تكوين
في هذا العالم المفتوح تعيش المجتمعات الإنسانية في قلب المفاهيم، تنشئها وترعاها وتورثها لمن بعدها في قوالب جاهزة صعبة الاختراق، وفي غياب النقد تصير بفعل مؤامرة الزمن هذه المفاهيم عوامل جمود وترهل ثقافي مزمن وأمراض معدية، إذا لم يكتسب الإنسان مناعة ضدها. قد يبدو الأمر بسيطا ونحن نتحدث عن مفاهيم يُنشئها العقل الإنساني، فبدل أن يتحكم فيها تتحكم فيه، ولكنها مهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة، ونحن نرى أن الإنسانية قد ترتمي في حروب وصراعات وتوترات ومآسي بسبب مفاهيم صيغت في الماضي، لها ملابسات تكونها وظروف تأسسها. فالمفاهيم ليست مجرد كلمات بلا معنى أو لغة منفصلة عن واقعها، بل على العكس من ذلك فهي تتجاوز كل ذلك حتى تصير أدوات يفكر بواسطتها الكائن الإنساني ويتفاعل مع محيطه وعالمه والآخرين المتواجدين معه.
عندما نستخدم مفهومًا معينًا فإننا نشير إلى مجموعة من الأفكار والمعاني التي تمثل هذا المفهوم. الكلمات قد تكون الوسيلة التي نعبر بها عن المفاهيم، لكنها ليست المفاهيم نفسها، على سبيل المثال “الحرية” ليست كلمة فحسب، بل هي مفهوم يحتوي على مجموعة من الأفكار المعقدة عن حقوق الأفراد والاستقلالية وإمكانية اتخاذ قرارات شخصية. العدالة كذلك ليست كلمة فقط، بل تمثل مجموعة من المعاني والقيم المتعلقة بالإنصاف والمساواة واحترام حقوق الآخرين. فالمفاهيم تستند إلى واقع معين أو تجارب إنسانية مشتركة، ولو أن أهم ما يميزها هو التجريد والتعميم والترابط، فالمفاهيم عادة ما تكون تجريدية، أي لا تشير إلى شيء ملموس أو محسوس مباشرة، بل هي تصور ذهني، على سبيل المثال “العدالة” مفهوم مجرد، لأننا لا نستطيع رؤيتها أو لمسها ولكن يمكننا فهم ما تعنيه. كما أن المفاهيم تُستخدم لتصنيف وتبسيط العالم المحيط بنا من طريق تجميع خصائص متشابهة. فعندما نقول “شجرة” فإننا لا نشير إلى شجرة معينة، بل إلى مجموعة من الخصائص التي تجمع كل الأشجار تحت هذا المفهوم. أما الترابط فيعني بأن المفاهيم غالبًا ما ترتبط ببعضها في نظام معرفي أو إطار معين، فمفهوم “الحرية” قد يرتبط بمفاهيم أخرى مثل “العدالة” و”الحقوق” و”المسؤولية”، لهذا السبب عندما نتحدث عن مفهوم “الكرامة” نفهم أنه يتصل بشعور الاحترام والقيمة الإنسانية.
إذًا المفاهيم لها دور خطير وكبير في ثقافتنا، بل في الثقافة البشرية منذ لحظة الوعي الأولى، فلا شيء يساعدنا على فهم وتمييز الأشياء والتجارب في العالم من حولنا غيرها، فهي التي تعطي معنى وسياقًا للكلمات المستخدمة لوصفه، وفي السياق تأخذ المفاهيم تكوينا خاصا، فهي أدوات نحلل من طريقها المسائل الأكثر تعقيدا وننظم الأفكار المتداخلة ونقدم ما يمكن أن يُفسر لنا بعض الظواهر المستعصية، كما نطرح التساؤلات العميقة عن القيم والأخلاق والمعرفة والوجود الإنساني، فعندما نستخدم مفاهيم محددة فإننا نستدعي سياقًا ثقافيًا وفكريًا قديمًا يجعلنا قادرين على التواصل بخصوص أفكار معقدة بطريقة أبسط وأكثر تنظيمًا.
