تكوين
تقديم:
الملاحظ لما يحدث في المنطقة العربية الإسلامية، يدرك بجلاء أن هناك عنفا متزايدا كل يوم، عنف بكل الصور والوسائل، يكفي قراءة شريط الأخبار في إحدى القنوات التلفزيونية لإثبات ذلك، فأكثر من نصف عدد الأخبار يشير إلى عمليات عنف، اعتداءات، تفجيرات، حروب..الخ، في النهاية يشير إلى وضع حد لحياة رقم معين من البشر، وسقوط ضحايا أبرياء أطفال ونساء، وهو وضع يحتاج إلى دراسة لفهمه ومعرفة أسبابه.
تذهب الكثير من التحليلات والأحاديث السياسية والإعلامية المتسرعة إلى ربط العنف في البلدان العربية الإسلامية بالتدين، خصوصا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، الثورة الإسلامية في إيران، وصعود تيار الإسلام السياسي في كثير من الدول العربية الإسلامية، أين برزت مقولة “عودة الدين والتدين”، والحقيقة أن هذا الربط وإن كان له ما يبرره من الأحداث والوقائع في بعض المناطق، إلا أنه يبقى غير قادر على تفسير ظاهرة العنف في كل مظاهرها، ذلك أنها ظاهرة أنثروبولوجية معقدة رافقت الإنسان عبر العصور وفي كل الحضارات، وارتبطت بأسباب كثيرة ومتشابكة، تندرج في الغالب ضمن إرادة الهيمنة وبسط النفوذ.
كما أن مقولة عودة الدين والانتشار الكبير للتدين بين الناس، لا تعبر عما يحدث فعلا في الواقع، ولا يمكنها أن تصمد أمام الأبحاث الأنثروبولوجية والاجتماعية وتاريخ الأفكار والحضارات، التي تؤكد كلها أن الإنسان متدين بطبعه، والدين لم يغب في كل المجتمعات والحضارات عبر التاريخ، حتى يعود من جديد، فـالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) يرى أن الفرد/المجتمع بإمكانه الاستغناء عن أشياء كثيرة إلا الدين فهو يبقى حاضرا مهما كانت الظروف والمعطيات، إذ البعد الديني أو التدين ملازم للإنسان في كل زمان ومكان، حتى في زمن العولمة التي توحي أنها تدير ظهرها تجاه كل ما هو روحي من خلال تركيز قواها على السلع والأسواق والأموال دون سواها، من هنا يمكن صياغة الإشكالية التي سنبحثها في هذه الورقة على الشكل الآتي: ما العلاقة بين التدين وإرادة الهيمنة؟ هل يمكن رد العنف المنتشر في الكثير من المناطق إلى العامل الديني؟ بعبارة أخرى؛ ما العلاقة بين التدين والعنف؟ وكيف يمكن أن يكون التدين سببا في اللجوء إلى العنف من أجل الهيمنة؟
أولا: الدين والتدين:
يجمع العلماء على أن الدين أو التدين من الميول الطبيعية المركوزة في النفس الإنسانية والمستقرة في ذات الإنسان منذ طفولته، تماما مثل ميله للحياة الاجتماعية، وكما أن الإنسان لا يستطيع الحياة بعيدا عن المجتمع فإنه –بالمثل- لا يستطيع الحياة دون دين أيا كان هذا الدين سماويا أو أرضيا، هذا الميل إلى التدين ينشأ عن الحاجة إلى قوة أعلى من الإنسان يشعر بالخضوع لها والطمأنينة في كنفها، فالإنسان متدين بطبعه، وفطرة التدين متأصلة في النفس البشرية، والدين ظاهرة اجتماعية دائمة الوجود، سيبقي ما بقي المجتمع كما يرى إيميل دوركايم (1858-1917)؛ ففي سياق شرحه لأسباب اهتمامه ودراسته للحياة الدينية البدائية يقول: “لن ندرس