تكوين
تنطلق مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية العقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم والتي كونت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وتعمل مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية في إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يُمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المكونة له، والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهزم حضاريًا. وفي تحديد هذه المفاهيم ترتكن في الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس لتضمن لنفسها البقاء والتأبيد، والدفاع عنها الذي يأخذ بعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس.
وفي الزاوية الأخرى إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه. وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأُسست لهذا مجموعة من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المكونة للضمير الإلهي من جانب، والمعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةٌ للتفكك الممنهج وحفاظًا على الهُوية.
ويأتي الجهاز المفاهيمي المكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهوية النقية والمهددة، ويستدعي مفاهيم الماضي وانجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهٍ مع الهوية مُحددًا لأدوات بناءه وتعامله الواقعي. وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مثله الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية، تحت ضغط المطالبة بالحضور الندي، نجد عديدا من المفاهيم بُنيت بنزوع مقاوم، فتحت ضغط الواقع المنهزم المُلح على التجديد، ورسوخ مفهوم البدعة في الذهنية العربية الذي أخذ بُعد المقاومة في حالة الانهزام الحضاري والعسكري التي عانتها المجتمعات العربية، تكون مفهوم الشريعة بوصفها الحل لكافة الأزمات والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية على الإطلاق، وقُدمت بوصفها الحل الإلهي والأصيل الذي يضمن صون الهُوية العربية وحمايتها.
وبالكيفية التي جاء بها مفهوم الشريعة بوصفها حلًا سحريًا لكافة الأزمات والمشكلات التي تعانيها المجتمعات العربية، بل والتي سوف تعانيها فيما بعد، جاء مفهوم التراث بوصفه بوصلة الوجود والاعتراف، فقد مَثلت الحداثة التي جاءت بمدافع نابليون بونابرت تعلن صوابيتها المطلقة وعزل أي شرعية عقلية عما يخالفها، تهديدًا واضحًا للذات/النحن العربية، التي ترى في الإسلام منهجًا لصلاح الدنيا والآخرة، لم يكن لها أن تشك في صلاحية الإسلام للدنيا والأخرة، ومن ثم أنكرت تحقق الذات العربية/الإسلامية في هذا العصر، لابتعادها عن صحيح الدين وأضحت تطالب بحضور الإسلام في حياة المسلمين، ومنهم من رأى أن الواقع الأوروبي يُمثل حقيقة الإسلام وواقعه، وعلى الواقع العربي أن يسعى في حضوره والخروج من أفق التراث. وآخرًا رأى أن التراث يُمثل حقيقة الإسلام والذات/النحن العربية/الإسلامية، وعلى الواقع العربي أن يعمل من طريقه ويسعى في إعادة انتاجه، ليمثل الأصالة وحقيقة الذات وما يجب أن تكون عليه.
التراث وتكوين الذات
يُحدد أستاذ الادب العربي قبل الإسلام عبد الستار جبر في كتابه “الهوية والذاكرة الجمعية” موضع الذاكرة من تكوين الذات وتحديد هويتها فيقول:
“الذاكرة والهوية يُكونان وَحْدة متواشجة ومتداخلة من عوامل التأثير المتبادل بينهما، فكلاهما يُسهم في بناء الآخر ويغذيه”[1]
والذاكرة في مستوى الفرد والجماعة تُمثل الرصيد المعرفي والخبراتي، لأنه من طريقها يعمل الفرد لتحديد مهامه واحتياجاته ومساراته في الحياة وكذلك الجماعة، فيمكن القول: إن الذاكرة هي التي تقدم إلى الفرد والجماعة شروط وجودهم الاجتماعي والثقافي، وتحدد سمات الجماعة والفرد وتعد المكون الأول للهُوية. وحين تلجأ الجماعة إلى تدوين تاريخها وذاكرتها، فإنها بذلك تسعى في تقديم ذاكرتها وحاضرها لمن يخلفوها، لتقدم لهم رصيد خبراتها ومعارفها، وتقدم لهم تراثهم الذي يعد أحد مكوناتهم الرئيسة الذي من طريقه عادة ما يؤكدون أصالتهم وينطلقون منه.
