تكوين
-
لا تقربوا الفواحش
ورابع الأمور التي ينبغي أن يلتزم الإنسان بها هو عدم مقاربة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ﴿عليكم….. وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ ﴾، فما هي المقاربة وماهي الفواحش؟
المقاربة سلوك قصديّ، يمضي به نشاط نفسيّ قائم على وعيّ متنام بإزاء ظاهرةٍ فيزيائية، قد يكون هذا الوعي ناقصا، أو مضخما، أو صائبا؛ فتصاب النفس بأثر منه صغُر أم كبُر. وهنا يمكننا السؤال عن مدى قدرتنا على التحكم بهذا السلوك؛ فنحن عندما نقول إن المقاربة سلوك قصدي، نعني أن إرادتنا تحدد إقبالنا أو إحجامنا عن هذا السلوك، ولكننا مرات نؤثرُ المضيَّ وراء وعينا، فنعتقد أن المسألة ليست بإرادتنا، وهذا الأمر ليس صحيحا، فقد تكون هيمنة الوعي على السلوك كبيرة، ولكن عمليًّا؛ يبقى هذا الوعي تحت هيمنة الإرادة، ويتطلب الأمر أن تكون الإرادة قوية بما يكفي.
إذن لا تقربوا، تعني لا تندفعوا وراء وعيكم من دون إرادة وهذا أمر بالغ الأهمية، بل هو ضروري للإنسان فردا وجماعة، لتحمّل المسؤولية عن السلوك.
أما الفواحش فهي جمع فاحشة، ويقول ابن فارس بإزاء هذه المفردة
“(الْفَاءُ وَالْحَاءُ وَالشِّينُ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُبْحٍ فِي شَيْءٍ وَشَنَاعَةٍ. مِنْ ذَلِكَ الْفُحْشُ وَالْفَحْشَاءُ وَالْفَاحِشَةُ. يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ قَدْرَهُ فَهُوَ فَاحِشٌ ؛ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا يُتَكَرَّهُ. و أَفْحَشَ الرَّجُلُ: قَالَ الْفُحْشَ: وَفَحَشَ، وَهُوَ فَحَّاشٌ. وَيَقُولُونَ: الْفَاحِشُ: الْبَخِيلُ، وَهَذَا عَلَى الِاتِّسَاعِ، وَالْبُخْلُ أَقْبَحُ خِصَالِ الْمَرْءِ”[1].
وفي الاصطلاح هو “ما يَنفِرُ عنه الطَّبعُ السَّليمُ، ويستَنقِصُه العقلُ المستقيمُ”[2] وقال الحرالُّي: “ما يَكرَهُه الطَّبعُ من رذائِلِ الأعمالِ الظَّاهِرةِ، كما ينكِرُه العقلُ ويستخبِثُه الشَّرعُ، فيتَّفِقُ في حُكمِه آياتُ اللهِ الثَّلاثُ من الشَّرعِ والعَقلِ والطَّبعِ، وبذلك يَفحُشُ الفِعلُ”[3].
يبدو لنا بالتأمل في ما سلف على المستويين المعجميّ والاصطلاحيّ، أن هذه المفردةَ (فحش) تعبير عن موقف اجتماعيّ، لتدل على ما أجمع الناسُ على قبحه وشناعته. فهل سيتغير مدلوله مع الزمن، أم أنه ثابت أبد النطق بهذه اللغة؟ هل ما استقبحه الناس في العصر الجاهليّ ، استقبحه أبناء العصر العباسي؟ وبعد اختلاط العرب مع الأمم الأخرى في حيّزٍ مكاني واحد؟ وهل بالضرورة أن يكون مستقبحا عند أهل زماننا؟ وقد أصبحت سكنانا في العالم الافتراضيّ أكثر من سكنانا في العالم الواقعيّ؟
بلا شك إنّ التغيّر هو السمةَ الثابتة في العلاقات الاجتماعية وأنماط العيش عبر الزمن، وذاك لأن العلاقات الاجتماعية تتغير بتغيّر العمل وأنظمته وقوانينه، وعليه لا بد من تغيّر الشهوات وأشكال تنظيمها. وإن كانت عملية التغير تختلف ديناميتها من جماعة إلى أخرى تبعاً لظروف العيش التي تفرض حاجاتٍ في مكان دون آخر.