إذن الدين الغارق في القدم لمجرد متعة أن نحكي عن جوانبه الغريبة والفريدة، فإذا كنا قد اتخذناه موضوعا لبحثنا، فلأنه أكثر ملاءمة من أي دين آخر لشرح طبيعة الإنسان الدينية، أي ليظهر لنا ملمحا أساسيا ودائما في البشرية”[1] . ورغم تأصل الظاهرة الدينية في كل المجتمعات إلا أن ذلك لا يعني أنها واضحة المعالم، يقول جاك دريدا(1930-2004):« إن كلمة الدين هي الأكثر وضوحا والأكثر لبسا في نفس الوقت»[2]، وكثيرا ما يحدث اللبس والخلط في بعض الخطابات أو التحليلات أثناء توظيف مصطلحي الدين والتدين، لذلك، وجب التمييز بينهما، وهو تمييز ضروري في كل حديث عن نظرية ما أو فلسفة ما من جهة وتطبيقها في أرض الواقع من جهة ثانية، لأن هناك فرقا كبيرا -يصل إلى حد التضارب في بعض الأحيان- بين التنظير والممارسة، بين النص وتأويله أو قراءته وتوظيفه، وإذا كانت النصوص المؤسسة للأديان ثابتة ومغلقة، فإن تطبيقها يبقى نسبيا متغيرا، من زمن لآخر ومن مجتمع لآخر، بل حتى من فرد لآخر، لذلك يقال –في السياق الفلسفي- أن ابن رشد ليس رشديا، وماركس ليس ماركسيا..الخ، وفي حالة الدين الإسلامي، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وحده “كان قرآنا يمشي” كما وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها، أما بقية المسلمين فهم يقتربون قليلا أو كثيرا من تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تدينهم، دون أن يصلوا إلى منزلته.
الدين في أبسط معانيه يشير إلى تلك العاطفة التي يشعر المرء من جرائها بأنه مقيد بكائن أعلى منه وأقوى، ويلتزم بمجموعة من العقائد والممارسات التي تعمل على حفظ الأذهان من كل بلبلة وترد عنها عائلة الشك والإنكار[3]، ولأن الإنسان تنتابه تساؤلات لا تنقطع وخوف وقلق وأمل وشعور بالعزلة ..الخ، فهو بحاجة إلى الرعاية والحماية والأمان، وهنا تكمن وظيفة الدين من حيث تقديمه إجابات مريحة مطمئنة للإنسان تجاه القضايا التي تعجز الأنساق الثقافية الأخرى عن الإجابة عنها. بصورة عامة الدين هو جهاز مؤسس على اعتقادات ومواد إيمانية محددة، مرتبطة بسياق سوسيولوجي معين[4]، ومن ثم تتعدد الديانات، وتتعدد، بالتالي، مظاهر التدين باختلاف المجتمعات، بل تتعدد في المجتمع الواحد.
أما التدين فهو ظاهرة اجتماعية يقصد بها الالتزام بعقيدة دينية معينة وأداء فرائضها ومناسكها وطقوسها وشعائرها، وكل ما يتصل بها من العبادات نحو المعبود المعترف به في هذا الدين، وما يترتب على هذا الالتزام من تطبيقات تتصل بالشروط الدينية لكافة العلاقات والمعاملات في المجتمع.[5]
ويؤكد علماء الأناسة أن الإنسان يتنازعه بعدان أو إرادتان؛ إرادة المعرفة والسيطرة أو الهيمنة على الطبيعة وعلى الإنسان الآخر، وإرادة الخضوع والاستسلام لمبدأ سام تطمئن له القلوب، وهو ما يتجلى في التدين على اختلاف صوره وتمظهراته، إلا أن الاختلاف في التعبير عن هدا البعد، أو تعدد الديانات في المجتمع الواحد كثيرا ما تترتب عنه صراعات قد تكون في مستوى الجدل الفكري، كما قد تتعدى إلى العنف وإراقة الدماء.
