تكوين
حَمل التفكُّر الفلسفي منذ بداءاته تساؤلاتٍ حاول بعضهم الإجابة عنها بالركون إلى الطبيعة وآخرون إلى ما بعد الطبيعة، بحثًا عن الحقيقة. وبين ماضٍ وسَمَ حياتنا وحاضرٍ نحاول التقاط إرهاصاته ومستقبلٍ نتوجَّس غالبًا ممَّا سيحمله لنا… وجدنا أنفسنا نغوص بين مفاهيم فيزيقية وميتافيزيقية تطرق أبواب الزمن والوعي واللاوعي والتذكُّر والنسيان وسائر إشكاليات الوجود الإنساني.
وفي أثناء تركيزنا في مسألة التذكُّر، سوف نجد في الفلسفة الأفلاطونية أساسًا، وفي الفكر والرواية الأوروبيَين استمراريةً تُضفي عليها جمالًا مطبوعًا ببعضٍ من الغموض والنوستالجيا.
أولًا: التذكُّر في فلسفة أفلاطون (428-347 ق.م.)
يعود أصل مفهوم “التذكُّر” Réminiscence إلى اللغة اللاتينية Reminisci وهو فعل “تَذكَّر“، وإلى الأصل اليوناني Anamnésis et mnémè (souvenir) (ana (remontée، ما يعني استرجاع الذكريات.
ينبغي أن نُشير بداءةً إلى أنَّ نظرية التذكُّر الأفلاطونية موصولة بعمقٍ بتمييز أفلاطون بين عالمي المُثُل والمحسوسات من جهة، وبقوله بخلود النفس من جهةٍ أخرى، ففي اعتقاده أننا عشنا في عالم المُثُل قبل حلولنا في جسدنا الحالي، وأننا تأمَّلنا هذه المُثُل مباشرةً وبصفائها الكُلِّي، مثل: مُثُل الخير والعدالة والجمال… بيد أنَّ ما احتفظنا به من هذه الرؤية العُلوية كان تذكُّرًا يشوبه الاضطراب وانعدام الوضوح، وتبعًا لذلك عندما نبحث عن فكرةٍ ونتلمَّسُ معناها، لا يكون الأمر بواسطة ذكائنا بل بتذكُّرنا، والدليل أن لا وجود لمساواةٍ كاملة في عالم المتغيِّرات الذي نحيا فيه، وحيث لا نبصر سوى ظلال الحقائق المرتسمة على جدران “الكهف“، طبقًا للجزء السابع من كتاب “الجمهورية“… وعلى رغم هذا الواقع، تسكن فكرة المساواة عقولنا، وبخاصةٍ في ما يتعلَّقُ بعلم الرياضيات، فكاد الأمر يكون مستحيلًا لو أنَّ الأحاسيس هي مصدر الأفكار، ولو أننا لم نتلقَّ هذا “الوحي” قبل الولادة. لا يكمن فعل العقل إذًا في خلق الفكرة وابتداعها، بل في تحرير ما يسكن ذواتنا من أفكارٍ من أيِّ عائقٍ قد يعترضها، أكان التخيُّل أو التعوُّد أو الالتباس… وتكون المعرفة عندئذٍ هي “تَعَرُّف” على الأشياء.
ولإثبات نظريته رسم أفلاطون في كتابه “Ménon” صورةً حواريةً بين سقراط و”عبدٍ” يافعٍ وجاهل، فقد طلب منه سقراط حلُّ مسألة في الرياضيات، واستطاع العبد من طريق الأسئلة المُتتابعة، أن يتوصَّل إلى الإجابة الصحيحة بشأن خصائص الأشكال الهندسية مع أنه لم يتعلَّم عنها شيئًا سابقًا 1، فكأنه استعاد امتلاك معرفة كانت لديه يومًا! كيف فسَّر أفلاطون ما حصل؟ بأسطورةٍ تقول إنَّ هذا الصبيَّ كما جميع البشر، أو لِنَقُل إنَّ نَفْسَهُ كما جميع النفوس، كانت تعيش بين المُثُل العليا في سماء الحقائق الأبدية، وعند سقوط هذه النفس في عالم المحسوسات، عندما عجزت قوة أجنحتها عن الاستمرار في حملها، (وهو ما فسَّره أفلاطون بالتفصيل في كتابه “Phèdre”)، تركَّزت في جسد، إلا أنها احتفظت ممَّا رأته وتأمَّلته بذاكرةٍ غامضة.
ولم يكن لكل ذلك أن يحصل لولا أنَّ النَفْسَ الخالدة كانت قد أبصرت بوضوح قبل تجسُّدها، كلَّ الحقائق التي غدت “معرفة“. وقد عمد أفلاطون في كتابه “Phédon” إلى الدفاع عن فكرة خلود النفس مستخدمًا أدلَّةً عدَّة، من أبرزها دليل التذكُّر، فما كان أزليًا لا بدَّ أن يكون أبديًا. وإلى التذكُّر أورد دليل البسيط الذي لا يعرف الفساد، فالنفس البسيطة الواحدة كسواها من المُثُل وجب أن تكون خالدة. إضافةً إلى دليل تمييزه بين العالمَين: فالتغيُّر والموت هما ظاهرتان خاصَّتان بعالم المتغيِّرات الحِسِّية، أمَّا النفس المُنتمية إلى عالم المُثُل فخالدة… وبشأن دليل تعاقب الأضداد فهناك حركة دائرية تجعل الليل يعقب النهار واللذَّة تعقب الألم والحياة تعقب الموت.
وتجدر الاشارة إلى أنَّ أرسطو رأى الاختلاف بين مفهوميّ “التذكُّر” و “الذاكرة“، فالذاكرة هي حفظ الماضي وعودة صوره إلى الذهن بطريقةٍ عفوية، فيما التذكُّر هو القدرة على استرجاعٍ إراديٍّ للذكريات بواسطة جُهدٍ فكري وتحديدها زمنيًا بدقَّة، وهذه هي خاصيَّة الإنسان وحده.
اقرأ المزيد: الفلسفةُ في مواجهةِ الهشاشةِ الإنسانيةِ: رحلةُ البحثِ عن المعنى والخلاص
ثانيًا: التذكُّر في فكر القديس أغوسطينوس (354-430)
طرح القديس أغوسطينوس في “الاعترافات” مسائل الخلق والزمن والذاكرة، مفترضًا هُوية النفس متجذِّرةً في الذاكرة وهي مستوىً من العقل يُضفي الوَحَدَة على التعدُدية داخل دائرة التجارب الزمنية، كما أنه ربط في عمقٍ وسلاسةٍ معًا مفهوم “التذكُّر” بعلاقته بالله التي تهبه شعورًا بالسعادة:
“هاك مسافات ذاكرتي التي اجتزتها بحثًا عنك يا إلهي وما وجدتك خارجًا عنها. كلا لم أجد فيك شيئًا إلاّ وتذكُّرته مذ اليوم الذي فيه تعلَّمت أن أعرفك. فمنذ ذاك الحين لم أعد أنساك. وحيث وجدت الحقيقة وجدت إلهي الحقيقة عينها، ومذ عرفت الحقيقة ما عدت نسيتها”2.
هكذا ثبت الله في ذاكرته، لكن في أيِّ مكانٍ أو جزءٍ من تلك الذاكرة؟ هذا ما تساءل عنه. وبعد رحلة تساؤلٍ موسومةٍ بالفرح والحزن والذكريات والنسيان والخوف والرغبة… توصَّل إلى استنتاج أنَّ ما هو ثابتٌ هو أنّ الله يسكن ذاكرته منذ اليوم الأول الذي عرفه فيه: “وفيها أجدك حين أبحث عنك“3 كما قال.
أنا أعرف الله إذًا هو يسكن ذاكرتي: حقيقةٌ حَملت إلى القديس أوغسطينوس الطمأنينة الداخلية، بعد تعثُّراته الأولى في بداءات حياته وقد كانت بعيدةً عن الإيمان، وفي طرحه الأبعاد الزمانية الثلاثة، قال إنَّ:
“حاضر الأشياء الماضية هو الذاكرة، وحاضر الأشياء الحاضرة هو الرؤية المباشرة، وحاضر الأشياء المستقبلة هو الترقُّب (الانتظار)…”4
وعلى رغم تأثُّره بأفلاطون وبالأفلاطونية المُحدثة، فقد رسم خَطَّه الفكري الخاص: فكي نتمكَّن من المعرفة والتذكُّر، لن نتذكَّر حقائق المُثُل العلوية، بل سوف نستنيرُ بمصباح الله!