هنا يبرز لنا دور المفاهيم وخطورتها وأهميتها في السياق الثقافي الإنساني، لذا فالفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) اهتم بمسألة إنتاج المفاهيم[1]، وربط بين الفلسفة والمفاهيم، وهو إحدى العلامات الفلسفية المعاصرة، التي أسهمت إسهامًا كبيرًا في إغناء الحقل الفلسفي بمجموعة من الإسهامات الواسعة والبارزة في مجالات الفلسفة وعلم النفس والنظرية النقدية وعلم الاجتماع.
دولوز كانت له نظرة خاصة بالنسبة لوظيفة الفلسفة في الحياة الإنسانية، فهو يرى أن دورها يتركز في إنتاج المفاهيم، كونها المهمة الأساسية للفلسفة. كان يؤمن بأن الفلسفة هي فن خلق مفاهيم جديدة تساعد على فهم وتفسير العالم تفسيرًا مبتكرًا، بدلًا من إعادة تحليل الأفكار القديمة أو تقديم تفسيرات تقليدية فقط. الفلاسفة بهذا المعنى الدولوزي ليسوا محللين للأفكار أو نقادًا للواقع، بل هم مبدعون ومبتكرون للأدوات المفاهيمية. هذه المفاهيم ليست جامدة أو دائمة، بل هي أدوات تتغير مع الزمن وتتكيف مع الظروف المختلفة، فكل فلسفة هي محاولة لإيجاد مفاهيم جديدة، يمكن استخدامها كي نفهم تجارب جديدة أو معقدة، والفيلسوف مثل “النحات” الذي يصوغ هذه المفاهيم كي يكشف عن رؤى جديدة للواقع. لهذا كان يقول الفيلسوف صديق المفهوم، إنه بالقوة مفهوم. مفاد هذا أن الفلسفة ليست فنًا يشكلُ ويبتكرُ ويصنعُ المفاهيم، فالفلسفة بتدقيق أكبر هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم. ومن طريق إنتاج مفاهيم جديدة، تسهم الفلسفة في توسيع آفاق التفكير وتحدي الأنماط التقليدية من الفهم، فالمفاهيم هي وسائل للفكر، إنها تساعدنا على تجاوز القيود الفكرية وتوسيع نطاق ما يمكن التفكير فيه، كما أنها ليست عملية تفسير للواقع تفسيرًا صريحًا بقدر ما هي وسيلة يبدع فيها الكائن الإنساني طرقا للتفكير في الواقع. ولعل هذا ما يميز الفلسفة عن غيرها من المجالات المعرفية مثل العلوم والفنون والدين، فهذه مجالات لها طرقها الخاصة في التعامل مع الواقع، أما الفلسفة فهي المجال الذي تُبْدَعُ فيه المفاهيم، التي يمكن أن تتجاوز تخصصًا واحدًا وتفتح مساحات جديدة من الفهم المشترك، كأنها بهذا المعنى تصير وسيلة للتفاعل بين مختلف مجالات المعرفة وتدفع نحو الابتكار والتجديد في التفكير.
