تكوين
شاهدنا في الفترات القريبة الماضية بعضًا من الكوارث الطبيعة التي نتجت عن عوامل مناخية مختلفة، فمثلًا أدى الانتقال من طقس شديد الرطوبة إلى طقس شديد الجاف وهو ما يعرف بـ “تقلبات المناخ المائي” إلى اشتعال الحرائق في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، ومع سرعة الرياح القادمة من وسط صحراء كاليفورنيا انتشرت الحرائق وسببت خسائر مهولة، وفي ظل ظاهرة التغير المناخي ضربت السعودية موجة سيول عارمة سببت خسائر باهظة، فوق ذلك ضربت مجموعة من الزلازل دولًا مثل: تركيا والمغرب وقبلهما إندونيسيا، وكما نرى لم تفرق تلك الكوارث الطبيعية بين دولة مسلمة وأخرى غير مسلمة، بين دولة مكروهة أو محبوبة عربيًّا وإسلاميًّا، فكيف تتعامل العقلية الإسلامية مع هذه الظواهر؟
من شأن أي تقصٍ بسيط لوسائل التواصل الاجتماعي أن يشير إلى ازدواجية واضحة من جموع المسلمين في معايير التعاطي مع تلك الكوارث، وذلك طبق الطبيعة الدينية للمكان الذي تحدث فيه، وكذلك طبق الموقف السياسي منها، لتصبح حرائق كاليفورنيا عقابًا إلهيًّا، بينما تُعد سيول مكة ابتلاءً وتمحيصًا، مما يجعل الظواهر الطبيعية خاضعة فقط للتفسير الديني، أو بالأحرى للتفسير الديني الإسلامي البحت في حالتنا، لأن فتح مجال التفسير الديني للظواهر الطبيعية ككل قد يجعل بعض المسيحيين في كاليفورنيا مثلا يرون سيول مكة عقابًا إلهيًّا للمسلمين بوصفهم ضالين عن دين الخلاص.
فهل يتفق التفسير الديني للظواهر الطبيعية مع ضرورة تحكيم العقل والتدبر والتفكر في سنن الكون التي يأمر بها القرآن الكريم بوضوح (أنظر على سبيل المثال سورة النحل، آية: 12-13، وسورة البقرة، آية: 266، وسورة الغاشية، آية: 17-20)، وما علاقة ذلك بضرورة إيمان المسلم بالقضاء والقدر؟
ثمة واقعة شهيرة حدثت في التاريخ الإسلامي وهي كسوف الشمس[1]، فقد روى البخاري في كتاب الكسوف (باب الدعاء في الكسوف، رقم 1012): “حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا زائدة قال: حدثنا زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي”
ونرى هنا بوضوح رفض النبي (r) ربط ظاهرة كسوف الشمس بموت ابنه إبراهيم، وكذلك تأكيده أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، أي دليلان على قدرته في خلق الكون وفق نظام معين، ومن ثم فالظواهر الطبيعية أو الكونية مثل: الكسوف والخسوف ليست مرتبطة بأحداث بشرية مثل: الموت أو الحياة، بل هما ظاهرتان طبيعيتان تحدثان بسبب حركات الأرض والقمر والشمس طبق قوانين الفيزياء الفلكية كما تبين حديثًا، ويبدو أن بعض الثقافات في زمن النبي (r) كانت تربط بين الظواهر الطبيعية وأحداث مهمة مثل موت أو ولادة شخصيات عظيمة،[2] فكان رد النبي نافيًا لهذا الربط الخرافي، وموحيًا بالتفكر والتدبر في النظام الكوني المُحكم خلف هذه الظواهر.
تعرض ابن القيم (1292ـ1350) لهذا الحديث بالشرح الوفير ونفى أن تكون الظواهر الطبيعية مرتبطة بمواقف حياتية لشخصيات بعينها، كما قدم شرحا عقلانيًّا وافيًّا بقدر ما توفر لديه من علم فلكي في ظاهرة خسوف الشمس وكسوف القمر[3] فقال:
“كثيرٌ من هؤلاء الأحكاميين يموهون على الْجُهَّال بأمر الْكُسوف ويوهمونهم أن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السَّعد والنحس والظفر والْغَلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف، فيصدق بذلك الأغمار والرِّعاع، ولا يعلمون أَن الكُسوف يُعلم بحساب سير النيرين في منازلهما، وذلك أَمر قد أجرى الله العادة المطّردة به، كما أجراها في الأبدار والسّرار والهلال”[4].
