تكوين
في كل صباح أو في المساء، وفي أحيان كثيرة صباحًا ومساءً، نطَّلع على آخر مُجريات الأحداث في العالم. فنحن اليوم في ظل تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال، نعيش سرعةً مذهلةً في الأحداث لم يشهدها تاريخ البشرية من قبل.
طبعًا تتنوع نوعية الاطلاع على الأحداث: فهناك من يُتابع أحداث السياسة وآخر الاقتصاد وبعضهم الثقافة وهلمَّ جر، وصولًا إلى تتبع آخر أحداث فنون الطهي، لكن على الرغم من هذا التنوع الكبير في مجالات تتبع الأحداث، هناك حدثٌ يُقلق البشرية.
منذ أن وعى الإنسان إنسانيته وقد يكون ذلك حتى قبلها، وهو يعيش في حال دائم من النزاع! تارةً في نزاع مع الطبيعة، وتارةً أخرى في نزاع مع إنسان آخر، وفي أحيان كثيرة في نزاع مع الطرفين في آنٍ واحد: نزاعًا مع الطبيعة ونزاعًا مع إنسان آخر. والأجمل من ذلك، إن لم يكن في أي حال من أحوال النزاع تلك، يدخل في نزاع مع نفسه!
رغم معاناته من كافة أشكال النزاع التي يعيشها، الإنسان في حالة نزاع دائمة. وفي الوقت عينه يحاول البحث عن سُبل التخلص منها، أو على الأقل تقليلُ حدتها. بداءةً، لجأ إلى الآلهة، كي تحل النزاعات التي يعيشها، وهذا ما يُمكن أن نشهده في ملحمة غلغامش، التي تعدُّ من أقدم الملاحم في تاريخ البشرية. أي أن النزاعات بأشكالها المتنوعة، موجودة منذ ذلك الحين، وربما قبل تلك الفترة بكثير، لكن لا توجد مُدونات عنها.
مشروع السلام الدائم عند كانط
مع التطور الحضاري للإنسان، تتطور نزاعات البشر وتتطور محاولات حلها، وصولًا إلى اليوم مع وجود ما يُعرف بعلم الدبلوماسية وحل النزاعات. ومع الأسف أو ربما لحسن الحظ، لم تقضِ أي من تلك المحاولات على النزاعات قضاءً كاملًا. حتى أن كارل غوستاف يونغ، عالم النفس يرى أن أكثر البلدان “تحضرًا” لم تقضِ على النزاعات، بل نقلت توجه النزاع من بين أفراد الشعب إلى الدولة التي تمتص هذا النزاع من طريق اللعبة الديمقراطية، فتبدو وكأن هذه البلدان “المُتحضرة” تعيش في حالة سلام. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فحتى ماكس فيبر عالم الاجتماع، يرى أن السلام صيغةٌ من صيغ النزاع، ما يُشير إلى اتفاق في مقاربة النزاع بين علم النفس وعلم الاجتماع.
فهل فعلًا الديمقراطية حلّت معضلة النزاع؟ ليس هذا موضوعنا، وليبحث فيه من يشاء، لأن السؤال الأساسي هنا هو: هل النزاع غريزة بشرية أم لا؟ إن كان غريزة، فلا حل له، لأن حله يعني القضاء على الإنسان، فتأتي الحلول مُنطلقة من قاعدة إدارة النزاع. وإن كان النزاع ليس بغريزة بشرية، هنا يمكننا أن نتحدث عن حل للنزاع.
يصعب عرض كافة المقاربات لهذه الإشكالية المعقدة، ولكن كما يُقال في المثل الشعبي: “لنسأل رأي إنسان حكيم في هذه الإشكالية”. واعتمادًا على التعريف اليوناني، “محب الحكمة” أو “صديق الحكمة” يعني الفيلسوف، لذا سوف نسأل رأي أحد الفلاسفة، وهو إيمانويل كانط[1] (1724 – 1804).
لماذا كانط؟ لأنه حاول مقاربة مسألة النزاع بطريقة مباشرة، فكتب “مشروع للسلام الدائم“[2]، كما أنه عاصر الدولة بمفهومها الحديث، ويعدُّ واحدًا من الفلاسفة الكبار، وما تزال فلسفته تُدرَّس حتى يومنا هذا، وصولًا إلى ما يُعرف بـ “الكانطية الجديدة“، لذا سوف نحاول معرفة رأيه في كيفية الوصول إلى هذا السلام الدائم الذي تطمح إليه البشرية.