البني اللُّغوية وسجن المفاهيم
في كتابه أسطورة الإطار يشير كارل بوبر[2] إلى فكرة “البنى اللُّغوية” و”سجن المفاهيم” كونه جزءًا من حجته بشأن تأثير الأطر الفكرية في فهمنا للعالم. من وجهة نظره، فاللغة التي نستخدمها والأطر المفاهيمية التي نتبناها، يمكن أن تكون عوائق تحدُّ من فهمنا للأفكار والمفاهيم الأخر،. فبوبر يعتقد أن اللغة تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الطريقة التي ندرك بها العالم، فالبنى اللغوية هي مجموع الكلمات والمصطلحات والقواعد التي نستخدمها من أجل التعبير عن أفكارنا، هذه البنى ليست محايدة، بل تعكس أفكارًا وقيمًا محددة، ومن ثم تؤثر في كيفية تفاعلنا مع الأفكار الأخرى، ففي بعض الأحيان تجعلنا اللغة نتبنى بعض الافتراضات تبنيًا ضمنيًا، ما يحدُّ من قدرتنا على استكشاف أفكار مختلفة أو نقدها. أما “سجن المفاهيم” فهو نتيجة لتأثير البنى اللغوية، فعندما نتبنى إطارًا مفاهيميًا معينًا، قد نجد أنفسنا محاصرين داخل ذلك الإطار غير قادرين على التفكير خارجه أو رؤية بدائل له، هذا الإطار يصبح أشبه بسجنٍ مفاهيمي يحدُّ من قدرتنا على التواصل بطريقة فعالة مع الآخرين الذين يتبنون أطرًا مختلفة. وفقًا لبوبر فمن الضروري تحدي وتفكيك هذه الأطر من طريق الحوار النقدي، كي نتمكن من التحرر من “السجن” الذي تفرضه علينا، فهو يرى أن هذه البنى والأطر يمكن أن تكون عائقًا أمام الحوار الفعَّال بين الأفراد. التواصل المثمر يحتاج إلى الاستعداد من أجل تجاوز البنى المفاهيمية الخاصة بنا، وفهم الآخرين من طريق أطرهم الخاصة، حتى لو كانت مختلفة أو تتعارض مع رؤيتنا، لذا يدعو بوبر إلى استخدام النقد العقلاني بوصفه وسيلةً للتخلص من “سجن المفاهيم” الذي قد يعيق استكشاف الأفكار الجديدة وتحقيق التفاهم المتبادل.
لقد كاد بوبر في كتابه أسطورة الإطار أن يكون من أنصار اللاأصولية، فهو يستمسك بأن الأصولية ORTHODOXY هي الأجل المحتوم للمعرفة، ما دام نمو المعرفة يعتمد اعتمادًا كليًا على الاختلاف. مفاد هذا الطرح الفكري أننا نعيش داخل أطر معرفية وثقافية وفكرية تؤثر في منظورنا إلى الأشياء، فالأصولية هنا تشير إلى التمسك الصارم بمعتقدات أو نظريات معينة ورفض التفاعل مع الأفكار الجديدة أو المختلفة، فهي موقف جامد يرفض الاختلاف ويعزز القيم أو المبادئ التقليدية أو المعترف بها، عندما تُعد الأصولية هي “الأجل المحتوم للمعرفة”، فإن بوبر يعني أن التمسك بالتقاليد أو الأفكار الثابتة يمكن أن يعيق تطور المعرفة.
هذا واضح في كل الأصوليات سواء تخفت في ثوب ديني أو سياسي أو فكري ثقافي، فالأصولية بأي معنى من المعاني هي مرادف للجمود الفكري والانغلاق الثقافي والتطرف الديني، مما يمنع التقدم والتطور المعرفي، ومن ثم فمناصرة التيار يعني أنه يؤيد قبول الأفكار الجديدة والاختلافات في الآراء. ومن ثم فاللاأصولية هي شكل من أشكال تطوير المعرفة ونمو الفكر من طريق النقد والتجريب، وليس من طريق التمسك بمعتقدات ثابتة والاعتماد عليها مما يؤدي إلى التكلس والاستعصاء الثقافي.
