﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وهدىً ورحمةً لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص، 28: 43.]
تمهيد
تطرح هذه الآيةُ الكريمة أمامنا جملة ظواهر تعبيرية تستحق أن نتساءل بإزائها؛ فالتأكيد بأداتين، والإخبار عن نبي، وتعيين زمن الحدث الإخباري بحدث إخباري آخر، وتعليل الحدث الأول بمصالح الناس البنائية الإنسانية التي تشكل حاجةً حضارية، واختتامها بالفعل يتذكرون في إطار الرجاء أو التعليل؛ كلّها تستدعي الوقوف أمامها مثقلين بأسئلةٍ عديدة.
ما الذي كان يواجه محمّدا(ص) في علاقته مع رسوليته أو مع قومه حتى يُلقى هذا الخبرُ عليه مؤكّداً بأداتين؟
طبعًا، لا أستطيع الإجابة عن هذا التساؤل المشروع إجابةً دقيقةً تشمل الأسماء والأمكنة والتواريخ، غير أني تأسيساً على معرفةٍ سطحيةٍ بما تواجهه ــــــ بعامّة ــــــ الأفكارُ الجديدة التغييرية في بيئاتها الاجتماعية من اعتراضاتٍ؛ يمكننا أن نرصد اعتراضات المجتمع الذي تلقّى القرآن الكريمَ بمستوياته المختلفة، من خلال مساءلة الآيات عمّا اقتضاها في الواقع التاريخيّ، ولا يمكن أن يكون ما نتوصّلُ إليه نهائياً.
بلا شك إن الرسالةَ التي جاء بها محمّدٌ (ص) إنما هي لتغيّر الناس وتنتقل بهم من حالٍ إلى حال، ودون ذلك عوائق عدّة، من أبرزها تلك المعارف التي يحسبونها حقائق نهائية، وتطبع سلوكهم الذهني وانعكاساته القولية والحركية بإزاء الكون والإنسان. وقد أتينا في موضع سابق على مواقفهم من الطبيعة إذْ طالبهم الخطاب القرآني بإعمال أذهانهم في ما انطوت عليه من معلومات أو مسلمات عن الكون بهدف إعادة صياغة مواقفهم، ونحن الآن أمام آية كريمة أخرى تجعلنا أمام خطاب يطالب الناس بإعمال أذهانهم في ما انطوت عليه من مواقف اتجاه أحداثٍ في التاريخ، ولا يمكن لأي تقدّمٍ أن يكون ممكنًا ما لم يتمَّ انتزاعُ الأخبار والمواقف القارّة في الأذهان من براثن التسليم البدهي، بوصفه قيداً يحُول دون الانطلاق المنهجي المفتوح.
الموقف الذي يؤسس للتحضر والتمدّن إنما هو الموقف الذي يأتي على البداهة فيقلص دورها، وأقصد بالبداهة[1] ذلك الموقف السلوكي التلقائي بإزاء الأحداث الطبيعية أو الاجتماعية، ولا أقصد ذلك الذكاء الحاد الذي يتمثل بالردود السريعة المفاجئة، فهذه الأخيرة تكون نتاج ثقافةٍ وخبرة في الحياة، أو هي مهارة يتدرب الإنسان وفق شروطٍ لتحصيلها. أما البداهةُ التي يجب أن ندمرها، هي التي تعطّل السؤال ويتكلس الذهن من جرائها، فيحسب أن ما يعرفه صحيح بالضرورة، وهذا ما يجب التمرّدُ عليه؛ وهذا التمرّدُ لن يكون اعتراضاً اعتباطياً؛ إنما يقوم به منهجٌ ملائمٌ للحقيقةِ المتخيَّلة أو المتوخاة، قد لا تلائمها المناهج السائدة مهما كانت درجة علميتها، وقد لا تستفيد السيرورةُ المعرفيةُ من المناهج الجاهزة. فكيف إذا كانت البداهة مركوزةً في الأذهان بحجة القدامة ونبالة الأقدمين؟! عندها ستغلِّفها قداسة لا يسهل تبخيسها، أو مجردُ التفكير في تجاوزها.