ثانيا: التدين كرد فعل ضد الهيمنة:
يكتسي التدين أهمية بالغة سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، فهو من العناصر الضرورية لتوازن شخصية الإنسان وترشيد دوافعها وتحصينها ضد عوامل اليأس والقلق، كما أنه يلعب دورا مهما في التسيير السلس للكثير من العلاقات الأسرية والاجتماعية، يقول أحد الباحثين« التدين ولاسيما بأساليب الأديان السماوية من العناصر الأساسية التي يستكمل – بل يتوج- بها الإنسان صفته الإنسانية، وبه يجد العقل ما يشبع نهمه إلى معرفة الغيب»[6]، ويضيف في موضع آخر« لا توجد قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه والتئام أسباب الراحة والطمأنينة عليه والإحساس بالقناعة والرضي»[7]، واستقراء تاريخ البشرية يؤكد الأدوار المهمة والحاسمة التي لعبها الدين على مر العصور في مختلف الحركات التي غيرت مجرى الأحداث، فقد كانت الأديان سببا للحرب، كما كانت سببا للسلم، وقد أسهمت في نشر القيم الإنسانية كما أسهمت في تبرير الاستبداد والقهر، الأمر يتوقف على تأويلات معتنقيها للنصوص المؤسسة لهذه الأديان، وعلى مصالح السلط التي كانت ترتبط بها بصورة أو بأخرى، ورغم محاولات استبعاد الدين من ساحة الفعل في الفترة المعاصرة مع صعود التوجه العلماني ودسترته في جل الدول الغربية، إلا أن الدين يبقى حاضرا وبقوة، يقول أحد المفكرين: «لم تتمكن الأنظمة المعادية للدين ولا الممارسات اللائكية الملازمة للرأسمالية ولا النزعات العلموية من دفع الدين إلى التقهقر أو الانحباس في ظلمة النسيان، إنه ما فتئ يقفز إلى الأمام ويعود بقوة إلى ساحة المحاورات المهجورة»[8].
بمرور الوقت، ومع تسارع الأحداث أصبحنا أمام ظاهرة أطلقت عليها العديد من الأوساط السياسية والإعلامية وحتى الفكرية مصطلح عودة الأديان، أو انبعاث الإله أو انتقامه-كان الفيلسوف نيتشه قد أعلن موت الإله في سياق فلسفته طبعا- وكأن الأديان كانت غائبة، وها هي تعود وتبعث من جديد، يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان: « إننا نشهد منذ وقت قصير ظاهرة جديدة تبدو وكأنها تكذب توقعات التاريخانية، هي الانفجار المفاجئ للإنسان المتدين الذي اقتحم فجأة التاريخ ساعيا إلى القضاء على كل القيم التي تراكمت عبر خمسة قرون من العلمنة»[9]. في الحقيقة، هناك أكثر من مبرر لهذا الموقف، القائل بـــ “عودة الأديان”، يلخص أحد الدارسين أبرز هذه المبررات بقوله:« تجد عودة ما هو ديني مبررها في التهديد الذي تمثله بعض الأخطار الغامضة التي تظهر كما لو كانت غير مسبوقة، ولا مثيل لها في تاريخ الإنسانية، فمباشرة بعد الحرب العالمية الثانية بدأ الخوف من احتمال اندلاع حرب ذرية، واليوم حيث يبدو هذا الخطر أقل وشوكا بسبب التمظهر الجديد للعلاقات الدولية، نشهد بالمقابل انتشار الخوف من التكاثر غير المراقب لهذا النوع من الأسلحة، كما نلمح تزايد القلق إزاء التهديدات التي تتربص بالإيكولوجيا الكونية، وأمام الإمكانات الجديدة للتلاعب بالهندسة الوراثية، خوف آخر لا يقل انتشارا على الأقل في المجتمعات المتقدمة، وهو ذلك الذي يتمثل في فقدان معنى الوجود، والإحساس بالملل العميق الذي يصاحب على ما يبدو بشكل لا مناص منه هذا الإقبال الجنوني على الاستهلاك»[10]، وإجمالا، يمكن القول أن المبرر الأهم لما يبدو أنه عودة للأديان هو الخوف من تدمير العالم وفناء البشرية، خوف الإنسان من الإنسان وقلق الإنسان على الإنسان وقديما قال التوحيدي “الإنسان أشكل عليه الإنسان”.
إقرأ أيضاً: العنف والتدين في فكر محمد أركون
إن رؤية الظاهرة من زاوية أخرى تجعلنا نقول: إن الأمر لا يتعلق بعودة الدين، لأن هذا الأخير لم يفارق البشرية فهو حاجة متجذرة في أعماق الإنسان ولا يمكن اجتثاثها أو تجاوزها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولكن المسألة تتعلق ببروز نمط معين من التدين، تدين يرى في الدين ملاذا وملجأ من الوضع المزري الذي يعيشه، فالإنسان أصبح يشعر بنوع من الضيق الوجودي، في ظل أفق الانتظار الذي لا يجلب إلا المزيد من الآلام والمآسي والقهر والاستبداد والهيمنة. ومن ثم فإن انتشار التدين يمكن اعتباره رد فعل تجاه تنامي إرادة الهيمنة التي توجه سياسات دول المركز وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع دول الأطراف، ومن ضمنها دول العالم العربي الإسلامي، ولأن فعل الهيمنة لا يتم إلا عبر ممارسة نوع من العنف الذي قد لا يكون بالضرورة ماديا، إنما أصبح مؤخرا– وهي ميزة الاستعمار في نسخته الجديدة– عنفا رمزيا بلغة بيير بورديو(1930-2002)، وهو الظل المرافق لكل نسق للهيمنة، يقول أحد الباحثين:« وإنه لشيء منطقي جدا أو حتمي أن يؤدي الصعود المتنامي للقوة إلى إثارة الرغبة في تدميرها»[11]، ومن هنا نفهم اللجوء إلى استعمال القوة والعنف من قبل بعض الجماعات الدينية المتطرفة، كرد فعل تجاه إرادة الهيمنة التي تتعرض لها من قبل القوى الأخرى.
