تكوين
“ما سُل في الإسلام قط مثلما سُل على الإمامة”
الشهرستاني
مقدمة
تعدُّ أول سمة من سمات العقل الإسلامي هي المزج بين: الميتافزيقي/ الإلهي والسياسي/ البشري، ويظهر هذا في مفهوم الإمامة الذي صيغَ من داخل علم الكلام، وهو علم أصول العقيدة المختص بدرء الشبهات والرد على المنكرين والمشككين في العقيدة الإسلامية، وعرفه التوحيدي (400هـ) في رسالة ((ثمرات العلوم)) بأنه باب من الاعتبار في أصول الدين. ووَفق المرويات التاريخية فإن نشأة الفرق الكلامية بالأساس جاء من رحم الصراع السياسي، ويتضح هذا من حضور الإمامة أكثر من أي موضوع آخر، وإذا كانت الإمامة في السياق الشيعي أخذت موضع النبوة من خلال فتح وظيفة النبي الإرشادية في الإمام المعصوم الذي يتلقى علمه اللدني من الله. فإنها في السياق السني لم تختلف عنها، فقد وصلت في نهاية الأمر بفرض الأمويين إمامتهم بوصفها حقيقة الدين وما جاء به القرآن واستخدمت الفقهاء في ذلك، حتى قال معاوية بن أبي سفيان في إحدى خطبه: لن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني. ربما أخذت صياغة نمط الإمامة في السياق السني شكلًا أقل وضوحًا وصراحةً مما هي عليه في السياق الشيعي، ولكنها أفضت إلى الإمام المعصوم كذلك ولكن بصورة مختلفة.
تحاول هذه الدراسة تقديم صورة عن طبيعة الصراع على الإمامة الذي جاء في بدايته ذا طابع قَبَلي، ونادى كل فرد بإمامته لصلة الدم مع الرسول، أو البديل عن صلة الدم وهو “قدمه في الإسلام”، وصفة القدم في الإسلام وضعها العقل الإسلامي في بدايته محل صلة الدم، وهو أمر مفهوم في إطار حضور الديانة الحيوي والجديد، واستقبال عقل شبه الجزيرة العربية للإسلام بمفاهيمه وآلياته، ولكن الصراع انتقل بعد ذلك إلى إطار الصراع الديني وحماية العقيدة، على يد الأمويين خصوصًا عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، في حادثة رفع المصاحف على أسنة الرماح واستدعاء القرآن في ساحة القتال السياسي، وذلك بسبب غياب معاوية عن حلقة المتصارعين على الإمامة وتراجع جيشه أمام جيش علي، وحدث ذلك بنصيحة عمرو بن العاص الذي أدرك مبكرًا قوة القرآن المجاوزة للسيف. ومنذ ذلك الحين دخل الصراع السياسي منطقة الصراع على الحقيقة والدين وحق قيادة الناس إلى الدنيا والأخرة، ولعبت السلطة الأموية دورًا كبيرًا في التخفي خلف النص، وقتل آل بيت النبي ﷺ والتكبير بعد قتلهم، أي قتلهم باسم رفع راية الإسلام وحماية الدين، وذلك من طريق استنطاق القرآن برغباتهم. وكذا فعل شيعة علي أيضا واستنطقوا القرآن بإمامة علي بن أبي طالب، بل وصل بهم الحد إلى اعتبار القرآن وصية لإمامة علي بن أبي طالب، أو شبيه بذلك. ولم يختلف الأمر عنه في السياق السني، فقد صاغت السلطة السياسية رغباتها في المفاهيم والأحكام الفقهية، وكانت الأحكام الفقهية تنتج عنها بعد قيام الخليفة بها أي أنها تُصاغ بعد فعله.
وتأتي الدراسة في ثلاثة أجزاء تعبر عن انتقال مراحل صياغة الصراع على السلطة، وأول هذه المراحل هي مرحلة الصراع القبلي على السلطة بعد موت النبي. ثاني هذه المراحل هي دخول معاوية بن أبي سفيان حلقة الصراع على السلطة، ونقله الصراع من الإطار القَبَلي الذي اعتمد على صلة الدم، إلى صراع على الدين وحقيقته، باستدعاء القرآن إلى الصراع في حادثة رفع المصاحف على أسنة الرماح، وتأميمه بعد ذلك لصالح الدولة الأموية والحديث باسمه، وإطلاق لفظ أهل السنة عليهم في مقابل الشيعة. والمرحلة الثالثة تتحدث عن الانتقال من مرحلة الصراع على السلطة إلى مرحلة التنظير الديني لها، وذلك في عصر التدوين الذي صيغَ فيه العقل الإسلامي، وتوضيح كيفية تنظير الفقهاء للسلطة وصياغة رغبات الحاكم في إطار ديني، في حالة تماهي بين الله والحاكم. ويعدُّ المقال الذي بين أيدينها هو الجزء الأول من هذه الدراسة.