والتراث يُمثل ذاكرة الجماعة المدونة التي تُعبر عن إسهامها في بناء حضارة الإنسان وفكره، وعادة ما تعده الجماعة تمثيلًا لهويتها وتعبيرًا عن حضورها، لأنها تُمثل عملية التذكر الجمعي تأكيد الهوية والتعبير عنها[2]. ووفق رؤية الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur (1913) فإن
“فعل إعمال الذاكرة يأتي ليسجل في لائحة القدرات، الاستطاعات والإمكانات التي تخص مقولة ((أنا أقدر)) أنا أستطيع”[3]
ففعل التذكر يأتي في الراهن وإلا كان راهنًا، ويأتي ليقدم دلالة للذات/النحن على قدرتها وإمكانتها وما تستطيع فعله، من طريق ماضيها وما يقدمه لها من أنماط لتجاوز الأزمات والمشكلات. وفي فعل التذكر يحضر الماضي بوصفه ماضيًا يحمل إرثًا من التجارب والانتصارات التي توضع في الحسبان حين صياغة الراهن والمستقبل. وعمل الذاكرة هنا يعد استدعاء الشاهد على قدرة الذات، ويعد التراث بهذا المعنى الشاهد على قدرة الذات، ولا يتعدى دوره في أن يكون تراثًا/ماضيًا يقدم للذات/النحن خبراتها وميراثها المعرفي، وتسعى الذات/النحن بدورها في تجاوز أزماتها بما يقدمه التراث من إثبات للقدرة على الفعل والاستطاعة، وخبرات تمكنها فهم الواقع وإنتاج آلياتها لمواجهة الراهن ومشكلاته.
إقرأ أيضا: مفهوم التذكُّر: نماذج فلسفية
ويمثل الماضي الصورة الطوباوية لدى الذات والجماعة عادة، “ولا تنقطع رغبة الجماعة في استعادة ماضيها، من أجل تحفيز ديمومتها فتكون العودة إلى البداءات والأصول طريقًا مرغوبا”[4]، ولا يعد الماضي في صورته الموضوعية التي كان عليها، بل إن الذات تصوغ الصورة المرغوب فيها عن الماضي، وهذا ما أوضحه المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935-2003) قائلا:
“ليست الذاكرة الجمعية شيئًا خامدًا سلبيًا، بل مجال فاعلية تُنتقى في إطارها أحداث الماضي وإعادة بنائها، وصونها وتحويرها”[5].
وعادة ما تصوغ الذات/النحن الماضي في الصورة التي تعوضها عما تفقده في الراهن، ومن ثم فإن ما تطالبه من عودة الماضي، ليست عودة الماضي كما هو بمشكلاته وأزماته، بقدر ما تكون صورة الراهن الخالي من أزماته ومشكلاته، لكنها مُصاغة في صورة الماضي، فالماضي لا يحضر معزولًا أو عيانيًا، بل يحضر في الراهن ومن طريق الذاكرة الجماعية التي تعاني شيئًا ما، ومن ثم تصوغه في الصورة المُرضية لها، وهذا ما عبر عنه إدوارد سعيد قائلا: “كثيرًا إن لم يكن دائمًا، ما يتم التلاعب والتداخل في سيرورة الذاكرة لمآرب ملحة أحيانًا في الوقت الحاضر”[6].
ومن طريق البحث في الذاكرة الجمعية وما تُقدمه بوصفه تراثًا لجماعة ما، يتفق معظم، إن لم يكن مجمل الباحثين في أن الذاكرة هي الملجأ للجماعة في حالات التشوش وعدم الحضور، فالإسراع للذاكرة واللوذ بها عادة ما كان من باب بناء هوية متماسكة في حالة التهديد الهوياتي. وفي حال التهديد الهوياتي تتعامل الجماعة مع تراثها وذاكرتها الجمعية بصورة نفعية، تسعى من طريقها في تأكيد ما تطرحه من هوية، وتسعى “نحو سرديات مُتخيلة؛ قصص وحكايات رمزية، خرافات وأساطير، تمزجها مع سردياتها التاريخية، أو بالأحرى تحبكها معها، مكونة لنفسها هُوية خاصة تزودها بحس جمعي لفهم ذاتها وتأويلها والشعور بمعقولية حياتها ومقبوليتها”[7]. فمن رحم التهديد الهوياتي أو الهشاشة الهوياتية تخرج الذاكرة المتخيلة والتراث المُنزه عن كافة الأخطاء والمشكلات، فيعد التراث في هذا الحين صياغة من الراهن الذي يوليه مشكلاته بدلًا منه، ويسقط عليه رغباته وتمنياته.