ثالثا: التدين كفعل للهيمنة:
ينبغي إذن أن نميز بين عودة الدين، وانتشار نمط جديد من التدين، ومن ثم فلا مبرر لربط ما يشهده العالم في الآونة الأخيرة من تنام لظاهرتي العنف والإرهاب بالدين، أيا كان هذا الدين، لأن الأديان ليست وليدة الراهن، إنما الأمر المستجد هو قراءة معينة وتوظيف محدد للدين، وهذا أيضا لا يعني أن هذه القراءة أو التوظيف يتضمن إرادة العنف كمكون رئيسي في جوهره، يقول جاك دريدا: «ينبغي أن نتجنب الخلط الذي يقع فيه الكثيرون، فالإسلام ليس هو الإسلاموية لكن هذه الأخيرة، وهذا ما لا يجب نسيانه، تمارس وتعمل باسمه، وهنا تظهر بجلاء خطورة الاسم»[12]، ومعنى ذلك أن هناك استغلالا للدين –الإسلام في هذه الحالة-من قبل فئة معينة، تتحدث باسمه، محولة إياه إلى رأسمال رمزي تستثمره لتحقيق أغراض ليست بالضرورة متلائمة مع روح ذلك الدين ومراميه، ومن الوقائع المؤكدة لعدم ارتباط العنف بالأديان ما نلاحظه من اقتتال وأعمال عنف بين المتدينين داخل الديانة الواحدة في بعض المناطق، وما نلاحظه في المقابل من تعايش المتدينين بديانات مختلفة في نفس الوسط الاجتماعي، ففي كل العصور وجد متدينون مسالمون وآخرون غير مسالمين، مثلهم في ذلك مثل غيرهم، وهذا ما يفيد أن العنف والسلم ليسا مرتبطين بالدين والتدين بصورة قطعية أو ضرورية.
مثلما رأينا أن التدين قد يكون تعبيرا عن رد فعل تجاه قوى الهيمنة، فإنه، في المقابل، قد يتحول إلى فعل من أجل الهيمنة، وهذا ما يفسر الصراعات بين الطوائف والفرق ضمن الدين الواحد، فهي صراعات من أجل احتكار النص، وبالتالي، احتكار الحقيقة والحديث باسمها، لاقتناص السلطة وإضفاء للمشروعية على فعل الهيمنة، وهي صراعات عرفتها كل الديانات، ومختلف الايديولوجيات، هناك دوما ما يدعوه علماء الاجتماع بالمزايدة المحاكاتية؛ والمقصود بها أن كل طرف يعتبر نفسه الأنقى والأصدق والأقرب للأصل، وبالتالي فهو الممثل الحقيقي والأحد للطريق المستقيم (الأرثوذكسية)، والبقية، طبعا، في الغي والتيه والابتداع، ومن ثم يجب ردعهم وردهم إلى جادة الصواب، ومثال هذا الصراع على المعنى، والذي وصل إلى درجة العنف المدمر، ما عاشته الجزائر خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، حيث كان هناك ثلاث “إسلامات” في الساحة؛ “إسلام” المواطن البسيط الذي كان يكافح من أجل قوت يومه، و”إسلام” رسمي تمثله مؤسسات الدولة، و”إسلام” تمثله الجماعات المسلحة، وكل جهة تعتقد أنها تمثل الإسلام الصحيح؛ ومع أن أصل الصراع سياسي بالدرجة الأولى إلا أنه تم الزج بالدين ضمن ساحة الصراع لإضفاء الشرعية الدينية على ممارسات كل طرف، وسحبها عن ممارسات الطرف الآخر، من خلال استدعاء وتوظيف المعجم الديني لما له من قوة التأثير على الجماهير، فكان الإسلام الرسمي يصف الجمعات المسلحة بالإرهابية المارقة عن الدين، وكانت هذه الأخيرة تصف كل من له علاقة بمؤسسات الدولة بالطاغوت، والجميع يعرف النتائج الوخيمة على العباد والبلاد جراء ذلك الصراع.
منذ قرون انتبه أبو حيان التوحيدي لهذه المسألة المهمة، ففي الكتاب المشترك بينه وبين مسكويه، والموسوم ب”الهوامل والشوامل”، طرح التوحيدي سؤال العلاقة بين التدين وإرادة الهيمنة على مسكويه، وهو سؤال يثير قضية لازلنا نعيشها في أيامنا، فبعض المتدينين يعتقد أن الله لم يهد غيره، ويتحدث وكأنه قد أمن مقعده في الجنة، والمخالف له يعمه في الضلال المبين، ومصيره النار وبئس المصير !! يقول التوحيدي: ” لم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائدا على الفرض لا مشترك فيه حقر غيره، واشتط عليه، وارتفع على مجلسه، ووجد الخنزوانة (الكبر) في نفسه، وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي، أو الواثق بالمغفرة، والمنفرد بالجنة، وهو مع ذلك يعلم أن العمل معرض للآفات، وبها يحبط (ثواب) صاحبه”[13]. ثم أورد قوله تعالى: “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا”*.
وكان جواب مسكويه بنفس الأهمية التي يكتسيها سؤال التوحيدي، جواب يدل على كون صاحبه خبر أحوال هذا النمط من المتدينين وأدرك غاياتهم، حيث قال: “كل من استشعر في نفسه فضيلة، وكان هناك نقصان من وجه آخر، وخشى أن تنكتم تلك الفضيلة، أو لا يعرفها غيره منه –عرض له عارض الكبر؛ لأن معنى الكبر هو هذا. أي أن صاحبه يلتمس من غيره أن يذعن له يتلك الفضيلة، ويعرفها، فإذا لم يعرفها تحرك ضروب الحركة المضطربة، ولهذا صدق القائل: ما تكبر أحد إلا عن ذلة يجدها في نفسه[14]. نلاحظ من خلال الجواب ارتباط التدين لدى بعض الأشخاص/الفرق الذين يعتقدون أنهم أصدق إيمانا، وبالتالي، أعلى شأنا من الآخرين ، كأنهم “أصحاب الوحي” أو أن الوحي أنزل عليهم دون غيرهم، مثلما عبر التوحيدي، بإرادة الهيمنة أو ما سماه مسكويه بالإذعان، فالإقرار لشخص/فرقة، بميزة ما يعني منحه سلطة رمزية تجعله أفضل وأرقى منزلة من الآخرين، وممارسة هذه السلطة تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الميزة المقر بها لذلك الشخص/الفرقة، وفي حالة التدين، فإن هذا الشخص يشعر بمسؤولية “هداية الضالين”، أو “دلالة الحائرين” كما عنون موسى بن ميمون أهم كتبه، وإرجاعهم إلى الطريق الصحيح، ولو باستعمال العنف والذي سيرتدي –في هذه الحالة- رداء التقديس حتى تتم شرعنته، ليكون “باسم الإله” أو “لإعلاء كلمته” و”حفظ دينه” و”محاربة الشرك به” و”محاربة أهل البدع”…الخ، من الشعارات التي يتم توظيفها في هذه السياقات، وهكذا يتحول التدين من فعل تعبدي إلى فعل من أجل الهيمنة.