إن أول ما يطالعنا في دفتر الذهن العربي قبل القرآن هو بدهية اتباع الآباء وآباء الآباء، ولا يمكن أن يخالط تصوراتِ الجيل اللاحق أيُّ سؤال عن علة مواقف الآباء، فقد كانوا يسجدون للشمس والقمر والحجر، أو يداوون مرضاهم بالرقى والتمائم، أو يتطيّرون أو يرمون القداح وهكذا، واللاحقون على خطى أسلافهم بلا أي تساؤل؛ إلى أن تنزّل القرآن بين ظهرانيهم، فهل سيمتثلون إلى مطالب القرآن الكريم في تعديل السلوك الذهنيّ؟ وبالتالي الحركي؟.
طبعاً، ليس الأمر بمنجز ما لم تكن هناك حاجةٌ حقيقية للتخلّص من التقليد والاتباع، أي ما لم تكن متاعب الاتباعية قد بلغت مستوى خطيرا على العلاقات الاجتماعية وحركية نموها الحضارية. وهنا يرابط السؤال عن القلق اليومي الذي كان في أذهان المتلقين بمختلف طبقاتهم الثقافية.
من أين يمكن أن نبدأ في مقاربة الإجابة، طالما أننا لا نقبل اعتماد أي وثيقة خارج النص مصدرا للمعلومة عن الذي اقتضى النص؟ ينبغي أن نصل إلى معرفة البيئة المتلقية من خلال ما يُلقى عليها.
- موسى
ينبغي أن يكون المعنيون بالخطاب في هذه الآية الكريمة على درايةٍ بسيرة النبي موسى(ع) ورسوليته ومنزلتها في التاريخ، فهم يعرفون بني إسرائيل والتوراة والنبي موسى، فقد روى المؤرخون الكثير من أخبار العلاقات العربية اليهودية، كما رووا عن هجرات اليهود إلى جزيرة العرب بسبب ما تعرضوا له من اضطهادٍ على يد نبوخذ نصَّر (589 ق.م)، وتيتوس (66، و70م.) وهارديان(132م.). كما ورد في الشعر الجاهلي ذكر اليهود والتوراة وموسى، فهذا أوس بن حجر يقول:
قَد نِمتَ عَنّي وَباتَ البَرقُ يُسهِرُني كَما استَضاءَ يَهودِيٌّ بِمِصباحِ[2]
كما أن عروة بن الورد يذكر شيئا من معتقدات أهل خيبر فيقول:
وَقالوا أحبّ وَأِنهَق لا تَضيرُكَ خَيبَرٌ وَذَلِكَ مِن دينِ اليَهودِ وَلوعُ[3]
وإذْ يذكر الشعراء دين اليهود وطقوسهم فهذا دليل على مدى قوة الحضور اليهودي في الحياة العربية، ومن أهم ما قيل ــــ إذا صحّت النسبةُ إلى ورقة بن نوفل ـــــــ في تدعيم نبوّةِ محمد قولُه:
وظني به أن سوف يبعثُ صادقا كما أرسل العبدان هودٌ وصالحُ
وموسى وإبراهيم حتى يُرى له بهاء ومنشورٌ من الذكر واضحُ[4]
فيذكر موسى(ع) وهو يريد إقناع عرب مكة بنبوة محمد(ص) ما يعني أنهم يعرفون موسى، وهم بلا شك على علمٍ بأنه “رَجل الله” كما تقول التوراة وكما هو عند اليهود. وأنهم كانوا لا يؤمنون بنبوته أو يؤمنون فذاك لن يغيّر في طبيعة المرسلة، إذْ إنّها تقدّم حدثًا يستفاد منه في تمكين المنهج الواجب لتحرير الذهن من قيود موروثة.
(آتينا موسى الكتاب) هو الحدث في الماضي، وله محازبون في حاضر التنزيل، وعلاقة هؤلاء المحازبين مع سائر العرب أثبتها التاريخ في صفحات ملونة مرات بألوان إيجابية ومرات بألوان سلبية، فهم أصحاب كتاب وسائر العرب أُمّيون في الغالب، وهم أهل صناعة وزراعة وتجارة، ومرابون، وصاغة. ويختلف إليهم العرب في شتى شؤونهم، وأن ينظروا إليهم على أنهم متقدّمون حضارياً عليهم، فهم لا يملكون من الأسس المزعومة للاستعلاء اليهودي شيئا، فاليهود لهم تاريخ نبوي، وكتاب إلهي، وعندما يخاطب القرآن الكريم العربَ ويذكر لهم موسى، إنما لأمرين:
- إشعار العرب بأن نبياً مثل موسى عربيا معروفا بنسبه ومكانته بينهم، قد بُعث إليهم يرفع شأنهم ويحررهم من الشعور بالدونية بإزاء اليهود.