ونلاحظ هنا أن ابن القيم استخدم عبارة “العادة المطردة” التي أجراها الله، وهو ما نسميه اليوم بـسنن الكون[5]، أو نصفه بما جرت به العادة، فكلها مصطلحات متشابهة الدلالة على تسخير الله للأشياء، وما أودعه فيها من نظام مقدر، وعلى هذا فالشمس والقمر مُسخران بأمر الله طبق نظام دقيق كما هو الحال مع غيرهما من الكواكب والنجوم، وأن هذه الظواهر لا تحدث عبثًا.
إلا أنه ورغم هذه الواقعة النبوية الدالة على توجيه العقل إلى البُعد عن الخرافة وإلى دراسة نظام الكون، نجد جموع المسلمين تربط الكوارث أو الظواهر الطبيعية في العموم بأحداث بشرية بعينها، فحرائق أمريكا عقابًا لها على موقفها من العدوان على غزة، أما الأمطار[6] الشديدة على خيام اللاجئين في غزة وغيرها وما تسببه من ويلات على الأطفال الأبرياء فهو نوع من الابتلاء والتمحيص، أي أن ظواهر الطبيعة لها تفسير ديني واحد، تفسير بسيط سهل لا يُكلف العقل المسلم عناء التفكر والتدبر للخروج من أزماته انطلاقا من العمل والجُهد وبذل ما في الوسع طبق قوانين ذلك الكون التي لا تتبدل ولا تتغير. هذا وإن كان هذا التفسير له ما يبرره في المعتقد الإسلامي وفق هذا الفهم أو ذاك للقدر، ومدى حرية الإنسان في التأثير في مساره وخلق أفعاله، ولا أرمي هنا إلى التعاطي مع الجدل الكلامي المُعقد بشأن حرية الإرادة وخلق الأفعال، ولكنني أرغب في تقديم فهم استناري حديث لمفهوم القدر، آملا أن يستفيد منه العقل المسلم في تحمل المسئولية المطلقة عما يحيط به من نجاحات أو إخفاقات، دون أن يفقد إيمانه الضروري لحياته الرُوحية والنفسية.
إن وظيفة العقل هي البحث في المدرك، أي فيما يستطيع إدراكه والتأثير فيه، ومن ثم عليه ربط كل ما يدور في حيز ما يدركه بفعله هو، وما يترتب عليه من نفع أو ضر، وكان الإمام محمد عبده (1849ـ1905) يرى أن العقل لا يستطيع بأدواته المحكومة بحيز المدرك البحث فيما لا يدرك من الماورائيات،[7] ولذا عليه الإيمان بها من منظور عقدي فقط، فهو لا يستطيع إدراك كُنهها، ولا التأثير فيها بالطبع، ويؤيد محمود شلتوت (1893-1963) شيخ الأزهر الأسبق هذا التحديد المنهجي لنطاق عمل العقل حين يؤكد أن “العلم بالمسائل الغيبية” مصدره الوحي فقط وهو مجال الإيمان، وأما الحس[8] فلا يتناول المسائل الغيبية، في حين أن العلم بأمر دنيوي ما يستلزم مقدمات عقلية تقود إلى نتائج[9]، ويسير شلتوت في كتابه الشهير “الإسلام عقيدة وشريعة” في مسار عبده نفسه في فهم مبدأ السببية وعلاقتها بالقدر، فيضع تعريفًا للقضاء والقدر يربطهما بقانون السببية، أي سنن الكون الربانية فيقول: “وما القضاء والقدر اللذان ورد في القرآن ذكرهما، وجعلهما الناس مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه، سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون، وربط فيه بين الأسباب والمسببات، والنتائج والمقدمات، سنة كونية دائمة لا تتخلف، وكان من بين تلك السنة خلق الإنسان حرا في فعله، مختارا غير مقهور ولا محجور”[10].