خاتمة:
من خلال ما سبق نخلص إلى أن التمييز بين الدين والتدين أمر ضروري، وضمن دائرة التدين يمكن التمييز بين ضروب مختلفة، ومستويات متعددة، من التدين الإيجابي البسيط والنقي الذي يحقق الطمأنينة والأمان للفرد، ويساعد في التعاطي مع الغيبيات وتجاوز الأسئلة الوجودية المؤرقة، كما يسهم في تسيير العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، إلى التدين كرد فعل مضاد لإرادة الهيمنة، والذي يعبر عن الامتعاض من الوضع السائد، والسعي للمقاومة والتغيير، وهنا يحدث أن يتم اللجوء إلى طرق غير سلمية، خصوصا حين يتم تغذية الصراع من قبل الأطراف الخارجية المستفيدة منه، لذلك، فإن القوى العالمية الكبرى تتحمل الجزء الأكبر من العنف الذي يشهده العالم، من خلال تغذيتها للصراعات الطائفية والإثنية بغرض تفكيك البلدان الضعيفة والهيمنة عليها وعلى مواردها، سعيا وراء زيادة الأرباح والامتيازات دون أدنى مراعاة للقيم الإنسانية، أما المستوى الثالث للتدين، فهو المرتبط بإرادة الهيمنة، والذي نلاحظه متجل في الخلافات بين المتدينين بنفس الديانة، كتعبير الصراع من أجل احتكار الحقيقة والتفرد بالطريق المستقيم، ثم ممارسة السلطة والهيمنة من خلال هذا الاحتكار، وقد مرت منطقتنا –ولا تزال-بتجارب مريرة في العديد من البلدان العربية والإسلامية، تجارب قتلت الإنسان وخربت الأوطان..
إن موضوع العنف هو قضية معقدة ومرتبطة بسياقات خاصة جدا، ينبغي أن تدرس حالة بحالة، بعيدا عن الأحكام التعميمية المضللة في الغالب، ولا يمكن بأي حال تفسيرها بإرجاعها إلى العامل الديني، أو إلى أي عامل آخر بمفرده، إنما ينبغي استحضار مجمل العوامل ذات الصلة بهذه الظاهرة، يقول احد الدارسين: «النزاعات الدامية بين الجماعات البشرية ظاهرة قديمة جدا، وهناك عدد كبير من الأسباب تؤدي منفردة أو في توليفات متغيرة إلى التسبب في الصراع الدامي بين القبائل والشعوب أو المدن أو الدول»[15]، ثم يرصد لنا أهم العوامل التي قد تكون سببا في الحروب وانتشار العنف بين الجماعات البشرية وأهمها: النزاعات الإقليمية، التنافس على موارد محددة، التسابق على أسواق مرغوب فيها، الاختلاف الإيديولوجي، الحماس الديني، التسلح، مصالح النخبة والفئات الحاكمة ….إلخ، ضف إلى كل هذه العوامل عاملا آخر وهو من الأهمية بما كان ألا وهو التدخل الأجنبي أو مصالح الخارج، وتكمن فعالية هذا العامل في عمله على تغذية الاختلافات القائمة وتوسيع بؤر التنافر، وتدعيم كل ما من شأنه تغليب منطق الاقتتال والحرب والتصادم.
الإحالات:
إيميل دوركايم: الأشكال الأولية للحياة الدينية، ت: رنده بعث، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2019، ص 20.[1]
جاك دريدا– جياني فاطيمو: الدين في عالمنا، ت: محمد الهلالي، حسن العمراني، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط1، 2003، ص 11.[2]
يوسف شلحت: نحو نظرة جديدة في علم الاجتماع الديني، بيروت، دار الفارابي، ط1، 2003، ص 70. [3]
جاك دريدا – جياني فاطيمو: المرجع السابق، ص 68.[4]
زيدان عبد الباقي: علم الاجتماع الديني، القاهرة، مكتبة غريب (د ت) ص63.[5]
جاك دريدا – جياني فاطيمو: المقدمة ، ص 05. [8]
داريوش شايغان: ما الثورة الدينية؟ت:محمد الرحموني، جنيف- بيروت، المؤسسة العربية للتحديث الفكري– دار الساقي، ط1، 2004، ص 31. [9]
جاك دريدا – جياني فاطيمو: ص 78.[10]
عزيز لزرق: الإسلام والعولمة والإرهاب، نصوص مختارة مترجمة، المملكة المغربية، دار النشر المغربية، ط1، 2007، ص 95.[11]
جاك دريدا – جياني فاطيمو: ص 13.[12]
أبو حيان التوحيدي-مسكويه: الهوامل والشوامل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009، ص 278.[13]
القرآن الكريم: سورة الفرقان، الآية 23.*
أبو حيان التوحيدي-مسكويه: مرجع سابق، ص 279.[14]
هارولد موللر: تعايش الثقافات، مشروع مضاد لهنتنغتون، ت: ابراهيم أبوهشهش، طرابلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2005، ص 103.[15]