التأميم السياسي للقرآن: الجزء الثاني…رفع المصاحف على أسنة الرماح وبدء تسييس القرآن وتأميمه

تكوين

“السلطة تملك السيادة الكاملة على المقدس ويمكنها استعماله لمصلحتها وفي كل الظروف”

                                                                                                                                                           جورج بلانديه ([1])

ظلَّ الصراع على السلطة بعد موت النبي ﷺ في سياق قَبَلي ينادي باسم القبيلة أو صلة الدم، حتى أن مطالبة عليًا بالإمامة كان بسبب الصلة الدموية بالنبي، وهذا ما صيغَ فيما بعد داخل النسق الشيعي وهو أن الإمامة تكون من أبناء علي وفاطمة الزهراء، عدا مجموعة نادت بإمامة محمد بن الحنفية بن علي من زوجة غير السيدة فاطمة الزهراء. ورغم اتخاذ الصلة الدموية لعلي بالنبي بعد ذلك طابعًا دينيا، إلا أنها في هذه الأثناء كانت تؤخذ بالمبدأ القَبَلي الذي يحكم فكر شبه الجزيرة العربية، خاصة حين دخل الصراع بين بني هاشم وبني أمية، وهما قبيلتين لهما تاريخ طويل في النزاع قبل الإسلام. فالنزاع كان سمة أساسية لمجتمع شبه الجزيرة العربية وجاء القرآن ينتقد ذلك، وإن كانت المعلومات التاريخية قليلة في هذا الخصوص، وتعرفُ من الغموض وعدم الثقة مما يعرفه أي تاريخ، فإن الخوف من الفرقة والنزوع إلى الجماعة ورفض الفرقة واستغلال هذا الأمر سياسيًا يدل على نزعة الصراع الموجودة، ويشير أستاذ الأدب العربي قبل الإسلام عبد الستار جبر (1969) إلى هذا بأن أول ذكر للعرب في التاريخ المدون كان لاشتراكهم في معركة حربية وليس أي نشاط آخر، مثل التجارة أو طقس ديني أو غيرها[2].

وأخذ الصراع طابعه القبلي حتى رفع معاوية واتباعه المصاحف على أسنة الرماح، والتحكيم للقرآن واستنطاقه بعد ذلك برغبة معاوية وعمرو بن العاص، ودخل الصراع إطار الأكثر قدرة على استهلاك النص لصالحه. ويتضح ذلك في دهاء معاوية الذي تغافل عن صلة الدم عند بداية الصراع ولجأ إلى القرآن، ثم  سعى بعد ذلك في الإمامة لأنه ورثها عن عثمان بن عفان، بل أنه شرع توريث الإمامة في بني أمية بعد ذلك مستعملًا الإطار الديني، وأوَّل القرآن واستنطقهُ. وحملت لحظة رفع المصاحف على أسنة الرماح رمزية توضحُ أليات العمل السياسي واستغلاله للمقدس والسعي في تجنيده من أجل أهدافه، وهي سمة معهودة طوال التاريخ الإنساني. ويكمن المشكل في العقل الإسلامي المعاصر في عدم إدراكه للدور السياسي في صياغة النمط الديني واستغلال المقدس. لذا تقدم هذه المقالة توضيح لبداءة تسييس الأمويين القرآن وتأميمه وصياغة نمط الحكم في قالب ديني وتقديمه على أنه أمر الله ومراده.

رفع المصاحف على أسنة الرماح واستدعاء القرآن

أفضى الصراع على الإمامة إلى حروب عديدة معروفة تاريخيًا، وأشار الشهرستاني إلى هذا بقوله ما سُل سيف في الإسلام مثلما سُل على الإمامة، والواقع أنه ما من حرب أقيمت في ديار المسلمين إلا على الإمامة. وعن دخول القرآن في هذا الصراع فإنه حدث في معركة صفين، عندما تقدم جيش بني هاشم مُمثلًا في الإمام علي واتباعه، على جيش بني أمية مُمثلًا في معاوية وعمرو بن العاص واتباعهما، رأى عمرو بن العاص أن النصر العسكري عزيز وعليه أن يستعين بأداة أخرى أشد من السيف ولها قوة أكبر، واستقر بن العاص على أن القوة المجاوزة للسيف هي القرآن وبدأ في استغلالها، وطلب أن يأمر معاوية الجنود برفع المصاحف على أسنة الرماح طلبًا للهدنة والمطالبة بالاحتكام إلى القرآن[3]. ونجح ابن العاص في نقل الصراع السياسي من سياقٍ قبليٍ تعتدُّ كل قبيلة بما لديها وتطالب بصلتها الدموية، إلى السياق الديني، فتكون الفرقة الحاكمة هي الأصلح دينيا وتحكم بما أنزل الله، ولهذا الأمر واقع مؤثر في نفوس المسلمين، خاصة أن محاولتهم البحث عن الإمام هي محاولة البحث عن حامل راية النبي ﷺ الإرشادية التي تحمل صلاح الدنيا والآخرة، وهذا ما حدث عندما “رُفِعَتْ قالُوا: نُجِيْبُ إلى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ونُنِيْبُ إلَيْهِ”[4]، واحدثت الفرقة بين صفوف علي من يقبل بالتحكيم ومن يرفضه وقال علي حينها: “القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال”([5]).