يشيرُ بوبر أيضا إلى إشكالية شائعة مفادها أن المناقشة العقلانية والفعالة لا يمكن أن تحدث أثرا، أو توصل إلى غاياتها القصوى، إلا إذا كان جميع المتحاورين يتقاسمون ويتشاركون في إطار معرفي أو أيديولوجي موحد. هذا الادعاء يحاول بوبر أن يفنده من طريق نسف أسطورة الإطار والخيط الناظم لكل عملية التواصل، فالمناقشة العقلانية تشير إلى عملية التبادل الفكري، فيتفاعل الأفراد بأفكار وآراء مختلفة، باستخدام المنطق والدلي، الهدف هو الوصول إلى فهم أفضل أو قرار جماعي باستخدام التحليل النقدي. ولولا الاختلاف لما كان هناك أي حافز للمناقشة العقلانية والمثمرة، إذ إن ثقافة الاختلاف وقبول الآراء المغايرة هي عامل أساسي من عوامل تعزيز المناقشة العقلانية. هذا الاعتقاد الشائع بين الناس ينبع من كون الأفراد يحتاجون إلى إطار معرفي مشترك لتحقيق مناقشة مثمر، بمعنى آخر إذا لم يكن هناك توافق أساسي بشأن المبادئ أو القيم، فإنه يُعتقد أن الحوار سوف يكون غير فعال أو حتى مستحيل، وهو ما يعد مرفوضا وغير مقبول في فلسفة بوبر، لأنه يشير إلى أن المناقشة يمكن أن تكون مثمرة حتى في غياب إطار مشترك، ويعتمد على فكرة أن الاختلافات الفكرية يمكن أن تُغني الحوار وتساعد على تطوير الأفكار بدلاً من تقييدها، فمن طريق رفض فكرة الحاجة إلى إطار مشترك، يدعو بوبر إلى فتح أبواب الحوار لكل الآراء والأفكار، مما يعزز التفاعل والتفكير النقدي ويجعل التفاعل مع الآراء المختلفة والنقد المتبادل أمرا يقود إلى نمو المعرفة وليس الالتزام بإطار واحد. وهي فكرة تقود في نهاية المطاف إلى تشجيع الابتكار والتجديد في التفكير، مما يؤدي إلى تقدم أكبر في الفهم، ومن ثم ينفي بوبر فكرة أن المناقشة العقلانية تحتاج إلى إطار مشترك، ويرى أن الاختلافات هي المصدر الحقيقي للإبداع والتطور المعرفي.
مفهوم اللذة في ثقاتنا الإسلامية: من الإيحاء الجنسي إلى الامتلاء بالذات
قبل أن نتحدث عن مفهوم اللذة وامتداداتها الثقافية، نحب أن نشير إلى أننا سنعتمد في ذلك على ما كتبه بخصوصها واحد من الكتاب العراقيين البارزين وهو جمال علي الحلاق[3]، كاتب وشاعر عراقي متخصص في تناول القضايا الفلسفية والدينية بطرق نقدية وعميقة. من أهم مؤلفاته: “آلهة في مطبخ التاريخ” الذي يتناول تأملات دينية عن سورة الفاتحة، و “فن الإصغاء للذات” فهو يركز في التأمل الداخلي ومفهوم القلق، بالإضافة إلى “تحطيم الأصنام” الذي يتناول قضايا نقدية تتعلق بالأساطير الدينية والتاريخية، إضافة إلى كتاب بوح السرد وهو الذي سيكون موضوع الدراسة، فتُظهر كتابات جمال علي الحلاق أسلوبًا يدمج بين التأمل الفلسفي والنقد الثقافي، مما يجعله صوتًا فريدًا في الفكر العربي المعاصر.
تناول الحلاق في هذا العمل مفهوم اللذة، وطرح سؤالًا فلسفيًا عن معنى اللذة ولماذا تعرضت للقمع والتحجيم في سياقات الحديث اليومي والتداول العام؟ سؤال يعيد النظر في الطريقة التي نستخدم بها هذا المفهوم، خصوصًا أنه ما يُقرن غالبًا بالمعنى الجنسي، ويوضح أن هذا التقييد ليس عفويًا، بل هو نتيجة تأويلات دينية واجتماعية سعت في حصر اللذة داخل إطار معين، كرست النظرة الدونية للذة وحصرتها في أدبيات دينية وأخلاقية، غالبًا ما تكون أداة لتحقيق غايات سياسية أو اجتماعية، تهدف إلى ضبط السلوك الإنساني وإبعاد الفرد عن إدراكه لذته بطريقة شاملة. وانطلاقا من هذا المفهوم الذي حجمته الثقافة الفقهية والكهنوتية الدينية تصبح اللذة مفهومًا رهينًا لفهم ضيق، لا يتماشى مع طبيعة الإنسان المتعددة الأبعاد. ويشير الحلاق إلى أن إعادة النظر في هذا المفهوم وفهمه بطريقة أوسع يمكن أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان من الأطر الثقافية الضيقة التي فرضتها أجيال وسلطات متعددة.
