يمكن القول إنّ كل ذاكرة جماعية، لها خصائص معرفية محددة، ترتهن بالنسق الثقافي السائد في الاجتماع، وكل جماعة تسعى بدورها إلى الحفاظ على هذه الذاكرة، بشكل أو بآخر، بحسب ما هو سائد، فالرواية الجماعية، وحدها، لديها القدرة على الحفاظ على تماسك الاجتماع، من خلال تكريس تمركز الجماعة حول سردية مركزية؛ تعزز وجودها، وتؤكد جدارتها في محيطها المكاني، ومسارها الزمني.
ونظراً للظروف الاجتماعية والثقافية السائدة، غلبت الثقافة الشفاهية على البنية المعرفية للعرب قبل الإسلام، حيث مضت القبيلة تصوغ معارفها؛ بشكل يجعلها وثيقة الصلة بالحياة الإنسانية، بحيث تمكن الرواة من “استيعاب العالم الموضوعي غير المألوف، ضمن العلاقات الإنسانية المألوفة والمباشرة[1]“.
وإلى جوار الرواية الشفاهية، بسرديتها وبنائها الحكائي، ظهر التدوين قبل الإسلام على استحياء في الجزيرة العربية، وبكثافة في أطرافها الأكثر تحضراً، خاصّة في اليمن والحيرة؛ وكان في الأغلب مرتهناً بأيام العرب وأشعارهم وأخبارهم.
وعلى أي حال، لم يكترث العرب قبل الإسلام بتدوين آثارهم، لأنّهم كانوا يعتمدون على الذاكرة لحفظ ما يهمّ حياتهم. “فقد حفظوا المعلّقات، وهي ذروة آثارهم الفكريّة، وكان الأدب ينتقل بالمشافهة، وكانت الذّاكرة سجلّ العربيّة الأوّل[2]. وربما كان ذلك ناتجاً عن ضيق الحيز السياسي في مجتمع قبلي، يقوم على الولاء التلقائي للجماعة الأم، كموضوع في مواجهة العالم. وكذا انحسار الأفق السوسيو-ثقافي، المحدود بسقف المعطيات البيئية، في حياة رتيبة، تنتج باستمرار سرديتها الخاصّة.
الطرح الأيديولوجي للتدوين
وعليه، يمكن الاتفاق مع ما يطرحه محمد عابد الجابري، بأنّ عصر التدوين لا يشكل ميلاد العقل العربي، الذي كان موجوداً منذ أن وجد العرب. لكنّ الفارق الذي صنعه التدوين، هو ما يطلق عليه “لحظة الوعي بالتطور”. أضف إلى ذلك الانتقال من الخطاب الشفوي الحر، إلى خطاب مدون، مبوب، مقـنن. خاضع لأنواع من الرقابة. وبالتالي، فإنّ “العقل العربي الذي توارثته الأجيال اللاحقة، هو ذلك الذي قـنن في عصر التدوين”[3]. وانطلاقاً من طرح الجابري، يمكن فهم مسوغات عملية التدوين، وخاصّة تلك التي ارتكزت على المغازي والسيرة، وصولاً إلى رواية الحديث، ذلك أنّ الطرح الأيديولوجي لمرحلة التدوين، بكل ما ارتكز عليه من دوافع حضارية، عكس نزوعاً حقيقياً لدى المرجعيات السياسية والمذهبية، نحو إيجاد مخرج مقدس يتوافق مع طروحاتها؛ حيث انطلق التدوين في مرحلته الأولى من واقع الصراعات السياسية، بمرجعياتها السلطوية؛ لتحقيق مشروعيتها؛ عبر إكساب أهدافها السياسية صفة الإطلاق، كمحتوى ناجز ونهائي للدين والدنيا.
وفي المقابل، استمرت الرواية الشفاهية، في العصرين الأموي والعباسي، كجزء من مقاومة استبداد السلطة السياسية، ومحاولتها اعتماد رواية واحدة، لكنّها بالطبع لم تسلم من التشكيك، حيث اتهم الرواة بالاختلاق، مع الخلط بين الوقائع وإعمال المخيلة. لكنّها على أي حال، كانت جزءً من الحركة الشعوبية المناوئة للسلطة في العصر الأموي، وكذا الرفض الشيعي لحكم بني العباس، منذ استيلاءهم على السلطة.
وعليه، عكس التدوين عند السنة والشيعة، ما يمكن أن نطلق عليه، صراع السرديات المقدسة، بين رواية سنية رسمية متعالية، وأخرى شيعية مناوئة، تعكس روح الصدمة والشعور بالخذلان.
بين النهي والتخفف منه .. جدل السياسي والديني
تحفل الكثير من الروايات، بالتأكيد على نهي النبي محمد صحابته عن تدوين غير القرآن، حيث روي أحمد ومسلم و الدارمي والترمذي و النسائي عن أبي سعيد الخدري قول النبي:” لا تكتبوا عني شيئا سوي القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه”. وهو أمر تكتنفه بعض الإشكاليات، أبرزها أنّ قريش عرفت التدوين في مرحلة مبكرة من مراحل الرسالة المحمدية، وتجلى ذلك بوضوح في صحيفة مقاطعة بني هاشم. أضف إلى ذلك الرسائل السياسية، والمراسلات الخارجية المكتوبة في عهد النبي، ونفس الأمر ينطبق على وثيقة المدينة وغيرها، وبالتالي فإنّ المرويات التي تؤكد أنّ النبي نهى عند التدوين، تحتاج إلى مزيد من التدقيق. وتطرح مقولة أبي هريرة تلك السردية الغامضة للنقاش، حيث يقول: “ما في أصحاب رسول الله أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان عبد الله بن عمرو؛ فإنّه كان يكتب وكنت لا أكتب”. وهو ما يستنتج منه ابن الأثير، أنّ النبي صرّح لعبد الله بن عمرو بتدوين الحديث[4].
وفي عهد أبي بكر، استمر منع التدوين، حيث جاء في تذكرة الحفاظ، للإمام الذهبي، عن عائشة أم المؤمنين: “جمع أبي الحديث عن رسول الله، فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب، قالت: فغمني كثيراً. فقلت يتقلب لشكوى أو لشيء بلغه، فلما أصبح قال: أي بينة. هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها، فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حّدثني فأكون قد تقلّدت ذلك”. وهو أمر يفهم منه وجود صحف مدونة بالفعل، غداة وفاة النبي، ويبدو أنّ الدافع السياسي كان نقطة الارتكاز الحقيقية وراء هذا المنع، في ظل غموض المستقبل السياسي للدولة الناشئة، والمنافسة المحتدمة بين أبو بكر وعمر من جهة، وعلي بن أبي طالب وبني هاشم، من جهة أخرى، على خلافة النبي.
ويبدو أنّ الدافع نفسه، ظلّ حاضراً بقوة في عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، فيقول الزهري عن عروة “أنّ عمرا أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له. فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قد كتبوا قبلكم كتباً، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله. وإنّي لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً”.
ويمكن فهم الدوافع السياسية، الكامنة خلف صرامة عمر بن الخطاب، في منع تدوين الحديث، في ضوء حديث الغدير الذي صححه الألباني. والذي يدفع تجاه القول بحق علي بن أبي طالب في خلافة النبي. يقول ابن ماجة عن البراء بن عازب، أقبلنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حجتِه التي حجَّ، فنزل في بعضِ الطريقِ فأمر الصلاةَ جامعةً، فأخذ بيدِ عليٍّ رضي الله عنه فقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، قالوا بلى. قال ألستُ أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه. قالوا بلى قال: فهذا وليُّ من أنا مولاه، اللَّهمَّ والِ من والاهُ اللهمَّ عادِ من عاداهُ.
ويرى الشيعة في حديث الغدير، الذي يطرح ولاية علي بن أبي طالب بشكل رباني مفارق، أوصى به الوحي، حجة دامغة على عصيان أبو بكر وعمر، وأحقية علي بالولاية؛ كامتداد لصراع سياسي طويل، مزق الأمة الإسلامية وشق صفها.
إقرأ أيضاً: الوحي والقرآن والمصحف.. القوة التخييلية ومعضلة اللوح السحري المحفوظ
وأيّا كان الأمر، فإنّ تداخل التدوين مع الصراع السياسي على الحكم، في أعقاب سقيفة بني ساعدة، كان كفيلاً بإغلاق مجال التدوين، بوصفه المجالي التداولي العام، آنذاك، لصراع سياسي؛ تحول إلى اقتتال عنيف، كاد أن يقضي على الدولة الناشئة. وفي ضوء ذلك أيضاً، يمكن فهم تشدد عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري، حين روى الأخير حديثًا عن رسول الله، بحسب رواية البخاري في باب الاستئذان، فهدده عمر قائلاً: “والله لتقيمن عليه بينة وإلا أوجعتك”. ثم سأل الحضور: “أمنكم أحد سمعه من النبي؟ “فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك، إلا أصغر القوم فشهد معه، وقد برر عمر تشدده بعد أن هدأت نفسه قائلا لأبي موسى: ” أما إنّي لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله.
ويمكن التدليل على الدافع السياسي لمنع التدوين، بتلك الانفراجة التي حدثت في خلافة علي بن أبي طالب، حيث خرج علي، كما يروي ابن حجر العسقلاني، ومعه صحيفة الأحاديث التي جمعها، فقال: “والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة”. وكأنّه أراد تأكيد مشروعية حكمه، في مواجهة المعارضة الكبيرة، بطرح روايات مدونة، نسب إلى النبي فيها تأكيد فضل علي وأحقيته بالولاية.
ويمكن القول، إنّ عملية التدوين، انطلقت من الحرص على توحيد المشيئتين الإلهية والبشرية، في مرحلة احتياج الحاكم للتفويض الإلهي، بطرح مرجعية سياسية داعمة لتوجهاته في المقام الأول. الأمر الذي يفسر انتشار الروايات التي تتحدث عن فضل عثمان ومناقبه في العصر الأموي؛ لتبرير خروج معاوية على علي بن أبي طالب. من أمثلة ذلك ما رواه ابن حبان في كتاب المجروحين، أن رسول الله قال: “… ليلة أسري بي دخلت الجنة، فإذا بتفاحة تفلقت عن حوراء قالت: أنا للمقتول ظلما عثمان.
وعليه، كان الهدف السياسي وراء التدوين، واضحا منذ عهد الخلافة الأول، وبذلك تكون الدعوة إلى الصبر على الظلم والاستبداد أمرا إلهيًا، عبر وضح التدوين في خدمة المشروع السياسي، بداعي أنّ من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية.
الذات في مواجهة التيارات الثقافية الأخرى
لا يمكن إغفال العامل الهوياتي في عملية التدوين، حيث كان العرب يخشون الذوبان أمام التيارات الثقافية الجارفة، التي كانت موجودة آنذاك في البلدان التي فتحوها، الأمر الذي دفعهم إلى بناء حوامل ثقافية، لبنية حضارية ذاتية، في مواجهة العالم الذي اتسع أمامهم فجأة، وكان الاحتماء بالتدوين، ومحاولة إدخال كل شيء فيه، رد فعل حتمي، أمام متغير شديد الأهمية.
وبناء على ذلك، التزمت المدونات الإسلامبة، في عصرها الأول، بنفي فكرة أنّ الإسلام مجرد نتاج للظروف التاريخية في جزيرة العرب، منطلقين من فكرة مركزية، تمركز حولها علماء الكلام بالأخص، وهي أنّ الأمر كله كان خاضعاً منذ البداية، لخطة إلهية محددة.
وجدير بالذكر أنّ عملية التدوين، ظهرت بالتزامن مع تجلي جملة من العلاقات المتشابكة، والروابط المعقدة، بين رواية السيرة وعلاقاتها بقصص الأنبياء، وكذا نشأة علوم الدين في وقت معاصر للصراعات السياسية والمذهبية الكبرى، وبالتالي لا يمكن فصل تدوين الحديث عن كل تلك العناصر، أو عن الأطر الثقافية الكلية، بوصفها الحاضنة التي تشكّلت في سياقها كل الروايات المتواترة.
كما ظلّت الخصائص الشفاهية حاضرة بقوة في عملية التدوين، حيث ارتكز الإرسال والتلقّي على أسس متصلة بآليات التفكير الشفهي، بل وانتزعت الشفاهية شرعية دينية خاصّة، من خلال أسلوب الإسناد الذي فرضته رواية الحديث، على حقول تداولية أخرى غير الدين، حيث أصبح الإسناد ركناً أساسياً، بفعل مجاورته لمتون الحديث.
ويمكن القول، إنّ التقاليد النصية العربية، تطورت عبر مراحل التدوين المختلفة، من خلال التفاعل الانتقائي مع النصوص اليهودية والمسيحية، وفلسفات الإغريق والشرق الأدنى القديم؛ ممّا أدى إلى ملء الثغرات الموجودة ضمن تشكيلات السردية الأولى، وبناء نسق من المواد السردية، كعامل مساعد في تفسير النص القرآني، عبر حقل فرعي شديد الزخم، من النصوص الثواني، التي اكتسب سطوة ضمن سياق تفسير نص الوحي القرآني.
وتعكس هذه التطورات، بدورها، شيئاً من الشعور الحديث بمكانة الذات المتصورة في مواجهة الثقافات الأخرى، خاصّة بعد أن أصبحت الحضارة الإسلامية، في عصر التوسع الإمبراطوري، تتعامل في كثير من الأحيان مع عناصر الثقافات الأخرى التي واجهتها من موقف قوة. ومع ذلك، فقد تعرض الشعور بالثقة الثقافية إلى هزات عنيفة على مدار التاريخ الإسلامي، خاصّة في أوقات المحن الكبرى، كسقوط بغداد تحت سنابك خيل التتار.
وقد تأثر التدوين بتفاعل المسلمين في العصور الوسطى، مع تراث الحضارات السابقة، وتقديرهم لمنتجها الحضاري، وتجاوز التدوين المساحات الضيقة الأولى، ليشمل مجالات الفلسفة، والرياضيات، والجغرافيا، والطب، وغيرها من العلوم، التي تُرجمت إلى العربية خلال العصر العباسي. وفي هذه المرحلة، جرى نوع من الانفتاح المماثل تجاه تراث حقبة ما قبل الإسلام، وهو ما حدث في بلاد فارس في العصور الوسطى، حيث جرى الحفاظ على الأعمال الكلاسيكية الفارسية، قبل أن يمنحها التدوين بالعربية روحاً فريدة، وشمل ذلك الحكايات الملحمية لملوك الفرس القدماء.
المراجع:
[1] عبد الستار جبر، الهوية والذاكرة الجمعية، إعادة إنتاج الأدب العربي قبل الإسلام، أيام العرب أنموذجا، المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص 138.
[2] ريمون طحّان ودنيز بيطار طحّان، مصطلح الأدب الانتقادي المعاصر، ط 2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1984، ص 45.
[3] محمد عابد الجابري: مجلة مواقف، عدد 20، دار النشر المغربية، الرباط، أكتوبر 2003، ص 86.
[4] ابن الأثير: أسد الغابة، باب ترجمة عبد الله بن عمرو، دار ومطابع الشعب، القاهرة. د ت، ص٣٥٠.