ووَفق ما يذكر ويل ديورانت “كان معاوية خبيرًا بشؤون الدنيا غير متزمت في الدين، وكان يرى في الدين بديلًا من الشرطة، أقل منها نفقة، ولكنه لا يصح أن يكون حائلًا بينه وبين الاستمتاع بطيبات الحياة”[6]، ولم ينكر أحد هذه الرؤية، بل إن التاريخ الإسلامي بعد ذلك يُقرها من طريق أحداثه. وبعد رفع المصاحف على أسنة الرماح نادى معاوية:” يا أهل العراق إذا قتلنا وقتلتم فمن يدفع الترك والروم عن حريمنا وحريمكم؟ بيننا وبينكم كتاب الله، فقال أهل العراق أجبنا”[7]، وفطن عليًا إلى حيلتهم ونادى في الناس وقال: “عِبَادَ اللَّهِ، امْضُوا إِلَى حَقِّكُمْ وَصِدْقِكُمْ وَقِتَالِ عَدُوِّكُمْ ; فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ وَلَا قُرْآنٍ، أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنْكُمْ، وَقَدْ صَحِبْتُهُمْ أَطْفَالًا، وَصَحِبْتُهُمْ رِجَالًا، فَكَانُوا شَرَّ أَطْفَالٍ، وَشَرَّ رِجَالٍ، وَيْحَكُمُ! وَاللَّهِ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهَا رَفْعَ مَنْ يَقْرَأُهَا وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهَا وَإِنَّمَا رَفَعُوهَا خَدِيعَةً”[8]، وعبارة الإمام علي التي نجدها في العديد من كتب التراث تعبر عما كان مأخوذًا عنهم، وأن هذه هي الرؤية الاجتماعية لهم التي قدمها ويل ديورانت.

وحصل شقاق بين جيش الإمام علي ورفض عديد منهم الاستمرار في القتال، وقالوا أيدعوننا لكتاب الله وتدعونا إلى السيف، وحمله الخوارج على الانصياع إلى التحكيم. وانتهى الأمر بخدعة أخرى من ابن العاص أفضت بالحكم إلى معاوية، ولما بُلغ علي بما حدث أمر بقتل كل من قال بالتحكيم ونادى به، وقال: “تركا حكم الله، وحكما بهوى أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف، فأماتا ما أحيا القرآن، وأحييا ما أماته”([9]). ودارت صراعات عديدة بين علي وأعوانه وبينه ومعاوية، أفضت في نهاية الأمر بولاية معاوية وقتل علي بيد أحد الخوارج.

التأميم الأموي للقرآن والاستهلاك السياسي للدين

انتقال الصراع من السياق القبلي وصلة الدم إلى سياق الحكم الديني، فتح بابًا لمعاوية يمكنه من استغلال براعته السياسية ودهاء عمرو بن العاص والتخفي وراء القرآن وصياغة نمط حكمه بوصفه الحكم الإلهي. فرفع المصاحف على أسنة الرماح ما كان غير بداية لتخفي السلطة خلف القرآن، خاصة أن القرآن جاء بشقٍ تشريعي يعمل على تنظيم حياة المسلمين، فقد كان على معاوية إرساء مشروعيته بدعائم مضمونة، وخاصة أنه كانت هناك انشقاقات عديدة ما تزال قائمة داخل الإمبراطورية الإسلامية، فعمل – كما يرى أركون- على تأميم الدين ووضعه في خدمة الدولة([10]) وتثبيت مشروعيته وصياغة حكمهم بصيغة دينية يبدو فيها أنه أمر من الله، ومنذ ذلك الحين تم مزج السياسي بالديني([11])، وأضحى الدين مبرّرًا كافيًا للسيطرة السياسية وداعمًا للشخصيات الحاكمة التي تفتقر إلى مشروعية التأييد، وذلك من طريق فرض صورة للحكم يكون الحاكم فيها أداة إلهية تعمل وَفقًا للمراد الإلهي يحكم الله من خلاله([12])، وهذا ما حصل في حادثة صفين ورفع المصاحف على أسنة الرماح واللجوء للتحكيم، فهو تخفٍ خلف القرآن واستنطاقه برغباتهم، وهذا ما عبرت عنه جملة علي بن ابي طالب “هو كلام بين دفتي صحف لا ينطق ولكن ينطق به الرجال” أي أنه وسيلة للتخفي خلفه.