موت النبي ﷺ وبداية الصراع على السلطة
في تاريخ أي ديانة يمثلُ موت النبي علامة فارقة ونقلة مختلفة لطبيعة الديانة، لأنه بعد موت النبي لا يكون هناك من يتلقى الوحي، ويقدر على فهمه وتفسيره مثل النبي المُرسل بهذا الوحي. ومع النبي محمد ﷺ يكونُ الأمر أكثر تعقيدًا، فقد جمعت تجربته بين الإرشاد الروحي وتبليغ الرسالة الإلهية، والشأن الدنيوي والإدارة السياسية، وهو أمر مفهوم في إطار المجتمع القبلي في شبه الجزيرة العربية عام 610 م، أي وقت نزول الوحي، فقد كان النمط الاجتماعي القبلي لا يعرف غير شيخ القبيلة الذي يحمل السيادة بين يديه والحكم بين الأطراف المتنازعة، ولم يكن للنبي ﷺ أن يكون له دورٌ دون أن يحمل هذه السلطة الدنيوية، ويعمل على تسييس الأفراد وإدارة المجتمع، فلم يكن هناك مجال للفصل بين السلطات أو تحديدها من الأساس. والواقع أن رفض نبوة محمد ﷺ لم يخرج إلا من إطار النزاع القبلي، ويخبرنا القرآن عن هذا بقولهم لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ* (31) (الزخرف)، وهو أسلوب استنكاري لا يرفض منطق النبوة وعدم ألوهية المصدر، ولكن يرفض تمثلها في شخص النبي ﷺ، فهو لم يكن غنيًا أو من شيوخ القبائل الكبار، وكان عليه -وفق هذا المنطق- للقيام بدعوته أن يملك بين يديه زمام الحكم والإدارة الدنيوية.
وامتلاك النبي ﷺ إدارة الشأن الدنيوي وبلاغ الرسالة والناصية الدينية الروحية جعل حادث موت النبي ﷺ بداية للصراع السياسي/ القبلي، فقد كان نمط خليفة النبي المستقر في الذهن حين ذاك هو حامل الراية النبوية الإرشادية، التي تملك حق قيادة الجموع دينيا ودنيويا، ومن ثم ظهر الخلاف القبلي مرة أخرى والنزاع على السياسة والحكم. ويذكر الإمام البيهقي (٣٨٤ – ٤٥٨ هـ) على لسان عمر بن الخطاب أن أبا بكر حين دار النزاع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار قال: “لَن نَعرِفَ هذا الأمرَ إلَّا لِهَذا الحَيِّ مِن قُرَيشٍ، هُم أوسَطُ العَرَبِ نَسَبًا ودارًا، وقَد رَضِيتُ لَكُم أحَدَ هَذَينِ الرَّجُلَينِ فبايِعوا أيَّهُما شِئتُم، وأخَذَ بيَدِي وبيَدِ أبي عُبَيدَةَ ابنِ الجَرّاحِ وهو جالِسٌ بَينَنا”([1])، وحديث أبا بكر هنا يعبرُ عن إعادة صياغة النزاع القبلي مرة أخرى ولكن بصورة مختلفة، تملك فيها القبيلة السلطة الدنيوية والدينية معًا، وهذا ما دفع أحد الأنصار إلى القول: “مِنّا أميرٌ ومِنكُم أميرٌ يا مَعشَرَ قُرَيشٍ”[2]. وانتهى الأمر بأن مد عمر بن الخطاب يده لأبي بكر وبايعه، بيد أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام تأخرا عن بيعة أبي بكر، وفسر هذا التأخير تفسيرات عديدة بأساليب اعتذارية وأسباب عديدة، مثل تأخير أبو بكر عليًّا والزبير عن المشورة: ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله ﷺ إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين وإنا لنعلم بشرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله ﷺ بالصلاة بالناس وهو حي”[3].
ويذكرُ أبن رشد الجد أن عليًّا تأخر في مبايعة أبي بكر لأنه كان يرى في نفسه أحقية للخلافة عنه، وذكر في كتابه: “قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول: بايع علي بن أبي طالب لأبي بكر وهو كاره على ما أحب أو كره ومن معه من أهل البيت. قال محمد بن رشد: إنما توقف علي بن أبي طالب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – في أول وهلة عن مبايعة أبي بكر لما كان يعتقد من أنه أحق بالخلافة منه لمكانه من النبي”[4]، ويذكر البَيْهَقي أن أبا بكر قال لعلي “ابنَ عَمِّ رسولِ اللهِ ﷺ وخَتَنَه، أرَدتَ أن تَشُقَّ عَصا المُسلِمينَ؟ فقالَ: لا تَثريبَ يا خَليفَةَ رسولِ اللهِ”[5] وللزبير بن العوام “ابنَ عَمِّ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وخَتَنَه، أرَدتَ أن تَشُقَّ عَصا المُسلِمينَ؟ فقالَ: لا تَثريبَ يا خَليفَةَ رسولِ اللهِ”[6]. ووَفق ما ذكره البيهقي فإن مبايعتهما جاءت بطلب من أبا بكر، واتهامهم بشق عصا الطاعة وهو اتهام موصوف بالكفر.
ورغم اختلاف التفسيرات وذكر الأسباب عن عدم مبايعتهما فإن الفتنة التي حدثت والقتال الدامي على السلطة، يشير إلى السبب الحقيقي وراء غيابهما عن البيعة، وهو النزاع على السلطة واستدعاء العصبية القبلية التي أفرزت الحرب الدامية فيما بعد ذلك. وخطاب أبو بكر عن قريش خير تعبير عن اتخاذ النزاع صفة بدوية قبلية أكثر مما هي روحية، وهو أمر مفهم في سياق الثقافة والنمط الاجتماعي البدوي القبلي القائم. وانتهى الأمر في الأخير إلى استقرار الخلافة في يد أبي بكر، واضطر إلى لم جمع المسلمين وخوض حروب الردة بنزوعٍ سياسي عربي قبلي يعرف طبيعة المجتمع الذي يحكمه، وعبر عن هذا قوله لعمر بن الخطاب، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
موت عمر وعودة النزاع على الخلافة
وَفق ما يذكر البيهقي ويروى في الصحيحين “في قِصَّةِ مَقتَلِ عُمَرَ بنِ الخطابِ – رضي الله عنه – قال: فقالوا: أوصِ يا أميرَ المُؤمِنينَ، استَخلِفْ. فَقالَ: ما أحَدٌ أحَقَّ بهَذا الأمرِ مِن هَؤُلاءِ النَّفَرِ أوِ الرَّهطِ الَّذينَ توُفِّيَ رسولُ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم – وهو عَنهُم راضٍ، فسَمَّى عَليًّا وعُثمانَ والزُّبَيرَ وطَلحَةَ وسَعدًا وعَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ – رضي الله عنهم -، وقالَ: لِيَشهَدْكُم عبدُ اللّهِ بن عُمَرَ، ولَيسَ له مِنَ الأمرِ شيء.”[7]، وأبعد عمر بن الخطاب ابنه خوفًا من اتخاذ التوريث سنة دينية، أو أن تنتقل الخلافة من خلافة للنبي زاهدة لملك وقيصيرية وهو أمر كان معيب ومستهجن حينها، وسعى الجميع لعدم وجوده. وعبر موقف عمر بن الخطاب عن ادراكه لطبيعة شبه الجزيرة العربية والعمل بالمنطق القبلي، وهذا ما جعله يشدد على الستة الذين رشحهم للخلافة من بعده ألا يتنازعوا، خصوصًا أن كلًا منهم له عصبية ستقف وراؤه. واستبعد كذلك ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة لصلة الدم بينهما، ووَفق المرويات عن عمر أنه مشهود له خوفه من تولي أقاربه والدخول في الطبيعة القبلية مرة أخرى، التي كانت تُسمى الجاهلية ورُفضت بشدة كونها مضادة للإسلام.