الحداثة وأزمة البحث عن الذات
تُمثل المنظومة الفكرية التي تزعم الصوابية المطلقة وامتلاك الحقيقة تهديدًا وجوديًا صريحًا على المنظومات المختلفة معها، لِمَ تُعطيه إلى نفسها من حق قيادة الغير وتحديد حقائقهم ومشكلاتهم وأزماتهم، ومطالبتهم بالانقياد إليها بوصفها المنظومة الصحيحة على الوجه الكامل. وما جاءت به الحداثة من إعلان نفسها مُمثلة للعقل وحقائق الوجود، مَثَّلَ تهديدًا هُوياتيًا ووجوديًا صريحًا للذات/النحن العربية، وعَزَزَ هذا التهديد وجعله يبدوا أكثر وضوحًا وفجاجة الحضور الإمبريالي للحداثة، فالحداثة قبل أن تُقدم نفسها بوصفها مجموعةً من القيم التي ربما تلتقي مع هذه البيئة الاجتماعية، قَدَّمت نفسها في مدافع نابليون بونابارت Napoléon Bonaparte (1769-1821) لتي مَثَّلت هي الأخرى تهديدًا سافرًا، بسبب التقدم التكنولوجي والعسكري وإدارة الشأن الدنيوي والتقدم الحضاري. والمجتمعات العربية لم تعرف نمطًا لإدارة الشأن الدنيوي وبناء الحضارة إلا من طريق الإسلام، وهذا ما جعل الحداثة تُمثل تهديدًا دينيًا بجانب تهديدها الوجودي. وللحداثة أدوات للتفوق التي تُعطيها حق زعم الصوابية المطلقة وتمثيل العقل في هذا الحين، وهو ما يجعل تهديدها أكبر.
وعَد العقل الإسلامي الحداثة تهديدًا مباشرًا للإسلام وللمسلمين عقيدة وفكرًا، ويزيد هذا التهديد أنها جاءت بالمدافع ومع الاستعمار الذي يستوجب المقاومة وليس الحوار، وخلفت مدافع نابليون التي كانت صدمةً معرفيةً لدى العرب المسلمين، السؤال بخصوص تخلف المجتمعات العربية تجاه المجتمعات الأوروبية، ورأت الذات/النحن العربية أن المشكلة في أن الراهن لا يُمثل الذات/النحن العربية، وعليها أن تبحث عن ذاتها وتسعى نحو إنتاجها، وكان للحداثة بريقها وسيطرتها التي جعلت الفكر العربي/الإسلامي حينها يعمل من طريق الأفق الحداثي الأوروبي. ووفق ما يرى المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز ظهرت المقارنة بين راهن العرب المسلمين الذي كان في غاية السوء حينها، والماضي الذي رفعوه إلى صورة النموذج الأمثل الذي تقاس عليه الأوضاع والأزمنة[8]. ودفع الانبهار الأوروبي العقل العربي/الإسلامي حينها إلى عقد صلح مضمر، بين ماضيه والحاضر الأوروبي، ليُمثل الحاضر الأوروبي امتدادًا للماضي الإسلامي، وهذا ما يظهر في عبارة محمد عبده عند زيارته لبريطانيا: وجدت إسلامًا بلا مسلمين.
ومن جانبٍ آخر جاء إعلان الحداثة نفسها ممثلة للعقل مع الوجود الامبريالي المحايث لها يحمل تهديدًا ضمنيًا للتاريخ العربي الإسلامي، فيُمثل إعلانها الصوابية المطلقة وتمثيل العقل نفيُ أي دور تاريخي لأي أمة من الأمم، مما عزز حضور الذاكرة الجمعية الإسلامية والعربية واستدعائها. خصوصًا أن الحداثة جاءت تصوغ الحاضر والماضي والمستقبل، بل تصوغ مشكلات الاجتماع العربي، وهو ما جعل الذات العربية تهرول إلى نبش تاريخها واستحضاره، وتبحث عن ماضٍ يمثلها أو كما يقول إدوارد سعيد “ماضٍ في مأمن عن نهب التاريخ وعن حقبة عاصفة”[9]. ووفق تعامل الجماعة مع ذاكرتها الجماعية استدعت النحن العربية/الإسلامية تراثها، استدعاءً يُعالج مشكلاتها وأزماتها، ويضعه نِدًّا للحداثة التي تزعم امتلاك الحقيقة والعقل، بل بنزوع المقاومة والطابع الادعائي المزعوم للهُوية أضفت عليه القيم الحداثية، ولم تتمكن أن تضفي عليها منجزاتها التكنولوجية.