وبالفعل أصبح الحاكم على يد الأمويين “خليفة الله” في كل شيء، فقد كان الرهان الأخير على الصراعات والمناقشات هو الربط المحكم -الذي يقدم في صورة بديهية- بين السلطة الإلهية والسلطة السياسية([13]). فأنتجت شكلًا من الحكم يمتلك الحاكم فيه ناصية الدنيا والآخرة، فيقول ((معاوية)) في خطبة الجمعة: “أيها الناس اعقلوا قولي فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني”([14])، وهي عبارة تحمل مضمون حمله الراية النبوية الإرشادية كاملة وحكمه باسم الله. وكان الفكر السياسي –الذي يخرج من بنيته الفكر الديني- يتمحور حول الحاكم، كما كان الفكر الديني يتمحور حول الله، وهُمشَ الدور الإنساني والحديث عن الرعية، ولم تعد السلطة السياسية تخدم الإسلام وتسعى في تحقيق غايته، بل أصبحت هي الغاية التي من أجلها يؤول ويلون الدين كي تحظى بالمشروعية المنشودة. فوَفق قول نصر حامد أبو زيد: “لم يكن الإسلام هو موضوع التأويل، بل كان الواقع الخارجي ومتطلبه الأيديولوجي هما القصد والغاية التي سقطت على الأصل فلونته”([15]).  وقد أخضعت السلطة الإسلامية الإسلام لما يمكن أن نسميه عملية الأدلجة، كي تتمكن من حكم الشعب بمشروعية مطلقة. وكما يمثل الدين في إحدى زواياه الكبرى ديْنًا للآلهة على البشر لأنهم بشر، وعلى ما هو عليه من نعمٍ ونقم([16])، صاغت الدولة الأموية حكمها، فالبشر الواقعون تحت رقعة الحكم الأموي مدينون للحاكم كونهم على ما هم عليه.

رغم انتصار معاوية وامتلاكه السلطة وحق الحديث لم يذعن أنصار علي بن أبي طالب لانتصاره، ودخل الصراع الإطار الديني وأصبح كل منهما يعمل في إثبات أحقيته الدينية أكثر من الآخر. من هنا أصبح هناك تياران وهما أكبر تيارين في الإسلام: التيار الذي تتبناه الدولة الأموية وتتحدث بواسطته، وأطلقوا على أنفسهم التيار السني. والتيار الذي يعارض السلطة القائمة، وهم من يُطلق عليهم الشيعة أو العلويين. ورَكن التيار السني إلى السلطة السياسية التي تتحدث بواسطته، لتوحيد صفوفه وتوسيع شعبيته، في حين عمل التيار الشيعي في البحث عن سبيل من أجل توحيد كلمتهم والتفاف الناس حولهم، فما كان منهم إلا أن عملوا على تفعيل وظيفة الإرشاد النبوي –التي كانت مغلقة طوال القرن الأول الهجري- وذلك بابتكارهم مفهوم ((الإمامة الشاملة)) على يد محمد الباقر* في أواخر القرن الأول، وعزز جعفر الصادق الأمر من طريق تنظيره وتنظيمه في النصف الأول من القرن الثاني؛ وأصبحت الوظيفة الإرشادية والعلم اللدني النبويين ممتدتين من طريق الأئمة الذين ورثوا صلاحياته وخصائصه([17]).