وخصَّ عمر بذلك علي بن ابي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وقال: “إِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمَرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ عِنْدَهُمْ شِقَاقَاً*، فَإِنْ يَكُ شِقَاقٌ فَهُوَ فِيكُمْ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَكُمْ إِنَّمَا يُؤَمِّرُونَ أَحَدَكُمْ أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَا عَلِيُّ فَاتَّقِ اللهَ، وَلَا تَحْمِلْ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ يَا عُثْمَانُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَّقِ اللهَ، وَلَا تَحْمِلْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَاتَّقِ اللهَ، وَلَا تَحْمِلْ أَقَارِبَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ أَمِّرُوا أَحَدَكُمْ”[8]. وجاء حديث عمر هنا أكثر تعبيرًا عن الطبيعة القبلية التي تحكم هذه العقول وقتها وعن معرفته بطباعهم، فلم تخرج الفتنة بعد ذلك إلا لتولي عثمان بن عفان بني مُعَيْطٍ على رقاب الناس، ورفضهم لهذا وحين قالوا له أن عمرًا لم يكن ليولي أقاربه وذويهن قال لم يوليهم عمر تقربًا إلى الله ونحن نوليهم صلة رحم وتقربًا إلى الله. ولولا نزوع كل طرف إلى ذويه الذين ينصرونه ما قامت الفتنة، وهذا ما يعطيها نزوعًا قبليًّا بامتياز.
وبدأ النزاع على السلطة قبل وفاة عمر بن الخطاب، حينما طُلب من المرشحين إلى الخلافة التشاور فيما بينهم والاهتداء إلى رأي فعلا صوتهم وقال عبد الله بن عمر يعلوا صوتكم ولم يمت أمير المؤمنين بعد، فقال عمر: “أَلا أَعْرِضُوا عَنْ هَذَا أَجْمَعُونَ، فَإِذَا مِتُّ فَتَشَاوَرُوا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، وَلا يَأْتِيَنَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ إِلا وعليكم أميرا مِنْكُمْ”[9]. وبعد أن مات عمر ودُفن “جَمَعَ الْمِقْدَادُ أَهْلَ الشُّورَى فِي بَيْتِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ- وَيُقَالُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُقَالُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنِهَا- وَهُمْ خَمْسَةٌ، مَعَهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَطَلْحَةُ غَائِبٌ”[10]، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وجلسا بالباب فرفض سعد بن أبي وقاص جلوسهما، وقال لهما أتريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى، فتنافس القوم في الأمر واخرهما من مكان المجلس. وتعدُّ هذه أولى خُطوات عمرو بن العاص ومحاولاته الدخول في النزاع على السلطة، وهو لم يكن ضمن الأسماء المطروحة.
ووَفق ما يذكر الطبري فإن عبد الرحمن بن عوف سألهم من يخلع نفسه ويتولى أمر تولية الخليفة فرفضوا خلع أنفسهم، فخلع هو نفسه ليتولى هذا الأمر، وقال عثمان أنا أول من يرضى وأمَّن البقية على قوله. وخلا عبد الرحمن بن عوف بكلٍ من سعد والزبير، ورجح كلًا منهما ولاية عثمان بن عفان، وفي اجتماعهم في المسجد ناصر كل فريق من يريد إمامته، وانتصر أصحاب علي له لقرابته الدموية لرسول الله ﷺ فهو من آل بيت النبي ﷺ، وانتهى الأمر بمبايعة عبد الرحمن بن عوف عثمان وانكر عثمان هذه البيعة وقال: “حَبَوْتَهُ حَبْوَ دَهْرٍ، لَيْسَ هَذَا أَوَّلَ يَوْمٍ تَظَاهَرْتُمْ فِيهِ عَلَيْنَا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ، وَاللَّهِ مَا وَلَّيْتَ عُثْمَانَ إِلا لِيُرَّدَ الأَمْرَ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ كُلُّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ”[11]. ولم يكن علي راضيًا عن إمامة عثمان بن عفان منذ البداية، ورأى أنها إذا ذهبت إلى بني أمية فلن تخرج منهم، وأن بني هاشم أولى منهم بالخلافة؛ فمنهم النبي ﷺ ولهم السيادة، وهو الأقرب إلى النبي ﷺ نسبًا، ومن ثم فهو أحق بها.