إذن، مدلول الفواحش يختلف من زمن إلى زمن، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة أخرى، ما يعني أن تحديدها تابعٌ للثقافة ومقدار مرونتها وانفتاحها، ولمعايير الحياة الاجتماعية السليمة المرعية الإجراء أو المتوخاة.
أما الآية فتعبر عن وجوب الالتزام بعدم تعمّد الفاحشة. لاتقربوا أي لا تمضوا عمداً إلى الفاحشة.
أما “ما ظهر منها وما بطن” فليس المقصود ما كان إتيانها بالعلن أو بالسر، بل ما كان ظاهرا بارزا مبيّنا في أصله ، وقد عبِّرَ عنه بصيغة الفعل الماضي “ظهر” للدلالة على ثبوته، وما كان باطنا أي غامضا أو ملتبسا أو هو الفحش نفسه ولكنه لمّا يظهر.اقرأ المزيد: في علاقة الدين والفنّ: من خلال إغاثة اللّهفان في مصائد الشّيطان لابن قيم الجوزية
إذن، هذه الجزئية من الآية، إنما تنشدُ الإنسان الذي يمضي في حياته على بصيرة من أمره، فلا يتعمد ما أجمع القوم على فساده سواء كان ذلك بيّنَ الفساد أو مكتَنفا بلبسٍ. لا تقربوا، نهيٌ يحرّض على إعمال العقل بالسلوك العلني مع الناس، وكذلك بالسلوك الذهني مع النفس.
-
لا تقتلوا النفس التي حرّم الله
هذه وصيةٌ أخرى تندرج ضمن قائمة الوصايا التي وقع عليها مكنّى “عليكم”، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ﴾.
تأسيساً على مصالح العباد الضرورية يأتي هذا النهي للدلالة على حفظ النفس بالعبارة الصريحة، فمن التحامل على الآية أن نضمّنها ما لا تحتمل؛ فنزعم أن النفس المعصومة من القتل هي النفس المسلمة أو الذمية أو المعاهدة، وسائر الأنفس قتلُها مباح! كيف يتحقق الأمن الاجتماعيّ عندها؟
لم يحدد النص هويةَ النفس، بل خصصها بالتي حرّم الله، وهي النفس البشريّة، أما سائر الأنفس الحيوانية مثلا كالأنعام وبعض الطير والحيوانات البحرية لا يشملها هذا التخصيص، فمصالح العباد تقتضي ذلك ، وأما الاستثناء المفرّغ “إلا بالحق” فهو الدفاع عن النفس أو الوطن أو العرض، أو بإنزال عقوبة الإعدام بمن يجرّمه القانون المرعيّ الإجراء؛ فمن الذي يحدد الحق سوى قاض عادل وخبير؟ أما القول بأن المستثنى هو مرتكب الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، فذاك لا يوفّر الأمن الاجتماعي أو ما فهمناه من ضرورات مصالح العباد في حفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ الملك، وحفظ النفس، وحفظ النسل.
اقرأ المزيد: مناقشة بخصوص مُعضلة العنف الديني: الجزء الأولهل القتل يحفظ الدين؟ أو النسل؟ أم أنه يمنع الرحمة التي ينبغي أن تظلل العلاقات الاجتماعية وتسوسها، لتعبّدَ سبيلها إلى التقدّم والرقيّ. فالسلام الاجتماعي مقدّمٌ على كل شيء، لأنه مناسبة تتيح الفرص بالتساوي أمام الجميع وتطلق المواهب بلا حجْرٍ على العقول والآراء.