إقرأ أيضاً: حتى لا تُخْتَطَف معاني القرآن الكريم: الجزء الأول…نحو بناء وعي علمي غيرِ مُؤدلج بالقرآن الكريم

وذهبت كل فرقة تدعي تدينها أكثر من أختها، وادَّعى كل من المتصارعين امتلاكه للحق وحقيقة النص؛ فقد كان الرهان على المشروعية الدينية، فمالكها يملك السلطة وكل شيء([18])، وظهر الاتهام المتبادل بين السنة والشيعة بالتحريف والكفر، وتأخذ السنة على الشيعة مغالاتهم في فكرة (الإمام المعصوم) وعدم صلاحيتها دينيا بعدِّ النبي محمد ﷺ آخر الموحى إليهم، بيد أن الفكر السني على المستوى الواقعي يفتح وظيفة النبي الإرشادية –التي تحمل في جزء منها العصمة والسيادة- من طريق الفقهاء، يقول ابن القيم عن الفقهاء: “عنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجاتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء”([19]). ولتوضيح الوظيفة الإرشادية والسيادية للفقهاء والمطالبة بالطاعة التامة، يُلجأ إلى قول ابن القيم في وضع الأمراء من الفقهاء “فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعا، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما”([20])، ويضع ابن القيم طاعة الأمراء تبعًا لطاعة الفقهاء. وكما اعتدنا من التاريخ الإنساني فثمة فجوة قائمة بين النظرية والتطبيق، فالتطبيق أفضى إلى أن الفقهاء أطاعوا الأمراء وليس العكس. فتمدد الوظيفة الإرشادية في سلطة الفقهاء جعل منهم كنزًا ثمينًا عند الأمراء، لأنهم يضفون على موقعهم الشرعية الإلهية المطلقة. ومن ثم حاول رجال السياسة إخضاع الفقهاء لسلطتهم، ولما كان وجودهم مرهونًا برغبة الأمير ورجاله، كان خضوعهم له وتبعيتهم مفروضة لا فكاك منها، فقد أقر الفقهاء الحكم الأموي وأفتوا بأن الإمامة تكون في قريش وحدها([21]).

ومقابل مطالبة الشيعة بالإمامة لعلي وابناءه من فاطمة الزهراء وضع الأمويون ثلاث نظريات تضفي المشروعية إلى سلطتهم: أولها، أنهم ورثوا الخلافة عن عثمان الذي أخذها بالشوري، وقتل ظلمًا وخرجت الخلافة عنهم ثم استردوها. وثانيها، أنهم أحق بالخلافة لقرابتهم إلى النبي محمد ﷺ. والثالثة، أن الله اختارهم للخلافة وهذا قدر الله الذي لا فرار منه، فهم جاءوا بقضاء الله وقدره ويحكمون بأمره([22]). واستطاع معاوية ببراعته السياسية التي يشهد لها التاريخ وضع نفسه مقابلًا للفكر الشيعي، كي يكسب في صفه الكثيرين الذين عملوا على إرساء مشروعيته وتدعيمها لتقليص ورفض الفكر الشيعي، وليس لأحقية معاوية بالخلافة أو نصرته. ومن لم ينضم إلى رحاب معاوية من رجال الحديث حاول اجتناب الطرفين، وظهرت أحاديث اجتناب الفتنة والتزام البيت. وأشهر مثال على اجتناب الفتنة (أبو موسى الأشعري)([23]). ويعد أشهر المنضمين لصف معاوية وأكثرهم فاعلية من لقبه عبد الجواد ياسين بماكينة التنصيص الكبرى*، (أبو هريرة). فقد كان أبو هريرة تلميذًا لكعب الأحبار، وهو أحد أنصار حزب معاوية وضلع في حاشيته([24]). وقد روي عن أبي هريرة أن النبي محمدًا ﷺ قال: “الأمناء ثلاثة، جبريل، وأنا، ومعاوية”([25])، ويقول أبو هريرة أيضًا “ناول ﷺ معاوية سهمًا، فقال خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة”([26])، وعلى الرغم من رفض المجتمع الإسلامي واستهجانه لنظام الملك والقيصيرة، أخذ الأمويين هذا ذريعة حتى يشرعوا حكمهم من داخل الدين، وروي الحديث عن النبي ﷺ “الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك*. إن أول دينكم بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا وجبرية*… لا يزال هذا الأمر عزيزًا منيعًا ينصرون على من نوآهم عليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش* . لا يزال أمر أمتي قائما حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش*([27])، ولم يكن هذا الحديث يُروى من أجل رفض وجود الأمويين في السلطة، بل يستخدمُ في إطار فرض وراثة الحكم بوصفه أمرًا دينيًا وقدرًا قدره الله عز وجل مستخدمًا هذا الحديث.