مقتل عثمان ودخول معاوية الصراع على الإمامة
في هذا الصراع على الإمامة والسلطة لم يكن لمعاوية ذكر فيه أو ندية أو نمط من الوجود في هذه الدائرة، ومحاولة عمرو بن العاص التلصص على مجلس الشورى بعد موت عمر بن الخطاب رُفضت، ولكن بعد مقتل عثمان رأى معاوية برفقة بن العاص أن بإمكانه دخول الصراع من باب المطالبة بدم عثمان بن عفان، وخرج مطالبًا بدم عثمان في أول الأمر، ثم أخذ يطالب بالإمامة وراثة عن عثمان بعد ذلك. وكان الطرفين المتنازعين في الأساس على الإمامة هما: (عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف) و(علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي)، أي صراع بين بني هاشم وبني وأمية. وللأموين نظريات ثلاثة لتبرير مشروعية إمامتهم على المسلمين، وكان أول هذه النظريات المدخل الذي دخل منه معاوية، وهو: وراثتهم للخلافة عن عثمان الذي أخذها بالشورى، وقُتل ظلمًا وأُخذت الخلافة منهم. وباستعمال هذا الطرح يُفهم خروج معاوية عن بيعة علي ومطالبته بدم عثمان بن عفان فور توليه الإمامة، لأنها كانت السبيل الوحيد لدخول الصراع الذي لم يحمل أي احتمالية لوجوده في هذا الصراع. فما إن تولى علي بن أبي طالب أمر الإمامة، حتى رفض قومٌ من الذين كانوا يعينون أبا بكر وعمر، وكان للأمر بعد سلطوي، فقد سعت الأطراف الأخرى للنزاع على السلطة ولم يلبث الأمر أن ذاع وانتشر داخل المسلمين، وأصبح المسلمون يشنون حربًا على المسلمين([12]). واشتدت الأزمة السياسية ورفض معاوية وطلحة والزبير وعائشة ومعهم أهل الشام مبايعة علي. في حين أن أهل الكوفة بايعوا عليًّا ورأى في نفسه أحقية في الخلافة، كما رأى معاوية في نفسه أيضًا أحقية في الخلافة.
الحواشي:
* – قال الحافظ ابن كثير في (مسند الفاروق: ٢/ ٦٧٦): (فهؤلاء رءوس قريش في الجاهلية، وسادة المسلمين في الإسلام، وممن سماهم رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ونصَّ عليهم بأنهم من أهل الجنة. ويذكر الطبري في الجزء الرابع من تاريخ الطبري ص 228: أن عمر قال للستة الذين اختارهم: إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُكُمْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَقَادَتَهُمْ، وَلا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ الا فيكم، وقد قبض رسول الله ص وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، إِنِّي لا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْكُمْ إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ اخْتِلافَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَيَخْتَلِفَ النَّاسُ، فَانْهَضُوا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنٍ مِنْهَا، فَتَشَاوَرُوا وَاخْتَارُوا رَجُلا مِنْكُمْ ثُمَّ قَالَ: لا تَدْخُلُوا. حُجْرَةَ عَائِشَةَ، وَلَكِنْ كُونُوا قَرِيبًا، وَوَضَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ.
* – ويذكر سعيد بن منصور في سننه، حدَّثنا سعيدٌ، قال: نا خالدُ بنُ عبدِ اللهِ، عن حُصَينٍ (٣)، عن عامرٍ الشَّعْبيِّ؛ في قولِهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ (٤) هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ قال: هو الوليدُ بنُ المغيرةِ المَخْزُوميُّ، وهو الوَحيدُ (١)، وعبدُ يَاليلَ بنُ عمرٍو الثَّقَفيُّ. نقلا عن، سعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، تحقيق فريق من الباحثين بإشراف وعناية: أ. د. سعد بن عبد الله الحميد و د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، ج7، دار الألوكة للنشر، الرياض، 2012، ص 290-291. راجع أيضا، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي، التفسير (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي، ج3، دار الكلم الطيب، بيروت، 1998، ص271.
المراجع:
[1] – بو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ج16، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية ، القاهرة، 2011، ص508.
[2] – المصدر السابق، ص 509.
[3] – إبراهيم بن عامر الرحيلي، الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماوي الضال، ط3، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 2003، ص 336.
[4] – ابن رشد الجد (أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي)، تحقيق محمد حجي، ج18، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1988، ص 534.
[5] – البيهقي، السنن، ص 512.
[6] – المصدر السابق الموضع نفسه.
[7] – البيهقي السنن الكبرى، ج16، ص 536-537. ومذكور في الصحيحين، البخاري طبعة التأصيل ج2، ص 298، رقم 1403. صحيح مسلم طبعة تركيا، ج2، ص 81، رقم 567.
[8] – محمد سالم الخضر، البلاغة العمرية، مبرة الآل والأصحاب، ط1، 2014، ص244-245.
[9] – الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج4، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967، ص229.
[10] – المصدر السابق، ص 230.
[11] – المصدر السابق، ص 233.
[12] – حسين (طه)، الفتنة الكبرى، ج2 (على وبنوه)، ط17، دار المعارف، القاهرة، 2014، ص 32. راجع أيضا، الشهرستاني، الملل والنحل، ص 38-40.