-
ذلكم وصاكم به
“ذلكم” إشارة إلى ما سلف ذكره من نهي وأمر، و”اللام” التي للبعد هي في هذا المقام لبيان البعدِ القيمي للمشار إليه في البناء الاجتماعي، و”الميم” لجمع الذكور العقلاء. ونفهم من القيمة البيانية لاسم الإشارة “ذلك” أن المشار إليه هو المذكورُ في الآية من المنهي عنه أو المأمور به، هو حاجة المجتمع المتماسك القابل للبقاء والنمو؛ فعدم الشرك، والإحسان للوالدين، وعدم قتل الولد من إملاق، وعدم مقاربة الفواحش، وعدم قتل النفس التي حرم الله، أنزلها النص منزلة المهام التي يتحمل المجتمع مسؤوليّةَ الحفاظ عليها والحرص على عدم خرقها، إن كان لهذا المجتمع أن يتقدّم ويتطوّر.
أما توجيه الخطاب إلى جمع الذكور العقلاء، فهذا جريا على عادة القوم في تغليب الذكورة في الخطاب، إن قل الذكور وإن كثروا. ولا يعني غياب الأنثى من ظاهر اللفظ غيابا لها من التكليف؛ بل هي معنية بكل أمر ونهي مشارٍ إليه.
أما قوله “وصاكم به” ففي اعتماد هذه المفردة إلماح إلى ما أسلفنا من الحاجة إلى التماسك، فالجذر اللغوي لهذه المفردة “وصى” يرصد لها معنى العهد والتكليف والإلزام، وهي في محور معناها تدل على”التزام الأشياء بعضها بعضا كالمحزوم بالجريد والنبات الملتف، وكالمتصل بعضه ببعض منه إذ هو متضام. ومن هذا الالتزام جاء معنى الإيجاب في الوصية فهي عهد وتكليف وإلزام”[4].
إذن، تحويل الأوامر والنواهي إلى وصايا يدل على أمرين اثنين:
- مقاصد هذه الأوامر والنواهي تنتهي إلى إعادة صياغة مجتمع متماسك وفق قواعد للتماسك مردّها إلى التراحم، وكما نلاحظ هي تعني كل التجمعات البشرية ، ليست خاصة بالعرب أو المسلمين.
- كون هذه النواهي والأوامر حوّلت إلى وصايا، فهذا لتكون مرجعية للسلوك تتسم بالإلزام؛ فهي عهد وتكليف وإلزام.
واختتام الآية بـ” لعلكم تعقلون “ يرسم ملامح مجتمعٍ منشود، فالعقل هو الضبط والربط والحد من التفلت، أو الملجأ والحصن، ما يعني أن الامتثال إلى ما كنّى عنه أسلوب الإغراء “عليكم” يرجى به أن ينضبط أداؤكم الاجتماعي بإرادتكم، إذْ تلجأون إلى ما تلتزمون به عقديا وسلوكيا على مستوى النفس الفردية أو في حماية الأسرة بوصفها الخلية الصغرى للبنى الاجتماعية، أو في السلام الاجتماعي.
اقرأ المزيد: الحريم في بنية العقل العربي وتحولات السلطة
لعلكم تعقلون هي الخاتمة المرجوُّ إعمالها، في ضبط علاقتنا بأهوائنا وشهواتنا، وفي تأمين معقل آمن وهانئ للأفراد في توفير العلاقة الحسنى بين الأبناء والآباء، وبين الآباء والأبناء، وفي الحدّ من تفلت السلوك بالاهتمام بالنفس لنعقلها فلا نتعمد مقاربة الفواحش حرصا على الاستقامة والاعتدال النفسي والحركي، وكذلك أخيرا وليس آخرا، في عقل النفس بمنعها من التهور للحدّ من الجريمة.
تلك وصايا الله للبشر كل البشر كي يتعارفوا ويتثاقفوا، ويتبادلوا معارفهم وسلعهم وعلومهم. ذلكم ما يقي المجتمعات البشرية من ويلات الخارجين على كل عقال. سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فالالتزام بهذه الأوامر والنواهي مرجوٌّ منه العقل، فمن يخرج على العقال لا يعصمه كونُه مسلما أو ليبراليا أو غير ذلك.
المراجع:
[1] ابن فارس ،أحمد، مقاييس اللغة، مادة فحش
[2] الجرجاني، التعريفات، ص165.
[3] المناوي ، عبد الرؤوف، التوقيف على مهمات التعاريف، ص257
[4] جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي، مادة “وصى”