هل نحن نعيش في بنايات لغوية؟
لكن كي نفهم هذا التحجيم المقصود يلزمنا أن نوضح بأن كل فرد منا يعيش داخل “بناية لغوية”، خاصة به، هذه البناية هي مجموعة من المفاهيم والتصورات التي تكونت بسبب اللغة التي نتحدثها، والبيئة الاجتماعية والثقافية التي ننتمي إليها. ووفقًا للحلاق هذه البناية اللغوية ليست وسيلة للتواصل، بل هي قيد يمنعنا من الانفتاح على تجارب وأفكار الآخرين. ولتحقيق فهم أعمق للعالم يتطلب الأمر أن نخرج من بنايتنا اللغوية الخاصة، ونتعلم كيف نصغي إلى الآخرين، من طريق لغاتهم الخاصة وتجاربهم المختلفة. يقدم الحلاق مثالًا شخصيًا حدث معه، حينما استخدم كلمة “أنطيناك” في نقاش ما، ليجد أن الجمهور يرفضها باعتبارها غير فصحى، غير أن الحلاق بيَّن أن هذه الكلمة وردت في إحدى قراءات القرآن، ما أثار دهشة الحاضرين، هذا الموقف يُظهر كيف يمكن أن يكون الناس أسرى لفهم محدود للغة والمفاهيم، وكيف يمكن للانفتاح على قراءة جديدة أن يحررهم من هذه القيود.
إذا ما انتقلنا إلى الجانب الجسدي من مفهوم اللذة، نجد أن الحلاق يقدم قراءة نقدية للتصورات الدينية والاجتماعية التي غالبًا ما تعاملت مع الجسد بوصفه مصدرًا للخطيئة والشهوة. في التراث الديني عُومل الجسد وكأنه مشكلة، وعليه غُيب أو فُرضت قيود صارمة عليه، لذلك ارتبطت مفاهيم مثل اللذة والشهوة دائمًا بالتحريم، وأصبحت رموزًا للإغواء والضعف الإنسان، لكن الحلاق يقترح فهمًا مختلفًا تمامًا للذة، يرى فيه أن اللذة ليست إحساسًا جنسيًا أو ارتباطًا بالجسد، بل هي شعور عميق بالذات وإدراك الأنا إدراكًا أعمق وأكثر تماهيًا مع العالم، بهذا المعنى فاللذة هي تحقيق للذات من طريق الاستمتاع بالوجود والاندماج مع الجسد والروح في آن واحد، إنها تجربة تتجاوز الحدود المادية لتصبح تحقيقًا نفسيًا ووجوديًا للإنسان.
يذكرنا هذا الكلام بما أتى على ذكره إسحاق خوري في كتابه أيديولوجيا الجسد[4]، الذي أوضح أن هذا الأخير في ثقافتنا العربية والإسلامية اكتسب حظوة ومكانة كبيرة في دراسة أبعاده الإنسانية. لم يكن هذا الاهتمام وليد اللَّحظة التي ازدهر فيها الاجتماع الإنساني أو الأنساق الفلسفية والأنثروبولوجية التي جعلت الكائن الإنساني محورًا لأبحاثها، ولكن الاهتمام بالجسد لصيق باللَّحظة الأولى التي انفجر فيها الوعي الإنساني بذاته وجسده مثيرًا كلَّ التساؤلات بشأنه، ولعلّ الدين في شقّه التوحيدي من طريق نصوصه المقدَّسة كان ولا يزال يقرأ الجسد من منظورات مختلفة تتراوح بين الثنائيات المتناقضة، فالجسد من طريق هذه التَّعابير الدِّينية إما يكون رمزا للطَّهارة تارة، وإمَّا مدعاة للنَّجاسة تارة أخرى بتحديدات تختلف في الشَّكل وتتّفق في المضمون من طريق تخريجات يؤصِّل لها كلُّ دين.