- إشعار اليهود بأن سلطانهم على العرب قد انتهى، فإن كانت حجتكم للهيمنة بأن الله قد خوّلكم الاستعلاء على الناس إذْ بعث منكم موسى والنبيين(ع)، فإنّ محمّدا(ص) ليس من بني إسرائيل، وهو للعالمين وليس للعرب فحسب؛ ما يدل أنّ اليهود أيضا مدعوون إلى اتّباعه.
إذن، العرب واليهود بوصفهما معنيين بالخطاب القرآني، يقتضي سلوكهم الذهني المنعكسُ حركيًا بمختلف الضروب، يقتضي هذه الآيةَ الكريمةَ : ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وهدىً ورحمةً لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص، 28: 43.]
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ ﴾، ليس مجرّد إخبارٍ لمن لا يعلم صدقيةَ هذا الإسناد فيزيل جهله به؛ بل لدحض حجةِ إنكار اليهود إيتاء محمّد كتاباً من عند الله، وأنّ أذهانهم لم تتحمّل هذا الأمر جاء التأكيد بأداتين (اللام) و(قد) لما ينطويان عليه من طاقةٍ دلالية على تعميق دحض مزاعمهم الإنكارية؛ فاللام رابطة لجواب القسم المحذوف بلاغيًّا، واللهُ إذْ يقسم فذاك يعني أن المقسَم من أجله ثابت بلا شوائب، فليس هناك ما هو أدلّ من القسم على التثبيت ، فكيف إذا كان المقسم هو الله؟ والمعنيون الذين يؤمنون بإله موسى، لا يمكنهم ردّ مضمون هذا القسم، لأنهم مؤمنون بنبوة موسى وأن كتابه من عند الله.
أما “قد” فهي للتحقيق في هذا السياق، وأن يكون المسندُ (آتينا) فعلاً مضى فذاك إمعانٌ في تثبيت التحقق. ثم نفهم وقوع فعل الإيتاء على موسى وعلى الكتاب، فهذا يحيلنا على أمرين:
- سيرة موسى (ع) مع الاستبداد والجهل، وهذا ما يحتاجه محمّدٌ(ص) والمؤمنون به.
- الكتاب بتاريخيته وتصديه لما يعكّر الوئام الاجتماعي، والنقاء الوجداني.
يشكل هذان الأمران نافذة يطل منها المخاطبون على ماضٍ سحيق، ولكن آثار هذا الماضي لمّا تزلْ في أذهان فئة، إمّا للتنمّر بها على من ليس لهم ماضٍ مشابه، أو لسلب حقوق الناس بالاستناد إلى تشريعٍ مزعومٍ بأن هذا السلب من حقهم فهم “شعب الله المختار”. وأنّ العرب لم ينخرطْ جزءٌ كبيرٌ منهم في هذه الملّة، فهذا لا يعني أنهم ما كانوا يحترمون أهلها ويسلمون لهم بالريادة في الزراعة والصناعة والصياغة وغيرها، حتى في أمور دينية.
- الكتاب
الكتاب هو مظهرٌ رمزي لما سبق رسوخه في الذهن، وأُريدَ حفظُه ونقلُه إلى الآخر، وعندما يتأمل المرء في هذا المظهر، إنما يتأمل في ما كان قد اعتمل في ذهن صاحبه، وتأسيسا على ما يتلقى إما أن يأخذ، وإما أن يكمل، وإما أن ينسخ…. وهكذا للكتاب تلك المكانة في الحياة الإنسانية من كونه محفظة رموزٍ ذات دلالات على ما سبق كونُه في الحياة أثراً للتجارب والخبرات ماديًّا ومعنويًّا، من خلاله يُعرفُ مسار التطور في الحياة الإنسانية ومسار التعثر، ومن خلاله يُعرف ما يجب وما يجوز وما لا يجوز، ومن خلاله تُعرف الأسباب والنتائج، وغير ذلك كثير.
الذي أُلقيَ على موسى إنما هو الدين أو الحكمة أو الشريعة، وأن يُلْقى على المخاطبين بهذه الآية خبرُ إلقاء الكتاب فهو للدلالة على أي واحدةٍ منها أو جميعنا، وأنّه لم يقل الدين، ولا الحكمة، ولا الشريعة؛ فذاك دلالة على أن المشكلة الكامنة في ذهن المتلقي، هي في إنكار كون القرآن كتابا من عند الله، فربما كانوا لا يعترضون لو أنّ محمّدا (ص) قال: “هذا القرآن دين أو حكمة أو شريعة” ولم يقل :” إنه كتاب الله”.
وتحيلُ مفردة الكتاب في هذا السياق ـــــ أيضًا ـــــ على ما ينطوي عليه من تجارب موسى مع الله، ومع فرعون، ومع قومه، ومع الآخرين، وما ينطوي عليه ذلك من نجاح وتعثر بالأسباب والنتائج والميسّرات والمعوقات؛ وهذا ما يتوخاه النص من إلقاء الخبر على المخاطبين.
- زمن إيتاء الكتاب موسى
لو لم يكن للزمن أهميةٌ في الإخبار؛ لم يردْ بعده مباشرةً.
هذا بشكل عام، فالزمن ليس مجرد إطار فيزيائي محايد، بل هو حامل الأحداث، ولو أُغفلَ زمن حدث الإيتاء، لَفقَدَ الإخبار كثيرًا من قيمته المرتجاة من إيراده على مسمع قوم محمد(ص) واليهود المزامنين لهم. وأن يكون التعبير عن الزمن بهذه الصيغة فذاك لما ينطوي عليه من طاقة على استدراج المتلقّي إلى الاهتمام بالتسلسل الحضاريّ في الزمن. فالتعبير القرآنيّ عن زمن الإيتاء إنما هو(مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ).
عندما يتعيّن زمنُ الإيتاء (من بعد) وليس (بعد) فلا بدّ من أنه ينطوي على دلالةٍ مختلفة؛ فـ(مِن) تفيد ابتداء الغاية، ما يعني أن إيتاء موسى الكتابَ كان الشروعُ به عُقَيبَ إهلاك القرون الأولى، ولو أنه قال ـــــــ ولم يقل ـــــــ: بعدما أهلكنا القرون الأولى، لكان الزمن البعديّ كلّه زمن لحظة الشروع بالإيتاء، كما يحتمل أن تكون أي لحظةٍ في الزمن “البعديّ” هي لحظة الشروع ، وهذا لا يلائم منطق الإخبار والغرض منه، إذْ إنّ لازم الإخبار هو في كون اليهود قد أنكروا تنزّل الكتاب على محمّد فالإخبار لتسفيه هذا الإنكار، أما وأنّه قد قال “من بعد” فذاك يعني أن مبتدأَ الغاية له أهمية خاصّة في هذا السياق. ما هي هذه الأهمية وما الذي يحيل عليها؟
الشروع عقيبَ إهلاك القرون الأولى يوحي بأن الله لم يترك الخلقَ سدىً. كما يوحي بأنّ الزمن من بعد الإهلاك إنما هو زمن التغيير، وهذا لا يؤجَّل؛ فالتغيير ينبغي أن يكون من لحظة الاعتراف بأن المعنيين بالرسائل السابقة قد أُهلكوا، وإذا كان ذاك الإهلاك قد تحقق فعلا فمن الظلم أن يكون هناك فجوة زمنية بينه وبين الشروع في التغيير.
فالتمسك بالسابق مع إهلاك السابقين انتحار حضاري، لأن الزمن الحاضر ومستقبله يتطلبان رؤيةً أخرى، ومضيًّا مختلفا. فإذا جاء زمن البرد والمطر ونصرّ على مواصلة ارتداء الملابس الصيفية بحجة جمالها وما توفره من مرونةٍ للحركة البدنية؛ فإننا سنهلك حتماً أيًّا تكن حجتنا. وتجدر الإشارةُ هنا إلى أنّ الإهلاك ليس بالضرورة أن يكون فناء تاما، بل هو استنفاد، فـ” المعنى المحوري لـ]هلك[ فراغ جوف الشيء مما هو حقيقته وجوهره – كفراغ الأرض من الخصوبة، والجِيفة من الرُوح، والمَهواة من الصَخر، والسحابة من المطر”[5].
وفي مواصلة النظر في هذه الجزئيّة نلحظ أن النصَّ يخبر عن إهلاك ” القرون الأولى”، فنفهم من هذا الأسلوب بالاستناد إلى أصول البلاغة العربية أنه أراد أهل القرون الأولى إلا أنه أرسل زمانهم، وهذا ما يسمى المجاز المرسل، أو المجاز اللفظي إذ نحذف لفظًا ونثبت آخر بدلا منه لعلاقة المجاورة بين المُثبت والمحذوف. غير أن السؤال هنا لماذا هذا الحذف وهذا الإثبات؟
لو أنّ النصّ قال ” من بعد ما أهلكنا أهل القرون الأولى” لانتقلت أذهان المتلقين إلى التفكير بالناس، بأشكالهم، بأعمالهم، بمواقفهم، بفسادهم أو صلاحهم… ولا ينفي هذا شمول الزمن/ القرون بتفكير المتلقين؛ إلا أنّ قوله أهلكنا القرون الأولى تحيل على انقضاء الزمن وأهله، وهذا أعمق في الدلالة، وما يعني أن الذي اقتضى المجاز المرسل هو حاجة النص إلى التعبير عن تغير الأزمان وما يرافق ذلك من غياب للإنسان، وفي ذلك تحفيزٌ ناشط للتفكير الجدّيّ بتجديد الإنسان مع تغيّر الأزمان لتجاوز هلاكه.
- تعليل الإيتاء من بعد الإهلاك
يبدو أن إلقاء الخبر على المتلقين وتحيينه يحتاج تعليلاً؛ حتى لا يكون مجرّد سردٍ مجانيّ لأحداثٍ، فالرسولية تقتضي أن يُعلّل إيتاءُ الكتاب موسى، وبيان وظيفته في الناس، استئناسًا به كي يفهم المتلقون وظيفة إيتاء الكتاب محمّدا.
قدّم النصّ ثلاث عللٍ لإيتاء موسى الكتابَ وهي على التوالي
- بصائر للناس
- هدىً
- رحمةً
هذه مصالح الناس مع كتاب موسى ومع كتاب محمد فما تعني هذه العناوين؟
- أ- بصائر للناس
بصائر جمع بصيرة، وهي القدرةُ المطلوبة التي يوفرها الكتاب لمتلقيه حتى يكون الوعي والفهم ممكنين.ويقول الجرجاني:” البصيرة: قوة للقلب المنوّر بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها، بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها، وهي التي يسميها الحكماء: العاقلة النظرية، والقوة القدسية.[6]” فهذه القوة أو القدرة ليست متوافرة لأي كان، إلا أن إمكانها جائز بشروط، وإذْ يقدّم النصُ الكتاب لأجل التبصرة، فذاك ليحمل النبيون رسالة ربهم للناس لتكون مواقفهم في الحياة الدنيا مؤسسةً على قواعد للنظر لا يمكن تحصيلها إلا بعد إعمال للذهن وتدريب حثيث على التأمل بالمكان والزمان والإنسان. علما أن وعي الناس الكونَ وما فيه وأزمنتَه وأحداثَها لا يمكن أن يكون نهائيا، فهو وعي بما يبدو لهم لا بماهية الكون والزمان والإنسان، وما يبدو لزيد زمن موسى على نحو ما، لا يمكن أن يبدو لعبيد زمن محمّد على النحو نفسه، فعوامل كثيرة تُغيّر البُدوَّ وفاعلَه. وعليه يكون الكتاب أو البصائر بمثابة مرجعية قاعدية للتعامل مع الموضوعات، لأن البصيرة هي القوة أو القدرة التي يجب أن يحوزها الإنسان من الكتاب.
أما إيرادها في النص بصيغة الجمع فذاك للدلالة على تعددها بتعدد الفاعلين، فلا يمكن أن تكون بصيرة فلان مطابقةً لبصيرةِ علان ، وم ن غير الجائز إكراه الناس على بصيرة واحدة، بل من المستحيل، فحجم هذه القوة سيختلف من أخٍ إلى أخيه، ومن جارٍ إلى جاره، فكيف إذا توسعت مراتع الناس وانداحت في الأرض؟حتما سيكون بني البشر بحاجة إلى ما يوفر البصائر.