بداءةً، يُخبرنا كانط بوجود خُطوات تمهيدية للوصول إلى سلام دائم، وتلك الخُطوات تكون بين الدول. فما هي الخُطوات التي ينصح بها كانط الدول؟
“إن معاهدة من معاهدات السلام لا تُعد معاهدة إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب من جديد”[3].
يأخذنا كانط هنا إلى وجوب أن تكون معاهدة السلام بين أي دولتين متنازعتين تسعيان في الوصول إلى سلام دائم، مُعاهدةً لا تتضمن أي شروط يُمكن أن تُعيد إثارة الحرب بينهما، وكي يتحقق ذاك الشرط في تلك المعاهدة، يؤكد كانط “نية” الطرفين الصادقة من أجل الوصول إلى سلام دائم، وإلا استحال الوصول إليه. عند مراجعة سريعة لتلك الخُطوة الأولى في التاريخ الحديث، يُمكن أن نرى أنها لم تُطبَّق.
“إن أي دولة مستقلة (سواء أكانت صغيرة أم كبيرة) لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، بطرق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة”[4].
الشرط الثاني للوصول إلى سلام دائم، وفقًا لرأي الفيلسوف كانط، هو عدم تنازل أي دولة مستقلة عن أرضها لأي سبب كان. فالاستقلال يعني بطريقة مباشرة محافظة الدولة على أراضيها، وعدم جعل أي جزء من هذه الأراضي سلعةً للبيع لدولة أخرى. مجددًا، هذه خُطوة لم تُطبَّق، فكم قرأنا في التاريخ الحديث عن دول اشترت من دول أخرى قطعًا من أراضيها وضمتها إليها، لتصبح هذه القطع جزءًا منها.
“يجب أن تُلغى الجيوش الدائمة إلغاءً تامًا على مر الزمان”[5].
لم يتحقق هذا الشرط أيضًا، لأن تحقيقه يستلزم تحقيق الشرطين السابقين. فنشهد اليوم منذ الحرب العالمية الأولى وصولًا إلى يومنا ذاك، ارتفاعًا ملحوظًا في الاهتمام بالجيوش وقوتها.
“يجب ألا تُعقد قروض (ديون) وطنية من أجل المنازعات الخارجية للدول”[6].
يحدث عكس ما طالب به كانط وذاك أمر بديهي، لأن الاهتمام بالجيوش يعني زيادةً في الإنفاق، وتلك الزيادات تُغطيها كثير من الدول بالاقتراض، فتقع تحت ديون خارجية لا سبيل إلى سدادها، ما ينعكس سلبًا على الرفاه الاقتصادي لشعوب تلك الدول المُقترضة.
لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها”[7].
مجددًا يؤدي تراكم عدم تطبيق الشروط أو الخُطوات الكانطية من أجل الوصول إلى “سلام دائم” إلى نتائج سلبية. والأمثلة على ذلك جَلية جدًا في عالمنا اليوم، وحتى في الأمس القريب.
“لا يحق لأي دولة في حرب مع أخرى أن تستبيح لنفسها مع تلك الدولة القيام بأعمال عدائية – كالاغتيال والتسميم وخروق شروط التسليم… فهذه من شأنها عند عودة السلم فقدان الثقة بين الدولتين”[8].
بعد أن وضع لنا كانط الخُطوات أو الشروط، بداءةً في مستوى المعاهدات بين دولتين متنازعتين، ومن ثم أخذنا إلى الخُطوات الاقتصادية، ها هو يقودنا باتجاه البُعد الأخلاقي للحروب. فحتى للحروب أخلاقيات يجب اتباعها، وما دامت لم تتحقق أي خُطوة من خطواته للوصول إلى “السلام الدائم”، فإن حتى البُعد الأخلاقي للحرب فقد وجوده. فمن يُتابع مجازر الحرب العالمية الأولى والثانية وحروب اليوم، يرى أنه لا مجال في أي من هذه الحروب الحديثة للحديث عن بُعد أخلاقي للحروب.
إقرأ أيضًا: التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف
ما سبق ذكره صنَّفه كانط في كتابه “مشروع للسلام الدائم“، في القسم الأول منه تحت عنوان “القسم الأول: التمهيدية لتحقيق سلام دائم بين الدول“، لذا كل ما قاله كانط تعلق بطبيعة العلاقات بين الدول، بدءًا من شروط المعاهدات بينها، وصولًا إلى البُعد الاقتصادي، وخُتِمَ بالبعد الأخلاقي للحروب.
من بعدها ينتقل في مشروعه للسلام الدائم، في القسم الثاني من التمهيد إلى “المواد النهائية لتحقيق سلام دائم بين الدول“[9].
الأمر اللافت للانتباه لدى كانط، في هذا القسم قوله:
“إن حالة السلام بين أناس يعيشون جنبًا إلى جنب ليست حالة فطرية: إذ الحالة الفطرية… حالة حرب… ذلك أن الكف عن الحرب ليس بضمان للسلام…”[10].
فِقرة تُشير إلى القاعدة الفكرية التي بنى على أساسها كانط كافة مشروعه للسلام الدائم. فلديه يكون السلام ليس حالةً فطرية لدى البشر، بل الحرب هي الحالة الفطرية، أو العدائية هي الحالة الفطرية، والعدائية تؤدي إلى نشوب الحرب.
انطلاقًا من تلك القاعدة الفكرية، يأخذنا كانط بطريقة غير مباشرة إلى وجوب التسليم بوجود من هو أقوى من البشر، ولديه يتمثل في الدولة، لتتحكم بهذه الفطرة العدائية لدى شعوبها وتقودها إلى “السلام الدائم“، وتكون هي الضابط لتلك الفطرة العدائية لدى شعوبها، ومتى فشلت الدولة في ضبطها، تقوم الحروب.
هنا يتفق كانط مع من سبقه، توماس هوبز (1588 – 1679)، على وجوب وجود الليفياثان، وكان هذا عُنوان كتاب هوبز. كما يتفق مع من أتى بعده، من أمثال: يونغ وفيبر وكثيرين غيرهم. وهكذا اتفق المفكر والفيلسوف وعالم النفس وعالم الاجتماع على أن الإنسان بفطرته عدائي، ولا بُد من وجود ضابط أقوى منه ليضبط هذه الفطرة العدائية، وإلا عاش الإنسان في حالة دائمة من العدائية مع الإنسان الآخر. لتتأكد مقولة كانط التي بنى عليها مشروعه للسلام الدائم، والتي قال فيها:
“إن حالة السلام بين أناس يعيشون جنبًا إلى جنب ليست حالة فطرية…”.
بهذا يُصبح البحث عن السلام الدائم كالبحث عن أمر مفقود، والأصح البحث عن أمر غير موجود! فالعدائية لدى البشر مسألة فطرية، والقضاء عليها يعني بطريقة غير مباشرة القضاء على البشر، وكل ما يمكن فعله هو ضبط تلك العدائية وتوجيهها، وبهذا نحن نبحث عن “إدارة” النزاع لا حل النزاع. هل تطبيق مشروع كانط يؤدي إلى سلام دائم؟ أم هو محاولة لـ”إدارة” النزاع فحسب؟
إقرأ أيضًا: التسامح المتبادل: هل هو شرط للتعددية؟
لكن لنتفكر قليلًا قبل أخذ الحكم، هل فعلًا العدائية فطرة بشرية، أم هي نتاج واقع ما؟ ألا يوجد من يُناقض تلك الفكرة القائلة بفطرة عدائية الإنسان؟ بالتأكيد يوجد، فمن هم وماذا يقولون؟ سؤال محب للحكمة آخر يُناقض كانط ومؤيديه في مسألة النزاع، بحث آخر لمن يود البحث عنهم.
المراجع:
[1] تتعدد الصيغ الاملائية لكتابة اسم (Immanuel Kant)، فهناك من يكتبها “كنت”، وآخرون “كانط”، والبعض الآخر “كنط”.
[2] إيمانويل كانط، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، بيروت، دار المدى للثقافة، لا. ط. 2007.
[3] إيمانويل كانط، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، بيروت، دار المدى للثقافة، لا. ط. 2007، ص. 19.
[4] المرجع نفسه، ص. 19.
[5] المرجع نفسه، ص. 20.
[6] المرجع نفسه، ص. 21.
[7] المرجع نفسه، ص. 21.
[8] المرجع نفسه، ص. 22.
[9] المرجع نفسه، ص. 25.
[10] المرجع نفسه، ص. 25.