ولم تختلف النَّظرة إلى الجسد في الدين عن غيرها من المناظير الأخرى، خاصة تلك المتعلِّقة بالاجتماع الإنساني، فعالم الجسد هو ذلك العالم المليء بالرِّموز والإشارات والتعابير في مختلف الأوضاع التي يجترحها وقوفًا وركوعًا وجلوسًا وفرحًا وحزنًا، فكان بحقٍّ يشبه المجتمع في تراتبيته كما أشار إلى ذلك خوري، لأن تراتبية الجسد تبدأ بالأعلى وتنتهي بالأدنى، فالأعلى يرمز إلى السموِّ والوجاهة والكرامة، والأدنى يحمل كلَّ معاني التَّحقير والازدراء، وهذه التراتبية في الجسد تتماشى مع تراتبية المجتمع، وتتماهى معه، فعلية القوم دوما هم “الرؤساء” من الرأس و”الوجهاء” من الوجه و”الأعيان” من العين، وفي المقابل تجد كلمات تنتمي إلى الجزء السُّفلي من الجسد تعبِّرُ صراحة عن هذا النَّمط الوضيع الذي يحتلَّهُ هذا الجزء من المجتمع في النظرة إلى الجسد، بوصفه كلمة “خدم” التي تشبه بدرجة كبيرة كلمة “قدم”.
لماذا يُحصر مفهوم اللذة في الجنس؟
وفقًا للحلاق هذه النظرة الضيقة للذة هي نتيجة لمفهوم ديني واجتماعي يسعى دائمًا في التحكم الفردي من طريق ضبط شهواته ورغباته، فالمنظومة الدينية التقليدية غالبًا ما تقدم الجماعة على الفرد، وتحاول تقليص استقلاليته لصالح الحفاظ على النظام الاجتماعي العام. في هذا السياق تصبح اللذة مفهومًا يجبُ قمعه أو توجيهه في اتجاه يخدم مصالح الجماع،. لكن الفهم الجديد للذة كما يقدمه الحلاق، يقوم على تحرير الذات من هذا القيد. فاللذة ليست شعورًا جسديًا أو جنسيًا، بل هي قفزة ناحية الحرية الشخصية والانفتاح على عوالم جديدة من التجربة الإنسانية، بتحقيق اللذة يحقق الفرد ذاته ويمنح وجوده معنى يتجاوز الإطار الاجتماعي والديني الضيق.
إن مفهوم اللذة كما يقدمه جمال علي الحلاق ليس تجربة حسية، بل هو تعبير عن حاجة الإنسان للتحرر من القيود الفكرية والجسدية التي فُرضت عليه. إنه تجربة شاملة تتطلب منا أن نعيد النظر في فهمنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، عندما ننفتح على مفاهيم جديدة ونجرب اللذة كونها إحساسًا بالوجود والذات، نخلق عالمًا جديدًا مليئًا بالتجارب والمعاني، اللذة بهذا المعنى تصبح الوسيلة التي من طريقها يبرر الإنسان وجوده. إنها ليست لحظة عابرة من المتعة، بل هي أساس لتحقيق الذات وفهم أعمق للعالم وللذات نفسها.
تأتي مسألة “اللذة” في هذا السياق بوصفها إحدى المفاهيم التي يسعى الحلاق في تفكيكها وإعادة تشكيلها خارج الإطار الضيق الذي وُضعت فيه تقليديًا، لقد رُبط مفهوم اللذة بالشهوة الجسدية وخاصة بالمعنى الجنسي، وهذا الربط قد دُعم من طريق الأدبيات الدينية والاجتماعية التي تركز في أخلاق الجسد والجنس، لكن هذا التحديد الضيق للمفهوم وفقًا للحلاق، يعزل اللذة عن معانيها الأوسع. ويطرح الحلاق سؤالًا مهمًا: لماذا قُمع مفهوم اللذة داخل سياقات كلامنا اليومي؟ لماذا حُصرت اللذة في نطاق الجنس والشهوة؟ هذا السؤال يقودنا إلى محاولة “إنقاذ” المفهوم من الدلالات الضيقة التي قُدِّمَتْ له عبر الأجيال. اللذة في تصور الحلاق، ليست إحساسًا جسديًا، بل إحساس بالذات نفسها، اللذة هي الشعور العميق بالوجود، والاقتراب من الذات إلى حد الالتصاق بها، من هنا يصبح مفهوم اللذة أوسع وأعمق من كونه مرتبطًا فقط بالجسد. إنه شعور يمكن أن يتحقق من طريق التأمل، التفكير، الإبداع، وحتى من طريق اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بالانتماء إلى ذاته والارتباط بها ارتباطًا عميقًا، هذه الرؤية تفتح أمامنا أفقًا جديدًا لفهم اللذة بوصفها حالة من التحقق الذاتي التي تتجاوز القيود التي فرضتها الأدبيات الدينية والأخلاقية.
أحد الجوانب المهمة التي يناقشها الحلاق هو كيف استخدم مفهوم اللذة بوصفه أداة للسيطرة والقمع في السياقات الدينية والاجتماعية؟ في كثير من الأدبيات الدينية، صُور الجسد بوصفه مصدرًا للخطيئة والعار، ولذلك قُمعت الرغبات الجسدية قمعًا شديدًا، بما في ذلك اللذة التي أصبحت مرادفة للشهوة والمتعة، والشهوة مرادفة للخطيئة مما أدى إلى قمع الجسد ومحاولة تغييبه عن الحياة اليومية، هذا القمع لم يكن لأسباب دينية أو أخلاقية، بل كان أداة في يد السلطات السياسية والاجتماعية كي يسيطروا على الأفراد. اللذة عندما تُفهم بوصفها تحررًا للذات، تصبح تهديدًا للنظام القائم، ولذلك رُبطت بالخطيئة والعقاب وحُصرت في نطاق الجسد والجنس.
هذه النظرة الضيقة للذة وفقًا للحلاق، تخدم مصالح قوى معينة تسعى في الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم، بتقييد اللذة في المعنى الجنسي، حتى يُتجنب أي تفكير في اللذة بوصفه حالة من التحرر الذاتي أو التحقق الفردي، وهكذا يصبح سهلًا السيطرة على الأفراد من طريق قمع رغباتهم وتوجيه تفكيرهم ناحية الجماعة بدلًا من الذات. وإذا كانت اللذة في المنظور التقليدي مرتبطة بالجسد والشهوة الجنسية، فإن الحلاق يدعو إلى تحرير هذا المفهوم من هذه القيود. لأنه يعتبرها قفزة إلى أعلى، أي عملية انفتاح على دلالات جديدة ومفاهيم مختلفة تتجاوز الحدود التقليدية التي وُضعت لها.
يقول الحلاق إننا عندما نتحرر من الفهم التقليدي للذة، نخلقُ عالمًا جديدًا يحترم التجارب البشرية لكنه ينتمي إلى التغير ولا يقف عند حد. اللذة بهذا المعنى ليست حالة جسدية، بل هي حالة من الوعي والإدراك العميق للعالم من حولنا، إنها طريقة لفهم الذات والعالم بطريقة جديدة تجعلنا قادرين على تجاوز القيود التي فُرضت علينا. في هذا السياق يُصبح مفهوم اللذة جزءًا من رحلة الإنسان نحو التحقق الذاتي. إنه لا يتحقق من خلال الجسد، بل من خلال العقل والإحساس والتفكير. اللذة هي التي تمنح الفرد تبرير وجوده المنطقي وهي التي تجعله قادرًا على التحسس والإحساس بالعالم حوله.
البناء اللغوي والفكري: من الحصار إلى التحرر
واحدة من الأفكار الرئيسة التي يناقشها جمال علي الحلاق في كتابه هي فكرة “البناء اللغوي” الذي يعيش فيه كل فرد، هذه البناية اللغوية ليست كلمات وجمل، بل هي بناء فكري وثقافي واجتماعي يعكس طريقة تفكير الشخص ورؤيته للعالم. عندما نتحدث مع الآخرين، نحن لا نتحدث فقط من طريق الكلمات، بل من طريق هذا البناء الذي يحمل معه جميع تجاربنا وأفكارنا وميولنا. الحلاق يؤكد أن التواصل الحقيقي مع الآخرين يتطلب منا أن نتجاوز هذا البناء الخاص بنا، وأن نحاول الدخول في بناءات الآخرين اللغوية والفكرية.