- ب- هدى
بغض النظر عن منتهى غاية الهدى المحذوف هنا، فالهدى تلحّ الحاجةُ إليه عندما تكون احتمالات الضلال طاغية، أو عندما يكون الضلال فعلا طاغيا، فتقول المعاجم” الهدى خلاف الضلالة”[7] أو “الهدى ضد الضلال وهو الرشاد”[8]. إذن هو مضاد حيوي ضد الضلال.
فما هو الضلال الذي يقتضي هذا المضاد الحيوي؟ هل هو في كون الناس لا يعرفون أو يعرفون خطأً مَنْ خلقهم؟ أم أنّ الضلال هو في سوء تقديرهم لعلاقاتهم بالكون وبسوء تقديرهم للحياة والموت وما بعد الموت؟
أعتقد أن الضلال هو في كل هذا، ومن شأن الكتاب أن يقدّم لهم أجوبةً عن تساؤلاتهم، أو يبيّن لهم طريق الخلاص من مآسيهم التي تسببَ بها ضلالهم ويرشدهم إلى سواء السبيل. وهذا يستلزم أن نرى ضلال الأوّلين مختلفاً عن ضلال اللاحقين، لذلك كان إيتاء الكتاب لأجل الهدى، حتى يتم التخلّص من عقابيل الضلال الموروث، الذي كان يُحسبُ هدى ذات يوم، فلما أهلك الموتُ أهله ما عاد من حق اللاحقين ألّا ينظروا فيه ويعيدوا النظر.
عندما يكون إيتاء الكتاب لأجل الهدى، وبعد إهلاك القرون الأولى؛ فذاك لكون التبعيّة للماضي مغرية، وهي التي تتحكم بالعقول، لأنها الطريق الهينة التي لا تستلزم سوى التقليد والمضيّ على خطط السابقين؛ فهل يلقي النص الخبر على متلقيه ليقول لهم اتّبعوا الأقدمين بما اهتدوا به ؟ أم أنه يدعوهم إلى الاهتداء بتجاربهم وتجاوزها بعد معرفتها؟ أين الهدى إذا كان العزوف عن الجديد بحجة أنه حدث في التاريخ إيتاء موسى الكتاب ؟ فذاك الكتاب كان بصائر للناس ، وهدى. ولا يجوز أن تكون بصائر متلقي كتاب محمّد(ص) كبصائر متلقي كتاب موسى(ص).
- ت- رحمة
“الرحمة: هي إرادة إيصال الخير”[9]، وهي هنا في سياقٍ يتواجه فيه طرفان أحدهما يطرح فكراً جديدا في كتاب جديد يلقيه على الناس على أنه منزّل من عند الله، والآخر يتمسك بما لديه من السوابق العقدية في كتابٍ مقدّس ، ومنهج الردّ الذي يقدّمه النص لا يتوخّى إنكار ذاك الكتاب بل يعمد إلى تعليله بما يمكّن معتنقيه من الانفتاح على الجديد.
وأن يكون إيتاءُ الكتاب موسى إرادةَ إيصال الخير؛ فهذا باب مفتوح على التوسع في تجديد الإرادة وفي تجديد مدلول الخير، لتشكّل الرحمةُ بهذا المعنى حاجةً ملحّةً للناس، تكون فيما بينهم كما هي في روح العلاقة بين الكتاب والمتلقين.
الإرادةُ هي عزمٌ داخلي يحتاجُ قوّةً متراكمة من جرّاء خبراتٍ وتجارب، لذا ستكون مختلفة نسبيا بين الأفراد والجماعات، وعندما تكون الرحمةُ ” إرادة إيصال الخير”؛ فهذا يعني أن مفهوم الرحمة سيكون متغيّرَ المدلول من شخص لآخر، ومن جماعةٍ لأخرى، ومن زمنٍ لآخر، ومن مكانٍ لآخر؛ لأنَّ مكونات العزم ودواعيها تختلف دائما بحسب التحديات والاستجابات التي لا يمكن أن تتكرر بنيةً وفهما. وبالتالي سينعكس ذلك سلوكا فرديًّا وجماعيًّا، حركيًّا وذهنيًّا. ولا يصح عندها أن أتـمسك بالسلوك الذي كان يسلكه السابقون تعبيرا عن الرحمة (إرادة توصيل الخير)، فهذا كالذي يريد تأمين السمك لأهله باصطياده عن الأوتوستراد، لأنّ أهله أطعموه السمك الذي اصطادوه من هذا المكان قبل تحويل مجرى النهر إلى جهةٍ أخرى.