اقرأ المزيد: محاولة تأمّل فلسفيّ في مفهوم الموتثالثًا: التذكُّر في أدب بروست Marcel Proust (1871-1922)
من الفلسفة الترنسندنتالية مع أفلاطون إلى الفكر المُطعَّم بالإيمان مع القديس أوغسطينوس، يصل مفهوم “التذكُّر” إلى الأدب مع الروائي الفرنسي مارسيل بروست، في رائعته “البحث عن الزمن المفقود” (A la recherche du temps perdu)، المكوَّنة من سبعة مُجلَّدات، وذلك في صورةٍ تتقاطع فيها أحاسيس الحاضر والماضي لتبلغ ببطل الرواية إلى سعادةٍ يصعب وصفها مع استحضار “الزمن المستعاد“.
هي رواية التذكُّر التي تأخذ القارئ منذ صفحاتها الأولى إلى ذكريات طفولته في بلدة Combray، حيث كان يُمضي العطل مع العائلة، ويطالعنا نوعان من الذاكرة في الرواية:
- الذاكرة الإرادية التي تُعيده إلى الشعور بالقلق والكآبة لدى ذهابه إلى النوم ليلًا وحيدًا بعيدًا عن والدته وجَدَّتِهِ، فيصف “غرفة النوم بمركز لمخاوفه“5، وكم من مرَّةٍ أراد أن يقول لوالدته: “عودي وقبِّليني ثانيةً قبل النوم“6، لولا توجُّسه من ردَّة فعل والده.
- والذاكرة اللاإرادية المُرتبطة بإحساسٍ بسعادةٍ عفويةٍ عارمة تغمره “لدى تناوله قطعةً من حلوى المادلين، مُغمَّسةً بالشاي“7، تُقدِّمها له عمَّته Léonie ذاك الأحد قبل القدَّاس… فيأخذه الحاضر مباشرةً إلى تلك اللحظة وإلى ذلك الاحساس، فيعيشهما مجدَّدًا، وكأنَّ حالة احتضانٍ جمعت الزمان والمكان في ماضٍ اعتقد بروست أنه فقده… وكأنَّ نوعًا من الجاذبية المُستترة استثارت لحظاتٍ طفولية حرَّكت في أعماقه حنينًا إلى طعمٍ ورائحةٍ لم يذقهما إلا في تلك البلدة.
وفي تراكم الصور والخيوط المتشابكة بين الوعي واللاوعي نجح بروست في إيصال مفهوم “التذكُّر” بحُلَّته المُثلى، لا سيما عندما رأى أنَّ وحده الزمن المفقود يمتلك قيمةً.
خاتمة
بين عالم الحقائق الأفلاطونية الأزلية وعالم التقوى الأوغسطينية المبنيَّة على التعلُّق بالله وعالم الرواية البروستية حيث اندماج الأزمنة واستفاقة المشاعر والذكريات… نجدنا أمام حالةٍ تذكُّريةٍ حتميةٍ للإنسان، مهما كان منطلقهُ ومبتغاه.
هل كلُّ ما نراه هو ذكرى صورٍ من عالم المُثُل؟ هل كلُّ ما نحتفظ به في ذاكرتنا مجدولٌ على علاقةٍ إيمانية؟ هل يسكن ماضينا داخل ذواتنا؟ وهل لدينا سلطة التحكُّم بما يأتينا منه؟! تبقى الإجابات مرهونةً بالفرد الذي سوف يُجيب أو سوف يُحاول أن يفعل، بحثًا عن يقينٍ ما في “تذكّر“ٍ مُغلَّفٍ بشكوكٍ متناسلة!
المراجع
[1] Platon, Œuvres complètes, Ménon, Tome I, Ed. Gallimard, 1950, p. 530-531.
[2] القديس أغوسطينوس، الاعترافات، نقلها إلى العربية الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1986، ص. 216-217.
[3] المرجع نفسه، ص. 217.
[4] المرجع نفسه، ص. 254.
[5] Marcel Proust, A la recherche du temps perdu, Première partie, Ed. Gallimard, Paris, 1946-1947, p. 19.
[6] Ibid, p. 28.
[7] Ibid, p. 99.