يأخذنا الحلاق في رحلة فكرية وأدبية عميقة، يطرح فيها قضايا فلسفية ترتبط بالوجود الإنساني. إنه يدعونا إلى التفكير بجرأة والانفتاح على مفاهيم جديدة، مما يجعلنا قادرين على تحقيق ذواتنا وفهم العالم فهمًا أعمق. ولفهم هذا المنظور الفكري لا بد من الوقوف عند جوانب أساسية في مشروعه الفكري واللغوي. فيعدُّ الحلاق من القلة التي تجمع بين الأدب والفكر، فهو ليس مفكرًا أو كاتبًا يقدم طرحًا عقلانيًا صرفًا، بل يمتلك أسلوبًا أدبيًا رفيعًا يمزج بين الشعور والوجدان مع العمق الفلسفي والتحليلي، وهو بهذا يكسر الحدود التقليدية التي تفصل بين ما هو أدبي وما هو فكري، متجاوزاً المفهوم القائم على الفصل الصارم بين العقلاني والوجداني، فالعلاقة بين الأدب والفكر في العالم العربي الإسلامي، وخصوصًا لدى من يحاولون الجمع بين هذين الحقلين هي علاقة شائكة. فبينما يرى بعضهم أن الأدب هو مجال للتعبير الوجداني فقط، يكون الفكر هو عالم العقل والتحليل، وهذا التصور أدى إلى تراجع التداخل بين الاثنين مع أنهما متصلان اتصالًا يصعب فيه الانفصال، ولكن الحلاق يقدم نموذجًا مغايرًا، يُظهر فيه أن الفكر يمكن أن يكون حاضرًا في الأدب وأن الأدب يمكن أن يُعبِّر عن أفكار عميقة بطريقة جمالية، بل وأكثر من ذلك يمكنه أن يفتح آفاقًا جديدة لفهم معاني المفاهيم والمصطلحات.
“بوح السرد” ليس كتابا، بل هو تمارين في الإصغاء كما يصفه الحلاق. الإصغاء هنا ليس للإيقاعات اللفظية، بل للإيًقاعات الفكرية والمعنوية التي تكون عالمنا اللغوي والاجتماعي. كل إنسان كما يقول الحلاق، يعيش في “بناية لغوية” خاصة به، هذه البناية اللغوية ليست كلمات أو تراكيب، بل هي انعكاس للميول الشخصية والطبقة الاجتماعية والتاريخ الشخصي، هذه “البناية” تحدد طريقة تواصلنا مع الآخرين، وفي بعض الأحيان قد تكون عائقًا أمام الفهم المتبادل. فهو يشير إلى أن كل فرد لديه إطار خاص به لفهم اللغة وتفسيرها، وهذا الإطار يختلف بناءً على عديد من العوامل مثل الطبقة الاجتماعية والخلفية الثقافية وحتى اللحظة التاريخية التي يعيش فيها الفرد، هذه الفكرة تكون مدخلًا أساسيًا لفهم مفهوم “اللذة” لدى الحلاق الذي يحاول من طريقه تفكيك كثير من التصورات المتداولة في مجتمعنا، خصوصًا فيما يتعلق بالجسد والعلاقات الإنسانية.
المراجع:
[1] – جيل دولوز، وفيليكس غتاري. ما هي الفلسفة؟. ترجمة مطاع الصفدي، المركز الثقافي العربي.ط1،1997، ص:27.
[2] – كارل، بوبر. أسطورة الإطار. ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة، العدد 292،2003. ص: 59
[3] – جمال، علي الحلاق. بوح السرد تمارين في الإصغاء. نابو للطابعة والنشر،ط1،2018. ص: 69.
[4] – فؤاد، إسحاق الخوري. إيديولوجيا الجسد رموزية الطهارة والنجاسة. دار الساقي، ط1،1997.