إنّ هذا التعليل لإيتاء الكتاب موسى بأنه لأجل الرحمة ، فهو لا يقيد المرحومين بنمط واحد من إرادة توصيل الخير؛ فقد يكون ذلك في زمنٍ إعادةَ توزيع المواشي، أو تقاسمَ المراعي والآبار ، أو كثرةَ الأمطار … وهذه كلها قد لا تعود ملحوظةً على أنها رحمة في زمن آخر، وتكون الرحمة أن تتاح فرص التعلّم والعمل، أن تكون هناك شرعة تحفظ حقوق الضعفاء والأقوياء والمختلفين، وعندما يقدم النص إيتاء موسى الكتاب على أنه رحمة لا ليطلبوا مدلولها الذي كان بل ليستأنسوا بالعزم الذي يقدّمه الكتاب في مغالبة التحديات؛ واثقين بأن كل ظاهرة طبيعية أو مصطنعة تحمل في جانب من جوانبها، وبرؤيةٍ معينة رحمةً ينبغي أن يكتشفها المتلقي لهذا الكتاب.
إنّ هذه الرؤية من شأنها أن تؤسس لثقافةٍ تلتمس الخير في كل ظاهرةٍ حتى يثبت العكس.
- الرجاء أو التعليل
يقول بعض المفسرين إنّ “لعلَّ” في قوله ــــــ تعالى ــــــ :”لعلّهم يتذكرون” تعني التعليل وليس الترجّي وذاك أن اللهَ لا يترجّى، بغضّ النظر عن كون هذه الحجة تعني أن قواعد القول السابقة أصلًا لهذا النص خاضعةٌ لاعتباراتٍ إيديولوجيّة عند المفسرين وليس لاعتبارات موضوعية تقدّمها أساليب القول السائدة التي كان القرآن بما تقتضيه قواعدها المأنوسة؛ فإنّ السؤال الذي طرح نفسه على النص أثناء تناولي لمقولات المفسرين هو ” إذا كانت لعلّ تعني كي لماذا اعتمد لعلّ ولم يعتمد كي”؟.
الرجاء هو الغاية النبيلة للرسالة في التمهيد لقبول المتلقين مصالحهم التي يجهلونها أو يسيئون تقديرها، فالتبصرة والهدى والرحمة مصالح العباد في الحياة، وأن يُرجى تذكّر العباد فهذا يستوجب فهمه تأسيساً على فهمنا للترجّي والتذكّر.
الترجّي: “إظهار إرادة الشيء الممكن أو كراهته”[10].نفهم من ذلك أن “لعلّ” هي أداة نحوية تدل على أن ناطقها يظهر إرادته في شيء ممكن.
التذكّر ليس مجرّد استعادة مخزونات الذهن، إنّما التضعيف “تفعّل” يدل على إعمال الذهن في مخزوناته.
لعلّ حرف مشبّهٌ بفعل الترجي، وإذ يسند إلى ضمير الجماعة “لعلهم”، فهذا يعني أن النصَّ يقدّم مصالح المخاطَبين بأن تكون إرادتهم في تذكّرهم. ولا أرى في ذلك ضيرًا يصيب تنزه الله.
الذين تلقوا كتاب موسى (ع) بعد إهلاك القرون الأولى ، كانوا مدعوين إلى إعمال أذهانهم في مخزونات أذهانهم عن سلوك الهلكى ذهنيا وحركيا قُبيل إيتاء الكتاب. هم مدعوون لأن يتزوّدوا بمعرفة أسباب الهلاك أو أسباب النجاة بوصفها ضرورات تكوين البصائر والهدى والرحمة. وبناءً عليه يكون مقتضى هذا الترجي هنا، في كون المخاطبين زمن محمّدٍ(ص) بأمس الحاجة لإعمال أذهانهم بمدخراتها المتكونة قُبيل إيتاء الكتاب محمّدًا. وفي ذلك تحقيق لمصالحهم مع الحياة.
أما لو كانت “لعلّ” للتعليل ـــــ وأشكّ في ذلك ــــــ فإنّ إيتاء الكتاب يكون علّة للتذكّر (مستقبليًّا) وهذا لا يستقيم دلالةً؛ لأن موضوع التذكّر إنما هو أعمال حصلت، أو أفكار وعقائد اعتقدت، والفعل المضارع يتذكّرون يحيل على حاضر السلوك بإزاء النص القرآنيّ أو مستقبل ذاك السلوك.
- الخلاصة
هل تمت الإجابةُ عن السؤال الذي تبوأ مبتدأ هذا العمل؟
أزعم أني توصلت إلى أن الذي اقتضى هذه الآية هو مأزق العلاقة بين الفكر الجديد والأفكار المتقادمة في زمن التنزّل، وفي كل زمن تظهر فيه نية التجديد ليعترض الماضي معوّقا على ألسنة البعض المهيمن، فهذه الأفكار على قدمها أثيرة عند الناس ولا حجة مقنعة لديهم، فالآية أظهرت أن القديم إذ يستحضر إنما هو لنعرفه لا لنتبعه.
توصلنا في قراءتنا لهذه الآية إلى التيقّن بأن معرفةَ الماضي المختزن في الأذهان إنما هي معرفةٌ ضرورية، وتجاوز آثارها وتداعياتها التي كانت واللاحقة، أمر ضروري أيضا، حتى لا نكون تكريراً لنمط حياتي لا يمكن أن تقبله الحياة حيث نحن في المكان والزمان المغايرين.
كما توصلنا إلى أن تجاوز الماضي لا يكون بتسخيفه أو تسفيهه، فهو لمحايثيه ومزامنيه بصائر، وهدى ورحمة. والذي يجب أن نعرفه هو أن مدلولات هذه المفردات المرتبطة بمصالح الناس مع وجودهم لا بدّ من أن تتغيّر من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، ومن بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية.
وأخيرا ما نستخلصه نحن المرتبكين حضاريا ومعرفيا، هو أن أسباب فهم الآيات في أي زمن، ينبغي أن تكون مختلفةً عن أسباب تنزّلها، ولا يعني هذا أننا نغدر بالآية عندما نستنطقها تحت وطأة حاجةٍ مختلفة عن حاجة أخرى كانت زمن تنزلها، ربما يكون هناك تشابه بين الحاجتين، غير أن التشابه يعني المغايرة.
المصادر والمراجع:
- ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، 1979.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، ط3، بيروت، 1414هـ.
- أوس بن حجر، ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمد يوسف نجم، دار بيروت، 1980
- جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي لألفاظ القرآن الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة،2010.
- الجرجاني، الشريف، علي بن محمد بن علي الزين، كتاب التعريفات، تح: إبراهيم الأبياري، دار الريان للتراث،ط2، بيروت، 1983.
- حسين، غسان عزيز، ورقة بن نوفل مبشر الرسول، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002.
- عروة بن الورد، ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك، تحقيق: أسماء أبو بكر محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.
- عمر، أحمد مختار وآخرون، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، القاهرة، 2008.
[1] بَداهة [مفرد]: مصدر بدَهَ. أَوّل كلّ شيء. عفويَّة؛ سُرعة الخاطِر وإصابة القول ارتجالاً، عن غير إعمال فكر “بداهة جواب”| بَداهةً/ بالبداهة: تِلقائيًّا. سذاجة. عمر، أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة ” بده”.
[2] أوس بن حجر، ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمد يوسف نجم، دار بيروت، 1980، ص.15.
[3] عروة بن الورد، ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك، تحقيق: أسماء أبو بكر محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998،ص.80.
[4] حسين، غسان عزيز، ورقة بن نوفل مبشر الرسول، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002، ص.128.
[5] جبل، محمد حسن ، المعجم الاشتقاقي لألفاظ القرآن الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة،2010، 4/314.
[6] الجرجاني، الشريف، علي بن محمد بن علي الزين، كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص.46.
[7] ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة،
[8] ابن منظور، لسان العرب،
[9] الجرجاني ، الشريف ، م. س.، ص110.
[10] الجرجاني، م.س. ص. 56.