وحسب ما يُقدم بول ريكور فإن: “السبب الأول لهشاشة الهُوية الذي من واجبنا تسميته هو علاقتها الصعبة مع الزمان، هذه صعوبة أولية تبرر اللجوء إلى الذاكرة بما هي عنصر مكون زمني للهوية على صلة بتقدير الحاضر وإسقاطه على المستقبل”[10] ويرى السبب الآخر لهشاشة الهُوية “هو المواجهة مع الغير، الذي نشعر به بوصفها تهديدًا”[11]. وحضر السببيين الأوليين اللذين ذكرهما بول ريكور للهشاشة الهُوياتية في الواقع العربي حينها، فقد جاءت علاقتها الصعبة مع الزمن في حضور الحداثة إليها ووضوح عدم إدراكها لعمل الزمن من حولها، وما وصلت إليه أوروبا من حضارة. وفي الجانب الآخر فإن الحداثة بمقوماتها ومطالبها مَثَّلت تهديدًا صريحًا للهُوية، بوصفها آخرًا يُعلن امتلاكه للحقيقة وحق قيادة الذات. وهذه الهشاشة الهُوياتية جعلت الذات/النحن العربية تُهرول إلى الماضي والتراث وتقدمه بوصفه مُمثلًا لهُويتها، وبوصلة الوجود الزماني لها والاعتراف بها، لأنه يُمثل المنظومة المعرفية القادرة على إدارة الشأن الدنيوي العربي الإسلامي التي تملك سبيل الخروج من حالة الانهزام المتحكمة في الواقع العربي حينها.
من التراث هو الحل إلى التراث هو المشكلة
عادة ما يكون هدف الفرد والجماعة الوصول إلى راهنٍ أفضل يخلو من الأزمات التي تعيشها الذات/النحن الراهنة، ومستقبلًا أكثر استقرارًا وأمانًا، ومن ثم يكون التخطيط له عبر تشخيص أزمات الراهن ووجود حلولٍ لها، وإذا كانت الذات مسلوبة حق التجريب والخطأ بواسطة مفهوم البدعة الذي يضع كل ما هو جديد وغير معهود ضمن الضلال والبُعد عن الدين الصحيح، ويحصر الذات/النحن في الاتباع لما قدمه الأسلاف، ويضع الماضي موضع الراهن والمستقبل. فإن الذات/النحن تعمل لتشخيص أزماتها وإيجاد حلول لها من الماضي الذي يُمثل لها فترة اكتمال الذات/النحن الإسلامية، التي ترى أنها تُمثل الذات/النحن العربية الراهنة، وتُماهي عادة بين العربية والإسلامية، وتُعد مشكلة الواقع هي خروجه عما قدمه الماضي الذي يُعد حلولًا إلهية مفارقة مجاوزة للحلول الإنسانية الناقصة، وتضمن لهم الدنيا والأخرة وليس الدنيا فقط كما في الواقع الغربي.
وباستخدام البدعة والخوف من الوقوع فيها انحصر العقل الإسلامي في التاريخ، فوفق رؤية المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) فإن العصر العباسي (عصر التدوين) يُمثل الأفق الذي من طريقه يقرأ العقل العربي الماضي ويصنع الواقع الفكري للذات/النحن العربية/الإسلامية إلى يومنا هذا[12]، واعتمد الجابري في رؤيته على أن ما يصلنا من معارف بشأن التاريخ الإسلامي أو العربي الجاهلي فإنه يصلنا من طريق ما دُوِّنَ في العصر العباسي إذ لا توجد وثائق مُدونة قبل ذلك، ومن ثم فإن هذا العصر قد صاغ الماضي وفق ما يهوى وصاغ راهنه، ويعمل العقل العربي لصياغة الراهن والمستقبل العربي الإسلامي من طريقه، وفي صياغة السلف للعقل العربي المعاصر والتفكير من طريقه يقول الجابري:
“سلطة السلف تتجسم على المرويات والإجماع وتكتسب قوتها من اطرادها عبر العصور اطرادا يجعل منها ((عادة مستقرة))، لها من القوة ما لـ ((العادة)) الطبيعية، أي لقوانين الطبيعة”[13]
ويشاركه هذه الرؤية المفكر الجزائري محمد أركون (1928-2010) الذي رأى أن التراث وما يحمله لائحة الأسماء والمذاهب والجماعات والآراء، يحمل إطارًا من التقديس مُحايثًا للقرآن ومُساويًا، ويتعامل معه الحق الإسلامي بوصفه هبات إلهية مخصوصة وهبها الله إلى هؤلاء الأشخاص، ولا يمكن أن يمتلكها غيرهم، ومن ثم أصبح التراث يُمثل المرجعية والمنظومة التي يُفكر العقل المعاصر بواسطتها[14].