وبالفعل نجح الأمويين في انتقال الوضع الإسلامي من طور الرفض القاطع للملكية واستهجان القيصيرة والتفاخر، إلى وضعها موضع اعتبار، بل مطالبة عبد الله بن الزبير بالمفاخرة بماله وصياغة هيبة للخلافة في المدينة، أسوة بعبد الملك بن مروان في الشام، وهو أمر مفهوم في إطار الثقافة القبلية التي استدعتها السلطة الأموية ولكنها البستها طابعا دينيا، فقد كان التفاخر سمة أساسية في مجتمع شبه الجزيرة العربية، وأضحى الدين مطية السياسي، ففرض الأموين حكمهم بوصفه الحكم الديني الذي يأمر به الله، وفرض هذا على الشيعة أن يقدموا وعاءً نصيًا لإمامة علي أيضًا، خاصة بعد سعي الأمويين في اكتساب قداسة الديني والهيمنة عليه جعلهم يتخفون وراء الدين ويستنطقون الدين برغباتهم إلى حد تماهيهم الكامل مع الدين،  فيحضر الدين في البعد الظاهري والمفردات اللغوية ولكن المضامين سياسية، أي تصاغ الرغبات السياسية في قالب المفردات الدينية، لتكون السياسة حاضرة في الفعل والدين في التقديم، ويصبح إحدى أدوات السيطرة السياسية([28]). وتمت هذه الصياغة والتمازج من طريق رجال الفقه، فقد كان بقائهم مرهونًا بتشريع الرغبات السياسية وإلا كان عقابهم القتل أو النفي، ومن ثم فإن دور الفقه انحصر في الصياغة الدينية للرغبات السياسية.

 

قائمة الحواشي والمصادر:

[1] – بلانديه (جورج)، الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 2007، ص150.

[2] عبد الستار جبر، الهوية والذاكرة الجمعية: إعادة انتاج الأدب العربي قبل الإسلام (أيام العرب نموذجا)، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص83.

[3] – الذهبي، التفسير والمفسرون، ج2، مكتبة وهبة، القاهرة، د.ت، ص 222. وكذلك روي في كتاب الفتوح وذكره المسعودي.

[4] – «تَارِيْخَ الأُمَمِ والمُلُوْكِ» لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ (٤/ ٥٧٤ – ٥٧٥)، و «الكَامِلَ» لابنِ الأثِيْرِ (٣/ ٢٨٦ – ٢٨٧)، و «البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (٧/ ٢٨٠ – ٢٨١).

[5] – الطبري (محمد بن جربر)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج5، ط2، د ار المعارف، القاهرة، د.ت ص 66

[6] – ويل ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، محمد بدران، عبد الحميد يونس، محمد علي أبو درة، فؤاد أندراوس، عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ج13، دار الجيل، بيروت، 2002، ص 79.

[7] – أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري، الأوائل، دار البشير، طنطا، ط1 1408هـ، ص 365.

[8] – ابن كثير البداية والنهاية،. عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع: مركز البحوث والدارسات العربية والإسلامية بدار هجر، ج10، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1997، ص 545. وفي رواية أن الأشتر من قالها، ولكن معظم الروايات أنها قيلت على لسان علي بن ابي طالب.

[9] – المسعودي (الحسين بن على)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ط1، مراجعة، كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، بيروت 2005 ص 312

[10] – أركون (محمد)، الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر، ترجمة، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2007، ص 107

[11] – مبروك، الخطاب السياسي الأشعري، ص 59

[12] – مبروك، نصوص حول القرآن، ص 24

[13] – أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، سبق ذكره ص 168

[14] – ابن كثير (أبو الفداء الحافظ)، البداية والنهاية، ج8، مكتبة المعارف، بيروت 1992، ص 134

[15] – أبو زيد (نصر حامد)، نقد الخطاب الديني، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، 2007، ص 128

[16] – حرب (علي)، في أصل العنف والدولة، ط1، دار مدارك للنشر، القاهرة، 2013، ص 174

* – أبو جعفر محمد بن على الباقر (ولد يوم 1 رجب 57 هـ في المدينة المنورة – وتوفّي فيها في 7 ذو الحجة 114 هـ) (13 مايو 677مـ – 1 فبراير 733مـ) الإمام الخامس عند الشيعة الإمامية (الاثنا عشرية) و(الإسماعيليين)

[17] – ياسين (عبد الجواد)، اللاهوت (أنثروبولوجيا التوحيد الكتابي)، ط1، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المملكة المغربية، الرباط، 2019، ص 394- 396

[18] – أركون (محمد)، تحرير الوعي الإسلامي (نحو الخروج من السياجات الدوجمائية المغلقة) ط1، ترجمة. هاشم صالح، دار الطليعة بيروت 2011، ص 75_ 77

[19] – الجوزية (ابن القيم)، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج2، ط!، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، 1423هـ 2002م، ص 14

[20] – المصدر السابق، ص 16.