إقرأ أيضا: المركزيَّة الحيويَّة: قراءة في أخلاقيات البيئة عند بول تايلور
فوفق شلتوت على المسلم الإيمان بالقدر بوصفه ما يحيط به من سنن كونية يستطيع أن يؤثر فيها لو أدركها وفهم نظامها، أي بمعنى آخر يستطيع المسلم تغيير قدره وتوجيه مساره، طالما أن القدر مرتبط بقوانين الكون الثابتة حوله، وطالما أن قوانين الكون داخلة في حيز المدرك الذي يمكن للإنسان أن يدركه ويدرسه ويفهمه ويوجهه بالتجربة والخبرة، وهنا علينا أن نُقر أن من آمن بسنن الكون وأدركها وتحرك في نطاقها وأصبح فاعلًا فيها هو من يُعد مؤمنًا بالقدر الإلهي بالحقيقة والفعل، وإن لم يُقر بذلك بالقول، سواء كان مسلمًا بالولادة أو لا، فلا فرق هنا بين عقيدة موروثة من عدمها، لأن كل إنسان يحكم عقله في محيطه يعدُّ مُنطلقا من الفطرة التي أودعها الله فيه، أودعها في مادته البشرية دون ارتباط بدين أو عقيدة، أودعها فيه بمنحه العقل مناط التكليف، ذلك العقل المُعَبَر عنه قرآنيا بالأمانة[11] التي عرضها الله على كافة المخلوقات حجر وبشر فلم يتقبل حملها إلا الإنسان.
معنى الفطرة التي تتعلق بوجوب استخدام العقل وفق قانون السبية أو سنن الكون، هو ما يوضحه الفقيه التونسي الطاهر بن عاشور (1879ـ1973) قائلا:
“واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، فاستنتاج الشيء من غير سببه –المُسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع– خلاف الفطرة العقلية، والجزم أن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في الأمر نفسه فطرة عقلية، فإنكار السفسطائية ثبوتَ ذلك خلاف الفطرة العقلية، فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه أنه فطرة عقلية، لأن الإسلام عقائد وتشريعات، وكلها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به”[12]
كما يُفرق ابن عاشور بين الحقائق الثابتة وبين الأوهام والتخيلات ويرى الأخرى ليست من الفطرة فيقول: “الوجدان الإنساني العقلي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتبارات، ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات لأنها ليست مما فُطر عليه العقل”[13].
أي أن الانطلاق من سنن الكون ومن قانون السببية الذي هو أساس العقلنة والتنوير يُمثل تطبيقًا عمليا لآية الفطرة القرآنية التي لا تبديل لها،[14] بمعنى أن استخدام العقل سنة أو فطرة عقلية ليس لها تبديل، ومن ثم فبعث روح الحرية الإنسانية في التعاطي مع الكون وقوانينه (سننه) وتفسيرها من داخلها بأدوات العقل القائمة على التجربة والمشاهدة وفهمها علاقاتها السببية هو سبيل تطوير الكون وسيادته.
وبالعودة إلى قضية الكوارث الطبيعية أو الأحداث المأساوية التي تحدث للمسلمين كما في غزة وفلسطين، نجد شاهدا يُعتدُّ به لدى المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905ـ1973) حين وصف النكبة العربية أمام إسرائيل في كتابه القيم “وجهة العالم الإسلامي” مُستخدما عبارات “الهزيمة المباركة” و “النصر السعيد للواقع على الوهم“[15] آملا أن تلك النكبة وما تلاها من نكسة سوف تُغيران العقلية العربية من وهم التفوق والقدرة والوعي إلى حقيقة التردي والعجز والغيبوبة بغية العمل على تغيير هذا الواقع، ولعل هذه المآسي المتعاقبة تُفيد في خلق وعي جديد بتحمل المسئولية وبناء توجه عقدي عقلاني جديد، ينطلق من معتقد “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد/11) وأن الله لم يُمكِّن لذي القرنين بالمعجزة، ولكن بالإرشاد لمعرفة الأسباب وضرورة اتباعها “إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا” (الكهف/ 84-85).
هذا وإن كان للفرح بمصائب الآخر المُعادي ما يبرره نفسيًّا بسبب العجز عن رد عدوانه وتسلطه ولكنه -فوق تنافيه مع قيم الأخلاق والمروءة- يعكس حالة اللجوء إلى التفسير الديني البسيط الساذج إراحة للنفس، وتوفيرًا لجهد النقد والتفكير في حلول تستلزم العمل والكد، إلا أن هذا النهج فيه خطورة على الدين نفسه، لأنه يربطه بالخمول والخنوع أو التواكل بالمعنى الديني ، الأمر الذي يُعطي إلى عبارة كارل ماركس الشهيرة “الدين أفيون الشعوب” أي المخدر الذي يُخفف عنها آلام مصائبها ويُلهيها عنها منطقًا ومصداقية، وأميل إلى تسمية هذا النوع من الإيمان بإيمان الضعيف، هذا النوع من الإيمان عاجزٌ عن تحريك الحضارة ودفعها ويشبه إيمان الرهبان الذين “يقطعون صلاتهم بالحياة”[16] بتعبير مالك بن نبي، فهل عقلنا أن آيات الله هي سننه في كونه، وأنك لن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، أي أن نظام الكون يسير بقوانين ثابتة لا تتغير يُسميها غير المؤمنين قانون الطبيعة، ومن عرفها وعمل بها ساد الكون، بغض النظر عن دينه، ومن تجاهلها خرج من التاريخ مهما كان ظاهر تدينه.
المراجع:
[1] عادة ما يُقال كسوف القمر وخسوف الشمس، ولكن كلمتي الكسوف والخسوف تتبادلان الموقع مع الشمس والقمر كما ورد في التراث الإسلامي.
[2] أشار إلى ذلك ابن القيم في معرض حديثه عن هدي النبي في صلاة الكسوف ذاكرًا رواية لأحمد بن حنبل ضعفها لاحقًا مفادها أن رجالًا يزعمون أن كسوف الشمس وخسوف القمر ناتج عن موت “رجال عظماء من أهل الأرض”، أنظر محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، ضبط نصه شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 2009)، ص 148-149.
[3] أنظر محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد، (بيروت: دار ابن حزم، 2019)، ص 1403-1425.
[4] المرجع نفسه، ص 1411.
[5] أنظر الآيات الدالة على سنن الكون التي لا تتبدل مثل آية 137 من سورة آل عمران، وآية 23 من سورة الفتح.
[6] يلاحظ أن اللسان القرآني يستخدم كلمة المطر كأداة عقابية أي بمعنى الفيضان والسيل الضار، أما كلمة المطر بالمعنى الإيجابي الحديث والتي تعني توفر الماء لإنبات الذرع واتيان الخير فيعبر عنها القرآن بلفظة الغيث، أي المنقذ من الجفاف والهلاك. (أنظر على سبيل المثال آية 58 من سورة النمل وآية 28 من سورة الشورى)
[7] أنظر محمد عبده، رسالة التوحيد، ط 5، القاهرة 1926، ص 52ـ-54.
[8] كلمة الحس هنا تلتقي بوضوح مع مفهوم العلم بالمعنى الحديث بأنه فقط ما يقع تحت حواس الإدراك هو مجال البحث العلمي.
[9] محمود شلتوت، الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، (القاهرة: دار الشروق، 2004)، ص 350.
[10] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، (القاهرة: دار الشروق، 2007)، ص 61-62. للمزيد حول رأي شلتوت في مفهوم القدر في القرآن وربطه بدلالته اللغوية بمعنى المقادير التي خلق الله عليها الكون وأن صفة العلم في حقه تعالى هي صفة كشف وليست صفة تأثير، راجع كتابه: الفتاوى، ص 41؛ وكذلك بتفصيل أكثر في كتابه: تفسير القرآن الكريم: الأجزاء العشرة الأولى، (القاهرة: دار الشروق، 2004)، ص 183-186.
[11] أنظر آية الأمانة رقم 72 من سورة الأحزاب.
[12] محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تقديم حامد بوسمة، (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2011)، ص 93-94.
[13] المرجع نفسه، ص 97.
[14] أنظر آية الفطرة رقم 30 من سورة الروم.
[15] [15] مالك بن نبي، مشكلات الحضارة، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، (دمشق، دار الفكر، 1986)، ص 32.
[16] المرجع نفسه، ص 32.