والواقع أن مفهوم البدعة استُدعيَ عادة في أفق البحث عن المستقبل، ليعبر عن المحاذير التي لا يجب أن يقع الإنسان فيها ومن ثم يلجأ إلى ما هو مضمون دينيًا، فيلجأ عادة إلى منظومة فكرية تفرض نفسها عليه بوصفها صحيح الدين، ويفكر من طريقها ويصوغ مستقبله وفق رؤية هذه المنظومة. وجاءت المنظومات الفكرية في السياق العربي ذات نزوع قبلي تعمل من طريق الاتباع والمرجعية، ولم قدمه الإسلام والنبي محمدًا ﷺ لها وضعت الدين موضع عرف القبيلة وعاداتها وتقليدها، وكذا عملت لمد راية الإرشاد النبوي بمنطق الحاجة إلى شيخ القبيلة وتقديس سنة القدماء، وجاءت المنظومات الفكرية التي تطرح نفسها مُمثلة للدين تستمد شرعيتها من السنة النبوية، فلا يَخفى علينا صراع أهل السنة والجماعة فتُعدُّ كل جماعة دينية نفسها مُمثلة لأهل السنة والجماعة.
يقول الجابري إن:
“التفكير بواسطة ثقافة ما معناه التفكير من طريق منظومة مرجعية تكون إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل النظرة إلى العالم إلى الكون والإنسان، كما تحددها مكونات هذه الثقافة”[15]
ومن ثم فإن التزام العقل العربي بالمنظومة الفكرية التي قُدمت سلفًا من طريق التراث، يعني أنه يرى فيما قدمه السابقون إجابة عن كل شيء، ويتعامل مع التراث الإسلامي بوصفه منظومة يُفكر من طريقها ويعالج بها أزماته ومشكلاته المعاصرة والمتجددة، مما يعني أنه يعمل لاستيراد حلولًا لمشاكله الواقعية من هذه المنظومة، ويجعلها تُفكر بدلًا منه، وهو ما يحمل ضمنيا قولبة الواقع في هذه المنظومة وتجاهل أزماته ومشكلاته، لتنتقل هذه المنظومة من أنها حلًا إلى أن تصبح عائقًا أمام وعي الذات/النحن بمشكلاتها وأزماتها، بل يُمكن القول إنها تصبح ضغطًا على المجتمع والواقع المعاش ويسعى في الفكاك منها بحيل داخلية يُنتجها ذاتيًا تضمن تلبية احتياجاته وعدم معارضة هذه المنظومة، خصوصًا إذا كانت تتماهى مع الدين كما هو الحال مع التراث الإسلامي.
وعليه فإن الجابري كان موفقًا حين وصف الواقع العربي/الشرقي الإسلامي قائلا: “الفكر العربي الحديث والمعاصر في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تُنزه الماضي وتُقدسه وتستمد منه ((الحلول)) الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل”[16]، فالفكر العربي لا يتطور ويتنقل من حال إلى حال، “بل يقدم لنا ((مَعْرِضًا)) أو ((سُوقًا)) للبضاعة الثقافية الماضية التي تحيا كلها زمنًا واحدًا يعاصر فيها القديم الجديد… وهكذا يتحول حاضرنا إلى ((مِعْرِضٍ)) لمعطيات ماضينا”[17]. والواقع أنه تحت ضغط البدعة والتهديد الهُوياتي الذي مَثلته الحداثة، ظهر الماضي بوصفه صورة أكمل للاجتماع الإنساني، والتراث بوصفه المنظومة المعرفية التي تحمل كافة الإجابات والإنجازات المعرفية، وبنزوع دفاعي اختُزِلَ التراث في التراث الديني، ليُمثل الدفاع عنه دفاعًا عن الدين، وعدم الدفاع عنه تخليًا عن الدين، وهي حيلة اجتماعية معروفة تاريخيًا، إذ تلجأ إليها المجتمعات في حالة التهديد.