[21] – عطوان (حسين)، الفقهاء والخلافة في العصر الأموي، ط1، دار الجيل، بيروت 1991، ص 12. وراجع أيضا، محمد أركون، الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر، ترجمة، هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت 2010، ص 168.

[22] – إمام (عبد الفتاح إمام)، الطاغية (دراسة في فلسفة الحكم لصور من الاستبداد السياسي، ليو بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص274-276.

[23] – الجابري (محمد عابد)، العقل السياسي العربي، ط4، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2000، ص 242.

* – التنصيص؛ مصطلح قدمه عبد الجواد ياسين يعني: الآلية التي يؤثر بها الاجتماع الإنساني في بنية النصوص الدينية؛ أي تأويل القرآن، وإضافة الأحاديث.

[24] – ياسين (عبد الجواد)، السلطة في الإسلام (العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ)، ج1، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2012، ص 267.

[25] – ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص 120. أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ (2 /ل: 100/ب)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (19/ 182، 315)، والمزي في تهذيب الكمال (22/ 82)، ومجالد هو ابن سعيد الهمداني. وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني، قال عنه الحافظ ابن حجر: “ليس بالقوي، وقد تغيّر في آخر عمره”. التقريب (رقم: 6478). وأخرجه الإمام في العلل (2/ 127 – رواية عبد الله-) من طريق وُهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي به، وسنده صحيح.

[26] – ياسين (عبد الجواد)، المصدر السابق، ص 270. رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً، وابن حبان عن جابر مرفوع، وهو موضوع، وفي إسناده: من ليس بشيء. وقد روى عن أنس. وابن عمر مرفوعاً، راجع، محمد بن على بن محمد الشوكاني (ت ١٢٥٠هـ)، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ص 405

* – حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا سعيد بن جمهان، ح وعبد الصمد حدثني حماد، حدثني سعيد بن جمهان، عن سفينة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون بعد ذلك الملك “، نقلا عن مسند الإمام أحمد بن حنبل)164 – 241 هـ (، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م، ج36، ص 248، رقم الحديث (21919).

* – حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، ثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، عن أبي وهب، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك وجبرية يستحل فيها الحر والحرير»، نقلا عن، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (ت 360 هـ)، مسند الشاميين، تحقيق، حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة: الأولى، 1405 – 1984، ج2، ص 293، رقم الحديث، (1369). وفي مسند البزار، حدثنا محمد بن مسكين، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، عن أبي وهب، عن مكحول، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول دينكم بدأ نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا وجبرية، يستحل فيها الدم»، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت ٢٩٢ هـ)، مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار، تحقيق، محفوظ الرحمن زين الله (جـ 1 – 9)، عادل بن سعد (جـ 10 – 17)، صبري عبد الخالق الشافعي (جـ 18(، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، (بدأت 1988 م، وانتهت 2009 م)، ج4، ص108، رقم الحديث (1282).

* – حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن أبي بكر بن على المقدمي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا ابن عون (١)، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا، ينصرون على من ناوأهم عليه إلى اثنا عشر خليفة “، ثم قال كلمة أصمنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: ” كلهم من قريش “، نقلا عن، الإمام أحمد بن حنبل (164 – 241 هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق، شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، ١٤٢١ هـ – ٢٠٠١ م، ج34، ص 471، رقم الحديث (20926).

* – حدثنا علي بن عيسى، أنبأ أحمد بن نجدة القرشي، ثنا سعيد بن منصور، ثنا يونس بن أبي يعفور، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة» ثم قال كلمة وخفض بها صوته فقلت لعمي وكان أمامي ما قال يا عم؟ قال: قال يا بني: «كلهم من قريش»، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى، 1411 – 1990، ج3، ص 716، رقم الحديث (6589).

[27] – السيوطي (جلال الدين)، تاريخ الخلفاء، دار ابن حزم، بيروت، 2003، ص 13

قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا أبو عون، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة عن النبي ﷺ

[28] – المصدر السابق، ص 57

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete