإن ما خفي لا شك أنه أعظم وأخطر.
لذا لم تعد حُجَّة “الإرادة الحرة” ذات فاعلية كبيرة كما أعتقد هيلبرونر، فقد تُخطَّت، مما أفسح المجال أمام عرض الخُطط الاقتصادية بمعايير صارمة تدعي دقة الرياضيات، وذلك ليكتسب الاقتصاد الرأسمالي هالة من العلمية، ويُضفى عليه نوعًا من القداسة المنهجية، بل ويُغلف بغموض يزيده هيبة، ويُخفي حقيقة مَن يخدم وإلى أين يتجه. ورغم كل ذلك، فإن الواقع المعيش يفضح كل هذه الألاعيب، فالنتائج التي نلمسها في حياتنا اليومية، شرقًا وغربًا، تُظهر بوضوح مدى العبث الذي يقف خلف هذه المنظومة. ولم يكتفِ الاقتصاد الرأسمالي بكل ما سبق، وإنما وصل إلى حد مصادرة “حرية التعبير“، فلم يُترك للناس حتى الحرية في التعبير عن هذا الواقع الذي يعيشونه، إذ دومًا ما تُصادَر آراؤهم بحجّة أنهم غير مؤهَّلين للخوض في الشأن الاقتصادي، لأن الأمر – كما يُقال– من اختصاص “الخبراء“.
وهكذا وجد الإنسان المعاصر نفسه عاجزًا، لا يمتلك “حرية الإرادة” ولا يمتلك “حرية التعبير” وهو لا يملك فعلا إلا أن يخبط رأسه في الجدار، ولا ندري إلى متى سوف يصمد هذا الجدار الذي أنهكته الضربات.
خاتمة، من الاقتصاد إلى الفلسفة
ما يُميز طرح هيلبرونر؛ إيمانه بأن الاقتصاد في جوهره، ليس معادلات وأرقام فحسب، وإنما محاولة لفهم الإطار الرأسمالي الذي بات يُمثل مصيرَ البشرية كلها. ورغم الانتقادات الموجهة إلى الرأسمالية، إلا إنه لا يرى أن الحل يتمثل في تبني الاشتراكية، فهي لا تُمثل بديلاً مضمونًا كما شاع، إذ قد تعود بنا إلى الاستبداد والبيروقراطية والتعصب الأيديولوجي، وهذا ما حدث فعلًا في الأنظمة التي تبنت الاشتراكية، لكن تبقى الأزمات الكبرى التي تواجهنا —من تغير مُناخي وتفاوت طبقي وانفلات تكنولوجي وحُمَّى سباق التسلح— متجذرة في بنية الاقتصاد الرأسمالي المُعَوْلَم الذي خرج عن سيطرة الدول، وأصبح كِيانًا منفلتًا يُهدد الجميع.
ما يقترحه هيلبرونر ليس هدم الاقتصاد، بل إعادة صياغة وعي جديد به، ودمجه بالفلسفة الواقعية، تلك التي تهتم بالبشر قبل رأس المال، وبالمعنى قبل العائد. فالرأسمالية كما نعرفها، لا تفتقر إلى الذكاء أو الكفاءة، بل تفتقر إلى الضمير وإلى رؤية إنسانية تجعلها أكثر مسؤولية وأكثر وعيًا بتأثيرها الاجتماعي والبيئي.
التحليل الاقتصادي وحده لا يكفي؛ نحن في حاجة إلى قيادة سياسية واعية، ورؤية فكرية تتجاوز الاقتصاد بوصفه علمًا، نحو الاقتصاد بوصفه فهمًا إنسانيًا شاملًا، ومن طريق الفلسفة الواقعية يُمكن أن نأمل في رأسمالية تحترم الإنسان، وتُعيد ترتيب علاقتنا بالعمل والثروة والطبيعة. وليكن معيار الربح والخسارة ليس في حجم ما يُراكم من ثروات لصالح قلة من المحتكرين وأصحاب رؤوس الأموال، بل في مقدار ما يُحقَّق من رفعة لكرامة الإنسان، كونه الغاية التي تُسخَّر من أجلها الوسائل.
ربما ما نحتاجه الآن ليس اقتصادًا أكثر دقة، بل اقتصادًا أكثر عدلًا. اقتصادٌ ليس فيه نهاية الفلسفة، بل ربما بداءة جديدة لدورها، إذا ما أفسح لها الاقتصاد مكانًا إلى جواره، لا خلفه.
الحواشي والمراجع:
- Hausman, D. M. (Ed.). (2008). the philosophy of economics: An anthology(3rd ed.). Cambridge University Press.
- Heilbroner, R. L. (1999). The worldly philosophers: The lives, times, and ideas of the great economic thinkers (7th ed.). Touchstone.
- جون كينيث جالبريت(2000)، تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، ترجمة: أحمد فؤاد بلبع، وإسماعيل صبري عبد الله، سلسلة عالم المعرفة، العدد(261)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- لبيب شقير، (1956)، تاريخ الفكر الاقتصادي، مكتبة نهضة مصر، الفجالة، مصر.
[1] دانييل م. هاوسمان، هو فيلسوف أمريكي، وأستاذ بجامعة ويسكونسن، ماديسون. ركزت أبحاثه على القضايا المنهجية والميتافيزيقية والأخلاقية في التقاطع بين الفلسفة والاقتصاد. وقد شارك مع مايكل ماكفرسون في تأسيس مجلة “الاقتصاد والفلسفة” التي تصدرها جامعة كامبريدج.
الكتاب “The Philosophy of Economics: An Anthology” عبارة عن عمل موسوعي شامل يتناول فلسفة الاقتصاد وقضاياها المختلفة، ويضم نصوصًا كلاسيكية ومقالات تستكشف فروعًا ومدارس مختلفة من “علم الاقتصاد “. ويتضمن مساهمات تاريخية مهمة من شخصيات مثل ميل، وماركس، وويبر، وروبينز، ونايت، وفبلن، بالإضافة إلى أعمال لأبرز المفكرين المعاصرين في منهجية الاقتصاد، بمن فيهم خمسة من الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد.
الطبعة الأولى من الكتاب صدرت في عام 1984 عن دار نشر(Cambridge University Press).
[2] Hausman, D. M. (Ed.). (2008). the philosophy of economics: An anthology (3rd ed.). Cambridge University Press.P1.
[3] Ibid.
[4] انظر هنا: لبيب شقير، (1956)، تاريخ الفكر الاقتصادي، مكتبة نهضة مصر، الفجالة، مصر، صـ31.
[5] Heilbroner, R. L. (1999). The worldly philosophers: The lives, times, and ideas of the great economic thinkers (7th ed.). Touchstone.
[6] Ibid.p279.
[7] Ibid.p281.
[8] Ibid.p284.
[9] Ibid.