ويتضح النزوع الدفاعي للعقل العربي والارتكان إلى العقيدة ما قدمه المفكر والباحث الأردني ((فهمي جدعان)) (1940) في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) من تحديد لمنطلقات التقدم في العقل العربي/الإسلامي، وقال بإنها ميتافيزيقية تأتي من خارج العالم بأمر إلهي فقد “مَثَّلَ الإسلام منذ البداءة لدى المسلمين أنفسهم أسمى صورة من صور الحياة الدينية والدنيوية على حد سواء”[18]. وتحديد منطلقات التقدم بأنها ميتافيزيقية ودينية يجعل غياب التقدم هو انحراف عن الدين وصحيح الإسلام، وعودة الإسلام تتمثل في الامتثال إلى التراث الذي وضعته الذات/النحن العربية/الإسلامية في حالة تماهي مع الدين، وتتعامل معه بالقدسية التي تتعامل بها مع الدين، وهذا ما دفع جدعان إلى القول: “ما ينبغي على مفكري الإسلام المحدثين أن يعوه عند هذه النقطة هو ضرورة الفصل بين الإسلام بوصفه دينًا أو عقيدةً، والإسلام من بوصفه ((تُراثًا))“[19].
ويرى الباحث والمترجم التونسي فتحي المسكيني (1961) “أن تأسيس الهُوية على العقيدة، في عصر انحسار كل أنواع التأسيس الميتافزيقي، هو موقف ليس له من قوام سوى البُعد الرُوحي للنداء، وليس البُعد الفلسفي للسؤال”([20]) وهي رؤية تتمتع بالصوابية الكافية لدى العقل الإنساني، لأن الهُوية العقائدية عادة ما تسعى في البناء العقائدي المُصاغ سلفا بطريق ميتافزيقي إلهي مجاوز للقدرات الانسانية ومبرأ من النقصان البشري، وهذا ما يسلب العقل مشروعية السؤال؛ لذا يكون ((عبد الواحد أيت الزين))* مُحقا في قوله: “إن الأفق المِلِّي (العقائدي) الذي استأسدها (أي الثقافة العربية/الإسلامية)، أعاق أي محاولة فلسفية لفتح الهُوية على الممكن. وفي مقابل خسارة رهان ((الإمكان))، بما هو رهان اختلافي تعددي، استحكم الـ ((ما كان)) بما هو كائن حاصل ومنجز”([21]) على إثر هذا سعت الثقافة العربية/الإسلامية في إثبات إمكان الـ ((ما كان/ماضي)) لتقديم شروط الحضور والتقدم لكل زمان ومكان، منعزلة عن أي بعد معرفي أو رؤية أخرى، وأضحى التراث يُمثل المنظومة الفكرية التي عليها أن تدير الشأن الراهن، ونموذج المستقبل الذي تسعى فيه الذات/النحن العربية/الإسلامية، ولا تعرف المجهول!
وقد ظهر هذا المفهوم عن التراث نتيجة الحداثة وموضعة النحن وأزماتها، فكان نتيجة تشخيص الأزمة العربية وانهزامها أمام الحداثة الغربية بأنها نتيجة الابتعاد عن صحيح الدين، ومن ثم يُعد الحل الامثل هو العودة إلى صحيح الدين، ومن ثم استُدعي مفهوم البدعة في صورته الأكثر اتساعًا لتنقية الصورة المشوهة للدين المليئة بالتجاوزات والشبهات. واستدعاء مفهوم البدعة بصورته الأكثر اتساعًا وتغلغلًا نابعٌ من رفض الذات/النحن العربية لما هي عليه، وتمجيدَ الماضي واستدعاءه بوصفه ممثلًا لها في صورة دينية ميتافيزيقية، وذلك لغياب المنطق في هذا الأمر من جانب، ومن جانب آخر لقوة المشروعية الدينية لأنها تُمثل ما هو مفارق وغير قابل للجدال، كما أنه النمط المعهود والمستحسن في البلدان الإسلامية. وعززت نزعة التقديس للموروث لقديم، وعدُّ كل ما هو حديث مكروهًا ومدسوسًا من الآخر للنيل من الذات العربية التي أنشئها التيار التراثي التقليدي، والتيار السلفي بهدف دفاعي اضطرتهم إليه الحداثة وتقديم نفسها في صورة تبشيرية، الاحتماء بالموروث القديم بوصفه حمايةً للهُوية، والنظر إلى التراث بوصفه بديلًا للحداثة ونِدًّا له، وهو بديلٌ أصيلٌ يُمكن الذات/النحن العربية من الحضور التاريخي والنِدِّي والاعتراف بها وبأصالتها، لم فرضته الحداثة من زعمها امتلاك حق إضفاء القيم والصوابية المُطلقة الذي جعل الذات/النحن العربية تبحث عن الاعتراف وتسعى في الوجود، لنفي الحداثة ما عداها من أنماط الوجود وأشكاله.
ووفق ما قُدم فإن مفهوم التراث المعاصر يخرج من بنية الواقع المأزوم العاجز الذي يستدعي التراث للرد والتفكير بدلًا منه، وهو بذلك يُنبئ عن أزمة العقل المعاصر المستقيل أكثر مما يُنبئ عن عجز أو مشكلٍ في التراث، فالتراث في كل الأحوال لا يمكنه إلا أن يكون تراثًا، لا غير ذلك. وطبقًا لمعطيات الواقع فإن التراث يحضر عادة عند التمثيل النِدِّي للواقع الغربي المُسيطر حضاريًا، أو التفكير في المشكلات والأزمات المستجدة على الواقع العربي/الإسلامي، أي أنه يُمثل ملاذًا للذات/النحن العاجزة والمستقيلة التي تُحمله أزماتها ومشكلاتها، وفي المقابل تأتي التيارات الأخرى لتحاكم التراث وتدور هي الأخرى في فلكه. وما التراث غير مدونات عاجزة عن الدفاع عن نفسها أو تقديم إجابات مجاوزة لواقعها التاريخي والجغرافي، وهذا ما جعلها ساحة صراعٍ جيدة بين التيارات المُستقيلة والعاجزة.
المراجع:
[1] – عبد الستار جبر، الهوية والذاكرة الجمعية إعادة إنتاج الأدب العربي قبل الإسلام أيام العرب أنموذجًا، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص53.
[2] – زهير كوساح، وسائط الذاكرة الجمعية ووظائفها، مجلة دراجمون لدراسات الترجمة، 2018، ص 133.
[3] – بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2009، ص103.
[4] – عبد الستار جبر، الهوية الذاكرة الجمعية، ص62.
[5] – إدوارد سعيد، الاختلاق، الذاكرة والمكان، ترجمة رشا عبد القادر، مجلة الآداب الأجنبية، عدد 104، 2000، ص27.
[6] – المرجع السابق، ص19.
[7] – عبد الستار جبر، سبق ذكره، ص 80-81.
[8] – عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2014، ص 23.
[9] – إدوارد سعيد، الاختلاق، الذاكرة والمكان، ص 17.
[10] – ريكور، الذاكرة والتاريخ، النسيان، ص 137.
[11] – ريكور، السابق، ص 138.
[12] – راجع، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط 6، مركز دراسات الوحدة العربي، بيروت، 1994، صـ 62.
[13] – محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، ط 5، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، صـ 560.
[14] – راجع، محمد أركون، الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي، ترجمة عبد اللطيف فتح الدين، مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2010، صـ 123.
[15] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، صـ 13.
[16] – محمد عابد الجابري، نحن والتراث (قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي)، ط 6، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، صـ 19.
[17] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، صـ 47.
[18] – فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط 3، دار الشروق، القاهرة، 1988، صـ 25.
[19] – المرجع السابق، ص 563.
[20] – فتحي المسكيني، الهوية والزمان، صـ 10 – 11.
* – أستاذ مادة الفلسفة في مدينة ابن جرير، المغرب. باحث في مختبر ((الفلسفة والشأن العام)) في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني، في ابن مسيك، الدار البيضاء.
[21] – عبد الواحد أيت الزين، الإنتاج الفلسفي في الفكر العربي المعاصر في أطروحات ناصيف نصار، ط 1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020، صـ 34.